ذ. إبراهيم كوثرا
محام لدى هيئة المحامين بأكادير
تقديـم:
منذ أن وجد القضاء في المجتمعات المتحضرة وجدت معه المحاماة ليدافع أهلها عن أصحاب الحقوق أمام القضاء، ولا يمكن لهذا الأخير بتاتا أن يتبين وجه الحق فيما يثار أمامه من خصومات ذات شأن إلا بالمساعدة من المحامي الباحث والمجهز لعناصر الدعوى واقعا وقانونا والموضح لحقائقها وأسرارها مهما كانت وضعية الطرف الذي ينوب عنه في النزاع.
src="http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ads.js">
لذلك فالمحاماة هي عون القضاء في الوصول إلى الحكم بالعدل وكلاهما يسهم من مركزه بقدر معلوم في إقامة العدالة في المجتمع لبناء ذلك الصرح الشامخ الذي هو الركيزة الأساسية لكل حضارة إنسانية.
ولاشك أن الصلة الروحية التي تربط بين القضاء والمحاماة نابعة من اعتبارهما توأمين في أسرة واحدة تعمل لهدف واحد هو خدمة الحق والعدل والقانون.
ولعل أي متأمل لمستوى القضاء والمحاماة في أية أمة من الأمم يجده متقاربا أو متشابها ويؤثر ويتأثر كل واحد منهما بالآخر، حيث أن كل تقدم في المحاماة يظهر مثله في عالم القضاء وكل تقدم في القضاء يظهر صداه في دنيا المحاماة، والعكس بالعكس ولا غرابة في ذلك، فكلاهما من بيئة واحدة هي بيئة العدالة والقانون.
src="http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ads.js">
وأي محاولة لتصور قضاء بلا محاماة، أو محاماة بدون قضاء، تبدو مستحيلة وعديمة الجدوى، لذلك فلا غنى لأحدهما عن الآخر فهما شريكان في إقامة ميزان العدالة وفي الثقافة وفي الحياة القانونية وفي العمل، مع توزيع في نواحي العمل بينهما، كذلك هما شريكان في التضحية، فللمحاماة ضحاياها من المحامين، وللقضاء ضحاياه من القضاة، فكم من محامين ضحوا بعصارة حياتهم وأضناهم الجهد الشاق فسقطوا ضحايا مهنتهم الشريفة دون أن يعلم بتضحياتهم تلك إلا القليل، وكم من قضاة ضحوا كذلك بصحتهم وعمرهم في أداء مهمتهم السامية يرهقهم العمل المتواصل حتى استشهدوا في ساحة القضاء.
وأن للقضاء دستوره وتقاليده، كما وأن للمحاماة دستورها وتقاليدها وبأداء كل واحد منهما لواجباته يستقيم ميزان العدل ويطمئن الناس على حقوقهم، وأي تقصير أو إهمال من أحد الطرفين يجعل الميزان مختلا في كفتيه، فيسود الظلم والفساد والفوضى وتضيع الحقوق.
وإن مهنة المحاماة مهنة عريقة كالقضاء، نبيلة كالفضيلة ضرورية كالعدل وقد وصفها:
فولتير، بأنها:" أسمى مهنة في الوجود" فهي مهنة: علم وخلق ـ ونجدة وشجاعة ـ وثقافة وتفكير، ودرس وتمحيص، وبلاغة وتذكير، ومثابرة وصبر، وثقة في النفس واستقلال في الحياة، وأمانة واستقامة، وتضحية وتفان، وإخلاص في الدفاع عن الحقوق والحريات في إطار دولة الحق والقانون.
وليس غريبا عن هذه المهنة التي سميت بمهنة ـ الجبابرة ـ لسمو وشرف رسالتها أن يحلم بها ملك فرنسا لويس الثاني عشر، حيث قال في شأنها:" لو لم أكن ملكا لفرنسا لوددت أن أكون محاميا في بوردو"، وكم من وزير ورئيس جمهورية في تاريخ المحاماة عاد إليها بعد اعتزال لعمله بتشوق ولهفة كبيرين.
وأن ميدان المحاماة ميدان متسع وأي متسع لتحقيق كل هدف خليق بأن يتحقق وهذا سر عظمتها، ولكنها بالمقابل تعتبر أشق المهن وأقساها. مسيرتها مليئة بالمخاطر والمهالك والعراقيل، حيث نجد أن وظائف المحامي لا تقتصر على المشورة والمرافعة والعمل بالمكتب، وإنما تسمو واجباته ومسؤولياته كثيرا عن تلك الجهود التي تبذل لكسب العيش، وكذلك المطالبة بالمساهمة في تحسين القانون والمحاكم والمشاكل المهنية، بل لابد من أداء واجبه في تكوين الرأي العام.
وقد قبل باتفاق في حق المحامي الذي تبدأ أفكاره المهنية وتنتهي بموكله ليس إلا صورة ساخرة جديرة بالرثاء لما يجب أن يكون عليه المحامي العظيم حقا.
فن المرافعة ودورها في الدفاع
إن من بين أساليب الدفاع ـ المرافعة ـ والتي تساءل النقيب (شينو) عما إذا كانت المرافعة علما، أو فنا، أجاب أنه لا يدري، ولكن الذي يعرفه أن إتقان المرافعة يزداد صعوبة كلما ازداد المحامي تجربة وعلما.
وأضاف: أننا طوال حياتنا نتردد على مدرسة المحاماة وأساتذتها يدرسون في نفس الوقت الذي يعلمون فيه الآخرين.
كما أن الأستاذ يموري باكنز المحامي الذي يعتبر من المتخصصين في المرافعات القضائية استهل موضوعه هذا ـ أساليب المرافعة ـ بالقول:" إنني لا أعتقد أن من مصلحة المحامي أن يكتب أو يملي مرافعة يتوقع إلقاءها، بل عليه أن يكون دارسا تماما لموضوعه، وأن يضع النقط التي يعتزم التحدث عنها، وماعداه يجب أن يكون مرتجلا، وأن يضحي بالدقة، ونوع الأسلوب الذي كان يستعمله لو أراد كتابة مقال لمجلة، فبهذا الثمن وحده يستطيع أن يشتري ذلك الإحساس التلقائي والاستجابة الطبيعية.
وإن طلاقة اللسان إذا توفرت لرجل يتمتع بصفات أخرى أكثر أهمية للمحامي المترافع، فإنها تصبح رصيدا ضخما، أما في ماعدا ذلك فإنها تصبح عبئا.
إن على المحامي أن تتوافر لديه حساسية عقلية وعاطفة مرهفة إذ ينبغي أن يعرف ما يدور حوله، وأن يكون قادرا على أن يستمع ويفكر في وقت واحد، وأن يملك القدرة على سرعة التفكير وسرعة البت في الأمور، فمهما تكن مقدرته فلن يستفيد شيئا من وصوله إلى المحطة بعد أن يفوته القطار.
فقد ترافع مونتاني في شبابه فرفع صوته. فقال له رئيس الجلسة "خفض صوتك" فقال مونتاني: صوتي وطبقته متفقان مع ما أحس به. أنا وحدي الذي أحدده لأنني أريد أن يمثلني أصدق تمثيل، فإن للمتملق صوتا، وللدرس صوتا، وللشكوى والثورة صوتا آخر، وقال الرئيس: إذا خفضت صوتك استطاع خصمك أن يسمعك، فقال مونتاني: ولكني لا أكتفي بأن يصل صوتي إلى سمعه، أريده أن يقرع أذنه ويخترقها.
كما استهل المحامي: جون إنجلز دفاعه عن (مادلين سميت) في قضيتها الكبرى بكلمة سهلة ممتنعة حيث قال: سادتي إن التهمة الموجهة للسجينة هي القتل وعقوبة القتل هي الإعدام. وهذا وحده كاف ليوحي لكم بالطابع الكئيب للمناسبة التي جاءت بي وبكم للوقوف وجها لوجه.
فالوضوح وحسن التعبير أفيد للترافع من قوة الحجة. ولا قيمة لهذه الأخيرة إذا لم يحسن المترافع شرحها، أو لم يتم الإدلاء بها في الوقت المناسب ليزداد أثرها، ونفس الشيء بالنسبة لوقت التدخل ووقت التزام الصمت.
كما اعتبر البعض المرافعة سلاحا للمحامين، حيث حرصوا دائما أن يكونوا أحرارا في مرافعاتهم لا يسمحون بأي توجيه من موكلهم ولا من القضاء بل يؤدون رسالتهم حسب ما تمليه عليهم ضمائرهم، ولولا حرية الدفاع لضاعت الحقوق.
وقد قال بيرونيه بهذا الصدد في تقريره إلى لويس الثامن عشر:" أن مهنة المحاماة تجمع بين النبل والسمو، وتحمل من يريدون النهوض بها بما تستحقه من امتياز تضحيات كبيرة، وهي ضرورة للدولة بما تزيله مناقشات المحامين من غموض فتهيئ للمحاكم إصدار أحكامها... ولولا حرية المحامين في أن يناقشوا وينتقدوا أحكام القضاء نفسه، لتكررت الأخطاء وتراكمت... فالمحامون هم روح العدالة الأولية، وإذا كانوا لا يكتبون الأحكام، فإنهم يعدون لها ببحوثهم، فيقدمون للقضاء المادة الأولية لصناعته وكثيرا ما يقتصر عمل القاضي على الأخذ بإحدى النظريتين اللتين يقدمهما الدفاع أو أن يوفق بينهما".
وهذا ـ برييه الكبير ـ يصرح في وجه محكمة الثورة الفرنسية بما يلي:" إنني أتقدم إليكم بالحقيقة ورأسي تصرفوا في إحداهما بعد أن تستمعوا للأخرى".
وهذا النقيب لوبوي يضع حدود العلاقة بين النيابة العامة والمحاماة في وضعها الصحيح ويرد على اتهام النيابة العامة له بتجاوز الحدود المسموح بها بقوله:" لقد شكا المحامي العام من حدة الكلام الذي وجهته له... ليس مطلوبا مني أن أبرز حدتي في المرافعة، فإنني أعتقد أنها كانت في أنواع الاحترام ذلك الذي يصدر حرا ومن تلقاء ضميري للرسالة التي أؤديها... وأن تقديري الشخصي لا خلاصه وكفاءته وإن كان لا يستطيع أن يطلب مني أن يمتد احترامي وتقديري إلى مرافعته وحججه، ولست مطالبا بالنسبة إليهما بالاحترام ولا بالتقدير، بل ولا بالرعاية ، وإنما جئت هنا لأحاربهما وأهاجمهما...".
ويقول دي موروجيا فري أن الحكم على المتهم بالإدانة هم من عمل القاضي أما مهمتي فهي الدفاع".
وقال شيشرون:" إنه يجب أن تكون لدى المحامي الشجاعة الكافية ـ التي لا تهزم ـ لكي لا يخفي الحقيقة مهما تكن".
وهذا موقف أحد المحامين أثناء الجلسات يعبر عنة حضور البديهة، فلقد أخذ المحامي العنيد يسترسل في المرافعة والقاضي يحاول عبثا إسكاته، وأخيرا قال له: ما فائدة الاستمرار، مع علمك بأن الكلمة الأخيرة لي؟ ونظر المحامي إلى القاضي نظرة أدرك منها القاضي خطأه، فأراد أن يخفف من وقع كلماته فقال له: أعني أن الكلمة الأخيرة هي للحكم فقال أحد المحامين بالجلسة بصوت مسموع:" القابل للاستئناف".
وقد قال ليون جرين عميد كلية الحقوق بجامعة تورث ديسترن حين تحدث إلى المتخرجين، إذا كان لي ما أوصيكم به لتحققوا رسالتكم، فهو أن تنشدوا المعرفة العامة الشاملة، فاللغة وآدابها تعطيكم القدرة على التعبير الدقيق الذي بدونه لا تقوم المحاماة.
وقال: اللورد ماكميلان:" إن المحامي الذي يقتصر عمله على القوانين واللوائح غير جدير بأن يوصف بأنه محام مثقف فكل نواحي الحياة، وما من نشاط إنساني إلا والمفروض أن يكون للمحامي فيه رأي...".
وخاطب الأستاذ جان شارل لوكران المحامي الشهير أيام المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي وهو يرد على اتهامات النيابة العامة بما يلي:
"... لا تجهلون أن القمع يخلق الرعب، والرعب يؤدي إلى الحقد، والحقد إلى العنف، والعنف إلى القمع...".
كما رد كذلك على الرئيس بقوله:" أنتم تحكمون ونحن ندافع، لكن عدالتكم لا ينبغي أن تكون صورية، ولا يمكن أن تكون نفاقا بزي الوقار... ومن الآن لا يوجد إلا واجبان: واجبنا في الدفاع، وواجبكم كقضاة. إنهما لا يتعارضان ولكن يتكاملان، واجبان تجسمهما بذلة كل منا، أنتم ببذلتكم الحمراء، ونحن ببذلتنا السوداء، بذلتكم التي تعبر عن رمز الانضباط والنظام، ونحن ببذلة أكثر تواضعا، تجسم الحرية، حرية التفكير، وحرية الكلمة وحرية الدفاع كاملة.
إن بذلتنا لن تقبل تجاه أي كان، لا التسخير ولا الخضوع أو الخنوع، السياسة لا نمارسها هنا، بل نقوم بتقدير الاتهامات والإثبات . العدالة لا يسوغ أن تكون وسيلة للسياسة.
إن الخطأ السياسي يمكن إصلاحه، ولكن أخطاء العدالة يستحيل جبرها، لأنها تمس بجوهر الإنسان نفسه، وفي ذات الوقت تدمر مجد الأمم.
تريدون النظام والأمن، ونحن كذلك، لكن النظام لا يجب أن يكون نظام السجون ولا الأمن أمن القبور".
وقد قدم الزعيم الكبير الأستاذ سعد زغلول إلى وفد من طلبة الحقوق بالقاهرة بمناسبة زيارتهم له النصيحة الغالية التالية:
"قد هيأتم لي فرصة أحدثكم فيها عن الصدق وفضيلته وحسن أثره، خصوصا بالنسبة للمحاماة التي تعدون أنفسكم لمزاولتها. توهم البعض أن البراعة في المحاماة تكون بالقدرة على قلب الوقائع ، وتمويه الحقائق ـ ولبس الحق بالباطل، ولكنه وهم فاسد، لأن الصدق أساس المحاماة وحليتها، وكلما كان المحامي صادق اللهجة شريف النزعة، كان أثره في المحاماة محمودا، ونجاحه مضمونا، ولا ينبغي للمحامي أن يؤجر ذمته لموكله، وأن يقف من القاضي موقف العامل على إخفاء الحق وإظهار الباطل بل يجب أن يقف منه موقف الباحث عن الحقيقة المنير لطريق العدالة، وأن يكون حريصا على اكتساب ثقة القاضي، لأن هذه الثقة هي أساس نجاحه في عمله. وبهذه المناسبة يقول ـ الأستاذ زغلول ـ أسوق لكم شاهدا وقع لبعض المحامين في زمن اشتغالي بالمحاماة، وقد كان معروفا بوفاء الذمة وصدق القول، ودافع أمام محكمة الاستئناف عن متهم كان محكوما عليه بالإعدام، وفند جميع الأدلة التي بني عليها الحكم الابتدائي تفنيدا تاما، غير أن المقرر في القضية أثناء المداولة مع إخوانه، خالف رأي المحامي، وقال أن كل ما أتى به في دفاعه مغالطة، أما زملاؤه فكانوا يعهدون في المحامي غير ذلك فاضطروا إلى أن يقرأ القضية كل واحد منهم، ثم أجمعوا رأيهم على مخالفة زميلهم المقرر، والحكم ببراءة المتهم.
فانظروا ـ يقول الأستاذ زغلول ـ صدق المحامي في أراء القضاة، وكيف نجى بصدقه موكله من الإعدام، فكونوا مثالا للصدق ووفاء الذمة تنفعوا فنكم".
وهذا المحامي الإيطالي بييرو كالمندري مؤلف الكتاب "قضاة ومحامون" يقول ما يلي:
"ياله من يوم، يوم شعرت فيه بأنني في أوج مجدي ونجاحي ! يوم شعرت فيه بحب القضاة وودهم إذ جلست على مقعدي في قاعة الجلسة بعد أن أتممت مرافعتي ! لقد ابتسموا لي بتقدير واعتزاز، ولمست عاطفة عميقة دافئة تنساب من عيونهم فتضمني وتحوطني ! وبدا لي كأنهم يودون لو بسطوا أذرعهم إلي فاحتضنوني وضموني إلى صدورهم.
ولكن لماذا حدث كل ذلك؟ مازلت أذكر تماما ما حدث، لقد وقفت لأترافع أمام قضاة مجهدين، فاتجهت إليهم، واكتفيت بأن قلت: "ليس لدى الدفاع ما يضيفه ! وجلست !".
وقد علق أحد القضاة الإيطاليين على مرافعة محام اتسمت بالبلاغة والروعة بأنه أخذ بموطن الجمال فيها لدرجة أحالت إعجابه (بشكلها) إلى تشكك في (مضمونها)، حيث قال القاضي:" لقد أحسست إزاءها بما تحس به إذ تصادف وردة بلغت من الجمال والكمال حدا بحيث يبدو لك جمالها مصنوعا لا مطبوعا".
كما تحدث أحد القضاة الإيطاليين كذلك عن بعض ذكرياته عن العلاقة بين النوم وبين مرافعات بعض المحامين المجهدة فقال:" ليس صحيحا أن النوم مخاتل غدر ! وأنه يستطيع أن ينقض علينا فيحتوينا من حيث لا نشعر، فالحقيقة أن النوم ينذرنا بمقدمه في الوقت المناسب، والمستمع إلى الخطيب المسهب يعلم أنه موشك على السقوط في أسر النوم، حينما تبدأ معاني الكلمات في الاهتزاز في ذهنه ثم تغمض، ثم تختفي ولا يبقى إلا الرنين الذي يحدثه الصوت، ومع أن هذا الرنين يظل واضحا في الأسماع، فإن نغماته تختلط وتتداخل فلا يبقى منها إلا تلك الرتابة المتصلة الحائكة اللون التي تشبه نغمات أرغول مروض الثعابين، أو عند هذه المرحلة التي تتحلل فيها الكلمات فتذوب في مجرد نغم متصل رتيب، ولا شيء غير ذلك عندئذ يستطيع المستمع أو ـ المنوم ـ أن يدرك إذا كان حصينا ـ إنه في مواجهة قوة ساحرة جبارة لن تلبث حتى تتغلب على مقاومته".
وقد تحدث قاض من القضاة الإيطاليين ممن عرفوا بحسن الفكاهة إلى أستاذ الإجراءات الجنائية في إحدى الجامعات فقال له:
"إنك تضيع حياتك شارحا لطلابك إجراءات المحاكمة، وكيف يجب أن تكون ولقد وددت لو أنك غيرت أسلوبك فشرحت لهم هذه الإجراءات كما لا ينبغي أن تكون... إنك لو فعلت ذلك لأخرجت المحاكم محامين أفضل.
قل لطلابك مثلا أن قاعة المحكمة ليست مسرحا لاستعراض المواهب والقدرات، وإنها ليست واجهة محل تجاري للإعلان عن البضائع الموجودة فيه، وأنها ليست قاعة محاضرات، وأنها ليست حفلة استقبال "صالون" يتبادل فيها الزوار المجاملات الاجتماعية، وأنها ليست ناديا للعب الشطرنج... !
وعقب الأستاذ بصوت خافت:
"وسأقول لهم أيضا أنها ليست غرفة للنوم !
مناقشة تساؤل الفكرة
فمن زاوية أولى:
يمكن القول بأن دور المرافعة في الدفاع قد عرف تقلصا ملحوظا على مستوى الممارسة بخصوص القضايا ذات المسطرة الشفوية كالاستعجال والكراء والجنحي العادي... حيث حل محل المرافعات الشفوية الاكتفاء بمذكرات كتابية ليس إلا. إضافة إلى أنه حتى في حالة إلقاء بعض المرافعات فإن أغلبها لا يرقى إلى المستوى المطلوب شكلا ومضمونا. وواقعا وقانون... وهذا الحكم يسري كذلك حتى على مرافعات ممثل النيابة العامة الذي يعتبر محاميا بغير حماسة المحامين، وقاضيا بغير حيدة القضاة، حيث نجده يقتصر في مرافعاته على مجرد تأكيد الملتمس الرامي إلى الإدانة أو تطبيق القانون أو مجرد المعارضة في طلب ما...؟ دون توضيح السبب... بل نجد ممثل النيابة العامة لا يجرؤ حتى على الوقوف من مقعده، باعتباره قاضيا واقفا، وبالأحرى الرد بشكل مقنع على ما يرد من ملاحظات ودفوعات أثناء إلقاء المرافعة...؟
من زاوية ثانية:
إن تكدس القضايا بالمحاكم بشكل لا يتناسب والوقت المخصص لها للبث فيها، وكذلك قلة الأطر من قضاة... مع قلة النزاهة والتجرد وعدم الاستقلال وضعف التكوين، والتكوين المستمر، وانعدام المراقبة...
ونفس الشيء بالنسبة لمساعدي القضاء من محامين وخبراء وأطباء وأجهزة كتابة الضبط... كل ذلك في حاجة ماسة وملحة إلى عملية تطهيرية وللتكوين اليومي المستمر، حيث على المحامي على سبيل المثال أن يكون قاضي نفسه ـ قاضي تحضير ـ مصفاة لكل قضية، قبل أن تعرض على القضاء...
وأن أي مرافعة كتب لها أن تلقى في الظروف أعلاه فإن مصيرها الضياع، حيث توجه في الأخير لجدران المحكمة وللجمهور ليس إلا، ولا أدل على ذلك من عدم تضمين الأحكام للأفكار الرئيسية للمرافعة، عدا الكلمة القصيرة المتداولة ألتمس الدفاع ـ البراءة ـ أو ـ الإدانة ـ.
كما يؤكد ذلك أيضا عدم ثقة المتقاضي بالمحامي بالرغم من توكيله له، حيث نجد معظم المتقاضين يطلبون من دفاعهم أرقام القضايا بالمحكمة وتاريخ الجلسة خاصة ـ جلسة الحكم ـ مع اسم القاضي المقرر... !.
وإن الوضعية المذكورة أعلاه تعتبر من أتعس أيام حياة المحامي، حيث يجد نفسه قد أقصي من الدفاع من حيث لا يشعر... والحال أنه يمارس لكن كممثل فقط !.
وأعتقد جازما أن جسم العدالة واحد، وأي عضو فيه يصاب بشلل ما فإن سائر الأعضاء ستصاب بالعدوى، فالمسؤولية جسيمة وجماعية، والكل راع... ونصيحتي لنفسي ولكل من يهمه الأمر هي نصيحة الشاعر:
ومن رعى غنما بأرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
ومن زاوية ثانية:
إن اليوم الذي يتحقق فيه إغلاق المحاكم لأبوابها، ببزوغ عهد جديد لا جنوح فيه للإجرام من طرف الأفراد والجماعات، يوم يغلب فيه الخير على الشر، ذلك اليوم وحده هو الذي يمكن فيه القول بأن الدفاع قد استراح من المرافعة بالمحاكم، لكن دوره الفعال لن ينتهي أبدا في مجال كل تنمية ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية لأي نظام ديموقراطي ذي حضارة إنسانية.
وكما قال الأستاذ جان شارل لوكران في كتابه:" العدالة وطن الإنسان": فهيهات أن يتحقق ذلك الحلم الذي تصل فيه العدالة إلى منتهى السعادة لكل مواطن في وطنه... !
المراجع:
*كتاب: قضاة ومحامون: لمؤلفه بيبرو كالمندري، عالم فقيه إيطالي، وترجم الكتاب إلى الإنجليزية ثم إلى العربية من طرف الأستاذ حسن جلال العروسي، المحامي الأديب المصري.
*كتاب: العدالة وطن الإنسان لمؤلفه الفرنسي: جان شال لوكران المحامي الكبير بالمغرب إبان الاستعمار الفرنسي.
*المجلات القانونية مجلة المحاكم المغربية الأعداد من 1 إلى 30 (حول كنوز المحاماة).
*المنجد في اللغة والإعلام.
مجلة المرافعة
محام لدى هيئة المحامين بأكادير
تقديـم:
منذ أن وجد القضاء في المجتمعات المتحضرة وجدت معه المحاماة ليدافع أهلها عن أصحاب الحقوق أمام القضاء، ولا يمكن لهذا الأخير بتاتا أن يتبين وجه الحق فيما يثار أمامه من خصومات ذات شأن إلا بالمساعدة من المحامي الباحث والمجهز لعناصر الدعوى واقعا وقانونا والموضح لحقائقها وأسرارها مهما كانت وضعية الطرف الذي ينوب عنه في النزاع.
src="http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ads.js">
لذلك فالمحاماة هي عون القضاء في الوصول إلى الحكم بالعدل وكلاهما يسهم من مركزه بقدر معلوم في إقامة العدالة في المجتمع لبناء ذلك الصرح الشامخ الذي هو الركيزة الأساسية لكل حضارة إنسانية.
ولاشك أن الصلة الروحية التي تربط بين القضاء والمحاماة نابعة من اعتبارهما توأمين في أسرة واحدة تعمل لهدف واحد هو خدمة الحق والعدل والقانون.
ولعل أي متأمل لمستوى القضاء والمحاماة في أية أمة من الأمم يجده متقاربا أو متشابها ويؤثر ويتأثر كل واحد منهما بالآخر، حيث أن كل تقدم في المحاماة يظهر مثله في عالم القضاء وكل تقدم في القضاء يظهر صداه في دنيا المحاماة، والعكس بالعكس ولا غرابة في ذلك، فكلاهما من بيئة واحدة هي بيئة العدالة والقانون.
src="http://pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ads.js">
وأي محاولة لتصور قضاء بلا محاماة، أو محاماة بدون قضاء، تبدو مستحيلة وعديمة الجدوى، لذلك فلا غنى لأحدهما عن الآخر فهما شريكان في إقامة ميزان العدالة وفي الثقافة وفي الحياة القانونية وفي العمل، مع توزيع في نواحي العمل بينهما، كذلك هما شريكان في التضحية، فللمحاماة ضحاياها من المحامين، وللقضاء ضحاياه من القضاة، فكم من محامين ضحوا بعصارة حياتهم وأضناهم الجهد الشاق فسقطوا ضحايا مهنتهم الشريفة دون أن يعلم بتضحياتهم تلك إلا القليل، وكم من قضاة ضحوا كذلك بصحتهم وعمرهم في أداء مهمتهم السامية يرهقهم العمل المتواصل حتى استشهدوا في ساحة القضاء.
وأن للقضاء دستوره وتقاليده، كما وأن للمحاماة دستورها وتقاليدها وبأداء كل واحد منهما لواجباته يستقيم ميزان العدل ويطمئن الناس على حقوقهم، وأي تقصير أو إهمال من أحد الطرفين يجعل الميزان مختلا في كفتيه، فيسود الظلم والفساد والفوضى وتضيع الحقوق.
وإن مهنة المحاماة مهنة عريقة كالقضاء، نبيلة كالفضيلة ضرورية كالعدل وقد وصفها:
فولتير، بأنها:" أسمى مهنة في الوجود" فهي مهنة: علم وخلق ـ ونجدة وشجاعة ـ وثقافة وتفكير، ودرس وتمحيص، وبلاغة وتذكير، ومثابرة وصبر، وثقة في النفس واستقلال في الحياة، وأمانة واستقامة، وتضحية وتفان، وإخلاص في الدفاع عن الحقوق والحريات في إطار دولة الحق والقانون.
وليس غريبا عن هذه المهنة التي سميت بمهنة ـ الجبابرة ـ لسمو وشرف رسالتها أن يحلم بها ملك فرنسا لويس الثاني عشر، حيث قال في شأنها:" لو لم أكن ملكا لفرنسا لوددت أن أكون محاميا في بوردو"، وكم من وزير ورئيس جمهورية في تاريخ المحاماة عاد إليها بعد اعتزال لعمله بتشوق ولهفة كبيرين.
وأن ميدان المحاماة ميدان متسع وأي متسع لتحقيق كل هدف خليق بأن يتحقق وهذا سر عظمتها، ولكنها بالمقابل تعتبر أشق المهن وأقساها. مسيرتها مليئة بالمخاطر والمهالك والعراقيل، حيث نجد أن وظائف المحامي لا تقتصر على المشورة والمرافعة والعمل بالمكتب، وإنما تسمو واجباته ومسؤولياته كثيرا عن تلك الجهود التي تبذل لكسب العيش، وكذلك المطالبة بالمساهمة في تحسين القانون والمحاكم والمشاكل المهنية، بل لابد من أداء واجبه في تكوين الرأي العام.
وقد قبل باتفاق في حق المحامي الذي تبدأ أفكاره المهنية وتنتهي بموكله ليس إلا صورة ساخرة جديرة بالرثاء لما يجب أن يكون عليه المحامي العظيم حقا.
فن المرافعة ودورها في الدفاع
إن من بين أساليب الدفاع ـ المرافعة ـ والتي تساءل النقيب (شينو) عما إذا كانت المرافعة علما، أو فنا، أجاب أنه لا يدري، ولكن الذي يعرفه أن إتقان المرافعة يزداد صعوبة كلما ازداد المحامي تجربة وعلما.
وأضاف: أننا طوال حياتنا نتردد على مدرسة المحاماة وأساتذتها يدرسون في نفس الوقت الذي يعلمون فيه الآخرين.
كما أن الأستاذ يموري باكنز المحامي الذي يعتبر من المتخصصين في المرافعات القضائية استهل موضوعه هذا ـ أساليب المرافعة ـ بالقول:" إنني لا أعتقد أن من مصلحة المحامي أن يكتب أو يملي مرافعة يتوقع إلقاءها، بل عليه أن يكون دارسا تماما لموضوعه، وأن يضع النقط التي يعتزم التحدث عنها، وماعداه يجب أن يكون مرتجلا، وأن يضحي بالدقة، ونوع الأسلوب الذي كان يستعمله لو أراد كتابة مقال لمجلة، فبهذا الثمن وحده يستطيع أن يشتري ذلك الإحساس التلقائي والاستجابة الطبيعية.
وإن طلاقة اللسان إذا توفرت لرجل يتمتع بصفات أخرى أكثر أهمية للمحامي المترافع، فإنها تصبح رصيدا ضخما، أما في ماعدا ذلك فإنها تصبح عبئا.
إن على المحامي أن تتوافر لديه حساسية عقلية وعاطفة مرهفة إذ ينبغي أن يعرف ما يدور حوله، وأن يكون قادرا على أن يستمع ويفكر في وقت واحد، وأن يملك القدرة على سرعة التفكير وسرعة البت في الأمور، فمهما تكن مقدرته فلن يستفيد شيئا من وصوله إلى المحطة بعد أن يفوته القطار.
فقد ترافع مونتاني في شبابه فرفع صوته. فقال له رئيس الجلسة "خفض صوتك" فقال مونتاني: صوتي وطبقته متفقان مع ما أحس به. أنا وحدي الذي أحدده لأنني أريد أن يمثلني أصدق تمثيل، فإن للمتملق صوتا، وللدرس صوتا، وللشكوى والثورة صوتا آخر، وقال الرئيس: إذا خفضت صوتك استطاع خصمك أن يسمعك، فقال مونتاني: ولكني لا أكتفي بأن يصل صوتي إلى سمعه، أريده أن يقرع أذنه ويخترقها.
كما استهل المحامي: جون إنجلز دفاعه عن (مادلين سميت) في قضيتها الكبرى بكلمة سهلة ممتنعة حيث قال: سادتي إن التهمة الموجهة للسجينة هي القتل وعقوبة القتل هي الإعدام. وهذا وحده كاف ليوحي لكم بالطابع الكئيب للمناسبة التي جاءت بي وبكم للوقوف وجها لوجه.
فالوضوح وحسن التعبير أفيد للترافع من قوة الحجة. ولا قيمة لهذه الأخيرة إذا لم يحسن المترافع شرحها، أو لم يتم الإدلاء بها في الوقت المناسب ليزداد أثرها، ونفس الشيء بالنسبة لوقت التدخل ووقت التزام الصمت.
كما اعتبر البعض المرافعة سلاحا للمحامين، حيث حرصوا دائما أن يكونوا أحرارا في مرافعاتهم لا يسمحون بأي توجيه من موكلهم ولا من القضاء بل يؤدون رسالتهم حسب ما تمليه عليهم ضمائرهم، ولولا حرية الدفاع لضاعت الحقوق.
وقد قال بيرونيه بهذا الصدد في تقريره إلى لويس الثامن عشر:" أن مهنة المحاماة تجمع بين النبل والسمو، وتحمل من يريدون النهوض بها بما تستحقه من امتياز تضحيات كبيرة، وهي ضرورة للدولة بما تزيله مناقشات المحامين من غموض فتهيئ للمحاكم إصدار أحكامها... ولولا حرية المحامين في أن يناقشوا وينتقدوا أحكام القضاء نفسه، لتكررت الأخطاء وتراكمت... فالمحامون هم روح العدالة الأولية، وإذا كانوا لا يكتبون الأحكام، فإنهم يعدون لها ببحوثهم، فيقدمون للقضاء المادة الأولية لصناعته وكثيرا ما يقتصر عمل القاضي على الأخذ بإحدى النظريتين اللتين يقدمهما الدفاع أو أن يوفق بينهما".
وهذا ـ برييه الكبير ـ يصرح في وجه محكمة الثورة الفرنسية بما يلي:" إنني أتقدم إليكم بالحقيقة ورأسي تصرفوا في إحداهما بعد أن تستمعوا للأخرى".
وهذا النقيب لوبوي يضع حدود العلاقة بين النيابة العامة والمحاماة في وضعها الصحيح ويرد على اتهام النيابة العامة له بتجاوز الحدود المسموح بها بقوله:" لقد شكا المحامي العام من حدة الكلام الذي وجهته له... ليس مطلوبا مني أن أبرز حدتي في المرافعة، فإنني أعتقد أنها كانت في أنواع الاحترام ذلك الذي يصدر حرا ومن تلقاء ضميري للرسالة التي أؤديها... وأن تقديري الشخصي لا خلاصه وكفاءته وإن كان لا يستطيع أن يطلب مني أن يمتد احترامي وتقديري إلى مرافعته وحججه، ولست مطالبا بالنسبة إليهما بالاحترام ولا بالتقدير، بل ولا بالرعاية ، وإنما جئت هنا لأحاربهما وأهاجمهما...".
ويقول دي موروجيا فري أن الحكم على المتهم بالإدانة هم من عمل القاضي أما مهمتي فهي الدفاع".
وقال شيشرون:" إنه يجب أن تكون لدى المحامي الشجاعة الكافية ـ التي لا تهزم ـ لكي لا يخفي الحقيقة مهما تكن".
وهذا موقف أحد المحامين أثناء الجلسات يعبر عنة حضور البديهة، فلقد أخذ المحامي العنيد يسترسل في المرافعة والقاضي يحاول عبثا إسكاته، وأخيرا قال له: ما فائدة الاستمرار، مع علمك بأن الكلمة الأخيرة لي؟ ونظر المحامي إلى القاضي نظرة أدرك منها القاضي خطأه، فأراد أن يخفف من وقع كلماته فقال له: أعني أن الكلمة الأخيرة هي للحكم فقال أحد المحامين بالجلسة بصوت مسموع:" القابل للاستئناف".
وقد قال ليون جرين عميد كلية الحقوق بجامعة تورث ديسترن حين تحدث إلى المتخرجين، إذا كان لي ما أوصيكم به لتحققوا رسالتكم، فهو أن تنشدوا المعرفة العامة الشاملة، فاللغة وآدابها تعطيكم القدرة على التعبير الدقيق الذي بدونه لا تقوم المحاماة.
وقال: اللورد ماكميلان:" إن المحامي الذي يقتصر عمله على القوانين واللوائح غير جدير بأن يوصف بأنه محام مثقف فكل نواحي الحياة، وما من نشاط إنساني إلا والمفروض أن يكون للمحامي فيه رأي...".
وخاطب الأستاذ جان شارل لوكران المحامي الشهير أيام المقاومة المغربية ضد الاستعمار الفرنسي وهو يرد على اتهامات النيابة العامة بما يلي:
"... لا تجهلون أن القمع يخلق الرعب، والرعب يؤدي إلى الحقد، والحقد إلى العنف، والعنف إلى القمع...".
كما رد كذلك على الرئيس بقوله:" أنتم تحكمون ونحن ندافع، لكن عدالتكم لا ينبغي أن تكون صورية، ولا يمكن أن تكون نفاقا بزي الوقار... ومن الآن لا يوجد إلا واجبان: واجبنا في الدفاع، وواجبكم كقضاة. إنهما لا يتعارضان ولكن يتكاملان، واجبان تجسمهما بذلة كل منا، أنتم ببذلتكم الحمراء، ونحن ببذلتنا السوداء، بذلتكم التي تعبر عن رمز الانضباط والنظام، ونحن ببذلة أكثر تواضعا، تجسم الحرية، حرية التفكير، وحرية الكلمة وحرية الدفاع كاملة.
إن بذلتنا لن تقبل تجاه أي كان، لا التسخير ولا الخضوع أو الخنوع، السياسة لا نمارسها هنا، بل نقوم بتقدير الاتهامات والإثبات . العدالة لا يسوغ أن تكون وسيلة للسياسة.
إن الخطأ السياسي يمكن إصلاحه، ولكن أخطاء العدالة يستحيل جبرها، لأنها تمس بجوهر الإنسان نفسه، وفي ذات الوقت تدمر مجد الأمم.
تريدون النظام والأمن، ونحن كذلك، لكن النظام لا يجب أن يكون نظام السجون ولا الأمن أمن القبور".
وقد قدم الزعيم الكبير الأستاذ سعد زغلول إلى وفد من طلبة الحقوق بالقاهرة بمناسبة زيارتهم له النصيحة الغالية التالية:
"قد هيأتم لي فرصة أحدثكم فيها عن الصدق وفضيلته وحسن أثره، خصوصا بالنسبة للمحاماة التي تعدون أنفسكم لمزاولتها. توهم البعض أن البراعة في المحاماة تكون بالقدرة على قلب الوقائع ، وتمويه الحقائق ـ ولبس الحق بالباطل، ولكنه وهم فاسد، لأن الصدق أساس المحاماة وحليتها، وكلما كان المحامي صادق اللهجة شريف النزعة، كان أثره في المحاماة محمودا، ونجاحه مضمونا، ولا ينبغي للمحامي أن يؤجر ذمته لموكله، وأن يقف من القاضي موقف العامل على إخفاء الحق وإظهار الباطل بل يجب أن يقف منه موقف الباحث عن الحقيقة المنير لطريق العدالة، وأن يكون حريصا على اكتساب ثقة القاضي، لأن هذه الثقة هي أساس نجاحه في عمله. وبهذه المناسبة يقول ـ الأستاذ زغلول ـ أسوق لكم شاهدا وقع لبعض المحامين في زمن اشتغالي بالمحاماة، وقد كان معروفا بوفاء الذمة وصدق القول، ودافع أمام محكمة الاستئناف عن متهم كان محكوما عليه بالإعدام، وفند جميع الأدلة التي بني عليها الحكم الابتدائي تفنيدا تاما، غير أن المقرر في القضية أثناء المداولة مع إخوانه، خالف رأي المحامي، وقال أن كل ما أتى به في دفاعه مغالطة، أما زملاؤه فكانوا يعهدون في المحامي غير ذلك فاضطروا إلى أن يقرأ القضية كل واحد منهم، ثم أجمعوا رأيهم على مخالفة زميلهم المقرر، والحكم ببراءة المتهم.
فانظروا ـ يقول الأستاذ زغلول ـ صدق المحامي في أراء القضاة، وكيف نجى بصدقه موكله من الإعدام، فكونوا مثالا للصدق ووفاء الذمة تنفعوا فنكم".
وهذا المحامي الإيطالي بييرو كالمندري مؤلف الكتاب "قضاة ومحامون" يقول ما يلي:
"ياله من يوم، يوم شعرت فيه بأنني في أوج مجدي ونجاحي ! يوم شعرت فيه بحب القضاة وودهم إذ جلست على مقعدي في قاعة الجلسة بعد أن أتممت مرافعتي ! لقد ابتسموا لي بتقدير واعتزاز، ولمست عاطفة عميقة دافئة تنساب من عيونهم فتضمني وتحوطني ! وبدا لي كأنهم يودون لو بسطوا أذرعهم إلي فاحتضنوني وضموني إلى صدورهم.
ولكن لماذا حدث كل ذلك؟ مازلت أذكر تماما ما حدث، لقد وقفت لأترافع أمام قضاة مجهدين، فاتجهت إليهم، واكتفيت بأن قلت: "ليس لدى الدفاع ما يضيفه ! وجلست !".
وقد علق أحد القضاة الإيطاليين على مرافعة محام اتسمت بالبلاغة والروعة بأنه أخذ بموطن الجمال فيها لدرجة أحالت إعجابه (بشكلها) إلى تشكك في (مضمونها)، حيث قال القاضي:" لقد أحسست إزاءها بما تحس به إذ تصادف وردة بلغت من الجمال والكمال حدا بحيث يبدو لك جمالها مصنوعا لا مطبوعا".
كما تحدث أحد القضاة الإيطاليين كذلك عن بعض ذكرياته عن العلاقة بين النوم وبين مرافعات بعض المحامين المجهدة فقال:" ليس صحيحا أن النوم مخاتل غدر ! وأنه يستطيع أن ينقض علينا فيحتوينا من حيث لا نشعر، فالحقيقة أن النوم ينذرنا بمقدمه في الوقت المناسب، والمستمع إلى الخطيب المسهب يعلم أنه موشك على السقوط في أسر النوم، حينما تبدأ معاني الكلمات في الاهتزاز في ذهنه ثم تغمض، ثم تختفي ولا يبقى إلا الرنين الذي يحدثه الصوت، ومع أن هذا الرنين يظل واضحا في الأسماع، فإن نغماته تختلط وتتداخل فلا يبقى منها إلا تلك الرتابة المتصلة الحائكة اللون التي تشبه نغمات أرغول مروض الثعابين، أو عند هذه المرحلة التي تتحلل فيها الكلمات فتذوب في مجرد نغم متصل رتيب، ولا شيء غير ذلك عندئذ يستطيع المستمع أو ـ المنوم ـ أن يدرك إذا كان حصينا ـ إنه في مواجهة قوة ساحرة جبارة لن تلبث حتى تتغلب على مقاومته".
وقد تحدث قاض من القضاة الإيطاليين ممن عرفوا بحسن الفكاهة إلى أستاذ الإجراءات الجنائية في إحدى الجامعات فقال له:
"إنك تضيع حياتك شارحا لطلابك إجراءات المحاكمة، وكيف يجب أن تكون ولقد وددت لو أنك غيرت أسلوبك فشرحت لهم هذه الإجراءات كما لا ينبغي أن تكون... إنك لو فعلت ذلك لأخرجت المحاكم محامين أفضل.
قل لطلابك مثلا أن قاعة المحكمة ليست مسرحا لاستعراض المواهب والقدرات، وإنها ليست واجهة محل تجاري للإعلان عن البضائع الموجودة فيه، وأنها ليست قاعة محاضرات، وأنها ليست حفلة استقبال "صالون" يتبادل فيها الزوار المجاملات الاجتماعية، وأنها ليست ناديا للعب الشطرنج... !
وعقب الأستاذ بصوت خافت:
"وسأقول لهم أيضا أنها ليست غرفة للنوم !
مناقشة تساؤل الفكرة
فمن زاوية أولى:
يمكن القول بأن دور المرافعة في الدفاع قد عرف تقلصا ملحوظا على مستوى الممارسة بخصوص القضايا ذات المسطرة الشفوية كالاستعجال والكراء والجنحي العادي... حيث حل محل المرافعات الشفوية الاكتفاء بمذكرات كتابية ليس إلا. إضافة إلى أنه حتى في حالة إلقاء بعض المرافعات فإن أغلبها لا يرقى إلى المستوى المطلوب شكلا ومضمونا. وواقعا وقانون... وهذا الحكم يسري كذلك حتى على مرافعات ممثل النيابة العامة الذي يعتبر محاميا بغير حماسة المحامين، وقاضيا بغير حيدة القضاة، حيث نجده يقتصر في مرافعاته على مجرد تأكيد الملتمس الرامي إلى الإدانة أو تطبيق القانون أو مجرد المعارضة في طلب ما...؟ دون توضيح السبب... بل نجد ممثل النيابة العامة لا يجرؤ حتى على الوقوف من مقعده، باعتباره قاضيا واقفا، وبالأحرى الرد بشكل مقنع على ما يرد من ملاحظات ودفوعات أثناء إلقاء المرافعة...؟
من زاوية ثانية:
إن تكدس القضايا بالمحاكم بشكل لا يتناسب والوقت المخصص لها للبث فيها، وكذلك قلة الأطر من قضاة... مع قلة النزاهة والتجرد وعدم الاستقلال وضعف التكوين، والتكوين المستمر، وانعدام المراقبة...
ونفس الشيء بالنسبة لمساعدي القضاء من محامين وخبراء وأطباء وأجهزة كتابة الضبط... كل ذلك في حاجة ماسة وملحة إلى عملية تطهيرية وللتكوين اليومي المستمر، حيث على المحامي على سبيل المثال أن يكون قاضي نفسه ـ قاضي تحضير ـ مصفاة لكل قضية، قبل أن تعرض على القضاء...
وأن أي مرافعة كتب لها أن تلقى في الظروف أعلاه فإن مصيرها الضياع، حيث توجه في الأخير لجدران المحكمة وللجمهور ليس إلا، ولا أدل على ذلك من عدم تضمين الأحكام للأفكار الرئيسية للمرافعة، عدا الكلمة القصيرة المتداولة ألتمس الدفاع ـ البراءة ـ أو ـ الإدانة ـ.
كما يؤكد ذلك أيضا عدم ثقة المتقاضي بالمحامي بالرغم من توكيله له، حيث نجد معظم المتقاضين يطلبون من دفاعهم أرقام القضايا بالمحكمة وتاريخ الجلسة خاصة ـ جلسة الحكم ـ مع اسم القاضي المقرر... !.
وإن الوضعية المذكورة أعلاه تعتبر من أتعس أيام حياة المحامي، حيث يجد نفسه قد أقصي من الدفاع من حيث لا يشعر... والحال أنه يمارس لكن كممثل فقط !.
وأعتقد جازما أن جسم العدالة واحد، وأي عضو فيه يصاب بشلل ما فإن سائر الأعضاء ستصاب بالعدوى، فالمسؤولية جسيمة وجماعية، والكل راع... ونصيحتي لنفسي ولكل من يهمه الأمر هي نصيحة الشاعر:
ومن رعى غنما بأرض مسبعة ونام عنها تولى رعيها الأسد
ومن زاوية ثانية:
إن اليوم الذي يتحقق فيه إغلاق المحاكم لأبوابها، ببزوغ عهد جديد لا جنوح فيه للإجرام من طرف الأفراد والجماعات، يوم يغلب فيه الخير على الشر، ذلك اليوم وحده هو الذي يمكن فيه القول بأن الدفاع قد استراح من المرافعة بالمحاكم، لكن دوره الفعال لن ينتهي أبدا في مجال كل تنمية ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية لأي نظام ديموقراطي ذي حضارة إنسانية.
وكما قال الأستاذ جان شارل لوكران في كتابه:" العدالة وطن الإنسان": فهيهات أن يتحقق ذلك الحلم الذي تصل فيه العدالة إلى منتهى السعادة لكل مواطن في وطنه... !
المراجع:
*كتاب: قضاة ومحامون: لمؤلفه بيبرو كالمندري، عالم فقيه إيطالي، وترجم الكتاب إلى الإنجليزية ثم إلى العربية من طرف الأستاذ حسن جلال العروسي، المحامي الأديب المصري.
*كتاب: العدالة وطن الإنسان لمؤلفه الفرنسي: جان شال لوكران المحامي الكبير بالمغرب إبان الاستعمار الفرنسي.
*المجلات القانونية مجلة المحاكم المغربية الأعداد من 1 إلى 30 (حول كنوز المحاماة).
*المنجد في اللغة والإعلام.
مجلة المرافعة