ازدواج النص القانوني خرق للسيادة الوطنية وتعويق لسير القضاء
الأستاذ احمد باكو
محام بهيئة الدار البيضاء
ان التعريب بمعناه الشامل لجميع مرافق الحياة كله بهذا المعنى العام من الاولويات الا ان المناسبة هي التي فرضت هذا العنوان المرتبط بالتشريع والتوثيق والقضاء ومرفق القضاء والمحاكم .
والمناسبة هي " الايام الدراسية حول قانون الاعمال"، التي نظمتها هيئة المحامين بالدار البيضاء وبرمجتها الايام 17-18-19 ابريل98 بقصد بحث ومناقشة النصوص الجديدة التي اصدرتها الدولة بغاية وضع قانون عصري لاعمال التجارية التي حققت بموضوعها ومناسبتها وغزارة موادها، نجاحا جديرا بالثناء والتنويه، لولا ان القاء بعض العروض بالفرنسية حرم الكثيرين من استيعاب كل ما برمجته من مسائل انية كان يجب ان تعم بها الفائدة من غير عائق .
لقد كشفت الابحاث والدراسات التي القيت وسمعت من الحاضرين، عن خلل ونقص عائب اجمع ليه المتكلمون والمستمعون الذين تدخلوا للمناقشة او كادوا، وهو فساد النصوص القانونية العربية او ترجمتها الموضوعة لهذه النصوص، من حيث الصياغة والمفردات والجمل المستعملة للتعبير عن المعاني المقصودة ومن حيث العبارة المصطلحات الموظفة لهذه الغاية، ومن حيث وجود تضارب او تناقض بينها وبين النصوص الفرنسية الموازية او الاصلية التي جاءت في اغلبها سليمة من هذه النواقص والعيوب .
وهذا الذي كشفته المناسبة ليس جديدا يلاحظ لاول مرة، بل هو ظاهرة قديمة عامة لا تخص النصوص التجارية الجديدة، بدات مع عهد الحماية وظلت قارة بعد الاستقلال لا تزداد بمرور ايامه الا استفحالا واستقرارا .
فقد ظل القضاء المغربي يعاني من ازدواج لغة التشريع وتضارب النصوص القانونية العربية مع النصوص الفرنسية، وتناقضها احيانا وظل القضاة يعانون من حيرة محرجة في شان الحل الذي يجب الاخذ به للعلاج والخروج من الاشكال، حين يجدون انفسهم امام معنيين للقانون يقدم احدهما نصه العربي ويقدم الاخر نصه الفرنسي، فيكون اختيار احدهما ونبذ الاخر امرا لا مفر منه .
والحيرة كما هو واضح ناتجة عن انه اذا كانت مقتضيات السيادة تحتم اعمال النص العربي، فان النص الفرنسي يكون احيانا هو الحامل للمعنى الصحيح والمعنى المراد او المطابق للحال، والمحقق للانصاف الذي يجب على المحكمة ان تتوخاه في حكمها .
ان من الكوارث الدالة على التخلف الكبير لبلادنا ان اتى اليوم وبعد مضي حوالي نصف قرن على الاستقلال، لأكتب في الموضوع واقول الكلام الذي سيطلع عليه القارئ فيما يلي في هذا البحث، واعالج معضلة ظلت تصاحبنا منذ عهد الحماية، والحال انها كانت يجب ان تزول مع انتهائها سنة 1956 او بعد تعريب وتوحيد القضاء سنة 1965 على الاكثر .
ولكن المعضلة ليست كما قلت الا جزءا من معضلة التعريب والفرنسة بوجه عام التي نوسيت واهملت وانتج هذا كل العواقب الطبيعية للاهمال وهي ان يزداد الداء انتشارا حتى يعم ويستقر، وتزداد اضراره وتتضاعف وهو ما وقع بالفعل، حيث يتحدانا واقعنا اليوم باحداث تجمع كل انواع التخلف المادي والمعنوي، التي تفقد الوطن حالته وهويته وتسئ الى سمعته .
ولعل الكثيرين لا يعلمون ان غياب التعريب وانتشار الفرنسة وصل اليوم وبعد مرور حوالي خمسين سنة على الاستقلال، الى اكثر مما كان عليه في عهد الحماية، لان حال العربية كانت احسن وكانت لغتنا القومية احظى بالاحترام والاغزاز والتوقير، وكان الحرص على استعمالها جزءا من السلوك الحسن والاخلاق الوطنية التي يحرص الكل على التحلي بها .
لقد امتد التعجيم الفرنسي اليوم الى مناح لم يصل اليها طيلة نصف القرن الذي استغرقته الحماية ببلادنا، لان العربية اذا كانت في ذلك العهد قد غابت عن الادارة، بعد ان جلس على كراسيها اشخاص يجهلونها ويعادونها، فانها لم تكن غائبة عن الحياة العامة كلها، كما نرى اليوم والامثلة ذلك كثيرة .
واذا كنا تحدثنا عن تضارب النصين العربي والفرنسي في التشريع وهي معضلة موروثة من ايام الحماية، فاننا يجب ان نشير الى انه باهمال التعريب بعد الاستقلال، ظهرت عواقب اخرى لذلك، لم يكن لاسلافنا الذين عاصروا ايام الحماية بها عهد ، تدل على الاستفحال والانتشار الذي نتحدث عنه .
من ذلك مثلا تعجيم اسماء المواطنين الذين اصبح الكثيرون منهم يحملون القابا عائلية ممسوخة لا معنى لها بسبب تدوينها بالحرف اللاتيني، ثم نقلها عنه الى العربية، لتختفي منها الحروف التي تمتاز بهما لغتنا مثل الضاد والقاف والعين والهاء او رسمها في مدودها بالحروف لنجد في الاسم الفات او ياءات او واوات مقحمة عليه، فلا يبقى من عربية هذه الاسماء شيء .
والامثلة كثيرة لابد ان ناتي على نماذج منها مثل ريضا بلاد من رضى ودامير او ضامير من ضمير وناسر الدين من ناصر الدين والهيلالي من الهلالي وراشيد من راشد او رشيد وجوهاري من جوهري وكوثار ومن كوثر وموكريم ومكرم وعبد القاوي من عبد القوي بوشرة من بشرى ونور الهودة من نور الهدى !
والامثلة كثيرة تدل النماذج التي سقناها منها بالمصادفة على مدى المسخ الذي فعله الازدواج اللغوي باسمائنا واعلامنا العربية، حيث نجد علما مشهورا مثل ناصر الدين يصبح ناسر الدين بالسين ونجد كلمة عظيمة مثل الهدى تنقلب الى الهودة وكذا الحال في بشرى بوزنها المعروف تصري الى هذه الصيغة المدهشة باقحام الواو والتاء عليها .
ان هذه التشويهات في اسماء الناس التي تشبه ما يحدث لاجسامهم في حوادث الشغل والسير من عاهات، لم يكن للناس بها عهد ايام الحماية، بل هي من ثمار العهد الذي جاء بعدها، وما نتج فيه عن اهمال قضية التعريب والتخلي عنها نهائيا، ليحصل من ذلك ما لابد منه وهو ان يمتد التعجيم الى ابعد مما كان، والى حد الغاء العربية من اسماء المواطنين .
وهذا التشويه اللفظي والمعنوي الذي اصاب اسماء الناس هو ما وقع للتشريعات ونصوصها العربية، حين تترجم عن النصوص الفرنسية باهمال ودون تدقيق. فكما يختفي معنى البشار. من بوشرة والهدى من الهودة والرضى من ريضا كذلك تختفي المعاني المقصودة من النص بالغموض وركاكة العبارة وفساد الصيغة .
وحين يقرا الانسان اليوم بعض النصوص العربية فانه يجد فيها ركاكة واضطرابا وغموضا، يشبه ما تحس به الأذن حين تخرج بعض اعلامنا من افواه الاوربيين يلوكونها بعجمتهم وهم ينطقون محمد واحمد وعبد القادر وعبد الهادي فلا يجد فيها حاء وقافا ولا هاء ولا غينا .
وما اكثر ما كتب الكاتبون من فقهاء وقضاة ومحامين واعادوا، حول الاختلاف او التضارب في النصوص القانونية العربية والفرنسية الناتج عن ازدواج لغة تشريعنا المغربي ولا يكاد يصدر تشريع دون ان تبرز هذه المعضلة امام كل قارئ لها، لتحول بينه وبين الوصول الى المعنى المراد والغاية المقصودة .
وغالبا ما تقترن بالمعضلة اخرى من جنسها تزيدها بلة وميعا، هي ان النص الفرنسي يكون واضح المعنى ظاهره وان العيب او القصور في التعبير يكون في النص العربي الذي لم يهتم الذين استخرجوه بالترجمة بالقيام باي جهد في اختيار العبارة واتقان الصياغة، ومراعاة الخصائص المميزة للعربية لاجتناب الترجمة الحرفية، التي تطبع اغلب التشريعات المعربة وتحيطها بركاكة مزعجة منفرة .
وتتنوع العواقب في الخطورة بحسب موضوع النص القانوني الذي ينظمه من حيث كونه نص جنائيا او مدنيا اجرائيا او موضوعيا او غير ذلك .
وكثيرا ما ينجم عن هذا الاهمال في مراعاة ضوابط الترجمة واتقانها، مآسي تضحك من كثرة ما فيها من فساد وما ادت اليه من عواقب قاتلة تعطيك دليلا على مدى الاهمال الذي يمارس به المكلفون بهذا المرفق وظيفتهم الخطرة هذه، وكذا الاستخفاف الذي يكنونه للذين يعتمدون على النص العربي وحده، لاستخراج الحكم السليم من قضاة ومتقاضين .
ونذكر من ذلك حال المادة 76 من قانون المسطرة الجنائية الخاص بوضع المتهم اثناء استنطاقه امام النيابة العامة، ومدى سلطتها في الامر باعتقاله او تسريحه الى ان يحضر حرا الى المحكمة، حيث كان يتضمن مفارقة مزعجة ظلت سائدة بنشازها الغريب، الى ان زالت بمناسبة التعديلات التي لحقت قانون المسطرة الجنائية سنة 1992 .
لقد كان النص العربي المترجم يوجب على وكيل الملك او نائبه اصدار امر بايداع المتهم بالسجن في حالة وجود شروط ذلك، بينما كان النص الفرنسي المترجم عنه، يجيز له ذلك من غير الزام، بمعنى انه يبقى له، حتى عند توفر الشروط المبررة للاعتقال، ان يسرح المتهم لدواع تقتضيها حالته، لياتي الى المحكمة من منزلة بعد ان يبيت بسريره، من غير ان يقضي يومه وليلته بالسجن وتنقله منه تلك الحافلة المزعجة السيئة السمعة (1) .
انه مثال يعطيك نموذجا للاستهانة التي تعامل بها اللغة القومية من الذين يقومون بانجاز النصوص القانونية العربية، اذ جعلوها طريقا لمن يتمسك بها واستعمالها الى السجن، وتعطيك كذلك نموذجا للتكريم الذي يضفونه على الفرنسية، اذ جعلوها منها طريقا للنجاة من الاعتقال .
لا نقول هذا من باب الخيال او الافتراض المحال اذ ان من نتيجة هذه المفارقة الغريبة، ان وكيل الملك الذي لا يعرف الفرنسية، او يفضل تطبيق النص العربي، سيتعين عليه ان يبادر الى ايداع كل متهم تتوفر فيه شروط التلبس بالسجن، امتثالا لنص قانوني لا يعطيه الخيار في ذلك، كما ان المتهم الذي لا يعرف الفرنسية سيكون محروما من فرصة ثمينة للافلات من هذا الاجراء المزعج وهو الاعتقال الاحتياطي الذي يعني في حقيقته تنفيذ العقوبة الحبسية قبل احكم بها نهائيا، وهو من الاشكالات القانونية المزمنة التي حيرت القانونيين من قديم، وكذا الحال بالنسبة لمحامي المتهم الذي لا بد ان يؤدي اعتماده على النص العربي الى التقصير في الدفاع عن موكله .
وكأني بمن تعرض لتجربة من هذا النوع وافلت من الاعتقال بفضل النص الفرنسي يوشك ان يهتف بحياة الفرنسية وسقوط العربية فياله من كيد عظيم يصيب الوطن في الصميم، الم نقل ان بؤس العربية ازداد بعد انتهاء الحماية وصار الى ما هو اسوا
! !لقد كشفت الايام الدراسية التي تنطلق منها في هذه الكلمة، عن وجود اضرار على هذا الخطا وعلى ترسيخه ليكون تقليدا قارا يعطي تلك النتيجة القبيحة في كل الاحوال، وهي ان تكون الفرنسية هي العمدة في التشريع، وان يكون النص المحرر بها هو المرجع المعتمد عليه لاستخلاص المعنى الموثوق به والمتضمن للإنقاذ مما في النص العربي من غموض ونقص وركاكة منفرة .
فقد لاحظ اكثر من واحد ممن حضروا وناقشوا وجود تضارب او تناقض وغموض في النصوص العربية، لا يرتفع الا بالرجوع الى النص الاجنبي بل لاحظوا وجود اخطاء مادية لم يكلف المحررون انفسهم عناء المراجعة الدقيقة لتلافيها، وكأنهم يضنون على النص العربي حتى بالمراجعة الاخيرة اثناء الطبع .
--------------------
1) قراءة في التعديل الجديد للفصل 76 من قانون المسطرة الجنائية للاستاذ طيب محمد عمر، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 23 فبراير 1992 .
-------------------
ولم يشفع لهذه التشريعات الجديدة المناسبة التي ظهرت فيها والاهتمام الذي نالته من الدولة ورجال القانون والمتقاضين، من حيث كونها تريد ان تبرهن بها على وجود عدالة راقية بنصوصها القانونية ومحاكمها وكل ادواتها الضرورية والكمالية .
وكما حيرت المعضلة المتقاضين والمحامين والفقهاء فقد حيرت القضاء والقضاة حيث يجدون انفسهم امام نصين عربي وفرنسي متضاربين يعوقانهم عن البت بقضاء سليم برفع الخلاف ويحسم النزاع، ويحقق الانصاف لان القاضي لا يمكنه ان يطمئن الى انه قام بواجبه وهو يطبق النص العربي، اذا كان يعلم ان هناك نصا فرنسيا يتضمن معنى اخر، يمكن ان يعطي حلا اخر، ولذلك اختلف الاجتهاد وتضاربت الاحكام، فيما يجب عمله للخروج من الاشكال .
وعندما وصل الخلاف الى المجلس الاعلى، وجد انه ملزم عملا بنصوص الدستور بان يقرر، توحيدا للاجتهاد، ان النص العربي هو العمدة وان نصوصه بدلالاتها وعباراتها هي التي يجب ان تطبق .
الا انه سرعان ما لاحظ ان الخلاف بين النصين قد يتباعد احيانا الى حد كبير، لا يمكن التغاضي عنه والاصرار على اعتماد النص العربي ولذلك رايناه في نوازل اخرى لاحقة، يخرج على هذا ليقرر ان النص الفرنسي، هو ما يجب تطبيقه ناقضا بذلك قرار لمحكمة استئنافية عدل عن النص الفرنسي الى النص العربي، في نزاع كانت فيه احدى شركات التامين طرفا متضررا من ذلك (2).
ولذا فان ما يجب اختياره مراعاة للواقع ومقتضيات العدالة هو الاتجاه اساسا الى اعمال النص العربي، لكن ليس باطراد بل يجب اعمال النص الفرنسي، عندما يتاكد انه المطالب للقواعد العامة والمحقق للانصاف .
والجهاز او المرفق المعني والمختص بالمسالة هو ( الامانة العامة للحكومة) التي خلفت ( الكتابة العامة للحماية)، فهي المكلفة باعداد التشريعات وبتحرير نصوصها العربية والفرنسية، وهي التي تحتم علينا المناسبة ان نحاسبها لنكشف عن مسؤوليتها .
واذا كانت الكتابة العامة للحماية هي التي بدات هذا المنكر المهين للسيادة، فان تمادي الامانة العامة للحكومة في ارتكابه، وابقائه تقليدا مطردا الى الان يجعلها مسؤولة
---------------------
2) الترجيح بين لغتي النص التشريعي والعمل القضائي المغربي، للاستاذ المهدي سوبو، جريدة العلم، ص. المجتمع والقانون العدد 16619-1-3 جمادى الثانية 1416 هـ 1995 .
---------------------
مسؤولية مشددة لانه من ظلم ذوي القربى الذي هو اشد مضاضة، كما قال شاعرنا العربي منذ عنصر الجاهلية .
واظن ان السادة الذين يتولون انشاء التشريعات وتعريب النصوص الفرنسية سمعوا من يردد صاحب اللغة الواحدة اعور فراو ان هذا يقتضي معاملة اللذين لا يعرفون الا العربية بتلك الطريقة التي نصح بها مثلنا الشعبي الذي يوصي من يعامل ذا العين الواحدة بان يكور له من غير يبالي .
ان الاساس الذي ينطلق منه السادة المكلفون في الامانة العامة للحكومة هو ان النص العمدة الذي يجب لان يعول عليه القانونيون هو المحرر بالفرنسية وان التعريب اللاحق هو مجرد فضلة ونافلة لا تستحق اي اهتمام او عناية ولا يجدر باي احد ان يتعب نفسه في اختيار اللفظ والعبارة وتجويد الصياغة .
ان هذا بكل ما فيه من اهانة للغة الوطن، هو ما ينطق به الواقع مع الاسف !
واذا كانت الترجمة في حد ذاتها خيانة كما يقول المثل الاوربي، فان الامانة العامة للحكومة تزيد في تضخيم هذه الخيانة وتمديدها وتوسيعها، لتستجمع اكبر قدر من الاضرار المادية والمعنوية، التي توحي بها الكلمة، وبالها من مفارقة غريبة تجرنا الى ان ندعي الخيانة على الامانة العامة للحكومة
! ! !ومما يجب ان يذكر وهو يزيد في حجم هذا المنكر ان الامانة العامة للحكومة لا تنفرد به لان هناك عدة مرافق ادارية وغيرها، تشاركها فيه، سبق ان راينا مثل لبعضها في الضابطة العامة للحالة المدنية، بما تفعله بالاسماء الشخصية والعائلية للمواطنين من تحريف وتشويه، ناتج كذلك عن ذات المنهج الفاسد وهو ازدواج لغة الصكوك والاصرار على ان الحرف الاجنبي هو الاساس في رسم الاسماء والالقاب وضبطها .
وتقع هذه الاهانة المرة في صورة اخرى في بعض المناسبات القانونية ذاتها، نذكر منها ذلك المثال المشهور الذي تحدثت عنه الصحافة يوم تاسيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان وافتتاحه، ويوم عقد اول اجتماع له، حيث اصر البعض على ان يكون افتتاحه بغير لغة الوطن الرسمية، على الرغم مما له من اهمية وخطورة، وكانه يريد ان يؤسس فيه تقليدا يجعله فرنسي اللغة، لولا ان هناك من تدخل لتغيير المنكر في بدايته، وهو بذرة صغيرة، قبل ان يصبح دوحة ضخمة وارفة الظلال، كما وقع في كل مرافقنا الاخرى .
ويبدو ان إهانة العربية على هذا النحو اصبح لدى الكثيرين هدفا يركضون للوصول اليه، كما يفعل المتنافسون في السباق، حتى اصبح لزاما ان تفاجا بالفرنسية تخاطبك في مكان او مقام ليس فيه ما يبرر ذلك باي وجه .
ففي برامج الطبخ التي تقدمها التلفزة تفاجا بمن يصر على ان يتحدث الى المواطنين عن شؤون المعدة بالفرنسية، ونجد هاهنا ايضا من يريد ان يدعي انه لا يستطيع ان يعبر عن المراد بالعربية ( اعني الدارجة) .
وهكذا عشنا حتى راينا من يريد ان يزعم ان العربية قاصرة عن التعبير حتى عن شؤون الطبخ وعناصره من الزيت والسكر والطماطم والبصل، وليس عن شؤون العلم، في الكيمياء والذرة والفلك فقط، كما كان يقال سابقا، فماذا بقي من اهانة بعد ان اصبح الطباخون يأنفون من الحديث الى المواطنين بلغتهم الوطنية ؟
وهناك مثل اخر لا يجوز اغفاله لانه طرى حديثا وتفرضه المناسبة، لكونه حدث في الايام الدراسية التي كانت سبب ظهور هذا البحث، حيث راينا اول شخص ياخذ الكلام بعد خطب الافتتاح لتقديم اول عرض قانوني، يصر على ان يكون حديثه بالفرنسية، متعللا بان بجانبه شخصية فرنسية يفرض حضورها ان يخاطب الحاضرين جميعا بغلة هذا الضيف .
لقد تاملت فيما وقع فاذا بي امام سلوك كان الاجدار بفاعله ان يربأ بنفسه عنه، لان استعمال الفرنسية حرم اغلبية الحاضرين من فهم ما جاء ليفيدهم به، ولان ذلك وقع لاجل ان يفهم شخص واحد، بمعنى انه وقعت التضحية بحق لعموم الحاضرين في سبيل شخص لا يملك هذا الحق، بكل المعايير المستعملة في هذا المقام .
اذ لو تكلم المحاضر بالعربية لفهم الجميع باستثناء الضيف المحتفل به، في حين انه باستعمال الفرنسية ضاع على الكثير من اللذين لا يتكلمون الفرنسية ان يفهموا ما قيل، باسثناء اقلية منهم لم تكن لتضار لو تكلم المحاضر بالعربية .
وكما يحدث عادة، فقد جاء بعد من إتكأ على السابقة وكرر نفس السلوك اكثر من مرة، من غير وجود لأجنبي يكون حضوره عذرا مبررا او ذريعة على الاصح. واذا كان صاحب السابقة قد تادب واستسمح واعتذر، فان من جاء بعده ابى الا ان لا يجمع بين الحشف وسوء الكيلة، كما يقول المثل، ففعل ذلك باستخفاف مكشوف .
واظن اننا لو استشرنا تلك الشخصية المضحى من اجلها لتقرر بنفسها ما يجب لما استطاعت ان تنصح بالتخلي عن لغة الوطن مجاملة لها بالاستناد الى العرف الدولي المعترف به لكل الدول، وهي محجوجة بقانون بلادها نفسه، الذي يمنع استعمال غير الفرنسية في مثل هذه المناسبات، ويذهب الى حد تجريم ذلك والعقاب عليه
! واوجب في حالة كون المحاضر اجنبيا لا يعرف الفرنسية ان يكون بجانبه من يقوم بالترجمة الفورية عنه لعموم الحاضرين .بل استطيع ان اقول ان هذا الفرنسي اذا كان سره ان نضحي من اجله بلغة البلاد، فانه لابد ان يضمر لنا تحت هذا السرور شيئا من الاحتقار. وهنا يجب ان يعرف من لا يعرف، ان اول من يحتقرنا في تعصبنا للفرنسية على هذا النحو هم الفرنسيون انفسهم .
لقد كان مما اجمع عليه العقلاء ولا يجمعون على عبث، ان من اشياء الانسان والوطن، ما لا يجوز تفويته او منحه، وان الكرم حين يقع على شيء من هذا، لا يكون فضيلة ابدا، ولا يجلب لفاعله الحمد والثناء .
وما احسب الذين يريدون مراكز البعثات الفرنسية في عواصمنا وقد شبعوا من زرابينا الاطلسية والرباطية المهداة لهم للفوز بمقاعد لاطفالهم، الا قد امتلاوا بكثير من هذا الاحتقار، اذ يروننا نشتري لغتهم بالاثمان الغالية والرشاوي الثمينة، وهم يهبونها بالمجان في مناطق اخرى من العالم
!ولا ريب ان عجبهم سيزداد اذا علموا ان اسلافهم في عهد الحماية، كانوا يعرضونها بلا ثمن، يغرون بها المغاربة بمختلف الوسائل وهم نافرون منها بوازع وطني نلمس مغزاه فيما نحن بصدده
!ولا يجوز لاحد ان يشكك في هذا ونحن نرى له دليله البارز في الاثمان الغالية التي يسعرون بها، لغتهم والتي تتصاعد على راس لكل عام بل تتصاعد في العام الواحد احيانا اكثر من مرة. انه سلوك لا يدل على انهم يعاملوننا بالاحترام المناسب المتوقع من حبنا للغتهم
! ان هذا التهافت على الفرنسية، بكل ما فيه من عقوق وطني وما يتضح به من شعور بالنقص ازاء الاجنبي ينطوي كذلك على خسائر مادية كلها غبن وكلها غباء
! ان الذين يصرفون الاموال ويقدمون الهدايا والرشاوي لاجل ان يحصلوا لاطفالهم على مقاعد في مدارس البعثات، انما يجنون عليهم من حيث لا يدرون، لانهم يحبسونهم في لغة قاصرة لا تتعدى قيمتها حدود بلادها وبعض مستعمراتها السابقة الضعيفة اقتصاديا وسياسيا .
ولم يطل الزمن كثيرا حتى برزت هذه الحقيقية تتحدى الجميع، فراينا هؤلاء يضطرون لتحويل الاتجاه الى لغة اخرى ليركضوا وراء الانجليزية يطلبونها بالحاح وبالاثمان الغالية كذلك
!لعل الكثيرين يتذكرون ما يقع لبعض المغتربين حيث يتزوج احدهم اوربية فيحسب الناس انه حقق في هذا الجانب تفوقا حضاريا يحسد عليه، حتى اذا جاء بها فوجئ الجميع بان صفته لم تقع الا على عجوز معدمة تاخذ منه كل شيء ولا ياخذ منها شيئا، لان تمسكنا بالفرنسية اليوم، فيه كل ما في هذه الحكاية من غبن وغباء وخيبة
! ! ولكن يبدو ان الاستلاب فعل فعله وتمكنت هذه اللغة من ان تحفر لها جذورا في تربتنا اكسبتها قيمة داخلية تحفظ لها نفوذها بيننا، مهما تدنت قيمتها خارجيا. اذ ان هناك من افلح في ان يجعل منها شيئا يشبه البشرة البيضاء في بلاد الميز العنصري التي تفاضل بين الناس حسب الوانهم .
لقد اصبح هذا حقيقة موثقة بعد ان كشفت بعض التقارير الدولية حول حقوق الانسان ان التمسك للفرنسية ببلادنا ادى الى خلق بيئة طبقية لغوية، تتيح لطائفة من الاقلية ان تتفوق اقتصاديا وتسود اجتماعيا وسياسيا، بمعيار مرفوض دوليا، لانه يقوم على لغة دخيلة .
لقد ان الاوان لهذا الغبن والغباء وسخافاته ان ينتهي، ان لم يكن حبا للوطن واحتراما لاصوله، فلما تحدانا به الواقع اكثر من مرة، وهو ان الفرنسية ليست هي اللغة الاجنبية التي تستحق منا كل هذه المحاباة والتضحيات
!وبالنسبة لموضوعنا، اعود لاقول ان من الكوارث ان اكتب هذا الكلام حوله سنة 1998 يعد مضي حوالي نصف قرن على انتهاء عهد الحماية، واغلاق كتابتها العامة، التي حلت محلها الامانة العامة للحكومة باطرها المغربية العربية، التي كان من المفروض ان تقوم تلقائيا بتعريب تشريعاتنا ومغربتها، جريا على القاعدة التي سارت عليها كل الامم المماثلة لنا، فاذا بنا نخرج عن هذه القاعدة لنجد ان تشريعنا ما زال في حاجة الى تعريب، ولو ان الذين يصنعونه مغاربة .
ان اللغة الاجنبية لا يجوز لها ( حسب المتعارف عليه دوليا ) ان تخترق مناطق السيادة القومية، ومنها سلطات الدول الثلاث، لاسيما القضائية التي هي المهيمنة، على ما عداها، بمراقبتها وتقويم اعوجاجها .
وحين يقع شيء من ذلك باكراه من الاجنبي المستعمر، فان الاستقلال كان يعني دائما الرجوع الفوري الى الاصل، وانزال لغة المستعمر من مرافق الدولة، على النحو الذي تنزل به رايته من على ابواب المراكز الادارية .
فهذا ما حدث مثلا في مصر حيث سجل التاريخ ان الدولة بادرت سنة 1936 ( اي نفس العام الذي وقعت فيه معاهدة استقلالها) الى تاسيس لجان تفرغت لمراجعة القوانين بقصد اعادة صياغتها لتناسب عهد الاستقلال وظلت تعمل بكد حتى انجزت للبلاد مدونات قانونية موضوعية اصلا بالعربية، سليمة من عيوب الترجمة .
وهذا على الرغم من ان الحقوقيين الرواد الذين بادروا الى هذا الانجاز كانوا في جلهم، من ابناء الطبقة الارستقراطية التي لم تكن سليمة من التفريخ ومن خريجي كليات الحقوق بفرنسا ذاتها، التي حصلوا منها على الاجازات والالقاب العلمية العالية، الا انهم جاءوا كذلك بوعي ثقافي صحيح فلم يزدهم اتقان اللغة الاجنبية الا حبا للغتهم والتعصب لها .
وكان اهم ما تميزت به القوانين الجديدة هو صياغتها في نصوص عربية اصلية تكون وحدها المرجع وتكون النصوص الاجنبية مجرد ترجمات ليس لها الا دور التفسير والشرح. وذلك عدولا عما كان عليه الامر من قبل، حيث كان هذا القطر الشقيق يعاني مثل ما نعاني منه قبل الاستقلال (3) .
وهذا ما كان يجب علينا ان نبادر اليه في اوانه وهو ما يجب ان نستدركه لازاحة هذا الازدواج في لغة النص الذي ظل يعرقل عمل القاضي ويحجب عنه المعنى المراد، ويعوقه عن النطق بقضاء سليم، وهو ضروري ايضا لكي ندخل في المتعارف عليه عربيا ودوليا كي يحترمنا الناس .
ولكن الواقع المؤلم ان المرفق الاداري المختص بتدوين القوانين عندنا، لا يملك المؤهلات الضرورية لتحقيق هذا المراد الكبير الخطير، لان ذلك يتوقف على اطر فنية لها فقه في اللغة وفقه في التشريع معا ودراية بضوابط التقنين .
اذ ان الصياغة التشريعية في فن اخر مستقل يقوم مع مراعاة مقتضى الحال والغاية من القانون وهذا يحتاج الى اسلوب اخر يختلف عن كل الاساليب المعروفة في الكلام العادي والانشاء الادبي، وغير ذلك ويقوم ايضا على التنوع تبعا لتنوع موضوع القاعدة القانونية المراد التعبير عنها .
----------------
3) انظر ما كتبه المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الموضوع في الجزء الاول من الوسيط، ط. دار احياء التراث العربي، 1972، ص. 19 .
---------------
ولذا كانت هناك ضوابط لابد من التزامها عند التقنين لاجل تحقيق الغاية المطلوبة، وهي الاعراب عن المعاني المقصودة وتبليغها للمخاطبين بالقانون وهم المتقاضون والقاضي الذي يسمع منهم ويقوم بالبت في النزاع بعد التكييف السليم للخصومة القضائية المعروضة عليه وهذا يقتضي الحرص على ان يكون الاعراب عن المعنى بالاسلوب المناسب للقاعدة القانونية المقننة من حيث كونها تتعلق بالتشريع الجنائي او المدني، ومن حيث كونها تتعلق بتثبيت المراكز القانونية وتحقيق الاستقرار في المعاملات مثل اجال الطعون وقواعد البطلان والتقادم وغير ذلك، ومن حيث كونها تقدم الحلول القانونية الموضوعية للبت في الخصومات، واقرار العدل في الاحكام، وارضاء الافراد فيما يتشوقون اليه من الانصاف الذي يحقق لهم الاطمئنان على حقوقهم (4) .
واول ما يجب الاهتمام بتحصيله في الصياغة، هو تمكين القاضي من الفهم اليقيني المريح، باختيار العبارة الدالة على المعنى من غير غموض، والاصطلاح المعبر عن المراد من غير اشكال، ثم اختيار الجملة المناسبة والتركيب اللغوي السهل، الذي يقرب المعنى مع اجتناب الايجاز المخل والاطناب الممل، كما يعبر علماء البلاغة، والبعد عن المجاز الادبي الذي لا يليق بجدية القانون والبعد عن كل حشو يشوش ولا يساعد على الفهم .
ويدخل ضمن ذلك معرفة ما هو ضروري للنص عليه، وما يجب تركه لفطنة القاضي يستنتجه من دلالة المفهوم او الفحوى، ومنه معرفة ما يجب الدلالة عليه بمنطوق اللفظ وما يجب تركه لمفهومه ومعرفة ما يجب التعبير عنه بتفصيل وما يجب التعبير عنه باجمال .
ثم يجب الحرص على ان يكون في النص قدر من الاجمال يساعد القاضي على الاجتهاد والتكييف الصحيح، والتصرف بحكمة في بعض النوازل الغامضة التي يفاجئنا بها الواقع، لان التطبيق الحرفي للنصوص قد يؤدي الى تفويت العدالة والانصاف المتوخى، لكون النوازل البشرية تتنوع وتظهر في هيئات غريبة، هيهات ان يعالجها النص القانوني الذي صاغه المشرع في زمان ومكان معين، من غير ان يستطيع ان يتوقع ما سيراه القاضي الذي يطبقه عن عجائب وغرائب.
---------------
4) انظر المدخل الى القانون للدكتور حسن كيرة، الباب الثاني في شكل القاعدة القانونية، ص. 181 وما بعدها .
---------------
وتحصيل كل هذا يحتاج الى فهم واسع في فقه اللغة بكل فروعه وفنونه المتشعبة يستنبط ويستظهر تلك القواعد والضوابط الموضوعة لفن القول .
فلابد من دراية متعمقة بالنحو وقواعده، وخصوصا من ذلك احكام النعت والحال والتوكيد والتمييز والضمائر واسماء الاشارة والاسماء الموصولة والمعرفة والنكرة وظرف الزمان والمكان والاستثناء وادواته واحكامه .
ولابد من دراسة الادوات النحوية ومعانيها الدقيقة كحروف الجر والنفي والشرط وغيرها مثل من والى وعن وعلى وفي وما واين ولكن وبل ولا ولو وحتى ومتى وقد وال ومعانيها حيث لكل واحد منها دلالات اصلية وفرعية لا يمكن فهم الجملة او التركيب الا بفهمها .
ولابد من دراسة لعلم الصرف وضوابطه، المتعلقة باوزان الافعال واوزان الاسماء والفعل اللازم والمتعدي، والمعاني التي تكتسبها الافعال من الحروف الزائدة، واسم المكان واسم الزمان والمصادر والجموع، وكذا قواعد الاشتقاق، التي لابد منها لمعرفة توليد الكلمات، التي تتطلبها المعاني الجديدة .
ولابد من اتقان لعلم البلاغة بفروعه المعلومة، لمعرفة الفصاحة ومعناها ومقتضى الحال والفرق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، ومتى يجب استعمال احداها دون الاخرى، ومعرفة الحقيقة والمجاز واقسامه، والخبر والانشاء والقصر او الحصر، والتقديم والتاخير، والايجاز والاطناب والاستعارة والكتابة
…ولابد كذلك من دراسة لعلم المنطق الذي يقول اصحابه انه ضروري للوقاية من اللحن الفكري، ضرورة النحو للوقاية من اللحن اللساني، وبه يكون مضمون الكلام سليما بجانب سلامة العبارة والشكل. فالمنطق هو الذي يرسم للفكر منهجه، الذي يضمن له ان يعمل وينتج بلا خلل ولا زلل، وهو ضروري لبناء الجملة القانونية التي تقوم على التعليل العقلي المؤسس على المقدمات والنتائج، والبرهنة العلمية على سلامة الاحكام، التي يقررها القانون والجزاءات المدنية والجنائية، التي يرتبها على افعال الناس .
ولابد كذلك من دراسة لاصول الفقه، ذلك العلم الجبار الباهر، الذي هو اهم ما يجب ان يتقنه من يتصدى لصياغة التشريع، لادراك الدلالات واقسامها، مثل دلالة العبارة ودلالة الاشارة، ودلالة الاقتضاء والمنطوق والمفهوم والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمترادف والاشتراك والسبب والشرط والمانع، والادوات اللغوية المعبرة عن ذلك، وكذا ادراك المقاصد واقسامها ودرجاتها من ضروريات وحاجيات وتحسينات .
ولا تنتهي هذه الواجبات عند هذا الحد، فانه مطلوب كذلك بالحاح، الاطلاع على التراث التشريعي المدون او المقنن وغيره، وهو غزير متنوع في كمه وكيفه ومظانه، مثل الاحاديث النبوية الشريفة، والقواعد الاصولية، والقواعد الفقهية، التي نجد فيها نماذج عالية رائعة لبلاغة التعبير في التشريع تجمع بين قوة المبنى والمعنى وجمالهما .
ومثال ذلك من الاحاديث النبوية الشريفة، قول الرسول الكريم عليه السلام : الاسلام يجب ما قبله، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، انما الاعمال بالنيات، من غشنا فليس منا، الدين المعاملة، الحلال بين والحرام بين، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، الظلم ظلمات يوم القيامة، كل مسكر حرام، ما اسكر كثيره فقليله حرام، البينة على المدعى، لا ضرر ولا ضرار. ومثاله من قواعد الاصول والفقه، العقد شريعة المتعاقدين، الضرورات تبيح المحظورات، المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، العمد والخطا في اموال الناس سواء، لا ينسب لساكت قول، العبرة بعموم اللفظ ولا بخصوص السبب، المفرط اولى بالخسارة، ما ثبت بيقين لا ينتفي الا بيقين، ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال، لسان الوكيل لسان الموكل .
اننا نجد في هذه الاقوال والعبارات سلاسة في النطق ومتانة في السبك، وبلاغة في التعبير وايجازا مانعا مطابقا لمقتضى الحال، يكاد يشبه الابداع الشعري بجماله ومتعته المعروفة .
وبجانب هذا التراث العريق يجب الاطلاع على تراث اخر حديث، هو الذي تضمنته المدونات القانونية التي سبقت الى انشائها الدول الاسلامية والعربية لان فيها نماذج من الصياغة القانونية جديرة بالاحتداء والاستئناس لا يمكن الاستغناء عنها. واقدمها مجلة الاحكام العدلية التي دونت احكام الشريعة الاسلامية وصدرت منذ سنة 1869 في عهد الدولة العثمانية .
وتاتي بعدها المدونات القانونية التي انشاتها دولنا العربية بعد استقلالها، وهي متنوعة في اساليبها ودسمة في مادتها العلمية ومتينة في سبكها اللغوي، مثل القوانين المدنية والتجارية المصرية والعراقية والسورية واللبنانية وبعض دول الخليج العربي .
ويجب كذلك الاطلاع والاعتماد على معاجم المصطلحات القانونية، التي صدر منها الجم الكثير، بمجهودات فردية وجماعية، لاسيما تلك التي تولت انشاءها المجامع والمؤسسات اللغوية المتخصصة. ففي هذه المعاجم ثراء في المادة كما وكيفا يغني عن الارتجال الذي نراه باديا في كثير من المصطلحات المستعملة في نصوصنا المغربية، يدل على ان هذه المظان المفيدة لم تكن حاضرة في اذهان الذين تولوا اعداد نصوصنا التشريعية .
ومن ثم نرى ان مرفق التشريع يحتاج الى جهاز بشري مؤهل نظريا وعلميا يتالف من اطر علمية ذات تخصص في القانون واللغة، وما يرتبط بهما من علوم ممهدة او مكملة، وان النص التشريعي يجب ان يكون موضوع معالجات متوالية تتداوله ايدي الخبراء بالتصويب والتنقيح، كما يقع للبضاعة في المصنع، حين تتناولها الالات الأصلية والفرعية بالتطوير والتحسين والتجميل، حتى تخرج اخيرا في هيـئة كاملة جامعة لجمال المظهر ومتانة المخبر .
ومن تمام ذلك ان يكون هذا المرفق مزودا بخزانة علمية غنية بالمعارف المتعلقة بتخصصه من الموسوعات والكتب القديمة والحديثة، المجلات المجمعية المتخصصة، المواكبة لاعمال المجامع والمؤسسات اللغوية في العالم العربي، وكذال المعاجم العامة والخاصة بالمصطلحات القانونية والاقتصادية وغيرها .
ويقتضي هذا ايضا ان تستوعب اكبر كم من المدونات القانونية باعمالها التحضيرية ومذكراتها التفسيرية وحتى احكام القضاء المطبقة والكاشفة عن معانيها عمليا .
ولاجل الاستفادة من هذه المدخرات، لابد لها من تصنيف وتبويب باحداث الطرق الالية والتقنية المستعملة، بحيث يتأتى بسهولة استحضار اي نص قانوني للمقارنة والاستنئاس، كلما اريد تحضير مشروع تشريع في أي موضوع كان .
لا يمكن ان نتحدث عن تعريب التشريع في نصوصه الرسمية، دون ان تستدعي المناسبة الحديث عن تعريف تشريع اخر، يكتبه الناس وهم يتعاملون بالبيع والكراء والوكالة والرهن والشركة غير ذلك. ان العقود التي يبرمها الافراد لتوثيق معاملاتهم ليست الا نصوصا قانونية يعترف لها القانون بهذه الصفة حين يجعلها ( شريعة المتعاقدين ) .
ان هذه الوثائق حين تصل الى المحاكم بمناسبة الادلاء بها من المتقاضين، لاجل اثبات ادعاءاتهم ودفوعهم او نفيها وتكون منطلقا للبت في الخصومة القضائية، تصير جزءا من النصوص القانونية المطبقة، وشطرا من التعليلات التي يمهد بها القاضي لمنطوق حكمه، وتكون هي والنصوص القانونية في درجة واحدة من الحجية، كما نرى ذلك واضحا في حيثيات الاحكام التي تعتمد اساسا على نصوص قانون والوثائق التي يدلي بها اطراف الخصومة .
ولذا كان تعريب التوثيق لاسيما الرسمي منه واردا بالحاح، ونحن نتناول موضوع تعريب التشريع. ان المعضلة في توثيقنا الرسمي المدني انه ايضا مزدوج اللغة، وان الوثائق ايضا تحرر اصلا بالفرنسية، ثم يضطر المتقاضون الى تعريبها بمناسبة الادلاء بها في دعاويهم، بكل ما يمكن ان ينتج من العيوب التي تحدثنا عنها في ترجمة النصوص القانونية. لان الذين يتولون تعريب الوثائق يفعلون لذلك بنفس الارتجال الذي لاحظناه على الذين يترجمون تشريعاتنا القانونية .
واذا كنا قد تحدثنا عن تعجيم اسماء المواطنين الشخصية والعائلية ونسبنا ذلك الى ضابطة الحالة المدنية التي اشتهرت به، فانه يجدر بالذكر ان التوثيق المدني بفرنسته، يشارك في هذه المعضلة، وينتج فيها نماذج اخرى تزيد في ذلك الكم من اسمائنا المشوهة التي تتراكم بمرور الايام .
يحدث هذا حين تكلف المحاكم المتقاضين بتعريب الوثائق، فيقوم المترجمون بنقل اسمائهم الى العربية كما هي بالفرنسية حرفيا، من غير ان يرجعوها الى اصولها العربية .
اذكر من ذلك مثالا ساقته الى المصادفة اخيرا، وهو ان شخصا اسمه ( فرجي) وجد اسمه عندما استخرج شهادة من المحافظة العقارية ينقلب الى ( فرادجي ) هكذا باقحام الالف والدال، ففقد الاسم هويته العربية وخرج منه ( الفرج) الذي اختير من اجله واسيلت عليه دماء عقيقته
!ومن هنا كانت فرنسة التوثيق الموروثة عن عهد الحماية حين كان يتولاه الفرنسيون في الغالب، من اثار ذلك العهد التي يجب ان تزول لبزواله، بتعريب هذا المرفق تعريبا كليا، بان تكون نصوص العقود المتداولة كلها عربية الاصل والنشاة، مهما كان اطرافها في جنسياتهم وان تكون الترجمة من العربية الى غيرها، كما هو معمول به في كل الدول، وليس العكس .
فمن المؤكد والمعمول به تبعا لارتباط التوثيق بالتشريعات وكونه مكملا لها، انه داخل في حيز السيادة الوطنية المحرم على اللغة الاجنبية، والتي يجب ان تحتكرها اللغة الرسمية وحدها، وهو عرف دولي لا تفرط فيه اية دولة لانه لا يوجد من ينازعها فيه .
وربما لا يعرف الكثيرون عندنا، ان الاوراق الرسمية في القانون المصري لا تتحقق لها حجيتها الرسمية الا اذا كانت منشاة في الاصل بالعربية، التي تعد شرطا جوهريا يترتب عن عدمه العدم، وهو ما يعني ان الأوروبيين اللذين يبرمان عقد بيع، ويذهبان الى الموثق لاجل توثيق المعاملة، يكونان ملزمين بان يقبلا انشاء العقد بالعربية وهم يجهلونها ولا يعطيهما القانون هنا الا الحق في ان يكون بجانبهما ترجمان ينقل اليهما معاني فقرات العقد عند تلاوته عليهما (5) .
وانا لست استبعد ان ارى من يهب ليعترض على هذا او يدعي انه سابق لاوانه، يحتاج الى تمهيدات واستعدادات ووقت طويل، بل لا استبعد ان يبرز من اصحاب مهنة التوثيق من يدعي بصراحة اني ادعو الى تخريب هذه المهنة، على نفس الفهم الذي ظللنا نسمعه كلما اثيرت قضية التعريب، حتى فيما يتعلق بالحياة العادية للناس، وهو كلام ناشئ عن نقص في ( التربية الوطنية ) ليس الا .
ان التوثيق من اسهل المرافق القابلة للتعريب، من غير مشقة ومن غير خسارة ولا خراب على اصحاب هذه المهنة الكبيرة الخطرة، لما هو معلوم من ان جميع العقود المستعملة، موضوعة من قديم بصيغة واحدة محفوظة، تتضمن العناصر القانونية التي لابد منها في كل عقد، حسب موضوعه من بيع وكراء وشركة وغير ذلك، ويتداولها الموثقون كما يتداول الناس الاوراق بالنقدية، ويجدونها امامهم حاضرة ليضيفوا اليها هويات الاطراف، وبقية المعلومات المتعلقة بالموضوع، وبعض الشروط الخاصة التي يمكن ان يتفق عليها الاطراف في بعض الاحيان .
ودور الموثق يكاد ينحصر في التزكية التي يضيفها المشرع على شخصيته، من حيث كونه مؤهلا لتلقي الاشهاد وترسيمه، ثم مراقبة الخدمات والاجراءات الادارية السابقة واللاحقة التي يقوم بها الاعوان تحت اشرافه .
وتعريب التوثيق لا يتطلب سوى استعمال النظائر العربية لهذه العقود وهي موجودة بوفرة، منها الشرعي العتيق ومنها المدني الحديث، الذي ما زال يتجدد لمواكبة تطور المعاملات الاقتصادية والاجتماعية، وما ينتج عنها من تعديلات في القوانين، وما تستحدثه من عقود جديدة .
-----------------
5) انظر الوسيط، ط. دار التراث العربي، ج. الثاني، ص 132 .
----------------
فكما ان هناك بجانب العملة الفرنسية، عملات عربية، فان هناك نظائر عربية موازية لكل العقود الفرنسية الفردية والجماعية المتداولة عندنا، في ميدان التوثيق المدني، تنتظر ان تمتد اليها ايدي الموثقين لتضيف اليها البيانات المتعلقة بهويات الاطراف وغيرها وتقوم بتوثيق معاملات الناس بلغتهم القومية عملا بما يفعله كل الناس في كل انحاء الدنيا .
ولذلك استطيع ان اقول ان تعريب التوثيق كان من اول ما يمكن البدء به في التعريب في اول عهدنا بالاستقلال بعد مهلة للقيام ببعض الاجراءات التمهيدية .
وقد كان يجب حتما المبادرة الى تعريب التوثيق، يوم تقرر تعريب القضاء ومغربته، وان يكون ذلك ضمن الاجراءات التي اقترنت بهذه الحركة التي تحققت بسلام .
وكان سينكشف للجميع لو تم هذا، ان التوثيق واصحابه لن يضاروا ابدا من ذلك، على نحو ما وقع للمحامين الاجانب الذين استهول الكثيرون بمنهم تعريب القضاء، وتوقعوا من ذلك شرا وثبورا دون ان يقع شيء مما توجسوه، بدليل انهم ظلوا يمارسون وما زلوا بكل ما كان لديهم من امتياز. وسرعان ما ادرك بعض الذين فضلوا مغادرة البلاد ان ظنونهم السيئة لم تكن في محلها وان يد التعريب التي افزعتهم كانت للمصافحة لا للضرب كما توهموا
!وحتى بعض المحامي المغاربة الذين استثقلوا تعريب القضاء وعبسوا في وجهه وكانه دخيل، سرعان ما حنثهم الواقع واكتشفوا مدى تجنيهم، حين وجدوا انه احوج اليهم المحامين الاجانب، لتعريب مكاتبهم فجنوا منه مغانم كثيرة، ودل ذلك بالبرهان الملموس، على ان التعريب لا يقطع الارزاق، ودل ايضا ان الوطن حقا غفور رحيم، يعفو ويفصح لا ينتقم
! ! ! * مجلة المحاكم المغربية، عدد 80، ص 108 .