أحكام التعاقد بالنيابة في ضوء التشريع المغربي

للأستاذ محمد اوغريس نائب الوكيل العام للملك
لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء
مقدمة :
من المبادئ المقررة في ميدان التعاقد ان العقد لا يلزم الا من كان طرفا فيه، فأثاره لا تنصرف الا الى متعاقديه بالذات ما دام قد ارتضيا ذلك.
غير هذه القاعدة ليست مطلقة، اذ قد يحدث أحيانا، وهذا جائز قانونا، ان يتعاقد شخص نيابة عن غيره فتنصرف آثار التعاقد مباشرة الى هذا الغير كما لو كان قد باشر العقد بنفسه فتترتب له الحقوق ويتحمل بالالتزامات الناشئة عنه، ويكون للأصيل الحق في المطالبة بها بنفسه كما يطالب بتنفيذ الالتزامات.
والتعاقد بالنيابة يقتضي حلول إرادة النائب محل إرادة الأصيل في إبرام تصرف قانوني باسم الأصيل ولحسابه وذلك ضمن حدود النيابة المرسومة له.
والتعاقد بالنيابة وليد التطور التاريخي بعد ان اختلف في تبيان أساسه وهو ذو فائدة كبرى في الحياة العملية.

وعليه، فسنتحدث عن أساس التعاقد بالنيابة، فائدته في الحياة العملية ثم نبين موقف التشريعات الحديثة منه بعد الحديث عن التطور التاريخي له وذلك قبل الحديث عن أحكام التعاقد بالنيابة التي سنتناولها في فصلين اثنين : الفصل الأول نعرف فيه بالنيابة، ونقارن بينها وبين الأوضاع المشابهة لها مع بيان أنواعها، وفي الفصل الثاني شروطها وأثارها.

1- أساس التعاقد بالنيابة :
اذا النائب هو الذي يبرم العقد، فان الأصل هو الذي تنصرف اليه أثاره إيجابية كانت ام سلبية، الأمر الذي يدعو الى التساؤل عن الأساس الذي تستمد منه النيابة مصدرها، حتى يمكن التسليم بانصراف آثار التعاقد الى شخص لم يكن طرفا فيه.
فما هو اذن الأساس الذي نبغي الاعتماد عليه من اجل تفسير الارتباط القائم بين إرادة الأصيل ارادة النائب؟
لقد اختلف الفقه بين قديم وحديث في ايجاد أساس قانوني لنظرية التعاقد بالنيابة.
فالفقهاء القدامى الذين درسوا الموضوع اختلفوا في تبيان أساسه، فلقد ذهب الفقه بويته ومن بعده فقهاء القرن التاسع عشر الى ان أساس ارتباط ارادة الأصيل بارادة النائب يقوم على مجاز او افتراض قانوني.
فالنائب وان كان يتقمص شخصية الأصيل ويتكلم بلسانه، ويحل ارادته محله، فان الأصيل هو الذي يعد عاقدا وبالتالي فان آثار العقد موجبة كانت ام سالبة تنصرف اليه وحده على الرغم من ان النائب هو الذي ابرم العقد مع الغير (1).
----------------------
(1) السنهوري - مصادر الحق - صفحة 168.
ماجد الحلواني - نظرية الالتزام - الجزء الأول، صفحة 72.
زهدي يكن - شرح قانون الموجبات والعقود - الجزء الرابع صفحة 61.
انور سلطان - النظرية العامة لالتزام - الجزء الأول، صفحة 58.
---------------------
غير ان هذا الراي لم يسلم من النقد لكونه لا ينسجم مع الواقع. ففي النيابة القانونية يستحيل القول بان النائب يتكلم بلسان الأصيل، اذ نجد الأصيل قد يكون عديم الاهلية او ناقصها كما ان النائب في النيابة الاتفاقية قد يمنح نصيبا من حرية التقدير مما يميزه عن الرسول الامر الذي يستعصي معه القول بان يتقمص شخصية الاصيل.
ولقد ظهر الى جانب هذا الراي، راي فقهي اخر يرى ان النيابة هي حصيلة تعاون مثمر بين ارادة النائب وارادة الاصيل، واول من قال به هو العلامة سافيني.
فارادة الاصيل قد تشترك الى جانب ارادة النائب مما يجعل لكل واحد منهما نصيبه في ابرام العقد والقول بالتالي بوجوب الاعتداد بكلا الارادتين .
غير انه لم يلبث ان تبين ان هذا الراي اذا كان يصدق على النيابة الاتفاقية التي تشترك فيها ارادة النائب عند ابرام العقد فانه لا يصدق على النيابة القانونية التي تكون ارادة الاصيل فيها منعدمة او ناقصة (2).
------------------------
(2) يرى بعض الفقه ان درجة اشتراك ارادة الاصيل الى جانب ارادة النائب تتفاوت بتفاوت حرية التقدير والتصرف المخولة للنائب في النيابة الاتفاقية على خلاف النيابة القانونية التي تنفرد فيها ارادة النائب وحدها بابرام التصرف.
والى جانب الرايين السابقين توجد نظريتان اولهما ترى ان اساس التعاقد بالنيابة هو ارادة الاصيل وثانيهما ارادة النائب.
فالاولى التي تعتمد على ارادة الاصيل ترى ان الارادة لا تلزم الا صاحبها فينبغي اعتبار العقد منعقدا بارادة الاصيل وهي ارادة نقلها النائب الى الغير. فالنائب لا يعدو ان يكون سوى مجرد وسيط يقتصر دوره على نقل ارادة الاصيل الى الغير.
ويؤخد على هذه النظرية كذلك انها لم تحدد طبيعة النيابة كما انها لم تعط تفسيرا واضحا لحالات النيابة ( انور سلطان - امرجع السابق - صفحة 69، 70. السنهوري - المرجع السابق - الصفحة 152).
----------------------------
اما افقه الحديث فيذهب الى ان اثار العقد التي تنصرف الى الاصيل اساسها مبدا سلطان الارادة. فارادة النائب وارادة الغير المتعاقد معه بامكانهما ان يضيفا اثار التعاقد الى الاصيل خصوصا وان القانون هو الذي يكون قد قضى بذلك او ان ارادة الاصيل هي التي ارتضت التصرف ورغبت في ذلك لما لها من مصلحة فيه.
ولعل مبدا سلطان الارادة الذي اهتدى اليه الفقه الحديث من اجل تفسير التعاقد بطريق النيابة افضل معيار وذلك لما لارادة الشخص من قدرة منشئة للتصرف (3).

2- فائدة التعاقد بالنيابة :
يلعب نظام التعاقد بالنيابة دورا هاما في الحياة العملية، فهو نظام كثير الشيوع تزداد اهميته يوما بعد يوم بحكم المعاملات التي يجريها الاشخاص وخاصة في المجال التجاري. (4)
فقد تدعو الضرورة احيانا اللجوء الى نظام النيابة، فتضحى ضرورية كما هوالشان في الحالة التي يكون فيها شخص الاصيل غير متمتع بالاهلية.
--------------------------
= اما النظرية الثانية فترى ان اساس التعاقد بالنيابة هو ارادة النائب وحدها وان العقد ينعقد بارادته والعلة في ذلك ان النيابة تؤدي الى انفصال السبب عن الاثر القانوني المترتب عنه والسبب وان كان من عمل النائب، فان الاثار المترتب عنه يضاف الى الاصيل مباشرة.
غير انه يؤخذ على هذه النظرية انها لم تبين الاساس الذي من اجله انفصل السبب عن الاثر واضيف الاثر المترتب عنه للاصيل.
(3) فرج الصدة - المرجع السابق - صفحة 134.
(4) يذهب روبير الى القول في هذا الصدد :
En dehors même des cas ou il est nécessaire le remplacemet d'une persone par une autre est commode et avantaguese. Il facilité trés notablement d'extension de l'activité juridique des particulierrs et par là, le développement des rapports d'affaires. (Traité pratique du droit civil, tome 8, page 71).
-----------------------------
اللازمة لمباشرة التصرف كالقاصر او المجنون مثلا (5) او كما هوالشان بالنسبة للحارس القضائي الذي يتولى النيابة عن غيره في ادارة امواله والمحافظة عليها او السنديك الذي يمثل المفلس ودائنيه في ادارة امواله.
غير ان هذا لا يعني ان النيابة تكون دائما ضرورية بل على العكس من ذلك فقد تستجد ظروف وحالات تقضي فيها مصلحة الاصيل بانابة الغير عنه، كما لو كان مسافرا ولا تسمح له الظروف بابرام العقد، او بعيدا عن مكان ابرامه وخاف من ضياع صفقة رابحة فينيب عنه الغير فيها لكونه يملك من المؤهلات ما يجعله كفئا للتعاقد فتكون النيابة حينذاك نافعة.
فالاصيل بفضل التعاقد بالنيابة يضحى اما دائنا او مدينا في التصرف على الرغم من انه لم يبرمه بذاته او لم يشارك فيه ساعة ابرامه.
وفي هذا المعنى ذهب الاستاذ عبد الفتاح عبد الباقي القول " ان النيابة نظام جليل الفائدة، واعماله كثير الشيوع في العمل، فمن الناحية قد تكون النيابة نظاما ضروريا ويحدث هذا على وجه الخصوص بالنسبة لعديمي الاهمية او ناقصيها كالقاصر او المجنون او المعتوه او السفيه او ذي الغفلة فلا يجيز القانون لهؤلاء ابرام التصرفات القانونية او بعضها بانفسهم، لكنه يقدر مع ذلك ان مصلحتهم قد تقتضي ابرامها حتى لا تتعطل مصالحهم وهنا تجوز النيابة كضرورة لامكان اجراء تلك التصرفات عن طريقها، وحتى في الاحوال التي لا تكون النيابة فيها ضرورية فقد تبرز كنظام نافع يسهل على الناس امور حياتهم عن طريق تمكينهم من اجراء
-----------------------
(5) في هذا المجال نجد المشرع قد نظم النيابة القانونية فعين من ينوب عن القاصر كالوالي والوصي والمقدم، وذلك حتى لا تتعطل مصالح اصيل ولا ينقطع سيرها العادي.
----------------------
تصرفات يتعذر تمكينهم من ابرامها بانفسهم لغيابهم عن مكان عقدها او لقلة المامهم بها او لكثرة مشاغلهم عنها ولاي سبب اخر" (6).
اما بودان فيذهب الى ان النيابة لا تطبق على العقود فقط بل تطبق حتى على التصرفات القانونية فاحيانا يلجا اليها الاشخاص الكاملي الاهلية من اجل توفير مشقة وذلك بانابة الغير عنهم كما هو الشأن بخصوص الوكالة واحيانا تدعو الضرورة اليها وفي هذه الحالة ينظمها القانون (7).
والاصل في التعاقد بالنيابة الجواز، حيث تجوز النيابة في كل تصرف قانوني ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، او ما لم يتعلق الامر بتصرف شخصي محض حيث يشترط حضور الاصيل نفسه كما هوالشان في اداء الشهادة، او حلف اليمين (8).
واذا كان الاصل ان التعاقد بالنيابة يجوز في كل تصرف قانوني باستثناء التصرفات التي تعتبر اعمالا شخصية أي تلك التي يجب ان تصدر عن صاحبها شخصيا، فان من التشريعات من تذهب الى منعه بخصوص بعض التصرفات، كما هو الشان في التشريع الفرنسي الذي يمنع النيابة في الزواج على خلاف التشريع المغربي والشريعة الاسلامية اللذان يجيزانها.

3- التطور التاريخي لفكرة التعاقد بالنيابة :
لم تكن القوانين القديمة تسلم بفكرة التعاقد بالنيابة كما هو الشأن اليوم في القوانين الحديثة التي اصبحت تعترف بتعاقد الشخص نيابة عن غيره مع جعل اثار التعاقد تنصرف الى الاصيل.
---------------------
(6) دروس مصادر الالتزام صفحة 117.
وفي هذا المعنى راجع السنهوري - نظرية العقد - صفحة 206 وحشمت ابو ستيت - مصادر الالتزام - صفحة 114، وربير وبلانيول - المرجع السابق - الجزء 8 صفحة 71.
(7) بودان - القانون المدني - صفحة 13.
(8) جاء في المادة 882 من قانون الالتزامات والعقود : " تعتبر الوكالة كان لم تكن اذا كان محلها عملا لا يجوز اجراؤه بطريق النيابة اعطاء اليمين".
-------------------
فالقانون الروماني في بداية عهده لم يكن يعرف النيابة خصوصا وان رابطة الالتزام كانت رابطة شخصية ومحضة، تقتصر على المتعاقدين وحدهما دون امكانية امتدادها الى الغير، زيادة عل الاوضاع والشكليات التي كانت سائدة انذاك، حيث كان شكلية العقود تقضي بعدم امكانية مباشرتها الا من طرف المتعاقد نفسه وجعل اثارها تنسحب اليه وحده دون غيره.
غير ان مقتضيات التعامل ما لبثت ان تغيرت وجعلت القانون الروماني يسلم بفكرة نيابة الابن او العبد عن رب الاسرة وذلك في حدود ضيقة بجعل رب الاسرة دائنا لا مدينا نظرا لما له من سلطة عليهما. (10)
ففكرة التعاقد بالنيابة في القانون الروماني وقفت عند حدود نيابة الابن والعبد عن رب الاسرة ولم تتجاوزهما الى غيرها، سيما وان المجتمع الروماني في ذلك الوقت كان مجتمعا فلاحيا في طور النمو، والمعاملات التجارية فيه كانت بسيطة الشيء الذي جعل التصرفات القانونية تكون قليلة.
فالروماني لديه الوقت الكافي للقيام بالتصرفات القانونية التي يحتاج اليها وفي الحالة التي يتعذر عليه القيام بها بنفسه، فانه ينيب عنه فيها من هو تحت سلطته (11).
يتضح مما سبق ان النيابة في القانون الروماني بدون وساطة الابن او الرقيق كانت منعدمة، فالاجنبي الذي يتعاقد مع الوكيل لا علاقة تربطه بالموكل ولا يستطيع الرجوع عليه، كما ان الموكل بامكانه الرجوع على الوكيل دون المتعاقد الاجنبي الذي لا تربطه به اية رابطة، فرابطة التعاقد بقيت محصورة في اطار ضيق وهو قيام علاقة بين الوكيل والغير الاجنبي دون وجود اية علاقة مباشرة بين الموكل والغير الاجنبي كما هو الشان في التشريعات الحديثة.
----------------------
(9) السنهوري - نظرية العقد - صفحة 208.
ربير وبلانيول - المرجع السابق - صفحة 72 على الهامش.
جاء في المادة 10 من مدونة الاحوال الشخصية " يجوز للوالي ان يوكل من تعاقد نكاح وليته كما للزوج ان يوكل من يعقد عنه".
(10) سليمان مرقس - شرح القانون المدني - الالتزامات صفحة 91.
(11) فلاتيه - العقود لحساب الغير - صفحة 24.
---------------------
غير ان فكرة التعاقد بالنيابة ما لبثت ان تطورت بحكم التطور التاريخي، فاصبح الغير يتمتع بدعوى قبل الاصيل الى جانب دعواه قبل النائب وفي نفس الوقت منح النائب القانوني كالوالي والوصي دفعا يدفع به دعوى الغير الموجه ضده بحيث لم يبق لهذا الغير سوى دعوى واحدة وهي دعواه ضد الاصيل مما يؤدي الى القول ان النيابة اصبحت تامة.
فالقانون الروماني في هذه المرحلة التالية تمكن من ربط علاقة مباشرة بين الاصيل والغير في اطار النيابة القانونية دون النيابة الاتفاقية فجعل اثار العقد تنصرف الى الاصيل دون النائب.
ويرى الاستاذ سليمان مرقس " ان الغير قد اعطى في هذه المرحلة التالية دعوى قبل الموكل او الاصيل فوق دعواه الاصلية قبل الوكيل او النائب، ثم اعطي من ينوب عن غيره بقوة القانون الوصي او القيم دفعا يدفع به تلك الدعوى الاصلية بحيث لم يبق للغير الا دعواه قبل الاصيل. ومن جهة اخرى اعطي النائب القانوني دفعا يدفع به دعواه الاصلية ضده بعد ان اعطي الاصيل دعوى مباشرة قبل الغير. وهكذا وصل القانون الروماني الى ان يرتب على النيابة القانونية دون ان النيابة الاتفاقية علاقة مباشرة بين الاصيل والغير مع عدم تعلق اثار العقد، موجبة او سالبة بشخص النائب القانوني" (12).
-------------------
(12) سليمان مرقس - المرجع السابق - صفحة 92.
-------------------
ويؤيد هذا الراي ما ذهب اليه ماجد الحلواني بقوله : " ولهذا اخذت الحقوق الرومانية في نهاية عهدها بامكانية منح الاصيل والطرف الذي تعاقد مع النائب دعوى مباشرة لكل منهما اتجاه الاخر، بالاضافة الى دعوى النائب قبل المتعاقد معه ودعوى هذا قبل النائب، ولكنها لم تصل الى إقرار المبدا العام في النيابة والذي يقضي بان تترتب اثار العقد في ذمة الاصيل دون ذمة النائب" (13).
وهكذا تطورت فكرة النيابة في ظل القوانين الحديثة التي اجازت للشخص التعاقد نيابة عن غيره دائنا كان او مدينا، مع جعل اثار التصرف تنسحب الى شخص الاصيل الذي لم يكن طرفا في العقد جاعلة بذلك دور النائب يقتصر على انشاء العقد.
ولعل السبب في هذا التطور الحاصل يعود الى ما ذهب اليه الاستاذ السنهوري من ان القانون الكنسي الذي اجاز نيابة شخص عن اخر في تصرف قانوني يباشره بالنيابة عنه، وذلك بعد ان تحررت الارادة من الشكل وجعلت وحدها كافية لانشاء الالتزام (14).

4- موقف التشريعات الحديثة من نظرية التعاقد بالنيابة :
ذهب بعض الفقه الى القول بان فكرة التعاقد بالنيابة ما هي الا صورة حديثة نسبيا من صور الفن القانوني (15).
---------------------
(13) نظرية الالتزم - الجزء الاول - مصادر الالتزام، صفحة 76.
(14) مصادر الحق، صفحة 165.
(15) فرج الصدة - محاضرات في القانون المدني، صفحة 131.
--------------------
ففكرة التعاقد بالنيابة لم تبرز الى الوجود دفعة واحدة بل ظهرت تدريجيا بحكم التطور التاريخي، الامر الذي جعل بعض التشريعات تاخذ بها وتفرضها بتنظيم خاص بها فتبين احكامها وشروطها، كما هو الشان في التشريع الالماني والايطالي والسويسري (16). ونفس الاسلوب نهجه المشرع المصري في قانونه المدني الجديد الذي افرض نصوصا خاصة بها بعد ان كانت احكامها متفرقة في الباب المتعلق بالوكالة في ظل القانون المدني القديم (17)، وهو المنهج الذي نهجه المشرع السوري الذي نظم النيابة وخصها بالمواد 105-109 من قانونه المدني (18).
اما المشرع اللبناني فقد تناول احكام النيابة او التمثيل في الفصل الخاص بمفاعيل العقود في المادتين 223 و224 من القانون المدني ونفس الشيء فعله القانون العراقي الذي اقتصر على ايراد بعض المواد في الباب الخاص بالوكالة (19).
اما المشرع المغربي فشانه شان المشرع الفرنسي (20) لم يفرد بابا خاصا للنيابة وانما اقتصر على ما جاء في باب الوكالة في قانون الالتزام والعقود زيادة على النصوص المنظمة للنيابة الشرعية او القانونية الواردة احكامها في مدونة الاحوال الشخصية او قانون الالتزامات والعقود ذاته.
-----------------------------
(16) القانون المدني الالماني تعرض للنيابة في المواد 164-180 والقانون المدني السويسري في المواد 32-40 والمشروع الفرنسي الايطالي في المواد 30-37 .
(17) سليمان مرقس - المرجع السابق - صفحة 93 و94.
السنهوري - نظرية العقد - صفحة 207.
(18) فرج الصدة - المرجع السابق - صفحة 131.
(19) زهدي يكن - شرح قانون الموجبات والعقود اللبناني - الجزء الثالث عشر صفحة 65.
(20) نلاحظ ان المشرع المغربي في المادة 33 من قانون الالتزامات والعقود والذي جاء فيه : " لا يحق لاحد ان يلزم غيره ولا ان يشترط لصالحه الا اذا كانت له سلطة النيابة عنه بمقتضى وكالة او بمقتضى القانون" لم يقرر مبادئ مفصلة للنيابة وانما قرر امكانية وقوع النيابة قانونية او اتفاقية.
وقد جاء في المادة 1984 من القانون الفرنسي : ان الوكالة او النيابة هي عقد يمنح شخص بموجبه سلطة عمل شيء لحساب الموكل وباسمه، في حين جاء في المادة 879 من قانون الالتزامات والعقود المغربي: بان الوكالة - دون ايراد عبار ة النيابة - هي عقد بمقتضاه يكلف شخص شخصا اخر باجراء عمل مشروع لحسابه.
ولعل السبب الذي حدا بالمشرع الفرنسي الى عدم التمييز بين كلمة وكالة ونيابة وهو الخلط الذي وقع فيه كما ان كثير من العقود المبرمة لحساب الغير عن طريق النيابة قد تلتصق صوريا بالوكالة وذلك خلافا للواقع، كالتعاقد مع حق التقرير مثلا لذا نجد الفقه الفرنسي الحديث يحاول اخراج العناصر الاساسية للنيابة والعمل على فصلها عن الوكالة نظرا للخلط الموجود بينهما.
راجع فلاتيه - المرجع السابق - الصفحة 69 -71
--------------------------
ولعل السبب الذي من اجله افردت بعض التشريعات الحديثة امكنة خاصة بالنيابة يمكن في الفروق العملية الموجودة بين النيابة والوكالة.
تعريف النيابة مقارنتها بالاوضاع المشابهة لها، انواعها.
سنتناول هذا الفصل بالبحث في ثلاث فروع على الشكل الاتي :
الفرع الاول : تعريف النيابة.
الفرع الثاني : مقارنة النيابة بالاوضاع المشابهة لها.
الفرع الثالث : انواع النيابة .

الفرع الاول
تعريف النيابة
تعرف النيابة بانها حلول ارادة شخص يطلق عليه النائب في ابرام تصرف قانوني محل ارادة شخص اخر يطلق عليه الاصيل ولحسابه ضمن حدود النيابة المرسومة له مع جعل اثار هذا التصرف تنصرف مباشرة الى شخص هذا الاصيل.
ففي التعاقد بالنيابة تنصرف اثار التعاقد الى شخص الاصيل رغم انه لم يقم بابرامه ولا بالمساهمة حتى في ابرامه في حين اقتصر الامر فيه على النائب وحده والغير متعاقد معه.
فخلافا للقاعدة القائمة بان العقود لا تنتج اثارها الا بين متعاقديها فان اثار العقد تنصرف الى الاصيل رغم ان النائب هو الذي انشا العقد فنصل الى نفس النتيجة كما لو كان الاصيل هو الذي ابرمه بنفسه.
والاصيل في التعاقد بالنيابة كما سبق القول الجواز، وكل تصرف يجوز للشخص ان يجريه بنفسه يمكنه انابة الغير عنه في اجرائه يستوي في ذلك ان تتم النيابة عن احد طرفي العقد او عنهما معا كما هو الشان في التعاقد مع النفس (21).
فعن طريق النيابة اذن نصل الى نفس النتيجة المرجوة من التعاقد وهي انصراف اثار العقد الى الاصيل كما لو كان هو الذي تعاقد بنفسه مع الغير واختفاء شخصية النائب من ساحة التعاقد بمجرد الانتهاء من ابرام العقد فيصبح المتعاقدان الحقيقيان هما الاصيل والغير ذلك ان النائب انما كان يتعامل مع الغير على هذا الاساس أي باسم الاصيل ولحسابه (22).
وقد عرف كاربونيه النيابة بانها الالية التي بمقتضاها يبرم شخص النائب عقدا لحساب الاصيل فتنشا حقوقه والتزاماته في ذمة هذا الاخير وهذه الالية تمكن من ابرام عقود لصالح عديم الاهلية او ناقصها كالقاصر او الممنوع ما دام غير قادر على ابرامها (23).
------------------------
(21) راجع كتابنا التعاقد بطريق النيابة في ضوء التشريع المغربي - رسالة - كلية الحقوق، البيضاء. - راجع تعليقنا على القرار الصادر عن محكمة الاستئناف بالرباط بتاريخ 12/10/1982 تحت عدد 4267 على ضوء المادة 731 من قانون الالتزامات والعقود المغربي والذي تحدثنا فيه عن تعاقد الشخص مع نفسه وهو منشور بمجلة المحاكم المغربية عدد 33 - اكتوبر1984 صفحة 57.
(22) بودان - القانون المدني، صفحة 14.
(23) كاربونيه - القانون المدني، صفحة 176.
-----------------------
اما بلاينول وربير فقد ذهبا الى انه عندما يكون العقد المبرم من طرف شخص لصالح اخر من شانه ان يرجع الاثار القانونية موجبة كانت ام سالبة تترتب في ذمة الاصيل تكون هناك نيابة (24).
فالشخص في التعاقد بالنيابة يستطيع ان يجري باسم الغير ما لا يستطيع اجراؤه اصالة عن نفسه كما هو وارد بصريح النص في المادة 880 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
وقد عرف الاستاذ عبد الفتاح عبد الباقي النيابة بانها نظام قانوني مؤداه ان تحل ارادة شخص معين يسمى النائب محل ارادة شخص اخر هو الاصيل في انشاء تصرف قانوني تنضاف اثاره الى الاصيل لا الى النائب.(25)
غير ان الاستاذ موريل يرى ان النيابة هي وظيفة تعطى الى النائب على اثر اتفاق او حكم او نص يستطيع النائب بواسطتها ان يرتب اثارا قانونية في ذمة الاصيل المالية (26).

1- تمثيل الاشخاص المعنوية :
ان التعاقد بالنيابة لا يقتصر على الاشخاص الطبيعيين فحسب بل يشمل حتى الاشخاص المعنويين. ولما كان الشخص المعنوي لا يستطيع التعبير عن ارادته فقد بات من اللازم تعيين من ينوب عنه في التعبير عنها عند الرغبة في اجراء تصرفات قانونية.
والشخص المعنوي قد يكون شركة، جمعية عمومية، يحتاج من اجل تقوية نشاطه الى ابرام عقود مع الغير، وهذه العقود الا يتاتى ابرامه الا من طرف ممثليه من مدراء او متصرفين او وكلاء فتصرف اثاره الى الشخص المعنوي نفسه على الرغم من ان التعبير عن الارادة قد تم بواسطة النائب.
-----------------------
(24) ربير وبلافيول - المرجع السابق، صفحة 71.
(25) دروس من مصادر الالتزام، صفحة 117.
(26) زهدي يكن - شرح قانون الالتزامات والعقود الجزء الرابع، ص 61.
-----------------------
ويرى ربير وبلانيول ان الاشخاص المعنوية يمكن ان تكون وكيلة عن الغير، شانها في ذلك شان اشخاص طبيعية وان ارادة وكلائها تحل محلها في التعبير عن ارادتها.
وكما ان الشخص المعنوي لا يمكنه ان يتصرف الا بواسطة مدرائه ومتصرفيه ووكلائه فقد جرت العادة على القول بان هؤلاء يمثلونه (27).

2- التمثيل بواسطة المستخدم :
يعتبر المستخدم بمقتضى عقد العمل تابعا لمخدومه، فهو يطبق تعليماته فقط ولا ينوب عنه فعلاقته هي علاقة التابع بالمتبوع.
غير انه قد يحدث احيانا ان يمنح رب العمل لبعض مستخدميه بعض السلطات كتحديد ثمن البضاعة المعروضة للبيع مثلا او اختيار نوعية الزبناء، فيمتزج عقد العمل بالنيابة، وتبدو نيابة المستخدم عن مخدومه جلية واضحة، وعندئذ ينبغي تطبيق القواعد المتعلقة بالنيابة اذا ما مارسها في اطار السلطة الممنوحة له. ولا يهم بعد ذلك ما اذا كانت صريحة او ضمنية (28) تبعا لما اقره الاجتهاد من ان الطابع الاساسي للنيابة لا يتحقق الا في السلطة الممنوحة للوكيل وذلك بالعمل نيابة عن الموكل (29)
-------------------------
(27) ربير وبلانيول - المرجع السابق - صفحة 70-73.
فيرار جارجيت - نظرية الالتزامات، صفحة 80-82.
(28) ربير بلانيول - المرجع السابق - صفحة 71.
وقد جاء في المادة 884 من قانون الالتزامات والعقود المغربي " غير انه لا يفترض في الخدم انهم موكلون في شراء الحاجيات الضرورية لمنازل مخدومهم بالسلف ما لم يثبت ان من عادة المخدوم الشراء بالسلف". فالمشرع هنا يكون قد اقر الوكالة الضمنية للخادم.
(29) حكم محكمة النقض الفرنسية الصادر في 14 ابريل1886 ( انظر زهدي يكن - شرح قانون الموجبات والعقود اللبناني - الجزء 13 - صفحة 9.
-------------------------
الفرع الثاني
مقارنة النيابة بالاوضاع المشابهة لها.
يجب تمييز التعاقد بالنيابة عن بعض الاوضاع المشابهة، مبينين في ذلك اوجه الشبه واوجه الخلاف بالنسبة لكل حالة على حدة.

اولا : النيابة والرسالة :
في التعاقد بالنيابة يعبر النائب عن ارادته الشخصية التي تحل محل ارادة الاصيل فهو ليس بوسيط تقتصر مهمته على نقل ارادة احد الطرفين الى الطرف الاخر الذي يجعل منه رسولا.
فالنائب اذن يفترق عن الرسول ويظهر على الفرق جليا فيما ياتي :
فالرسول يقتصر دوره على نقل ارادة احد الطرفين الى الطرف الاخر، لا يهم بعد ذلك اذا ما كان نقل هذه الارادة قد تم شفويا او كتابيا ولا دخل لارادته الشخصية في عملية التعاقد. فالرسول هو بمثابة مبلغ بين الطرفين (30).
ويذهب حشمت ابو ستين الى ان الرسول ناقل لارادة الغير على حالها، أي كما عبر عنها ذلك الغير (31).
اما النائب فعكس الرسول فهو لا ينقل ارادة الاصيل بل يعبر عنها وذلك باحلال ارادته الشخصية محلها.
والتعاقد بنائب يعتبر كالتعاقد بين حاضرين اذ جمع النائب والغير متعاقد معه مجلس واحد، اما التعاقد برسول فيعتبر تعاقدا بين غائبين ما دام الاصيل يتعاقد بنفسه ولكن بواسطة رسول عنه حتى ولو جمع الرسول والطرف الاخر مجلس واحد.
--------------------------
(30) انظر مصطفى الزرقاء - محاضرات في القانون المدني السوري - صفحة 69.
(31) حشمت ابو ستيت - المرجع السابق - صفحة 12.
--------------------------
فالعبرة في التعاقد بالنيابة هي بارادة النائب التي تحل محل ارادة الاصيل، لذا وجب فيه ان يكون متمتعا بالتمييز، اذ لا يحصل ان يكون نائبا للصبي غير المميز لانعدام إرادته، وان تكون ارادته خالية من العيوب التي قد تشوبها كالغلط او التدليس او الاكراه، اما في التعاقد برسول فان العبرة بارادة المرسل لا الرسول الذي يعد ناقلا لها. ولا يشترط توافر اهلية الالتزام فيه ما دام قادرا على نقل الرسالة.
ويجمع الفقه على صحة الرسالة الواقعة من الصبي غير المميز او المجنون، أي انه يصح ان يكون رسولا، الصبي غير المميز او المجنون ما دام عيوب الارادة لا يرجع فيها الى الرسول بل الى المرسل.
فالتعاقد برسول لا يعدو ان يكون سوى مجرد اداة لنقل ارادة المرسل الى المرسل اليه، فدوره في التعاقد لا يختلف عن الدور الذي تقوم به ادارة البريد او التلغراف من اجل تبليغ الرسائل والبرقيات لاصحابها.
ولا يخفى ان التعاقد بالنيابة يدفع بالنائب الى اتخاذ نوع من المبادرة. وتتجلى هذه المبادرة في السلطة الممنوحة له، وبعبارة اخرى في مدى حرية التقدير التي يتوفر عليها بصفته نائبا. وعليه فلا يعتبر نائبا الرسول في التعاقد بين غائبين، ولا المستخدم الذي يبرم عقودا مع زملاء مخدومه ولا المستخدم الذي يوزع اوراق السينما، مقابل مبالغ معينة ما دامت مهامهم لا تسمح لهم باي تدخل شخصي(32).
وعليه كيفما كان نوع التفرقة بين النائب والرسول، فانه يمكن القول بصورة عامة ان النائب هو من يتمتع بقسط وافر من حرية التقدير في اجراء تصرف قانوني تترتب اثاره في ذمة الاصيل، اما الرسول فهو من يقتصر دوره على نقل ارادة شخص الاصيل - المرسل - الى الغير على حالها أي كما عبر عنها دون أي تدخل شخصي من جانبه.
---------------------
(32) موسوعة دالوز- كلمة وكالة - صفحة 196 بند 4.
بودان - المرجع السابق - الجزء 2 بند 296.
---------------------
وعلى الرغم من الفروق الموجودة بين النائب والرسول، فقد يحدث احيانا ان تجتمع في الشخص الواحد، وفي نفس الوقت صفة الرسول والنائب، ويتم ذلك في الحالة التي يصدر اليه فيها الاصيل تعليمات محددة لا يستطيع الخروج عنها في امر من امور العقد المزمع بالنيابة عنه مع ترك حرية التقدير له في بقية الامور (33).

ثانيا : النيابة والوكالة :
كثيرا ما يقع الخلط بين النيابة والوكالة، خصوصا وان القانون الروماني لم يعرف النيابة الا بعد مرور فترة طويلة من الزمن، فبقي الخلط سائدا في بضع التشريعات الحديثة التي لم تفرد بابا خاصا للنيابة حيث كانت تدرج النيابة في الباب الخاص بالوكالة (34).
ونظرا للفروق العملية الموجودة بين النوعين، قامت بعض التشريعات الحديثة ففرقت بين الوكالة والنيابة مبينة بذلك احكام هذه الاخيرة وشروطها واثارها (35).
---------------------
(33) ربير وبلانيول - المرجع السابق - الجزء 8 صفحة 78.
(34) اذا كان المشرع الفرنسي لم يفرد فصلا خاصا بالنيابة وانما اكتفى بما جاء في الوكالة فانه يتبين بالرجوع الى المفهوم المخالف للمادة 1119 مدني فرنسي ان التعاقد بطريقة النيابة جائز ( انظر السنهوري - نظرية العقد - صفحة 218 على الهامش).
(35) نجد القانون المدني الالماني ( في المواد 164-180) والقانون المدني السويسري ( في المواد 32-40) قد افرد كل واحد منهما بحثا خاصا لبيان احكام النيابة وشروطها واثارها.
اما قانون الموجبات والعقود اللبناني فقد اقتصر كما سبق الاشارة، على نظرية النيابة بوجه عام في المادة 223 و224 وان كان لم يتوسع فيها كما فعلت اغلبية التشريعات الحديثة.
انظر زهدي يكن - المرجع السابق - الجزء الرابع صفحة 75.
-----------------------
ويرجع الفضل في هذه التفرقة الى الفقهاء الالمان وعلى راسهم الفقيه اهرنج وهو اول من ميز بين النوعين أي النيابة والوكالة.
وقد عبر الاستاذ السنهوري عن الخلط الموجود بين النوعين بقوله :" ان الموضوعين متصلان احدهما بالاخر اوثق اتصال وان ما يذكر في النيابة يجب ان يكمل بالاحكام الخاصة بعقد الوكالة (36).
وعلى الرغم الخلط القائم بين الوكالة والنيابة قد ميز الفقه بينهما مبينا بان النيابة هي سلطة قانونية لتمثيل شخض معين في ابرام تصرق تستمد مصدرها ممن عقد الوكالة. اما الوكالة فهي العقد التي تستمد منه هذه السلطة، الامر الذي يتجلى منه بكل وضوح الفرق بين السلطة ومصدرها وبالتالي ينبغي عدم الخلط بينهما.
واذا كانت الوكالة اساسها العقد، فان النيابة اساسها الارادة المنفردة اذ الاعمال التي يقوم بها النائب لحساب الاصيل تعود اثارها الى هذا الاخير على الرغم من انه لم يقم بها بنفسه.
يتبين اذن انه ليس من الضروري وجود تلازم بين النيابة والوكالة، فقد توجد النيابة بدون وكالة كما قد توجد الوكالة بدون نيابة، وسنتحدث عن كل حالة على حدة.

أ‌) وجود النيابة بدون وكالة :
قد توجد النيابة على الرغم من انعدام الوكالة، وهذا هو الشان في النيابة القانونية كنيابة الولي، او في النيابة القضائية كنيابة الوصي او المقدم او الحارس القضائي او السنديك.
والجدير بالملاحظة ان عقد الوكالة الذي تستمد منه النيابة مصدرها قد ينتهي احيانا قبل انتهاء سلطة النيابة، كما هو الحال بالنسبة للوكيل الذي يستمر في انجاز اعمال تدخل في اطار الوكالة في وقت يكون فيه الموكل قد انهى عقد الوكالة من دون ان يخبره بذلك - كالعزم مثلا -.
---------------
(36) السنهوري - نظرية العقد - صفحة 210.
--------------
ب‌) وجود الوكالة بدون نيابة :
وقد توجد الوكالة ولكن بدون نيابة كما هو الشان في حالة تعاقد شخص الوكيل باسمه الشخصي، وليس باسم موكله - الاسم المستعار - او حالة تعاقد الوكيل بالعمولة.
ويلاحظ ان هناك فرقا بين الحالة التي يتعاقد فيها الوكيل باسم موكله ولحسابه حيث تنسحب اثار العقد الى الاصيل فنكون امام وكالة ونيابة في ان واحد وبين الحالة التي يكون فيها الشخص وكيلا عن الغير ولكنه يتعاقد باسمه حيث تنعدم النيابة وتبقى العلاقة قائمة بين الوكيل المتعاقد باسمه الشخصي والمتعاقد الاخر ومنحصرة عليهما وحدهما فنكون وكالة دون نيابة.
وعليه فالتمييز بين النيابة والوكالة يؤدي الى القول بوجود نوعين من الوكالة : الوكالة النيابة والوكالة غير النيابة (37).
----------------------
(37) الوكالة النيابة هي التي يطلق عليها الوكالة المكشوفة Mandat ostensible لكونها مقترنة بالنيابة والوكيل فيها يعمل باسم موكله ولحسابه حيث تحتوي على عنصرين عنصر الوكالة الذي هو نتيجة اتفاق بين الوكيل والموكل - عقد الوكالة - وعنصر النيابة وهو نتيجة ارادة صادرة عن اصيل تخول النائب صفة النيابة.
والوكالة غير النيابة ويطلق عليها Mandat simulé وهي الوكالة المجردة عن النيابة وتفرض على الوكيل التعاقد باسمه الشخصي وان كان يعمل لحساب الموكل. وفي والكالة غير النيابة قد يقتصر عمل الوكيل على التعاقد فقط بل يتعداه الى التنفيذ ويبقى ملزما بالعقد الى حين نقل اثاره الى ذمة الموكل.
راجع فلاتيه - العقود لحساب الغير - صفحة 174.
------------------------
ولعل اهم ما يميز النيابة عن الوكالة يكمن في اهلية الموكل والوكيل اولا لان اهلية الوكالة ليست هي بذاتها اهلية النيابة، وفي اقرار الموكل لمجاوزة الوكيل لحدود الوكالة ثانيا.

1- التمييز المتعلق بالاهلية :
يبدو للباحث منذ اول وهلة وجود خلط عند دراسة الوكالة كعقد يرتب التزامات متقابلة في جانب كل من الموكل والوكيل، والوكالة كعقد يضفي على الوكيل صفة النيابة عن الموكل.
فالنظر الى الوكالة باعتبارها عقدا يرتب التزامات متقابلة في كلا الجانبين يؤدي الى القول بضرورة توافر اهلية التصرف لدى الوكيل والموكل. فالموكل مثلا ملزم برد النفقات وتعويض الاضرار الناتجة عن تنفيذ الوكالة مع دفع الاجر للوكيل اذا كانت الوكالة ماجورة والوكيل من جانبه ملزم بتنفيذ الوكالة وتقديم الحساب عنها مع رد ما عنده للموكل، فهذه اعمال تدخل كلها في نطاق التصرف الامر الذي يستوجب معه ضرورة توافر اهلية التصرف في كل منهما.
اما اذا نظرنا الى الاهلية اللازمة توافرها عندما يضفي عقد الوكالة صفة النيابة على الوكيل فهي اهلية تختلف عن الاهلية السالف ذكرها.
فلما كان العقد المبرم من طرف الوكيل ستنصرف اثاره الى الموكل لزم في الموكل ان يكون متمتعا باهلية التصرف، وان يعتد بهذه الاهلية وقت مباشرة الوكيل للتصرف. اما الوكيل فلا حاجة لاشتراطها فيه وانما يكتفي فيه بالتمييز ما دامت شخصيته ستنمحي من ساحة التعاقد بمجرد ابرام التصرف وتبرز معها شخصية جديدة وهي شخصية الموكل.

2- التمييز المتعلق بخروج الوكيل عن حدود الوكالة :
عندما يتعاقد الوكيل مع الغير خارج الوكالة المعطاة له فانه يفقد صفة التعاقد بالنيابة عن الموكل، وبالتالي فان اثار التصرف لا تنصرف الى الاصيل كما ان هذا الاخير لا يلتزم به.
غير ان هذا لا يعني انعدام صفة النيابة عنه بالمرة، بل على العكس فقد تنقلب الوكالة الى نيابة في حالة الاقرار الصادر عن الموكل سواء كان صريحا او ضمنيا اذ الاقرار اللاحق كالتوكيل السابق (38).
فالاقرار يضفي على النائب صفة النيابة باثر رجعي ما دامت ارادة الموكل قد ارتضت التصرف.

ثالثا : النيابة والاشتراط لمصلحة الغير :
في الاشتراط لمصلحة الغير يتعاقد المشترط باسمه لا باسم المنتفع خلافا للنائب في التعاقد بالنيابة الذي يتعاقد باسم الاصيل ولحسابه.
فالذي يعد طرفا في التعاقد بالنيابة هو الاصيل لا النائب الذي تنتهي مهمته بمجرد ابرام العقد واتمامه. اما في الاشتراط لمصلحة الغير فان المشترط هو الطرف في العقد لا المنتفع (39).
ولما كان المشترط طرفا في العقد، فان قبول المنتفع للاشتراط امر ضروري حتى يسري في حقه عقد لم يكن طرفا فيه، بخلاف في النيابة فلا يحتاج لرضا الاصيل وانما يكتفي برضا النائب، ورضا النائب يغني عن رضاء الاصيل.
----------------------
(38) المادة 927 الفقرة الاولى من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
(39) فرج الصدة - المرجع السابق - صفحة 101.
----------------------
ومعلوم ان المشترط لا يشترط لمصلحة الغير الا اذا كانت له مصلحة شخصية في الاشتراط اما النائب فانه ينوب عن الاصيل اما بمقتضى القانون او الاتفاق(40)، والغرض من النيابة هنا هو حماية مصالح الاصيل وضمان استقرارها.
واذا كان من اللازم تعاقد النائب باسم الاصيل فانه ليس ضروريا ذكر اسمه وذلك اكتفاء بان التعاقد يتم بالنيابة عن الغير، اما في الاشتراط لمصلحة الغير فان التعاقد يكون صحيحا حتى ولو كانت شخصية المنتفع غير معينة وقت التعاقد.
فالاشتراط لمصلحة الغير يختلف تمام الاختلاف عن التعاقد بالنيابة.
ففي التعاقد بالنيابة اذا كان النائب يقدم حساب للاصيل ويسترد نفقات المصاريف الناشئة عن النيابة، فان هذا ليس امر ضروريا في الاشتراط لمصلحة الغير ما دام للمشترط مصلحة شخصية فيه. كما ان الحق الناشئ عن التعاقد بالنيابة والذي استقر في ذمة الاصيل لا يستطيع النائب الرجوع عنه، اما المشترط فبامكانه الرجوع عن الاشتراط.

رابعا : النيابة والتعهد عن الغير :
يتعاقد الشخص في التعهد عن الغير باسمه لا باسم المتعهد عنه، كما ان اثار العقد تنصرف اليه لا الى الغير المتعهد عنه، على خلاف النائب في التعاقد بالنيابة فانه يتعاقد باسم الاصيل ولحسابه فكان لزاما ان تنصرف اثار التعاقد الى هذا الاخير فتنتج مفعولها في ذمته ما دامت شخصية النائب ستنمحي بمجرد ابرام العقد.
فالتعاقد بالنيابة ينشئ علاقة مباشرة بين الاصيل والمتعاقد مع النائب كما لو كان العقد قد تم بينهما دون وساطة النائب. اما في التعهد عن الغير فالمتعهد يتعهد بحمل الغير المتعهد عنه على قبول الالتزام، وعند الرفض فان المتعهد يتحمل مسؤولية الالتزام.
-------------------
(40) لقد نص المشرع المغربي في المادة 879 من ق ل ع م على " انه يسوغ اعطاء الوكالة ايضا لمصلحة الموكل والوكيل او لمصلحة الموكل والغير بل ولمصلحة الغير وحده.
-------------------
وذا كان من المفروض ان يتحمل المتعهد مسؤولية الالتزام في حالة رفض المتعهد، عنه فانه لا وجود لمثل هذه المسؤولية في التعاقد بالنيابة ما دام النائب قد تعامل مع الغير باسم الاصيل ولحسابه وفي الحدود المرسومة للنيابة.
وعند قبول المتعهد عنه الالتزام، فان عقدا جديدا ينشا بينه وبين الغير المتعاقد معه، في حين نجد عقدا واحدا في التعاقد بالنيابة هو الذي تسري اثاره القانونية بين الغير والاصيل وهو العقد الذي ابرمه النائب مع الغير.
غير انه قد يحدث احيانا الا يتمكن النائب من الحصول على اذن الاصيل لسبب من الاسباب في خصوص امر معين، اما لبعده عن مكان العقد او وجود مانع كقطع شبكة المواصلات، وخوفا من ضياع صفقة رابحة يتعاقد النائب مع الغير متجاوزا حدود النيابة ومتعهدا عن الاصيل، فيقر الاصيل العمل الذي قام به النائب فيضحى عملا صحيحا، ويدخل في اطار النيابة.

خامسا : النيابة والالتزام عن الغير شرط اقراره اياه :
سبق القول ان النيابة هي حلول ارادة النائب محل ارادة الاصيل في ابرام تصرف قانوني تنصرف اثاره الى الاصيل الذي لم يكن حاضرا ساعة ابرامه. اما الالتزام عن الغير شرط اقراره اياه فهو قيام الشخص بابرام تصرف باسم الغير يلتزم فيه الحصول على رضاء هذا الغير.
فالنائب كالملتزم يتعاقد باسم شخص ثان لم يكن حاضرا ساعة التعاقد الا ان النائب في التعاقد بالنيابة عندما يتعاقد مع الغير باسم الاصيل ولحسابه فان اثار التصرف تنسحب الى هذا الاخير دون قيد ولا شرط. اما في الالتزام عن الغير شرط اقراره اياه فلابد من اقرار الملتزم عنه وحصول قبوله داخل اجل لا يتجاوز خمسة عشر يوما بعد اعلامه بالعقد حتى تنصرف اليه اثاره (41).

سادسا : النيابة والسمسرة :
اذا كان التعاقد بالنيابة يتلخص في كون النائب يقوم بابرام تصرف قانوني لحساب الاصيل وباسمه وذلك باحلال ارادته محل ارادة الاصيل وضمن حدود السلطة الممنوحة له فان السمسرة هي قيام شخص يدعى السمسار بربط العلاقة بين شخصين والعمل على التقريب بين وجهتي نظرهما في خصوص امر معين حتى يحصل الاتفاق بينهما.
فالسمسار اذن شخص يسعى الى حمل المتعاقدين على التعاقد وذلك بغية تحقيق الغرض الذي يقوم بالتوسط من اجله. اما النائب فانه ينوب عن الاصيل في ابرام العقد ومن ثم كان يعمل باسمه ولحسابه (42).
وعليه فارادة السمسار تقف عند حدودها ولا دخل لها في عملية التعاقد فهي تنتهي بمجرد ما يعثر السمسار على المتعاقد الاخر. اما النائب فهو يحل بارادته محل ارادة الاصيل في التعاقد.
ومن الملاحظ ان مشاركة السمسار احيانا في بعض المفاوضات الدائرة بين الطرفين المتعاقدين او تحرير العقد لا تاثير لها بتاتا في عملية التعاقد ما دام السمسار لا يعتبر طرفا في العقد خصوصا وان مهمته تنتهي بمجرد اتفاق الطرفين، غير انه ليس هناك ما يمنع من تكليف السمسار بابرام العقد، فيصبح نائبا وسمسارا في نفس الوقت، اذ ان قيامه بابرام العقد نيابة عن الاصيل لا يدخل في نطاق اعمال السمسرة بل على العكس في اطار النيابة،
------------------
(41) المادة 36 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
(42) مصطفى كمال طه - الوجيز من القانوني التجاري، صفحة 299.
حسن يونس - العقود التجارية، صفحة 83.
------------------
وفي هذه الحالة يجب القول اننا بصدد مرحلتين : مرحلة اولية يقوم فيها السمسار باعمال مادية كالتعريف بشخصية المتعاقدين والتقريب بين وجهتي نظرهما من اجل حملهما على التعاقد وهذا هو الغرض الاساسي من السمسرة ومرحلة ثانية يقوم فيها السمسار باعمال قانونية حيث لا يقتصر دوره على التوسط فقط بل يتعداه حتى يشمل ابرام العقد ذاته نيابة عن الاصيل ويصبح نائبا فتطبق عليه احكام التعاقد بالنيابة.

الفرع الثالث
انواع النيابة
ان نوعية النيابة تحدد، اما بتحديد المصدر المنشئ لها والذي يضفي على النائب صفة النيابة فتكون النيابة اما نيابة قانونية او نيابة قضائية او نيابة اتفاقية، واما بتحديد المصدر الذي يحدد مدى ولاية النائب فتكون النيابة اما نيابة قانونية او نيابة اتفاقية.
فاذا نظرنا الى نوعية النيابة من حيث المصدر المنشئ لها فسنجدها تنقسم الى ثلاثة انواع : النيابة القانونية، النيابة القضائية، والنيابة الاتفاقية.

اولا : النيابة القانونية :
تكون النيابة قانونية عندما يتولى القانون امر تعيين النائب الذي يقوم بشؤون الاصيل كالولي الذي يقوم بابرام تصرفات قانونية نيابة عن قاصره والفضولي الذي يعمل نيابة عن رب العمل والدائن في الدعوى غير المباشرة الذي يقيم دعوى نيابة عن مدينه المتقاعس عن دفعها (43).
--------------------------
(43) ذلك ان التشريعات التي تاخذ بالدعوى غير المباشرة كالقانون المصري والقانوني السوري والفرنسي واللبناني. اما التشريع المغربي وان كان لم ياخذ بالدعوى غير المباشرة فانه اجاز للدائن التمسك بالتقادم نيابة عن مدينه فيما اذا اقيمت عليه دعوى وكانت قد تقادمت وتنازل المدين عن التمسك بالتقادم ( المادة 374 من قانون الالتزامات والعقود المغربي).
-------------------------
فالمشرع حماية لمصالح بعض الفئات من افراد المجتمع من الضياع اما لقصرهم او لضعف ادراكهم او لاغفالهم او لبعدهم او لعدم كفاءتهم وضمانا للاستقرار نظم هذا النوع من النيابة.
ويذهب الدكتور مختار القاضي الى القول : " الى جانب هؤلاء الاشخاص هناك اخرون اعتبرهم القانون بحكم الوظيفة نوابا، وبامكانهم ان يباشروا بعض التصرفات القانونية كالوزراء ومديري المصالح حيث يعتبرون نوابا عن الحكومة في تصرفاتهم المالية بمقتضى القوانين الدستورية والادارية، ولما كانت هذه القوانين تعتبر الوظيفة تكليفا فان نيابتهم تعتبر نيابة قانونية وان تعيينهم في وظائفهم يكون عادة باختيارهم" (44).

ثانيا : النيابة القضائية:
تكون النيابة قضائية حين يكون تعيين النائب قد تم من طرف القضاء كما هو الشان بالنسبة للوصي والمقدم والحارس القضائي ووكيل التفليسة والمصفي القضائي .
والنائب يعتبر معينا من طرف القضاء ولو كان اختياره للنيابة قد جاء نتيجة اتفاق بين الاطراف ما دام تعيينه او تثبيته يتوقف على اجازة القضاء (45).
----------------------
(44) الدكتور مختار القاضي - اصول الالتزامات في القانون المدني - صفحة 80.
(45) جاء في المادة 151 الفقرة 2 من مدونة الاحوال الشخصية : " تعرض الوصاية بمجرد وفاة الاب على على القاضي لتثبيتها".
وجاء في المادة 152 من نفس المدونة " يعين القاضي مقدما اذا لم يكن للقاصر او الحمل وصي".
وجاء في المادة 819 من قانون الالتزامات العقود المغربي ويجوز بموافقة الاطراف المعينة اسناد الحراسة لشخص يتفقون عليه فيما عليهم كما يجوز الامر بها من القاضي في الاحوال التي يحددها قانون المسطرة" =
----------------------
ثالثا : النيابة الاتفاقية :
تكون النيابة اتفاقية اذا كان مصدرها العقد، وبعبارة اخرى هي النيابة الناتجة عن اتفاق بين الاصيل - الموكل - والنائب - والوكيل - بمقتضاه يتعامل هذا الاخير مع الغير نيابة عن الاصيل وباسمه.
والنيابة الاتفاقية قد ترد صراحة كأن يوكل زيد عمرو في شراء عقار له بمدينة الرباط فيقبل عمرو التوكيل، وقد ترد ضمنيا ويستفاد من ظروف الحال، كما لو قام الوكيل وادى مبلغا ماليا نيابة عن الموكل ولم يصدر أي اعتراض عن هذا الاخير بشان الاداء الحاصل، اذ يعتبر سكوته قبولا ضمنيا للتصرف المجري او كما هو الشان في الميدان التجاري اذ تثبت الادارة لكل واحد من الشركاء في شركة المفاوضة ويعتبر مفوضا في ادارتها.
غير انه اذا نظرنا الى نوعية النيابة في الوجهة الثانية أي من خلال المصدر الذي يحدد مدى ولاية النائب امكن القول بان الامر يختلف تمام الاختلاف عن الحالة الاولى ما دام القانون هو الذي يحدد ولاية النائب في كل من النيابة القانونية والنيابة القضائية والاتفاق هو الذي يحددها في النيابة الاتفاقية.
-------------------------
= وجاء في المادة 1065 من نفس القانون " لجميع الشركاء حتى من لم يكن مشاركا في الادارة الحق في المشاركة في اجراء التصفية.
وتجرى التصفية بواسطة الشركاء جميعا او بواسطة نصف يعين باجماعهم ما لم يكن قد حدد من قبل بمقتضى عقد الشركة .
واذا تعذر اتفاق المعنيين بالامر على اختيار المصفي او كانت هناك اسباب معتبرة تقتضي الا يعهد بمهمة التصفية للاشخاص المعينين في عقد الشركة فان التصفية تتم قضاء بناء على الطلب أي واحد من الشركاء".
وجاء في المادة 273 من مدونة الاحوال الشخصية : " يعين القاضي لتصفية الشركة من يتفق الورثة على اختياره فاذا لم يتفقوا على احد ورأى القاضي موجبا لتعيينه اجبرهم على اختياره على ان يكون من الورثة بقدر المستطاع وذلك بعد سماع اقوال هؤلاء وتحفظاتهم".
وجاء في المادة 217 من القانون التجاري المغربي " تعين المحكمة في حكمها باشهار الافلاس وكيلا للدائنين او عدة وكلاء ….."
--------------------------
وعليه فتكون نيابة الوكيل عن الموكل نيابة اتفاقية سواء بالنسبة للمصدر الذي يضفي على النائب صفة النيابة والمصدر الذي يحدد نطاق هذه النيابة.
ويرى الاستاذ السنهوري ان نيابة كل من الولي والفضولي والدائن تكون نيابة قانونية بالنسبة الى كل من المصدرين كذلك، وتكون نيابة كل من الوصي والقيم والحارس القضائي والسنديك نيابة قضائية بالنسبة الى المصدر الذي يضفي صفة النيابة، ونيابة قانونية بالنسبة الى المصدر الذي يحدد مدى ولاية النائب (46).

التفرقة بين النيابة القانونية والنيابة الاتفاقية :
سبق القول ان النيابة هي حلول ارادة النائب محل ارادة الاصيل في اجراء تصرف قانوني باسمه ولحسابه ضمن حدود النيابة. وهذا الحلول اما ان يكون ذا اصل تعاقدي عندما ينيب الموكل وكيلا عنه في ابرام التصرف - نيابة اتفاقية - واما ان يكون ذا اصل قانوني فيكون القانون هو الذي سمح لبعض الاشخاص بمباشرة بعض التصرفات نيابة عن الغير لكون هذا الغير - الاصيل - لا يتمتع بالقدرة اللازمة للقيام بها بنفسه - نيابة قانونية.
فمعيار التمييز اذن بين النيابة الاتفاقية والنيابة القانونية يكمن في كون النائب في النيابة الاتفاقية رغم احلال ارادته محل ارادة الاصيل في ابرام التصرف فانه غالبا ما يسير حسب تعليماته، كما لو اراد الموكل شراء دار معينة،
------------------
(46) السنهوري - مصادر الحق - صفحة 166.
في هذا المعنى انظر كاربونيه - القانون المدني - صفحة 115.
------------------
فينيب عنه الوكيل فيها ويحدد له ثمنا اقصى للشراء، فالنائب هنا لا يمكنه الخروج عن الثمن المعين له لشراء الدار. اما في النيابة القانونية فانه لا دخل لارادة الاصيل في اجراء التصرف ما دامت النيابة مشروطة بحكم القانون واشتراطها قائم على اساس حماية مصالح الاصيل (47).
فالعلاقة اذن بين النائب والاصيل ينظمها القانون في النيابة القانونية والاتفاق في النيابة الاتفاقية.
ووجود النائب الاتفاقي لا يمنع الاصيل القيام بنفسه بالعمل الذي وكل فيه النائب. فمثلا يقع صحيحا بيع الموكل السيارة التي وكل الوكيل في بيعها لان انابة الشخص غيره في القيام بتصرفات قانونية لا يحرمه اهلية القيام بها بنفسه (48).
اما في النيابة القانونية فالاصيل لا يستطيع مباشرة التصرف الذي ينوب عنه فيه النائب القانوني ما دام القانون هو الذي فرضها لوجود مانع يمنع الاصيل من القيام به بنفسه والا لما كان لوجود النيابة القانونية اهمية ولما تحققت الغاية المرجوة من النيابة وهي حماية مصالح الاصيل وضمان استقرارها.
-------------------
(47) فلاتيه - العقود لحساب الغير - صفحة 77.
(48) السنهوري - نظرية الحق - صفحة 225.
-------------------

الفصل الثاني
شروط النيابة واثارها
سنتحدث اولا عن شروط النيابة في فرع اول ثم عن اثارها ثانيا في فرع ثان.

الفرع الاول
شروط النيابة
لكي تتحقق النيابة ويلتزم الاصيل بالعقد المبرم من طرف النائب يجب ان تحل ارادة هذا الاخير محل ارادة الاصيل وان يتم التعاقد باسمه ولحسابه وذلك ضمن حدود السلطة الممنوحة له.
فالتعاقد بطريق النيابة حتى يكون صحيحا ومنتجا لكافة اثاره القانونية يجب ان تتوافر فيه الشروط الاتية :
اولا : ان تحل ارادة النائب محل ارادة الاصيل.
ثانيا : ان تجري ارادة النائب ضمن حدود السلطة المخولة له.
ثالثا : ان يتم التعاقد باسم الاصيل ولحسابه.
والحديث عن كل شرط من هذه الشروط يقتضي منا ان نستعرض في مبحث اول شرك الاول وهو حلول ارادة النائب محل ارادة الاصيل، وفي مبحث ثان الشرط الثاني وهو جريان ارادة النائب ضمن حدود السلطة المخولة له، وفي مبحث ثالث الشرط الثالث وهو وجوب تعاقد النائب مع الغير باسم الاصيل ولحسابه.

المبحث الاول
حلول ارادة النائب محل إرادة الاصيل
يتعاقد النائب بارادته الشخصية لا بارادة الاصيل فهو يعبر عنها ويقصد من وراء احلالها محل ارادة الاصيل احداث اثار قانونية في ذمة هذا الاخير.
فالتعاقد بالنيابة لا يعتبر حاصلا اذا كان النائب لا يقصد من وراء تعبيره احلال ارادته محل ارادة الاصيل اذ لا يكون نائبا بل مجرد رسول تقتصر مهمته على نقل ارادة الاصيل الى الغير (49).
فالنائب لا تكون له صفة النيابة الا اذا كان لارادته دور ايجابي في انشاء التصرف القانوني. وهذا لا يتم الا باحلال ارادته محل ارادة الاصيل وهي الفكرة الحديثة التي اهتدى اليها الفقه الحديث في موضوع النيابة بعد ان هجر الفكرة القدمية التي كانت تقضي بان النائب يتقمص شخصية الاصيل ويتكلم بلسانه.
والجدير بالذكر ان دور النائب في ابرام التصرف القانوني بالنيابة عن الاصيل ليس واحدا، فهو رهين بما يتمتع به النائب من سلطة في التقدير والتصرف ويختلف ذلك باختلاف الحالات :

الحالة الاولى : نقل ارادة الاصيل الى الغير :
يقتصر دور النائب في هذه الحالة على نقل ارادة الاصيل الىالغير كما لو كلف شخص شخصا اخر بنقل ارادة التعاقد الى شخص ثالث يسكن بالرباط او كلفه بتبليغ خطاب يتضمن التعبير عن ارادة المرسل في ابرام صفقة تجارية الى المرسل اليه.
فالناقل للارادة في كلا المثالين لا يعدو ان يكون سوى مجرد ناقل ولا يمكن القول بوجود نيابته ما دامت ارادته لم تحل محل ارادة المرسل بل اقتصر على نقلها ارادة الاصيل أي المرسل - الى الغير بالكيفية التي ارادها الاصيل.

الحالة الثانية : اكمال وتحديد ارادة الاصيل :
قد يرغب الاصيل في التعاقد مع الغير كان يريد شراء دار معينة غير ان ارادته ليست محددة بصورة كاملة كان يترك حرية اختيار اللون او اختيار الموقع او تحديد الثمن.
فعلى الرغم من ارادة النائب لم تتدخل تدخلا كاملا في ابرام التصرف ان دوره يعتبر دورا ايجابيا ما دامت ارادته قد تدخلت في اكمال وتحديد ارادة الاصيل. غير انه قد يحصل احيانا ان النائب قد ينفرد بتقدير كامل حول ما اذا كان بالامكان ابرام العقد ام لا فيصبح هو صاحب التقدير (50). والمثال الواضح على ذلك ما لو كلف الموكل الوكيل بشراء ارض فلاحية دون تحديد الثمن او كلفه بادارة امواله مخولا اياه سلطة ابرام أي عقد من شانه ان يؤدي الى استغلالها.
ودور الارادة في مثل هذه الحالة يظهر جليا في النيابة الاتفاقية حيث ان كلا من ارادتي النائب والاصيل تشتركان في ابرام التصرف بدرجات متفاوتة تبعا لسلطة التقدير والتصرف (51).
-----------------------
(49) سليمان مرقس - المرجع السابق، ص 94.
(50) ان اشتراك ارادة الاصيل مع ارادة النائب تظهر اهميتها بالخصوص عند البحث في عيوب الارادة وشروطها.
(51) يبدو ان الطابع الذي يسود حالات النيابة الاتفاقية هو ان النيابة هنا عبارة عن نيابة في الارادة، فارادة الاصيل لا تكون قد وصلت الى الحد الذي يسمح لها بابرام العقد فتتدخل ارادة النائب وتحل محلها.
----------------------
الحالة الثالثة : تخلف ارادة الاصيل :
هي الحالة التي لا يكون لارادة الاصيل فيها أي دور ايجابي. فارادته غير موجودة، وارادة النائب هي وحدها التي تنفرد بابرام العقد، ويظهر ذلك جليا في النيابة القانونية حيث تنعدم فيها على الغالب اهلية الاصيل - القاصر- ويتمتع النائب بارادة مطلقة وذلك مع التزامه الحدود التي يفرضها القانون.
فالنائب وان كان يعمل بحرية واستقلال، فانه يحافظ على مصالح الاصيل بل من واجبه المحافظة عليها لانه يعمل بالنيابة عنه.
ويذهب الاستاذ فرج الصدة الى " ان النيابة في هذه الحالة تكون قانونية وان النائب فيها يبرم التصرف بنفس الحرية والاستقلال اللذان يتوفران له حين يعمل لصالحه الخاص فليس عليه ان يعنى بارادة الاصيل لان هذه لا تكون موجودة وقت ابرام العقد، وانما يجب عليه ان يجعل محل اعتباره المصالح التي عهد اليها بها واراد ان يتحمل عبئها، فالنيابة هنا عبارة عن نيابة قانونية (52).

اولا :الاعتداد بارادة النائب وبنيته :
يتبين مما سبق ان حلول ارادة النائب محل ارادة الاصيل في ابرام التصرف هو اساس التعاقد بالنيابة فما دام النائب يعبر عن ارادته وما دامت هذه الارادة هي التي تنشئ التصرف او تساهم احيانا في انشائه وجب النظر الى هذا التعبير من حيث توفره على كل المقاولات الاساسية حتى يكون تعبيرا عن ارادة صحيحة ومتجها الى احداث اثاره القانونية في ذمة شخص الاصيل.
-------------------------
(52) فرج الصدة - المرجع السابق - صفحة 138.
-------------------------
فقد ينظر الى ارادة النائب وحدها من حيث الشروط والعيوب وغير ذلك من الحالات (53). كما ينظر اليها في حالة اشتراكها بارادة الاصيل فيقع تعاون بين الارادتين من اجل انشاء التصرف ينبغي معه الاعتداد بالارادتين معا وبالقدر الذي ساهمت به كل واحدة منهما في انشاء التصرف.
فارادة النائب قد تنفرد وحدها في ابرام التصرف القانوني نيابة عن الاصيل ودون أي تدخل من جانب ارادة هذا الاخير، واكثر ما يتحقق هذا الانفراد في النيابة القانونية كنيابة الولي مثلا.
فعيوب الارادة يجب مراعاتها في شخص النائب، لا في شخص الاصيل، ما دامت ارادته وحدها هي التي انفردت بابرام التصرف، فالعقد يكون قابلا للابطال اذا ما تعيبت ارادة النائب بعيب من عيوب الرضا كالغلط او التدليس او الاكراه او الاستغلال او صدر اكراه او تدليس تجاه الطرف الاخر المتعاقد معه.
فاذا اشترى الولي مثلا خاتما لحساب قاصره معتقدا انه من الذهب الخالص، فتبين بعد ذلك انه من الفضة المطلية بالذهب، فان ارادته تكون قد تعيبت بعيب من عيوب الرضا وهي الغلط ويكون العقد قابلا للابطال حتى ولو كان الاصيل - القاصر - الذي ستنصرف اليه اثار العقد لم يقع في الغلط بل حتى ولو كان يعمل حقيقة الامر وبان خاتم ليس من ذهب. اما اذا كان الولي يعلم بحقيقة الخاتم الذي اشتراه لقاصره في حين ان القاصر يعتقد ان الخاتم هو من ذهب فيقع في غلط ، فان العقد يعتبر صحيحا والبيع سليم وصحيح ولا يعتد بما وقع فيه القاصر من غلط.
---------------------
(53) كحالة العلم ببعض الظروف مثلا او افتراض علمه بها.
---------------------
فحسن نية او سوءها يرجع فيها الى شخص النائب دون الاصيل ما دامت ارادته قد حلت محل ارادة الاصيل، كما ان العلم ببعض الظروف او الجهل بها يرجع فيها الى النائب كذلك، ولو قام النائب الحسن النية وتعامل مع مدين له في اجراء تصرف بعوض فلا يحق للدائن في الطعن بالدعوى الا بوصية في هذا التصرف ما دام النائب الذي تعامل مع المدين غير عالم باعساره. اما اذا كان النائب سيء النية أي كان يعلم بحالة اعسار المدين وتصرف معه على الرغم من علمه بحالته امكن للدائن ممارسة الطعن في التصرف حتى لو كان الاصيل حسن النية، فلو قام النائب ووفى دينا على الاصيل الى دائن ظاهر وكان يعتقد انه هو الدائن الحقيقي فان الوفاء يكون صحيحا مبرءا لذمة الاصيل حتى ولو كان الاصيل يعلم حقيقة الامر. اما اذا كان النائب سيء النية أي كان يعلم بان الشخص ليس بدائن حقيقي، فان الوفاء يقع باطلا وغير صحيح حتى ولو كان الاصيل يعتقد ان ذاك هو الدائن الحقيقي (54).
من خلال ما سبق يتضح ان الاصل في التعاقد بالنيابة ان العقد ينعقد بارادة النائب لا باردة الاصيل، كما ان العبرة بحسن النية وسوئها يرجع فيها بالدرجة الاولى الى النائب (55) ما دامت ارادته قد حلت محل ارادة الاصيل في التعاقد.
ولما كانت ارادة اصيل قد تشترك احيانا الى جانب ارادة النائب في ابرام التصرف، فانه ينبغي الاعتداد كذلك بحسن وسوء نية الاصيل عندما يصدر الى النائب تعليمات محددة يتصرف ضمن حدودها.

ثانيا : استثناء الاعتداد بارادة الاصيل وبنيته :
قد تشترك ارادة الاصيل الى جانب ارادة النائب في التعاقد فينتج عن ذلك تعاون بين الارادتين بسبب هذا التدخل، فقد تكون ارادة الاصيل غير محددة فيترك للنائب امر تحديدها، ومثال ذلك ما لو عزم الموكل على شراء سيارة معينة فيترك للنائب امر تحديد الثمن واختيار اللون.
----------------------
(54) السنهوري - نظرية العقد - صفحة 172.
(55) بلانيول وربير المرجع السابق، صفحة 75.
----------------------
في هذه الحالة نجد ان كل واحدة من الارادتين ستلعب دورها في ابرام التصرف اذا وجب الاعتداد بهما معا، وبالقدر الذي ستساهم بها كل واحدة منهما في ابرام التصرف، وعلى هذا الاساس ينبغي النظر الى العيوب التي يمكن ان تشوب كل واحدة منهما كالعلم ببعض الظروف او جهلها فلو ان الموكل كلف الوكيل بشراء ارض معينة صالحة للزارعة بمنطقة معينة، فتبين بعد الشراء انها غير صالحة للزراعة فوقع في غلط، فان العقد المبرم من طرف الوكيل بناء على تعليمات الموكل يكون قابلا للابطال على الرغم من سلامة ارادة الوكيل ما دامت ارادة الموكل معيبة وذلك في نطاق القدر الذي ساهمت به في ابرام التصرف.
كذلك يجب الاعتداد بحسن وسوء نية الاصيل في الحالة التي يعمل بها النائب وفق تعليماته (56)، اذ لا يحق للاصيل ان يتمسك بجهل النائب لظروف كان يعلمها او كان من المفروض حتما ان يعلمها بحكم طبيعتها، فلو وكل شخص شخصا اخر في شراء عقار معين بذاته، وكان الموكل يعلم بان الشيء الموكل فيه مشوب بعيب وهو امر يجهله الوكيل، فلا يصح القول لا بضمان العيب ولا برجوع الموكل على البائع بالضمان ما دام قد علم بالعيب وعلة ذلك ان النائب عندما يقوم بهذا العمل فهو لا يقوم به وحده، وانما بمساهمة ارادة الاصيل معه في انشاء التصرف الامر الذي ينبغي معه القول بوجوب تحمل الأصيل قسطه من المسؤولية. (57)
------------------------
(56) حشمت ابو ستيت - المرجع السابق - صفحة 120.
سليمان مرقس المرجع السابق - صفحة 94 و95.
السنهوري - نظرية العقد - صحفة 172.
(57) يذهب بعض الفقه الى القول الى ان النائب في هذه الحالة يكون اقرب من الرسول منه الى النائب ( عبد الفتاح عبد الباقي - المرجع السابق - صفحة 124 والسنهوري - المرجع السابق - صفحة 172).
------------------------
غير ان هذا الاستثناء لا يطبق الا على النيابة الاتفاقية دون النيابة القانونية. والسبب في ذلك واضح وهو ان النائب القانوني اذا ما عين في اطار النيابة القانونية فان ارادة الاصيل لا يعتد بها في اجراء التصرف بخلاف في النيابة الاتفاقية فان الاصيل - الموكل - على الرغم من تعيين نائب عنه فهو لا يحرم من سلطته في ابرام التصرفات التي وكل الغير فيها ويبقى محفتظا بها.

ثالثا : حكم العقد يخضع لاهلية الاصيل :
اذا كان النيابة تسوجب حلول ارادة النائب محل ارادة الاصيل في اجراء التصرف حتى يكون صحيحا، فان ذلك لا يستلزم توافر اهلية التصرف في النائب ما دامت اثار التصرف ستنصرف الى الاصيل فالذي يجب ان تتوفر فيه الاهلية اللازمة للتعاقد. وقد علق الاستاذ سليمان مرقس على هذه الوضعية بقوله : " بانه اذا كان النيابة قانونية فلا يشترط اهلية الاصيل للعقد الذي يبرمه نائبه. والغالب ان يشترط القانون الاهلية الكاملة فيمن يعتبره نائبا عن غيره" (58).

مجلة المحاكم المغربية

وسائل الاثبات في مجال التصرفات العقارية *

الاستاذ الطيب البواب
من هيئة الدار البيضاء


لماذا اللجوء الى اثبات التصرفات العقارية؟
انه خلال العصور الاولى لم يعرف الناس التزاحم والتنافس على امتلاك الارض واقتنائها. فارض الله واسعة جدا، وكلها في اصلها موات لا ملك لاحد عليها، ولكل امرئ ان يضع يده على ما قدر عليه منها لتصبح ملكا خاصا به وليستعمله ويستغله كما شاء.
وكانت الارض تعتبر العامل الانتاجي الطبيعي الثاني الذي يكون مع العامل الاول، عمل الانسان، العنصرين الوحيدين للانتاج، ورغم عالم الاقتصاد مع تعاقب العصور، عرف تطورا كبيرا ادى الى خلق رؤوس اموال جديدة ، فان عنصر الارض بقي حتى الان يلعب دورا مهما في الانتاج بجانب العمل والعوامل الانتاجية الاخرى.

وبعدان كانت الارض متوفرة بكثرة وفوق حاجيات سكانها، فان النمو الديموغرافي الذي اشتدت كثافته في العالم كله الى حد الانفجار، اخذ يؤدي الى تقليص مساحات الارض، وكان من نتائج ذلك ان اشتد التزاحم والتنافس على اقتنائها مما ادى الى ارتفاع قيمتها ارتفاعا شديدا في اصقاع العالم كله.
ومن طبيعة التنافس في الاشياء والتهالك عليها ان تتعارض المصالح والمنافع،فتنشا المنازعات والخصومات مما يؤدي الىالاضطراب وعدم الاستقرار في المراكز الحقوقية ويكثر عدوان الطغاة المعتدين على حقوق اخوانهم المستضعفين.
-------------------------
*) تقدم بهذه الورقة الاستاذ الطيب البواب نيابة عن السيد النقيب بمناسبة اليومين الدراسيين المنظمين من طرف الهيئة الوطنية لعدول المغرب ( 13-14 ابريل ‏2001‏)
------------------------
ولفرض نظام في مجتمع يسوده الاستقرار والاطمئنان والامن والسلام، اقيمت المؤسسات القضائية لنصرة المظلومين والضرب على ايدي الظالمين وكان منطقيا ولزاما على من يستنجد العدالة لحماية حقوقه ان يثبت لديها صحة دعواه. وقد جاء في الحديث الشريف الذي اخرجه الامام مسلم في صحيحه في كتاب الاقضية براوية ابن عباس : "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال واموالهم…" قال فقهاؤنا الاقدمون اجمعت الامة على انه لو ادعى اتقى الناس على افجر الناس لما اعطى بدعواه حتى يقيم الدليل عليها. وعلى هذا الاصل الاصيل في تحقيق العدالة بين الناس قام المبدء المشهور، سواء في الميدان الجنائي " الاصل في الناس البراءة حتى تثبت ادانتهم "، وفي الميدان المدني " الاصل في الذمة براءتها حتى تثبت عمارتها ".

فكل حق مدعى به لا تدعمه وسائل اثباته عند قيام نزاع بشانه يعتبر عدما محضا، والادعاء به عبثا ولددا. وجميع التصرفات العقارية التي تتم بين الاحياء مجانية كانت او بعوض، لا يعتبر لها وجود عند نشوء منازعة ما بشانها الا بقيام الدليل عليها - فمن كان له حق عيني معلوم في عقار وزعم غيره انتقال ملكيته اليه فلا عبرة بزعمه اذا لم يثبت بوجه صحيح الوسيلة التي انتقلت اليه بها ملكية ذلك الحق، ولا حاجة الى مطالبة المدعى عليه باثبات استمرار ملكيته عملا بمبدا الاستصحاب الذي هو اصل من اصول الفقه والذي يوجب بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.

فكيف يكون الاثبات في مجال التصرفات العقارية؟
قبل تناول صميم الموضوع ينبغي تقديم بعض التوضيحات الفقهية المتعلقة بالمصطلحات الواردة في هذا العنوان حتى تكون الاحالة على معلوم.
فالاثبات يراد به التدليل على وجود الحق المدعى به. وينصب الاثبات لا على الحق ذاته، ولكن على الواقعة المنشئة له والتي تعتبر مصدرا لوجوده. وسواء كانت هذه الواقعة تصرفا قانونيا (شراء هبة…) او واقعة قانونية (ارث وصية…) .

ويراد بالتصرفات -أي القانونية- كل تعبير عن الارادة ينتج عنه اثر قانوني، سواء كان صادرا من جانبين اثنين، وهو ما يسمى بالعقد، (بيع-هبة- رهن….) او كان صادرا من جانب واحد وهو المسمى بالارادة المنفردة (الوعد بجائزة الى الجمهور الوصية- الوقف...).

اما مصطلح العقار- والمراد هنا العقار بطبيعته - فيطلق على كل مالا يمكن نقله من مكان الى اخر ويشمل الاراضي والبنايات ما دامت متصلة بالارض والثمار التي بها، وفي الفقه الاسلامي يطلق العقار على الاراضي البيضاء والفدادين والجنات والكروم وجميع الاغراس المتصلة بالارض، اما البنايات فيطلق عليها "الرباع" (بكسر الراء، جمع ربع بفتحها) وتجمعها معا، أي الارض وما اتصل بها من بناء وغرس مصطلح "الاصول" ( جمع اصل ) .

والعقارات كلها تتعلق بها حقوق عينية عقارية. وهي على نوعين :
اصلية، وهي القائمة بذاتها من دون حاجة الى غيرها، كحق الملكية وحق الانتفاع وحق السطحية.
وتبعية، وهي كما يدل عليه اسمها، غير مستقلة بذاتها ولا قيام لها الا بالتبع لغيرها، كالرهن المستند على الدين الذي بذمة الراهن.

وقد عدد المشرع المغربي في ظهير 19 رجب عام 1333 (02/06/1915) المحدد للتشريع المطبق على العقارات الحفظة الحقوق العينية الجارية على العقارات المحفظة وحصرها في عشرة، في الفصل الثامن منه. وهي الملكية -الانتفاع- الاحباس- حقا الاستعمال والسكنى، الكراء الطويل الامد، حق السطحية -الرهن الحيازي- حقوق الارتفاقات- الامتيازات والرهون الرسمية- والحقوق العرفية الاسلامية كالجزاء والاستيجار والجلسة والزينة والهواء- وكلها حقوق عينية اصلية ما عدا ثلاثة منها تبعية وهي الرهن الحيازي والرهن الرسمي والامتيازات - وجميع هذه الحقوق العينية العقارية قابلة للتسجيل بالصكوك العقارية باستثناء حقوق الامتيازات فانها معفاة من تسجيلها به.

وسائل الاثبات في مجال التصرفات القانونية:
ان الاصل هو قبول كل وسائل الاثبات لاية واقعة مالم يقض القانون بغير ذلك.
وقد نص الفصل 404 من ق.ز.ع على ان وسائل الاثبات التي يقررها القانون هي:
1) اقرار الخصم.
2) الحجة الكتابية.
3) شهادة الشهود.
4) القرينة.
5) اليمين والنكول عنها.
ونص الفصل 401 منه على انه لا يلزم، لاثبات الالتزامات، أي شكل خاص، الا في الاحوال التي يقرر القانون فيها شكلا معينا. واذا قرر شكلا معينا لم يسغ اجراء اثبات الالتزام اوالتصرف بشكل اخر يخالفه الا في الاحوال التي يستثنيها القانون. وترك المشروع في اخر الفصل المذكور الحرية المطلقة للمتعاقدين، اذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص، في ان يتفقا صراحة على انهما لا يعتبرانه تاما الا اذا وقع في شكل معين، فيكون العمل على ما اتفقا عليه .
وهذه المقتضيات تتفق مع الاحكام الواردة في الفقه الاسلامي .

ويستنتج مما سبق ان وسائل الاثبات لا تعتبر من النظام العام ما دام المتعاقدون يتمتعون بكامل الحرية في الاتفاق على شكل معين للعقد الذي يريدون ابرامه.
وبالنسبة لوسائل الاثبات في مجال التصرفات العقارية فانها تتفق احيانا وتختلف اخرى حسب كون العقار المراد اثبات التصرف في الحق المتعلق به محفظا او غير محفظ.

اولا - بالنسبة للعقار غير المحفظ:
من المعلوم ان العقارات غيرالمحفظة تجري عليها احكام الفقه الاسلامي، وبالاخص المذهب المالكي الجاري به العمل بالمغرب، بل انها تجري حتى على العقارات المحفظة ما لم تتعارض مع احكام ظهير 12/08/1913 الخاص بالتحفيظ العقاري واحكام ظهير 02/06/1915 المتضمن للتشريع المطبق على العقارات المحفظة، وغيرها من المقتضيات المتعلقة بالعقارات المحفظة - (الفصل 106 من ظهير التحفيظ العقاري) .
وحسب الفقه الاسلامي فان التصرفات العقارية يمكن اثباتها:
1) بالكتابة التي تحرر بها الرسوم العدلية، أي باشهاد اصلي من المتعاقدين على عدلين اثنين، ويقود الموثقين، والعقود العرفية المشهود بصحة امضاءاتها من طرف السلطات المسؤولة عن ذلك والاوراق التي تتضمن اقرارا بحق.
2) وبشهادة الشهود-أي الشهادات الاسترعائية - واقل عددهم اثنا عشر، وهو النصاب المحدد في شهادة غير العدول.
3) وبالاقرار القضائي
4) وباليمين المتممة للنصاب او يمين النكول.

ونقتصر حديثنا على الاثبات بالكتابة والشهود نظرا لاهميتها القصوى، واحتراما للوقت المحدد للمتدخلين.
- الاثبات بواسطة الكتابة :
ان الاثبات بالكتابة، سواء كانت في شكل اشهاد عدلي، او في شكل محرر موثق، او في شكل عقد عرفي، او في شكل اقرار يعد في اعلى مراتب الاثبات .
يقول الاستاذ السنهوري في كتابه الوسيط في شرح القانون المدني، الجزء الثاني، الصفحة 103، الفقرة65 :
" ان طرق الاثبات تنقسم الى طرق ذات قوة مطلقة وطرق ذات قوة محدودة" وطرق معفية من الاثبات".

" اما الطرق ذات القوة المطلقة في الاثبات فهي الطرق التي تصلح لاثبات جميع "الوقائع سواء كانت وقائع مادية او تصرفات قانونية، وايا كانت قيمة الحق المراد اثباته. ولا يوجد "من الطرق التي تعالجها ما هو ذو قوة مطلقة في الاثبات على هذا النحو الا الكتابة، فهي تصلح "لاثبات جميع الوقائع المادية وجميع التصرفات القانونية مهما بلغت قيمة الحق.

" والطرق ذات القوة المحدودة في الاثبات هي الطرق التي تصلح لاثبات بعض الوقائع "القانونية دون بعض. فهي اذن محدودة القوة. وهذه هي البينة والقرائن القضائية، اذ هي "لا تصلح لاثبات التصرفات القانونية اذا زادت قيمتها على عشر جنيهات الا في حالات استثنائية" معينة. وكذلك اليمين المتممة طريق للاثبات ذات قوة محدودة. فهي لا تصلح الا لاتمام "دليل ناقص.

"والطرق المعفية من الاثبات هي الاقرار- أي اقرار الخصم- واليمين الحاسمة"والقرائن القانونية. ولما كانت هذه الطرق تعفي من الاثبات فهي تصلح للاعفاء من اثبات اية "واقعة مادية او أي تصرف قانوني مهما بلغت قيمته، وهي من هذه الناحية ذات قوة مطلقة".

واعتبارا للمزية الكبرى التي تحظى بها الكتابة جاء في كتاب الله المجيد الحض على توثيق الحقوق بها واشهاد العدول عليها، وذلك في الاية الكريمة 281 من سورة البقرة التي تضمنت الامر الصريح بتوثيق الديون والبيوعات يقول الله تعالى :
( يا ايها الذين امنوا اذا تداينتم بدين الى اجل مسمى فاكتبوه، وليكتب بينكم كاتب بالعدل ، ولا ياب كاتب ان يكتب، كما علمه الله فليكتب، وليملل الذي عليه الحق، وليتق الله ربه، ولا يبخس منه شيئا. فان كان الذي عليه الحق سفيها او ضعيفا او لا يستطيع ان يمل هو فليملل وليه بالعدل، واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامراتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل احداهما فتذكر احداهما الاخرى. ولا ياب الشهداء اذا ما دعوا، ولا تسئموا ان تكتبوهم صغيرا او كبيرا الى اجله، ذلكم اقسط عند الله، واقوم للشهادة، وادنى ان لا ترتابوا ، الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ان لا تكتبوها. واشهدوا اذا تبايعتم، ولا يضار كاتب ولا شهيد، وان تفعلوا فانه فسوق بكم، واتقوا الله، ويعلمكم الله ، والله بكل شيء عليهم).

وجاء في الاية الثانية من سورة الطلاق ( واشهدوا ذوي عدل منكم ).
وقد قام الخلاف بين الفقهاء في الامر الوارد في قوله تعالى (فاكتبوه) وقوله (واشهدوا اذا تبايعتم) في الاية281 من سورة البقرة السابقة الذكر فكثير من الفقهاء قالوا بالوجوب اخذا بصيغة الامر الدال عليه، وهو الاصل فيه. غير ان الجمهور، ومنهم المالكية، ذهبوا الى القول بانه للندب والارشاد فقط، اذ في ايجاب الكتابة والاشهاد مشقة عظيمة على المتعاقدين ، لان المعاملات كثيرة جدا، وفي كل يوم، فايجاب الكتابة عليهم فيما يتعاملون فيه والاشهاد به على ذوي العدل، فيه حرج شديد لا يطاق، ومن شانه ان يعرقل نشاط الناس في معاملتهم، ويعطل اعمال تجارتهم. والشريعة الاسلامية مبنية على التيسير، ولا على التشديد والتعسير.
والعمل الجاري في المغرب المتمذهب بالمذهب المالكي، ان الاثبات بالكتابة للتصرفات في العقار غير المحفظ غير واجب. فكما يكون التدليل على وجودها بالكتابة يصح ان يكون ايضا بشهادة الشهود، وهو ما يسمى بالبينة الشرعية.

الاثبات بواسطة الشهود
رغم ان قاعدة الاثبات بواسطة الشهود تعتبر قاعدة عامة معمولا بها في الفقه الاسلامي، فانه قد وردت نصوص فقهية، تحد من تطبيقها في مجال التصرفات العقارية، وبالاخص في المجتمعات التي يتوفر فيها العدول، وجرت العادة بان يلتجئ اليهم غالبية الناس لتوثيق حقوقهم وكتب عقودهم،لا سيما اذا كانت تكتسي اهمية كبرى عندهم، كعقود بيع العقارات والرهون العقارية واجراء المقاسمة في العقارات المشتركة.
فقد نص غير واحد من الفقهاء على ان شهادة اللفيف لا يلجا اليها فيما يخص المعاملات الا عندما تدعو اليها الضرورة التي يجب بيانها، وان العدول عن العدول المتوفرين في مكان الواقعة القانونية واللجوء الى الاثبات بواسطة اللفيف يعد ريبة في شهادتهم توجب ابعادها وعدم العمل بها.

وهذا ما اكده المجلس الاعلى في قراره الصادر بتاريخ 04/12/1992 والذي جاء فيه :
"ان الامر يتعلق ببيع عقار وان كان غير محفظ فانه يخضع في الجوهر لاحكام الفقه " المالكي التي تقرر، كما اشارالى ذلك الشيخ ميارة ، انه حتى بالنسبة لشهادة اللفيف، فانه لا يلجا "اليها فيما يخص المعاملات الا عندما تدعو الى ذلك الضرورة التي وجب توضيحها. ولذلك فان المحكمة عندما بتت في النازلة على النحو المذكور -قضت بصحة بيع عقار بناء على شهادة عدل "واحد شهادة غير مكتوبة مع اليمين المتممة للنصاب - رغم انكار البائعات لعملية البيع وعدم "وجود محرر كتابي يثبت انعقاده بين طرفيه، تكون قد خرقت القانون وعرضت قرارها للنقض" (مجلة قضاء المجلس الاعلى -العدد 46- الصفحات 32-33-34).

ان هذا القرار الصادر من المجلس الاعلى يعد تراجعا منه عن قرارات صادرة قبله تتضمن اعمال شهادة اللفيف واعتمادها في اثبات التصرفات العقارية بالنسبة للعقارات غير المحفظة. وهو تراجع جد محمود.
وقد حذر كثير من اكابر الشيوخ من قبول شهادة اللفيف الذين يتجرؤون على الشهادة بما لا يعلمون، ويساند بعضهم بعضا، لقاء دريهمات يبيعون بها دينهم وضمائرهم.
جاء في شرح الوازلي الشهير بسيدي المهدي الوزاني للعمل الفاسي لدى قوله : (بينة اللفيف منها بادية فيها كفى استفسارها عن تزكية ) -الجزء الثاني - الصفحة 94-انه سميت شهادتهم بشهادة اللفيف لا نها تجمع من يصلح للشهادة ومن لا يصلح لها من اخلاط الناس.

ونقل عن بعض الشيوخ: ادركنا الكبار من اشياخا منعوا من قبول شهادة اللفيف في المعاملات فضلا عن الانكحة، حتى اشتكى الناس ضياع الاموال والحقوق فانتقلوا الى جوازها فيما يتفق حدوثه دون ان يحضره عدول فيضطر الى اللفيف اداء، كما يضطر الى شهادتهم تحملا في بلد لا عدول فيه ليلا تهدر دماء وتضيع حقوق.
ونقل عن الشيخ التاودي ان بعض الناس احتاج الى اقامة بينة فاقامها بست اوراق في ساعة واحدة.
وكان بعض القضاة لا يعملون بشهادة اللفيف الا بعد تحليفهم كما اشار اليه في ا لعمل الفاسي بقوله:

وحلف ابن سودة الشهودا من اللفيف لفجور زيدا

وذلك من باب "تحدث للناس اقضية بقدر ما احدثوا من الفجور".
ومما تجدر ملاحظته ان العمل الجاري حاليا بمحاكمنا هو اعتمادها شهادة اللفيف وقضاؤها بها دون ادائهم اليمين القانونية ، رغم ان قانون المسطرة المدنية نص في الفصل 76 على وجوب اداء الشهود لليمين على قول الحقيقة، وهو اجراء يعد من النظام العام.

وحبذا لوان المشرع المغربي، اعتمادا على ما نص عليه كثير من الشيوخ الكبار والفقهاء المعتمدين من فساد العمل بشهادة اللفيف التي ضاعت بها كثير من الحقوق، منعها من اثبات التصرفات العقارية بالنسبة للعقارات غير المحفظة كما منعها بالنسبة للعقارات المحفظة، وكما منعها في اثبات عقود الانكحة في الفصل 5 من مدونة الاحوال الشخصية، وان رخص في قبولها بصفة استثنائية. وكما منعها ايضا في اثبات ما تزيد قيمته على 250 درهما كما جاء في الفصل 443 من ق. م. ز. ع. ولئن فعل، وهذا ما يرجوه ويؤمله ويتطلع اليه كثير من رجال القضاء والفقه والقانون، فسيقضي على فساد كبير، وينقد كثيرا من الحقوق ومن وبال خطير، وشر مستطير، ويقدم خدمة جلية للعدالة التي عانت وتعاني الكثير من شهادة اللفيف.

ثانيا- بالنسبة للعقار المحفظ :
جاء في الفصل 489 من ق.ز.ع :
"اذا كان المبيع عقارا او حقوقا عقارية او اشياء اخرى يمكن رهنها رهنا رسميا" وجب ان يجري البيع كتابة في محرر ثابت التاريخ. ولا يكون له اثر في مواجهة الغير الا اذا سجل "في الشكل المحدد بمقتضى القانون".
وبمقتضى هذا النص الصريح فاثبات التصرفات في عقار محفظ لا يكون الا بواسطة محرر مكتوب ولا تقبل شهادة الشهود، أي البينة باللفيف الذي سبق الحديث عنها.
كما جاء نص صريح خاص بالرهن الحيازي يوجب الكتابة في عقده، وذلك في الفصل 100 من ظهير 02/06/1915 المحدد للتشريع المطبق على العقارات المحفظة والذي : "لايقرر الرهن الحيازي الا بعقد كتابي…"

كما جاء ايضا نص صريح خاص بوجوب كتابة عقد انشاء الشركة التي يكون محلها عقارات او اموال يمكن رهنها رهنا رسميا. وذلك في الفصل 987 من ق.ز.ع الذي يقول :
"تعقد الشركة بتراضي اطرافها على انشائها وعلى شروط العقد الاخرى مع استثناء"الحالات التي يتطلب القانون فيها شكلا خاصا. الا انه اذا كان محل الشركة عقارات اوغيرها من "الاموال مما يمكن رهنه رهنا رسميا وابرمت لتستمر اكثر من ثلاث سنوات وجب ان يحرر "العقد كتابة…".

وهكذا نرى ان العقود التي يجب كتابتها تحتاج الى نص خاص لان الاصل في العقود الرضائية كما جاء في الفصل 401 من ق.ز.ع الذي يقول :
"لا يلزم، لاثبات الالتزامات، أي شكل خاص، الا في الاحوال التي قرر القانون فيها شكلا معينا".
وقد سبقت الاشارة الى ان المشرع خول للاشخاص التشارط على جعل تصرفاتهم خاضعة لشكلية خاصة لا تتم الا بها كما جاء في الفصل402 من ق.ز.ع الذي يقول:
"اذا لم يكن العقد خاضعا لشكل خاص واتفق عاقداه صراحة على انهما لا يعتبرانه تاما" الا اذا وقع في شكل معين فان الالتزام لا يكون موجودا الا اذا حصل في الشكل الذي اتفق "عليه المتعاقدان".
وهكذا تكون شكلية العقود بنص قانوني، كما تكون بارادة واتفاق الاطراف المتعاقدين، عملا بقاعدة "العقد شريعة المتعاقدين" .

وينبغي بيان ان الكتابة قد تكون مشروطة لوجود التصرف وانعقاد العقد وقيامه، كما تقيده النصوص المذكورة اعلاه، وقد تكون مشروطة لاثباته فقط، كما في بيع السلم الذي يقول الفصل 613 من ق.ز.ع بشانه : "ولا يجوز اثبات بيع السلم الا بالكتابة".
فالعقد هنا رضائي ولكن الشكلية تتعلق فقط باثباته.
وبناء على ما تقدم فانه لا يسوغ اثبات التصرفات المتعلقة بعقارات محفظة بواسطة الشهود عملا بمقتضيات الفصل 401 من ق.ز.ع الذي يقول :
"اذا قرر القانون شكلا معينا لم يسغ اثبات الالتزام اوالتصرف بشكل اخر يخالفه الا في" الاحوال التي يستثنيها القانون".

والكتابة في عقود التصرفات العقارية يمكن ان تكون في ورقة رسمية كما حددها الفصل 418 من ق.ز.ع كما يمكن ان تكون في مجرد ورقة عرفية مصححة الامضاء المشار اليها في الفصل 424 من نفس القانون.
واذا كان كل من الورقة الرسمية والورقة العرفية يؤدي الى نفس الغاية المقصودة منهما فانه مع ذلك تمتاز الورقة الرسمية عن الورقة العرفية بامتيازات، اهمها انها اكثر ضمانا لحقوق اطرافها لانه لا يمكن الطعن فيها الا بالزور (الفصل 419 من ق.ز.ع) بخلاف الورقة العرفية التي يمكن لاطرافها ادعاء خلاف ما جاء فيها بسبب اميتهم وجهلهم بما تضمنته، كما يفيده الفصل 427 من ق.ز.ع الذي جاء فيه:
"المحررات المتضمنة لالتزامات اشخاص اميين لا تكون لها قيمة الا اذا تلقاها موثقون" او موظفون عموميون ماذون لهم بذلك".
وكما يفيده ايضا الفصل432 من نفس القانون الذي جاء فيه:
"اعتراف الخصم بخطه او بتوقيعه لا يفقده حق الطعن في الورقة بما عساه ان يكون "له من وسائل الطعن الاخرى المتعلقة بالموضوع او الشكل" .

ومن جهة اخرى، فانه اذا كانت بعض العقود العرفية، وبالاخص المتضمنة لتصرفات متعلقة بعقارات محفظة او غير محفظة، محررة تحريرا سليما من طرف اشخاص ذوي معرفة وخبرة ممن بسمون بالكتاب العموميين، فان كثيرا منها تحرر من طرف اشخاص منهم شبه اميين فتاتي معيبة شكلا وموضوعا، ولا تكاد تعثر فيها على جملة صحيحة مستقيمة ومفيدة، الشيء الذي يضر بحقوق المتعاقدين، ويعرضها للمنازعة فيها امام المحاكم لتفسير مضامينها ومقاصدها وبيان المراد من مبانيها.

وانه، حفاظا على حقوق المتعاقدين، يتعين على المسؤولين النظر بجدية في هذه الوضعية الماساوية التي طالما وقع لفت النظر اليها والتنبيه عليه من طرف رجال القانون.
واخيرا فان مهنة التوثيق تكتسي اهمية بالغة في حفظ الاموال وصون الاعراض وتنظيم الجماعة ومساعدة العدالة. ومن ثم ، فان اهل التوثيق الذين يحظون بشرف امتهان هذه المهنة السامية يتحملون امانة عظمى في اداء المهمة التي يضطلعون بها. والله ولي التوفيق.

الاستاذ الطيب البواب
محام بهيئة الدار البيضاء.
مجلة المحاكم المغربية عدد 87، ص33

وصية العهد الجديد القانون والكنيسة العصرية


مقدمة :
في ادب المسيحية الاصلية، اخذت سبعة وعشرون كتابا مكانة محظوظة .
انها فرضت وجودها للاجيال المسيحية الاولى ودونت شيئا فشيئا ورتبت في مجموعة سميت بالكتب المقدسة - كان انذاك للمسيحين كتاب مقدس = التوراة الموروث من ديانة اليهود - سمي فيما بعد، بـ " العهد العتيق" وبعد ان اضيفت له السبعة والعشرون كتاب المذكور اعلاه سمي بـ " العهد الجديد" .

ان " العهد الجديد" ينقسم الى اربعة انواع من النصوص :

I- المكتوبات الحكائية، التي تتضمن الانجيلات الاربعة
كان المسيحيون الاولون يعتبرون بان " الايناكليون" هي قبل كل شيء الخبر السار، خبر السلام الذي سياتي به المسيح كما نقل ذلك شفويا عن صحابته .

فيما بعد، طبق هذا اللفظ عن كتابة هذه الاخبار الرسولية - واخيرا حوالي سنة 150 سميت بهذا اللفظ كل المكتوبات " العهد الجديد" الذي يحكي الحياة الارضية للمسيح .

ولذلك نتكلم بهذا المفهوم عن " الانجيلات" الاربعة ويسمى " بالانجيلي" المؤلفون الذين روي عنهم بانهم حرروها - توصلت الكنيسة المسيحية بالانجيلات الاربعة جنبا لجنب لكنها اعطتهم عناوين تفيد بان الامر يتعلق باربع روايات عن حدث واحد وشخص واحد ونبا سار فهم بكيفية مختلفة ومتكاملة، اي انجيل واحد ذا اربعة اشكال : الانجيل " حسب" ماتيو، الانجيل " حسب" مارك، الانجيل " حسب" لوك، الانجيل "حسب" جان .

تشكل " الانجيلات" نوعا ادبيا فريدا من نوعه انها تشبه النوع التاريخي، في كونها تجمع بين سنن مختلفة تداونت في الكنيسة طيلة ثلاثين او اربعين عاما قبل ان تدون في كتاب - لكنه لا يمكن مقارنتها الى عرض احداث مضت : ان طابعها السيري يجب ان لا يغطي على مفهومها الاساسي، شهادات المجتمع ابن الله ومنقد البشرية .
النبا السار الذي اتى به كان هو الاهداء الرائع لشخصه والاهداءات الربانية التي اتى بها .

1) افعال المبشرين :
هذا الكتاب لا يختلف عن الانجيلات لا في نيته ولا في شكله الادبي يحكي كاتبه، لوك تاريخ نشر الانجيل من القدس الى روما بواسطة مفعول الروح المقدسة - انه عمل لاهوتي وتبرير ومدح للمسيحية، حرر حوالي سنة 80 وكان على الارجح مهيأ الى قراءة كفرة .

2) كوربوس بولينيان :
يتعلق الامر بعدة رسائل اهدائية كتبت بعد اهتدائه من طرف " بول" يهودي من " طارس" من قبلية "باذجامان" " فاريزي" ولد مواطنا رومانيا واصبح مبشرا للكفرة الذين زارهم عند قيامه بثلاث رحلات كبرى غايتها التبشير .
يستحيل اعطاء نظرة موجزة على الكفرة اللاهوتية " لبول" ولو للقول بانها التبرير بالايمان او بالحياة في المسيح - وكان اثره الفقهي عظيم .

3) رسائل الاهداء الكاثوليكية :
تجمع تحت هذا العنوان : رسالة " جاك" الرسالة الاولى والثانية " لبيير"، الرسالة الاولى والثانية والثالـثـة " لجان" ورسالة "جود" .
ان المفهوم الاصيل لهذه التعرفة لا احد يتذكره : يفهمها الجميع عامة وكانها تعبر عن الغاية " الكونية" لتلك الحروف ( لفظ كاثوليكي هو نقل اللفظ اليوناني " كاثوليكوس" الذي يعني " كوني") .

4) نهاية الدنيا :
انه الكتاب الذي يختم التوراة، الكتاب المقدس - اسند هذا الكتاب الى الاوساط " الجوهنية" ويكون قد كتب في اواخر عهد " ضوميسيان" في سنة 96 اثناء القمع العام والرامي الذي تسلط على النصارى الذين رفضوا عبادة الامبراطور وكانه إله .

يكشف الكتاب لا على وجود عهود جديدة ستاتي فسحب، بل وكذلك على ابعاد وازمنة محجوبة وعلى ان التاريخ له عمق دائم تتحقق فيه السعادة الابدية من خلال الافعال المتقاضية لمختلف الممثلين .

ان العلاقة اللاهوتية الداخلية التي تجمع بين هذه الكتب السبعة والعشرون التي تشكل محور وصية العهد الجديد، هي التصريح بالايمان بالمسيح، وعبودية اللـه ليست الا عضوا من هذا الايمان : المسيح ابن الله .

ان الصيغ والجمل القصيرة التي تحتوي عليها وصية العهد الجديد تلح على بعث المسيح وعلى العهد الحالي والكوني للذي يجلس " على يمين الله" - ان الوحي باكمله ينظر اليه بفكرة ان المسيح موجود، مسيح مبعوث ليس مجرد مبتدئ غامض : انه نفس الشخص الذي تحكي لنا الانجيلات عن حياته وعهده الارضي : هذا المسيح الذي كان يخدم الله بقيامه بدور خادم تعذب من اجل الله وابن الرجل الذي سياتي في نهاية الازمان ليعلن مملكة وعهد الله - هذا المسيح الذي تتابع امة المؤمنين عمله - فالتجربة والاعتقاد الصميم بهذا العمل الدائم هما اللذان يشكلان ركيزة وصية العهد الجديد .
***
لكن، ولو ان وصية العهد الجديد كان ولا زال هو قاعدة ايمان النصارى، ولو انه اوصى ولا زال يوصي اشخاصا معروفين او مخبئين، وانه اثر حضارات في اخلاقهم الخاص والاجتماعي في ادابهم كما في فنونهم، هل يمكن القول واعتباره كمنبع للقانون وهل يمكن القول بان الكنيسة منبثقة مباشرة منه ؟

ان دراسة العلاقات الموجودة بين المسيحية والقانون والفحص الدقيق للعلاقات بين اللاهوتية المسيحية والفلسفة القانونية تؤدي حتما الى اتخاذ موقفين ذلك ان اللاهوتية المسيحية لم يكن لها مذهب موحد للفلسفة القانونية ( انظر س. أ. ستامبق : مساهمة اللاهوتية في فلسفة القانون، محفوظات فلسفة القانون - رقم 5 - 1960 ص 1 ) .

ان جزءا من الفقهاء يعاين بان الرسالة الانجيلية ليست بقانونية ولا يمكن القول بان نظام العلاقات الاجتماعية منبثق من التوراة ( انظر ج. فاصو : المسيحية والمجتمع - ميلانو، جيوفر، 1956 ) .

وعكسا لهذا يستنتج بعض المولفين من الانجيل بعض القواعد التي يجب على القانون ان يحترمها، لكن هذا التيار غير موجود : بعض الفقهاء مع " سان طوماس" ( صوم ثيولوجيك 1 الى 11 ص. 90 وما يليها. اس. بلوت ص 974 الى 1292، السيد فيلي : بحث حول طبيعة المذاهب الاجتماعية المسيحية - محفوظات فلسفة القانون المذكورة اعلاه - ص 37 وما يليها ) يعتبرون بان الشريعة الانجيلية يجب ان تنور القانون دون ان تصبح مصدر قانون ( باستثناء القانون الكنسي)، اما الاخرون فانهم يستنبطون من الرسالة الانجيلية قواعد قانونية حقيقية ( ج. ي كالفيزوج بيران : الكنيسة والمجتمع الاقتصادي - اوبريي 1959 - مونسنيور جرى : المذهب الاجتماعي للكنيسة ) تجعل من الانجيل مصدرا للقانون امام هذا الموقف المزدوج ينبغي اتخاذ قرار (وسيكون الجزء الاول من العرض) - اذا اخذنا بعين الاعتبار نظرية السيد الاستاذ فاصو، لا داعي للكلام اكثر - لكن اذا اخذنا بعين الاعتبار موقف التيار المذهبي الثاني فانه ينبغي البحث على الاثار التي خلقتها وصية العهد القديم ووصية العهد الجديد مع اعتبار اضواء السنة والماجيستر على القانون ( وسيكون الجزء الثاني من العرض ) .

وسوف نقول اخيرا لماذا لا يتعلق القانون الكنسي، بالمفهوم الذي تعطيه الكنيسة لهذا اللفظ، بعرضنا هذا (وسيكون الجزء الثالث لعرضنا ) .

I- هل يمكن استنباط استنتاجات قانونية من الكتب المقدسة ( وصية العهد القديم ووصية العهد الجديد ) ؟ هل تفرض المسيحية قبول بعض القواعد دون الاخرى ؟ يجيب الفقهاء على هذه الاسئلة بجوابين متناقضين :
1) يعتبر البعض بان الانجيل غير قانوني، بحيث انه لا يمكن استنباط اي استنتاج قانوني من المسيحية - هذه النظرية اكدها في كتاب بارز من طرف مؤلفه الاستاذ الجامعي فاصو ( كلية الحقوق ببارم) والذي يبين فيه بان اي استنتاج قانوني لا يمكن استنباطه من الانجيل ولو ان الكتاب المقدس يتكلم عن بعض الانظمة القانونية .
أ‌- حقيقة ان الانجيل يتكلم عن بعض الانظمة القانونية : هناك الكلام عن الاجارة في رواية العاملين الخونة وفي رواية عمال الساعة الحادية عشر للعبودية ( الخادم الغير النافع ) وعن عقد الوكالة ( المتصرف الخائن) وعن الزواج ( المراة الخائنة لعقد الزوجية ) وعن قواعد الارث ( رواية الابن المبذر - المسرف) : لكن المسيح لا يتكلم عن هذه الحالات القانونية الا لانها تشكل اطار حياة مستمعيه .

لكنه في اي وقت لا يعطي رايه في هذه الانظمة القانونية. ان موقف المسيح موقف محايد بل اكثر موقف لا مبالاة ( بالمفهوم الذي يعطيه انياص دولوبولا لهذا اللفظ - انياص دولوبولا هو مؤسس مجموعة " اصحاب المسيح" ومؤلف " التمارين الروحانية" التي ارتكز عليها وكبير من الفقهاء) - لا يصادق المسيح عليها ول ايستنكرها ولا يمكننا القول بانه مع الاجير ضد المستاجر ( او العكس)، او ضد الجيش الممثل من طرف قائد المائة او ضد بيت المال الممثل من طرف القابض : زاشي لم يحكم بصفته قابضا بل لقيه المسيح بصفته رجل .

ويمكن فهم هذا الموقف لان عهد ومملكة المسيح ليست في هذه الدنيا ولا ينبغي خلطها بمشاغل ابيه والنظام الاجتماعي والقانوني .
" ارجعوا لقيصر ما هو لقيصر ولله ما هو لله" .

ب‌- يمكننا ان نتساءل عن اسباب هذا الموقف المتعلق بالطابع الغير القانوني للرسالة الانجيلية :
1- ان الاكراه هو طابع القاعدة القانونية التي تظهر كقاعدة سلوك اجبارية :
ينفد الاشخاص في غالب الاحيان الالتزامات الملقاة على عاتقهم قانونا وذلك عن طواعية - لكن اذا لم يمتثلوا، يمكن للسلطة ان تكرههم - تعوض الرسالة الانجيلية الاكراه بالحب والذي يشكل اول وصاية : وهذا فرق جوهري .
2- يظهر القانون كمجموعة قواعد تقنن السلوك الاجتماعي - كما قال الرومان " اين يوجد مجتمع يوجد قانون" وعوضت فكرة المجتمع، وهذه الفكرة التي تشكل العنصر الاولي لظهور القاعدة القانونية التي تقيم العلاقات بين الافراد وبين مجموعات من الافراد، اقول عوضت فكرة المجتمع بمجمع روحاني لا تنقضي فيه الرحمة والاحسان .

ج - ومن ثم لا يكون الحل المسيحي في هذا الباب اصدار قوانين متعلقة بالاثمنة العادلة، عقد الشغل، وضعية العبيد، التزامات المسير او التزامات المراة المتزوجة لا تتعلق مشاغل المسيح بالوقف الذي يجب اتخاذه ازاء المثل الروماني ( المقاومة او المساعدة) او ازاء بيت المال .

بل تكون مشاغله الهدي الفردي الذي وعظ به من قبل رسل وصية العهد القديم والذي اقره المسيح في وصية العهد الجديد .
" كونوا كاملي اوصاف كما هو الشان بابي في السماء" فاذا اردنا استنباط قواعد قانونية من الرسالة الانجيلية فهذا يعني اعطاء مفهوم معاكس لهذه الرسالة وتحريفها - كما ان قبول فكرة قانون نابع من الكتب المقدسة يعني، اذا صح التعبير، تدنيس رسالة المسيح .

2) وهذه النظرية التي تميز بوضوح بين المسيحية والقانون يعاكسها مذهب، اكثر انتشارا، حسبه تكون للمسيحية اثار على القانون .
أ‌- الاسباب التي جعلت الكنيسة الكاثوليكية تقترح مجموعة من القواعد او المبادئ هدفها خلق مصدر للقانون مختلفة :
1) ان الكنيسة الارضية، مجاهدة ومكونة من رجال ليسوا ملائكة - لانها مغمرة ومستغرفة في الدنيا تابعة في هذا دعاء المسيح الى ابيه :
" لا ادعوك لتخلعهم من الارض بل لتحفظهم من السوء" وراى هؤلاء الاشخاص انفسهم مضطرين الى اتخاذ قانون مستعار حتى من الحضارة الوثنية المحيطة بهم وحتى من نظرية القانون الطبيعي الذي ظهر في "انتيكون" " لصفوكل" والتي ذكرها "ارسطو" و"سيسرون" .

2) ان الانسان ليس مجردا من الماديات - انه جسم وروح - الانشغال بالانسان فقط يعني النقصان منه والانشغال بروحه فقط يعني بثره وجدمه .
الانسان يعيش في سياق سياسي، قانوني واجتماعي من الصعب والخطير عدم اعتباره او احتقاره ( اي هذا السياق) ذكر " باسكال" عن صواب : " من الذي يخلق الملك ويخلق الوحش" - من ثم، وباعتبار الطبيعة المعقدة للانسان يجب على الكنيسة بوصفها " ام ومعلمة" بان تقترح طرقا للسعادة الابدية، وهذه هي الغاية والنهاية الاولى للانسان، وبان يطالب بتتبع قواعد حياة اجتماعية هدفها تسهيل الوصول الى الغاية والنهاية للجميع .

ب- لما تتبنى الكنيسة مذهبا لفلسفة القانون، كما فعلت بالنسبة " لسان طوماس" فانها لا تخون مهمتها، ورسالتها بل تقوم بها تمام واحسن قيام .
لهذا التزام تذكير ضرورة اتخاذ قوانين عادلة دون القيام بمواجهة المبادئ الانجيلية بقواعد القانون .
القانون، والانظمة الساسية والقانونية مشتقة من القانون الابدي وهدفها ارجاع الانسان الى الله، دون ان تكون العقيدة الموحى بها مصدرا للقانون : الانجيل يوحي ولا يكره .
***
II- اذا قبلنا هذا الموقف، الذي هو موقف الكنيسة، ما هو اذن اثر اركان العقيدة على القانون ؟
ان في التوراة مجموعتان من النصوص، وصية العهد القديم ووصية العهد الجديد ويظهر الوحي في كل واحد منهما - ولا يوجد أي تناقض بين هذه النصوص بل هناك استمرارية كما قال المسيح بنفسه : " اتيت لا لالغي الشريعة بل لاتممها واكملها" .

يجب تنوير الوحي بالسنة وهنا يظهر الدور المهم الذي تلعبه الكنيسة - وهذا الدور يترجم حاليا ويتجلى في الرسائل الباباوية والرسائل الدورية بالمفهوم النبيل وهذا يعني ان الرسالة الباباوية تعبر الارض باسرها ولها قيمة كونية في الحيز (انظر : هانري كيطون : مقدمة للرسائل الباباوية والرسائل الاجتماعية - ضالوز ص 2 و3) اي حقيقة مذهبية وقيمتها ليست عقدية بل انها تقترح ارشادات ووعظ .

1) ان وصية العهد القديم تتضمن في المادة القانونية عددا من القواعد المكتوبة، المكرهة رتبها وصنفها "سان طوماس" الى 3 اجزاء :
المبادئ الاخلاقية ( موراليا )
مبادئ الطقوس الدينية ( سيرمونيا )
المبادئ القانونية (جوديساليا) .

صنفان من هذه المبادئ فقدا قيمتهما الاجبارية :
يتعلق الامر اولا بمبادئ الطقوس الدينية (التقاليد والرسميات) لانها تتعلق بعبادة الانسان لله ولا تتعلق بالعلاقات الاجتماعية - لكن الامر يتعلق حتى بالمبادئ القانونية وهذا اغرب المبادئ التي تهم المادة التي نحن بصددها والتي تشكل نموذجا تشريعيا مكيف مع الشعب الذي يعنيه :
لماذا فقدت هذه المبادئ قوتها كشريعة الرجل طلاق الزوجة، وحتى تعدد الزوجات ؟ ان مفعولها اصبح لاغيا بمجيئ المسيح لانها اصبحت غير لائقة لشعوب غيرتها المسيحية والتي يمكن ان يطلب منها اكثر .
تبقى اذن المبادئ الاخلاقية التي تترجم النظرة المسيحية للعالم الدنيوي مع تنكرها لبعض التصرفات .

انها تفيدنا على محتوى القانون الطبيعي ولا تشكل رغم ذلك مصدرا للقانون ولو بسبب عدم دقتها "سوف لن تسرق" : هذه الحكمة تضع مبدءا لكن لا تعطي حل مشكلة تحديد عقار او وضع حدود الاملاك، وكذا مشكلة حق شفعة الدولة او نزع الملكية للمصلحة العامة .
" احترم اباك وامك" : هذه الحكمة لا تفيدنا عن محتوى السلطة الابوية، سن الرشد والتزام الانفاق الخ … لا يوجد اي مذهب قانوني، بالمفهوم التقني لهذا اللفظ، متعلق بالشغل، التبادل الملكية الخ …

في الوصايا العشر - انه صادر ونابع من مصدر غير مقدس ومستقل- لا تفرض المسيحية، باسم الكتب السماوية، اي نظام قانوني وسياسي كيفما كان نوعه - انها لا تتوفر على هذه السلطة لكن لها التزام مراقبة يجعلها تذكر بان كل الاجراءات التقنية، المختلفة، يجب ان تكون مطابقة للمبادئ الخلقية .

2) كونت وصية العهد الجديد ركيزة للانظمة والقانون الكنسي في كل ما يتعلق بالحياة الدينية وتنظيم الكنيسة - لكن هل تضمنت هذه الوصية قواعد القانون المدني ؟ طبعا الجواب سلبي، لكن هناك تداخل مع القانون المدني .

لا نجد في الانجيل ادانة العبودية بل نجد فقط بان كل انسان هو ابن الله، ولهذا السبب يجب ان يحقق هدفه النهائي و"سان بول" ذكر بان العبد اخ لسيده، بل هنا نجد اثارا على القواعد المدنية التي تذكر بكرامة الانسان، وحق العبد في عبادة الله وحقه في الزواج - لكن المسيح لا يتكلم عن النظام القانوني : انه يذكر فقط ضروريات السلامة والسعادة ( الابدية ) .

3) وصية العهد الجديد والكنيسة :
أ‌- " سان بول" ( الرسالة التقوية الى ثيموتي 3 -14 ) يشرح بشكل جيد دور الكتب المقدسة لما يصرح :
ان كل نصوص الكتب ( اي المقدسة ) موحى بها من الله - انها مفيدة للتعليم لدحض الشر والتعديل والتربية في العدل والعدالة" .

وان الباباوات، بوصفهم خلفاء ومتممي الرسل والرؤساء الحاليين لكنيسة قديمة جدا، يتابعون ويجددون العمل والتعليم الذي بدأه المسيح - وانهم يرون انفسهم ملزمين للتطرق باللغة والالفاظ الخاصة بعهودهم الى الحقائق الكبرى التي ترك لهم المسيح وكل هذا باسم هذا الاخير وحده، هذه الحقائق تتكون من بعض السطور فقط : انها بسيطة وثاقبة، لكنها تحتاج دائما الى ترجمة مستمرة ترتبط بالتجديد اللا محدود للتاريخ .

بالنسبة للمسيح، ان الطاعة لله، بواسطة الحب لله، الذي يؤدي الى حب الناس، هذا الحب الجدري الجوهري يلخص في ثلاث شهادات او صيغ :
1) " الحب هو السماع" لا يمكن التوفيق لا بين العبد وربه الى لمن سيتسامح مع اخيه .
وبالتالي يجب الغفران لكل انسان بدون استثناء .
2) " الحب هو الخدمة" التواضع وروح الخدمة هي الطريقة نحو الرفعة الحقيقية .
3) " الحب هو التنازل" هذا تحذير ضد استغلال الضعفاء ونداء للتنازل عفويا على كل ما يعرقل ويعيق المسؤولية ازاء الله وازاء كل انسان ( هانص كونغ : كيف يكون المسيحي - منشورات سوي 1978 ) .

وهكذا كان دائما طريق الباباوات مخطط لاعادة التفكير في المشاكل الانسانية المطروحة على الضمير العالمي بسبب احداث القرن ولوعظ وارشاد المؤمنين ومن وراء العالم الكاثوليكي مخاطبة كل الناس الذين ينتظرون الرسالة الانجيلية .

ب‌- ان مضمن ما جاء في ارشادات الماجيستر ( الكنيسة ) ليس بالسهل تحديده : كل جزء يتضمن حصة سلبية نقدية وفي غالب الاحيان شديدة وحصة ايجابية بناءة وفي غالب الاحيان معلقة بالشخص .

1) ان كرامة الانسان تشكل وسيلة التعليم والارشادات الباباوية لانه اذا كانت الغاية النهائية للانسان هي الله فان كل الانظمة القانونية ليست الا وسائل في خدمة هذا الانسان ولا يمكن ان تشكل غاية بنفسها .

والامثلة كثيرة في الرسائل الباباوية :

بيون الثالث عشر (13) في "ريروم نوفاروم" .
" من الانصاف والعدل ان يحترم المشغل في عامله كرامة الانسان الموحى به وكذا كرامة الانسان المسيحي".

بي الحادي عشر (11) في " ديفيني ريدومبوريس" رقم 27 :
ان الانسان شخصية عظيمة وهبها الخالق لا بجسم وروح - انه انسان بوصفه صورة مصغرة عن العالم تساوي وحدها اكثر من الكون الكبير المتحرك" .

وفي الرقم 29 :
" الانسان، هذا الانعكاس للكمال الرباني" .

بي الثاني عشر (12) " كرامة وحقوق الانسان"
ان علة وجود المجتمع، غايته الاساسية، هو الاحتفاظ وتطوير وتحسين شخصية الانسان" .

يجب اذن ان يدور القانون حول وباعتبار الانسان. كما كتب هـ. كيطون (المقدمة المذكورة ص 19) الانسان "هو حجر الاساس ومفتاح قبة النظام" وبما ان الانسان يتحقق من خلال تعاقداته مع الاغيار فان الارشادات الباباوية تتصرف مع المجموعات البشرية المحيطة بالانسان كالموجات المتحدة المركز .

2) من بين المجموعات المختلفة التي يعيش فيها الانسان : توجد الاسرة .
الاسرة ممثلة " كالخلية الحيوية الاكثر كمالا والاكثر خصبا في المجتمع" ( بي الثاني عشر في خطابه الملقى في 1 يونيو1941) .
انها كانت موجودة قبل الدولة التي عليها ان تحترمها .

من الناحية الاجتماعية ان دور الاسرة مزدوج : لها دور تكوين وتربية افرادها، ولهذا نفهم المواقف الواضحة للكنيسة حول واجب التربية وحرية التربية .
ان الاسرة دائنة للنظام الاجتماعي الذي عليه ان يضمن العناصر الاساسية لوجودها ورفاهيتها (مشكل الملكية، الارث، الاجرة التي تسمح لعيش العائلة …..) .

3) لضمان هذه الخاصية والوظيفة، يرى الانسان حقه في الملكية معترفا به وهنا كذلك، لا يشكل الامر نهاية في حد ذاته بل انه يؤدي مهمة اجتماعية .
4) فالكلام على حق الملكية يؤدي الى التساؤل عن العلاقات بين راس المال والعمل، مع الاجر العادل عن هذا العمل .

ان هذه المشكلة، في الامس كما في الحاضر، تثير توترات كبيرة - ان لم نقل انها قابلة للتفجر - لكن الباباوات لا يتجنبونها ويبينون وينتقدون ظروف العمل المهنية والاجر الضعيفة جدا دون تنكر او تجاهل المبدا الذي يريد بان يرد راس المال ارباحا لذويه .

5) في علاقات عمله يمكن للانسان ان يجتمع ويتحد مع اناس اخرين - وهذا مبدا حرية التجمع والجمعيات وبالتالي مبدا النقابات. ونرى في هذا الشان الحرية التي تتركها الكنيسة للمؤمنين تضع مبدا حرية التجمع والجمعيات لكنها تترك لهم حرية الاختيار بين النقابة او الهيئات الحرفية .
6) حيز الدولة هي اخر طوق حول الانسان : لا تهم الكنيسة اشكال وانواع واصناف الحكومات لكنها تذكر بان السيادة لا تكون مشروعة الا اذا كان هدفها المصلحة والخير العام - " ان ما يعطي للسيادة مفهومها العميق اخلاقيتها الحقيقية ومشروعيتها العليا، هو خدمتها ( للجميع) .

وختاما، ينبغي الاشارة الى ان الكنيسة تقترح ايضاءات وتنويرات اكثر مما تقترح حلولا مادية يمكن ان تختلف لكن تكون دائما لمصلحة الانسان .

جـ- الباباوات الجدد من " جان الثالث والعشرون" الى " يوحنا بولس الثاني"
هذا عنوان كتاب الفه السيد " جان شيلني" نشر في 1979 بعد اعتلاء " كارول فوجتيلا" رئاسة الكنيسة، هذا الكتاب الذي بلور عمل كل بابا بصبغة ذكية :
" جان الثالث والعشرون" ( 1958 - 1963 ) " انفتاح للعالم .
" بولس السادس" ( 1963 - 1978) : لقاء العالم .
" يوحنا بولس الاول" ( بابا لمدة 33 يوما) وخلفه " يوحنا بولس الثاني" بابا منذ 16/10/1978 : الصداقة مع العالم .

ظهرت اساسا مبادرات وتجديدات هؤلاء الباباوات الاربعة في خمس موضوعات .
ادارة الكنيسة
تكييف وتعديل عاداتها، هياكلها ومهامها ورسائلها .
الكنائس المسيحية اي التوحيد بين كل الكنائس المسيحية لتعود، وحدتها التي فقدت عبر مر القرون .
سياسة السلم الديني : " ايرين" لفظ من اصل يوناني يعني السلم - وهو اتجاه نحو تعويض المجادلة الدينية والتعصب بموقف احترام متبادل وتقدير بين مومني الديانات المختلفة .

الخلاصة الانسانية -
بعدولها عن كل هيمنة ضغط او اكراه وكل مجادلة مثيرة وهجومية بدأت الباباوية حوارا مع الكنائس الاخرى والعقائد المسيحية في روح من الانفتاح والاحترام - وفوجئ وتاثر ملاحظون مسيحيون غير كاثوليكيين للاعمال المجمعي التي استقبلوا فيها .

وبحذفه لكل صيغ الاتهام والمهنية المستعملة ضد اليهود في الشعائر الدينية خلال الاسبوع المقدس، هيأ "جان الثالث والعشرون" الجو الضروري للتفاهم والتسامح بين اليهود والنصارى، كما ان "بول السادس" كلف الكاردينال " بينيدولي" بابرام حوار روحي مع المسلمين - وصرحت كتابة الغير المسيحيين بان عدم الايمان لم يصبح حاجزا للحوار بين اناس ذوي نية وارادة حسنة - قد عدل الباباويون الجدد عن الحرب الايديولوجية التي، في غالب الاحيان، تهين كرامة الاشخاص - وفي اطار سلم وبعطف على كل الناس، عوض الباباويون الجدد الحرب بمحاورة او حوار يحترم كرامة كل واحد .

قرر الباباويون، التوجه الى كل الناس في رسائل نبيلة تتطرق الى المشاكل والمصاعب الحالية للبشرية متتبعين في هذا سنة " ريروم نوفاروم" رسالة البابا "ليون الثالث عشر" 1903-1978- المنشور سنة 1891 حول المشاكل الاجتماعية، مع تكييف وتبسيط الالفاظ المستعملة - " جان الثالث والعشرون" فسر رسالته الدورية الى جميع المسيحيين ("باسم ان تيريس"- السلم على الارض) المؤرخة في 11 ابريل1983 اقترح على البشرية نظاما كونيا وكليا جديدا مستند على قانون اخلاقي ومعنوي، يكون هدفه السلم وغايته تفتح البشرية .

اما "بول السادس" في "بوبولاروم بروكريسيو" (تطور الشعوب - رسالة دورية في 26 مارس1967) فانه دعى البشرية الى حل تنظيم الاقتصاد العالمي، بصفة واقعية وعادلة ومحترمة للجميع، لتمنح نموا متوازنا للجنس البشري .

بحرارة مع كل المسيحيين، وقابلين لكل حوار مع كل المؤمنين، اخويين مع البشرية، يحاول الباباويون الجدد، وهم محاطين بالثقة الكونية، انقاذ البشرية من التنافر ومن تهديد الحرب وقيادة هذه البشرية نحو السلم، والاحترام والحب المتبادل، ولقاء الله - هذه هي معجزة الازمنة العصرية : رغم رسل الشؤم والنحس ان الله لا يهمل البشر .

II- القانون الكنسي والعالم العصري :
القانون الكنسي هو شريعة الكنيسة، أي القانون التنظيمي والدستوري للكنيسة، التي اضطرت، على مر العصور والقرون وبقدر ما تتطور، الى تنظيم نفسها واصدار قوانين - لكن هذا القانون، الخاص، لا يتعلق الا بالكنيسة الكاثوليكية وانصارها - لكن هذا لا يعني انه محجر .

طيلة 1900 عام لم يدون ولم يعرف الا من خلال مجموعات او كتب ملفقة، المشهورة منها هي :
فتوى الاسقف " ايف دو شارتر" (1094) .
فتوى الراهب " كراسيان" (1140) .
الفتوى الباباوية " لكريكوار التاسع" (1230) .
الكلماتينيات المنشورة من طرف " جان الثاني والعشرون" (1317) .

كان من الضروري على اي شخص اراد معرفة وتاويل الشريعة والقانون ان يكون متخصصا في القانون الكنسي .

وفي اوائل هذا القرن بدأ الكل يشعر بحدة الى ضرورة التدوين وكان البابا " بونوا الخامس عشر" هو من اصدر اول مدونة للقانون الكنسي في 27 ماي 1917، هذا القانون الذي هيأ مشروعه الكردينال " كاصباري" امام تقلبات العالم، تحولاته والمشاكل المطروحة على الكنيسة العصرية، اصبح هذا القانون، الحديث نسبيا، لا يتطابق مع متطلبات الساعة وخصوصا مع هذا " الاجيوحنامنطو" (حدثنة الدين) المنبثق من " فاتكان" 2 (1962 - 1965) - وهكذا تقرر انجاز مدونة جديدة للقانون الكنسي التي حرص "يوحنا بولس" الثاني على تهييئها لاصدارها في 25 يناير1983، مع دخولها حيز التطبيق في 27 نونبر1983 - هذه المدونة تتكون من سبعة كتب، يتعلق الكتابين الاولين منها " بميثاق كنيسة العهود الجديدة" .

ألح المشرع على طابع " الوحدة المؤسسية" للكنيسة مع ابرازه بكيفية انسجامية ابعادها المؤسسية وهبتها الدينية التي تسمح اعتبارها مساوية للدولة على الصعيد القانوني في حين انها مختلفة تماما على الصعيد اللاهوتي والثيولوجي لانها من فئة وطراز مختلف، باعتبارها تفوق النهاية والغاية الروحية للمجتمع البشري على غايته الارضية والوقتية تطالب الكنيسة لنفسها بسلطة " ماجيستر" على المجتمع البشري، وهذا داخل في الخط نفسه للرسالة التي كلفها بها مؤسسها .

وهكذا فان مخرج القانون القديم : التسلسل او الطبقات - وشعوب الله، ترك المكان الى هذا المخرج : شعوب الله - التسلسل او الطبقات، هنا تظهر الكنيسة كمجتمع انجيلي لا ينظر فيها الى الدرجات التي ارادها المسيح كسلطة ( بوتسطاس) لكن كخدمة ( ديوكانا) وواجب (مونوس) لله .

لهذا تشكل المنظمات الكاثوليكية الدولية حسب متمنيات " يوحنا بولس الثاني" :
عنصر وساطة بين الانجيل والمجتمع العصري الكنيسة الكونية ومجمع الامم .
نقطة اتصال بين الكنيسة الكاثوليكية والمجتمع الدولي .

هكذا هيأ " يوحنا بولس الثاني" المنظمات والمؤسسات التي ستسمح للكنيسة ان تعرف احسن بتعليمها وارشاداتها التي تشتمل اساسا " على الكلام لفائدة الانسان" وهذا يعني :
1) وضع شروط، متطلبات وعواقب تضمن للانسان كرامته كمسؤول. هذا يعني طبعا بانه ينبغي تصريح وتكريم حريته - لكن هذه الحرية ليست حرية جوهر فرد كاملة، بل هي حرية فرد مرتبط بافراد اخرين بواجبات وحقوق - ومن ثم يظهر مثل اعلى وعميق للحصيانية المجمعية المتضامنة - ومن ثم كذلك متطلبات هياكل شرعية تنظم وتضمن العدالة لانه " بين الضعيف والقوي، بين الغني والفقير بين السيد والخادم الحرية هي التي تضطهد والقانون هو الذي يحرر" .
2) لكن في نفس الوقت، لا يكفي القول والتصريح بان نظاما اقتصاديا، اجتماعيا وسياسيا سعيدا لا يمكن ضمانه الا بتنظيم الاشياء وتغيير بسيط للهياكل، ولو ان هذا ضروري، يجب كذلك العمل على صعيد الاسباب المعللات الاخلاقية والسيكولوجية كما ينبغي تغيير الانسان - لا يكفي مراجعة العلاقات الاقتصادية بل حتى العلاقات الانسانية والبشرية. لم ينقطع البابا " بي الثاني عشر"، من تاكيد هذا في مجهوداته في صالح السلم ولهذا السبب ايضا اخذت الكنيسة موقفا لصالح المظلومين والضعاف منذ المجمع الديني : يجب الوقوف جانب " الانسان" وراء " واقعية" الاعمال والمال - تكلم البابا عن عبادة الانسان، لكن ليس كانسان اخذ مكان الله، بل كانسان كما احبه ويحبه الله ويخصصه لمملكته ( بعد الموت) .
***

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 29، ص 9 .

اخي الزائر من خلال هدا الموضوع يمكنك الاستماع الى عدد كبير من المحاضرات القانونية





القانون التجاري



الاوراق التجارية







الشركات التجارية


ٍ




المدخل الى علم القانون





القنون الدولي العام





محاضرات في القانون المدني


علم الاجرام والعقاب




مقالات قانونية للتحميل

سوف يشرع قريبا بالعمل في هدا القسم