الاخلاق والقاعدة القانونية في مجال قانون المسطرة المدنية

النقيب عبد الله درميش

جاء في الورقة التمهيدية لهذه الندوة ان القانون لا يتطابق تمام المطابقة مع الاخلاق دائما الا انه من المؤكد ان روابط قوية تجمع بينهما .

فما هي اذن علاقةالقانون بالاخلاق والى اي حد تقترب او تبتعد القاعدة القانونية من فضاء الاخلاقيات والأدبيات؟الا يكون القانون والأخلاق وجهين لعملة واحدة، ما هي الروابط التي تجمع بين القانون والأخلاق؟ الى أي حد تلتزم القاعدة القانونية بالقاعدة الخلقية ؟ وماهي مستويات هذا الارتباط ؟

اولا : ان العصر مليء بالافات والماثم وفيه ايضا من المحاسن و الفضائل ، والحياة يتجاذبها الخير والشر وتتقاذفها الرذيلة والفضيلة، الناس لا يسامون من ممارسة النقائص وعلينا كذلك - كما قال " لابردير" ان لا نكل من تأنيبهم اذ ربما يصيرون اسوا حال اذا اعوزهم الرقباء النقاد .

نعم ان في الناس من السيئات ما يجعلهم لا يعباون بالمجتمع ، ومن ثمة تعذرت عشرتهم . وقد نتساءل احيانا لماذا لا يعيش الناس جميعا كأمة واحدة يتكلمون لغة واحدة و يخضعون لقانون واحد متواضعين على عادات مشتركة بينهم ، تباين الأذواق واختلاف العواطف والمشاعر والاتفعالات كل ذلك

يجعلنا نندهش حينما نرى ان افراد اسرة واحدة - يعدون على رؤوس الاصابع - يعيشون تحت سقف واحد في وئام ومحبة .

ان الحياة في هذا التصوير هي التي تمثل العلاقة الجدلية القائمة بين الاخلاق والقانون، وهذه العلاقة هي ازلية ومستمرة فهي التي تحدث التوازن في المجتمع ورغم ارتباط الاخلاق بالقانون ارتباطا وثيقا فان الاخلاق تختلف عن القانون في عدة اوجه .

الانسان يدوس بقدميه الاخلاق وقواعد الاداب ويضرب عرض الحائط بالقيم والمبادئ ، مما يحدث اختلالا في المجتمع، وياتي القانون بقاعدة قانونية كي تعيد هذا الانسان الى رشده وصوابه، بفضل الطابع الردعي و الزجري والاكراهي للقاعدة القانونية ، وكان الجبر والقسر اصبحا نمطا عاديا للانسان، فاصبح القانون سيفا مصلطا على الرقاب يتم شهره كلما تدنت المستويات وعم الفساد ونام الضمير وتضالت الممارسات الاخلاقية .

فلماذا يطاوع المرء القانون عن طريق الخوف بدلا من نداء العقل وصيحات الضمير .

وقد تم تشبيه القانون والاخلاق بالروح والجسد، الاخلاق احاسيس وعواطف ومشاعر يؤمن بها المرء ويعتقد انها هي الحق والعدل ويسير علىهديها، والقانون كائن ملموس بوسائل محسوسة لعلاج ظواهر ووقائع ملموسة، فهل القانون بديل للاخلاق ( ابو عبير، جريدة العلم عدد 17.726 بتاريخ 26/11/1998 ) .

وبلغة القانون، فالاخلاق تهدف الى اقرار مثل والمبادئ السامية لما فيه الخير لبني البشر لتسموا به الى درجة تقترب من الكمال، الاخلاق تحت على الفضائل والمكارم والابتعاد عن الرذيلة .

اما القانون فغرضه هو استقرار الاوضاع في مجتمع ما وتحقيق العدالة والانصاف بين الناس. ومن هنا كانت غاية الاخلاق تحقيق قيم شخصية كمالية، وغاية القانون تحقيق قيم اجتماعية نفعية ( حسن كيرة، المدخل لدراسة القانون ص 32 ) او كما يعبر الفقهاء القانونيون" القانون هو نظام اجتماعي والاخلاق هو نظام فردي شخصي" وكما عبر عن ذلك حسن كيرة : " محكمة الاخلاق، هي محكمة الضمير حيث تدور معركة الخير والشر في ذاته، ومحكمة القانون هي محكمة المجتمع حيث يتصارع النفع والضر الاجتماعي" .

ثانيا : نماذج في القانون الاجرائي من قواعد قانونية متاصلة من الاخلاق

انه في اغلب القواعد القانونية، وبصفة خاصة في القانون الاجرائي، فان القاعدة القانونية متاصلة من الاخلاق وقواعد السلوك، فكانت بعض الظواهر الاخلاقية سائدة في المجتمع وتواضع عليها الناس إلى أن ارتفعت الى درجة القاعدة القانونية الملزمة للكافة .

ولما كان القانون الاجرائي يهم سير الدعوى امام المحكمة فان هذا القانون يتضمن قواعد قانونية من فئتين احداهما تعنى بمخاطبة المحكمة التي تقوم بالاشراف على تطبيق القانون وفصل النزاع، وثانيهما بمخاطبة الاطراف في الدعوى .

قواعد قانونية تخاطب المحاكم :

باستقراء نصوص قانون الاجراءات المدنية والجنائية نجد ان المشرع بلور عديدا من قواعد الاخلاق في قواعد قانونية ملزمة مرتبا عليها في غالب الاحيان جزاء صارما اما بعدم القبول أو السقوط او البطلان .

وهكذا، فان المشرع وضع على عاتق القاضي التزاما قانونيا، وهو في جوهره التزام أخلاقي وادبي، للفصل في النزاعات بحيث لا يحق له الامتناع عن الحكم او اصدار قرار ويجب عليه البت بحكم في كل قضية رفعت اليه (الفصل 2 م م والفصل 392 ق م م) وقد رتب المشرع على ذلك جزاء مخاصمة القاضي الفصل 395) بل ان المشرع رتب جزاء جنائيا واعتبر انكار العدالة جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي في الفصل 240 .

كما ان المشرع المغربي في باب التجريح اوجب على كل قاض يعلم وجود احد اسباب التجريح واي سبب اخر لتنحيته عن القضية ان يصرح بذلك للجهة المختصة ( الفصل 298 م م و277 ق م ج ) وهو ما يعبر عنه بالتجريح التلقائي، اذ ان الفضيلة الاخلاقية تحتم على القاضي ان يبادر الى الاعلان عن تجريحه حتى ولو لم يقم صاحب المصلحة والصفة بذلك وبالتأكيد فان هذه القاعدة تخاطب ضمير القاضي ووجدانه .

ومن القواعد القانونية التي تاصلت من الاخلاق مقتضيات صلاحية القاضي للبت في القضية وهي المقتضيات المنصوص عليها في الفصلين 24 و25 من التنظيم القضائي للمملكة بحيث لا يمكن للازواج والاقارب والاصهار الى درجة العمومة او الخؤولة او ابناء الاخوة ان يكونوا باية صفة كانت قضاة في ان واحد بنفس المحكمة الا بترخيص، كما لا يسوغ لاي قاض يكون احد اقاربه او اصهاره الى درجة العمومة او الخؤولة او ابناء الاخوة محاميا لاحد الاطراف ان ينظر في النزاع .

ويلاحظ من المقتضيات السابقة ان المشرع كرس قواعد الاخلاقية لا لمصلحة القضاة بذاوتهم بل للسلطة القضائية لتكون هذه السلطة في مناى عن اي حرج، كما يلاحظ ان المشرع رتب جزاء البطلان على عدم التقيد بهذه المقتضيات .

وفي نفس السياق فانه يجب استحضار مقتضيات الفصل 517 من ق م م بحيث اذا كان قاضي من قضاة محكمة الاستئناف او المحكمة الابتدائية او زوجه طرفا في الدعوى، فان الرئيس الاول للمجلس الاعلى يتولى تعيين المحكمة التي ستنظر في القضية خارج قواعد الاختصاص المحلي .

ويلاحظ على هذه القاعدة انها مستمدة من قواعد اخلاقية درءا لكل شبهة يمكن ان تحوم بالقضاء وقد تشدد المشرع بخصوص هذه القاعدة ورتب عليها جزاء البطلان .

وعلى مستوى سير الدعوى امام المحكمة، فان المشرع يجعل القاضي ملزما بالتزام الحياد وعدم ابداء رايه في الدعوى او الحكم بمعلوماته الشخصية، فيبقى مقيدا باقوال الاطراف ولصيقا بوثائق الملف، وفي المادة الجنائية يحكم حسب اقتناعه الصميم وما يمليه عليه وجدانه وضميره وكل ذلك يندرج ضمن قواعد الاخلاق والاداب .

وفضلا عن ذلك، فان المشرع وضع قواعد قانونية لمخاطبة وجدان وضمير القاضي ويتحتم عليه اتباعها في سير الدعوى .

وهكذا، مثلا فان المشرع لا يسمح للقاضي بالحكم بعدم قبول الدعوى الا اذا استنفذ بعض الشكليات القانونية، كما هو الحال، مثلا، بالنسبة للفقرة الاخيرة من الفصل الاول من ق م م والفقرة الاخيرة من الفصل 32 ق م م بحيث لا يجوز للقاضي النطق بعدم القبول الا بعد اشعار الطرف المعني باصلاح المسطرة .

كما ان القاضي لا يحكم بعدم قبول الدعوى عند عدم حضور المدعي الذي توصل بكيفية قانونية الا بعد ان يسلك مسطرة التشطيب ( الفصلان 47 م م و279 م م ) وكلها مقتضيات تتعلق بقواعد الاخلاق والاداب بحيث يتعين عدم مفاجاة المعني بالامر بالاخلالات الشكلية .

واحيانا فان المشرع يملي اوامره على القاضي لاتباع بعض القواعد الاخلاقية في سير الدعوى كاجراء الصلح بين الاطراف، كما هو الحال، مثلا، في المادة الاجتماعية وفي دعوى التطليق ( الفصلان 277 م م 212 ) .

وفي النطاق الجنائي، فان القاضي يتعين عليه اعلام العون القضائي للمملكة تحت طائلة عدم القبول طبقا للفصل 2 من ق م ج عند اقامة الدعوى العمومية ضد احد القضاة او الموظفين العموميين او احد اعوان او ماموري السلطة او القوة العمومية، وهذه القاعدة هي قاعدة سلوك بالدرجة الاولى الغرض منها اطلاع العون القضائي للمملكة بالمتابعة الجارية ضد القاضي او الموظف حتى يتسنى له تتبع ملف المعني بالامر .

وكما هو معلوم، فان القاضي هو سيد الجلسة وهو الذي يتحكم في تسييرها وضبطها والمحافظة على نظامها بحيث يحق له ان يتصدى لكل الافعال المنافية للاداب والاخلاق او كل ما من شانه ان يحدث بلبلة او اضطرابا او خللا بسيرها .

فعليه ان يجعل الجلسة سرية كلما اقر ذلك القانون او راى القاضي بان المصلحة تقتضي ذلك او ان النظام العام او الاخلاق الحميدة تستوجب ذلك ( الفصلان 43 م م و339 م م والفصل 303 ق م ج)، وتعتبر قواعد سرية الجلسات قواعد اخلاقية محضة رفعها المشرع الى مستوى القاعدة القانونية لاقرار النظام العام والمحافظة على الاخلاق.

قواعد قانونية تخاطب الاشخاص :

الى جانب القواعد السابقة نقرا ايضا في القانون الاجرائي بعض المقتضيات التي تخاطب الاشخاص في ضمائرهم ووجدانهم والتي كانت مجرد مقاصد شريفة في داخل النفس واخرجها المشرع الى الواقع الملموس لتدخل في رحاب القانون وترقى الى القاعدة القانونية الملزمة .

ولعل من ابرز القواعد القانونية التي تجسم الاخلاق والفضيلة تلك القاعدة التي استحدثها المشرع المغربي في الفصل 5 من ق م م : " يجب على كل متقاض ممارسة حقوقه طبقا لقواعد حسن النية" .

وهذه القاعدة وان كانت من المبادئ العامة. فانها لم تكن سابقا في حاجة الى نص اذ كان بامكان القضاء ان يقوم بتطبيقها لاعتبار ذلك مبدا قارا ومن قبيل تحصيل الحاصل .

الا انه وبعد ان تدنت الاخلاق وسادت الوسائل الاحتيالية مسطرة التقاضي من هذا الطرف او ذاك كما هو الشان مثلا بالنسبة للاحتيال على الاختصاص المحلي ( الفصل 523 م م ) فان المشرع اضطر الى ان يرقى بهذه القاعدة الخلقية الى مستوى القاعدة القانونية الوجوبية، بحيث يمكن للمحاكم ان ترتب عليها جزاء اعمال الشخص بنقيض قصده .

ثم ان المشرع اهتم كذلك باداء اليمين اما من الشهود او الخبراء او المترجمين اوممن يجب فجاءت تلك الصياغة - على اختلافها- لمخطابة ضمير الانسان في اخلاقه ومعتقداته وديانته وتضعه امام مسؤوليته الدنيوية والاخروية، اما ليقول الحقيقة او ليقوم بمهامه بكل نزاهة وتجرد واستقلال والكل تحت سلطان الضمير وسلطان القانون ايضا ( راجع الورقة التي تقدم بها الاستاذ خيري لهذه الندوة) .

هذا واثناء مسطرة التقاضي وسير الدعوى وتقديم المذكرات والمستنتجات والمرافعات، فان المشرع تبنى قاعدة خلقية في الفصل 43 م م" يجب على الخصوم شرح نزاعاتهم باعتدال . " ويقصد بذلك ان تكون المناقشات متسمة بالاعتدال دون انفعالات او تشنج، فللجلسة اخلاقياتها وادبياتها بحيث يتعين على الاطراف الترافع بهدوء وببرودة اعصاب، واذا كانت هناك انفعالات فيجب ان لا تتخطى الحد اللازم للاحترام الواجب لملجس القضاء .

وعند الاستماع الى الشهود فان الاطراف لا يحق لهم مقاطعة الشهود عند ادلائهم بالشهادة او ان يوجهوا اليهم اسئلة مباشرة الا باذن من المحكمة ( الفصل 82 ق م م ) .

وفي نفس المنحى فان قانون المسطرة الجنائية قد اشار في الفصل 299 الى قاعدة مشابهة بحيث يجب على القاضي ان يرفض كل الطلبات التي ترمي الى اطالة الاجراءات بدون جدوى ويقرر ايضا ايقاف الجلسة كلما تبين له ان هناك مساس بحرمتها .

ويلاحظ ان المشرع قد صاغ قواعد الاداب والمجاملة والاخلاق في قواعد قانونية للمحافظة على نظام الجلسات ورتب على ذلك الجزاء المنصوص عليه في الفصلين 341 م م و341 م ج وهما المتعلقان بجرائم الجلسات بحيث يلاحظ من الفصل 341 م ج ان التعبير عن العواطف واحداث تعكير لصفو الجلسة يقع تحت طائلة القانون الجنائي .

ناهيك ايضا عن بعض قواعد الترافع التي يلتزم بها المحامون والتي يتضمنها قانون مهنة المحاماة وتقرها اعرافها وتقاليد وكذا ادبياتها واخلاقها وعلى سبيل المثال مقتضيات الفصل 46 من قانون 10/9/1993 والمتعلقة بوضع حد لوكالة المحامي ( نيابة او مؤازرة) فلا يجوز للمحامي ذلك، الا اذا اختار الظرف المناسب واتبع اجراءات مسطرية خاصة وهي اجراءات تتسم ايضا بصفات الاخلاق والاداب .

وتجدر الملاحظة، كذلك، ان المشرع في مسطرة الحجز والتنفيذ قد استقى بعض قواعد القانونية من انماط السلوك والاداب والاخلاق احتراما للذات البشرية .

وهكذا مثلا، لا يجوز الا في حالة الضرورة الثابتة ثبوتا قطعيا بموجب امر من الرئيس اجراء حجز قبل الخامسة صباحا وبعد التاسعة ليلا ولا خلال ايام العطل المحددة بمقتضى القانون في ( الفصل 451 ) .

وقد اضاف العمل القضائي ايضا ايام المناسبات المفرحة او المقرحة، كما لا يمكن حجز بعض الاشياء الغير القابلة للحجز ( الفصل 458 م م والفصل 488 م م ) .

وفي هذا الاطار نستحضر، كذلك، المقتضيات الامرة لاجراء التفتيش في قانون المسطرة الجنائية ( الفصول 64، 81، 103، 104، 105 ق م ج ) .

ويبقى ان نطرح السؤال هل نجد في القانون الاجرائي بعض القواعد المنافية للاخلاق او لا تتطابق او تتصل بالاخلاق ؟

طرح هذا السؤال بشان الدفع بالتقادم الذي يترتب عنه سقوط الحق .

وفي راينا فانه يجب التمييز بين التقادم في المادة الجنائية بحيث نرى ان التقادم لا يعتبر منافيا للاخلاق بل هو يتطابق تمام المطابقة مع القواعد الاخلاقية، فالجاني من حقه ان يستفيد من سقوط الدعوى العمومية ( الفصل 3 م ج) لان هذا الجاني من حقه ان يتمتع بحق النسيان، فالمجتمع قد نسي هذا الجرم بفضل عامل الزمان وليس من الاخلاق قلب المواجع من جديد على الرغم من ان هذا الشخص قد افلت من العقاب، فالسياسة التشريعية الجنائية تهدف الى استقرار الاوضاع وترمي الى ان يسود الامن وقد كان الزمان كفيلا بذلك .

اما بالنسبة للمادة المدنية فالامر على خلاف ذلك فان كان التقادم يحقق استقرار المراكز القانونية ويحسم النزاع قضائيا بمرور الزمان، فان الالتزام المدني يبقى قائما لكنه التزام خلقي ادبي مجرد من قاعدة قانونية قسرية .

الخاتمة :

والخلاصة ان هناك اندماجا وانصهارا بين الاخلاق والقانون مما اصبحت معه الاصوات ترتفع هنا وهناك للمناداة بتخليق الحياة السياسية، وكل المرافق والمؤسسات وجميع مناحي الحياة واستيقظت الضمائر على ايقاع جديد وعلى مصطلح " التخليق" امام تردي الاخلاق وانحطاط السلوكيات وتفشي الفساد وبعد ان ضربت فضائح الذمم المالية اطنابها، بمعنى ان الاخلاقيات قد قفزت من جديد لتحتل الواجهة مما وجب معه التطلع الى انصهار احسن بين الاخلاق والقانون .

وعليه، وجب ان نعرف كيف يتعانق الاقدام والخوف سواء بسواء، وكيف ان ننقاد للانفعالات الحميدة دون الانفعالات المرذولة .

نرى ان المعرفة طريق صحيح تجعل للانسان بعض السلطان على انفعالاته واستخدام العقل يكون ايضا كفيلا لكبح جماح الانفعالات .

او كما قال يوما احد الفلاسفة : " اذا كان مالوفا ان نتاثر بالغ التاثر بالاشياء الجميلة فلماذا نبدو اقل تاثرا بالفضيلة" .

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 82، ص 83 .

من الأولويات المنسية في إصلاح القضاء تعريب التشريع والتوثيق

ازدواج النص القانوني خرق للسيادة الوطنية وتعويق لسير القضاء

الأستاذ احمد باكو

محام بهيئة الدار البيضاء

ان التعريب بمعناه الشامل لجميع مرافق الحياة كله بهذا المعنى العام من الاولويات الا ان المناسبة هي التي فرضت هذا العنوان المرتبط بالتشريع والتوثيق والقضاء ومرفق القضاء والمحاكم .

والمناسبة هي " الايام الدراسية حول قانون الاعمال"، التي نظمتها هيئة المحامين بالدار البيضاء وبرمجتها الايام 17-18-19 ابريل98 بقصد بحث ومناقشة النصوص الجديدة التي اصدرتها الدولة بغاية وضع قانون عصري لاعمال التجارية التي حققت بموضوعها ومناسبتها وغزارة موادها، نجاحا جديرا بالثناء والتنويه، لولا ان القاء بعض العروض بالفرنسية حرم الكثيرين من استيعاب كل ما برمجته من مسائل انية كان يجب ان تعم بها الفائدة من غير عائق .

لقد كشفت الابحاث والدراسات التي القيت وسمعت من الحاضرين، عن خلل ونقص عائب اجمع ليه المتكلمون والمستمعون الذين تدخلوا للمناقشة او كادوا، وهو فساد النصوص القانونية العربية او ترجمتها الموضوعة لهذه النصوص، من حيث الصياغة والمفردات والجمل المستعملة للتعبير عن المعاني المقصودة ومن حيث العبارة المصطلحات الموظفة لهذه الغاية، ومن حيث وجود تضارب او تناقض بينها وبين النصوص الفرنسية الموازية او الاصلية التي جاءت في اغلبها سليمة من هذه النواقص والعيوب .

وهذا الذي كشفته المناسبة ليس جديدا يلاحظ لاول مرة، بل هو ظاهرة قديمة عامة لا تخص النصوص التجارية الجديدة، بدات مع عهد الحماية وظلت قارة بعد الاستقلال لا تزداد بمرور ايامه الا استفحالا واستقرارا .

فقد ظل القضاء المغربي يعاني من ازدواج لغة التشريع وتضارب النصوص القانونية العربية مع النصوص الفرنسية، وتناقضها احيانا وظل القضاة يعانون من حيرة محرجة في شان الحل الذي يجب الاخذ به للعلاج والخروج من الاشكال، حين يجدون انفسهم امام معنيين للقانون يقدم احدهما نصه العربي ويقدم الاخر نصه الفرنسي، فيكون اختيار احدهما ونبذ الاخر امرا لا مفر منه .

والحيرة كما هو واضح ناتجة عن انه اذا كانت مقتضيات السيادة تحتم اعمال النص العربي، فان النص الفرنسي يكون احيانا هو الحامل للمعنى الصحيح والمعنى المراد او المطابق للحال، والمحقق للانصاف الذي يجب على المحكمة ان تتوخاه في حكمها .

ان من الكوارث الدالة على التخلف الكبير لبلادنا ان اتى اليوم وبعد مضي حوالي نصف قرن على الاستقلال، لأكتب في الموضوع واقول الكلام الذي سيطلع عليه القارئ فيما يلي في هذا البحث، واعالج معضلة ظلت تصاحبنا منذ عهد الحماية، والحال انها كانت يجب ان تزول مع انتهائها سنة 1956 او بعد تعريب وتوحيد القضاء سنة 1965 على الاكثر .

ولكن المعضلة ليست كما قلت الا جزءا من معضلة التعريب والفرنسة بوجه عام التي نوسيت واهملت وانتج هذا كل العواقب الطبيعية للاهمال وهي ان يزداد الداء انتشارا حتى يعم ويستقر، وتزداد اضراره وتتضاعف وهو ما وقع بالفعل، حيث يتحدانا واقعنا اليوم باحداث تجمع كل انواع التخلف المادي والمعنوي، التي تفقد الوطن حالته وهويته وتسئ الى سمعته .

ولعل الكثيرين لا يعلمون ان غياب التعريب وانتشار الفرنسة وصل اليوم وبعد مرور حوالي خمسين سنة على الاستقلال، الى اكثر مما كان عليه في عهد الحماية، لان حال العربية كانت احسن وكانت لغتنا القومية احظى بالاحترام والاغزاز والتوقير، وكان الحرص على استعمالها جزءا من السلوك الحسن والاخلاق الوطنية التي يحرص الكل على التحلي بها .

لقد امتد التعجيم الفرنسي اليوم الى مناح لم يصل اليها طيلة نصف القرن الذي استغرقته الحماية ببلادنا، لان العربية اذا كانت في ذلك العهد قد غابت عن الادارة، بعد ان جلس على كراسيها اشخاص يجهلونها ويعادونها، فانها لم تكن غائبة عن الحياة العامة كلها، كما نرى اليوم والامثلة ذلك كثيرة .

واذا كنا تحدثنا عن تضارب النصين العربي والفرنسي في التشريع وهي معضلة موروثة من ايام الحماية، فاننا يجب ان نشير الى انه باهمال التعريب بعد الاستقلال، ظهرت عواقب اخرى لذلك، لم يكن لاسلافنا الذين عاصروا ايام الحماية بها عهد ، تدل على الاستفحال والانتشار الذي نتحدث عنه .

من ذلك مثلا تعجيم اسماء المواطنين الذين اصبح الكثيرون منهم يحملون القابا عائلية ممسوخة لا معنى لها بسبب تدوينها بالحرف اللاتيني، ثم نقلها عنه الى العربية، لتختفي منها الحروف التي تمتاز بهما لغتنا مثل الضاد والقاف والعين والهاء او رسمها في مدودها بالحروف لنجد في الاسم الفات او ياءات او واوات مقحمة عليه، فلا يبقى من عربية هذه الاسماء شيء .

والامثلة كثيرة لابد ان ناتي على نماذج منها مثل ريضا بلاد من رضى ودامير او ضامير من ضمير وناسر الدين من ناصر الدين والهيلالي من الهلالي وراشيد من راشد او رشيد وجوهاري من جوهري وكوثار ومن كوثر وموكريم ومكرم وعبد القاوي من عبد القوي بوشرة من بشرى ونور الهودة من نور الهدى !

والامثلة كثيرة تدل النماذج التي سقناها منها بالمصادفة على مدى المسخ الذي فعله الازدواج اللغوي باسمائنا واعلامنا العربية، حيث نجد علما مشهورا مثل ناصر الدين يصبح ناسر الدين بالسين ونجد كلمة عظيمة مثل الهدى تنقلب الى الهودة وكذا الحال في بشرى بوزنها المعروف تصري الى هذه الصيغة المدهشة باقحام الواو والتاء عليها .

ان هذه التشويهات في اسماء الناس التي تشبه ما يحدث لاجسامهم في حوادث الشغل والسير من عاهات، لم يكن للناس بها عهد ايام الحماية، بل هي من ثمار العهد الذي جاء بعدها، وما نتج فيه عن اهمال قضية التعريب والتخلي عنها نهائيا، ليحصل من ذلك ما لابد منه وهو ان يمتد التعجيم الى ابعد مما كان، والى حد الغاء العربية من اسماء المواطنين .

وهذا التشويه اللفظي والمعنوي الذي اصاب اسماء الناس هو ما وقع للتشريعات ونصوصها العربية، حين تترجم عن النصوص الفرنسية باهمال ودون تدقيق. فكما يختفي معنى البشار. من بوشرة والهدى من الهودة والرضى من ريضا كذلك تختفي المعاني المقصودة من النص بالغموض وركاكة العبارة وفساد الصيغة .

وحين يقرا الانسان اليوم بعض النصوص العربية فانه يجد فيها ركاكة واضطرابا وغموضا، يشبه ما تحس به الأذن حين تخرج بعض اعلامنا من افواه الاوربيين يلوكونها بعجمتهم وهم ينطقون محمد واحمد وعبد القادر وعبد الهادي فلا يجد فيها حاء وقافا ولا هاء ولا غينا .

وما اكثر ما كتب الكاتبون من فقهاء وقضاة ومحامين واعادوا، حول الاختلاف او التضارب في النصوص القانونية العربية والفرنسية الناتج عن ازدواج لغة تشريعنا المغربي ولا يكاد يصدر تشريع دون ان تبرز هذه المعضلة امام كل قارئ لها، لتحول بينه وبين الوصول الى المعنى المراد والغاية المقصودة .

وغالبا ما تقترن بالمعضلة اخرى من جنسها تزيدها بلة وميعا، هي ان النص الفرنسي يكون واضح المعنى ظاهره وان العيب او القصور في التعبير يكون في النص العربي الذي لم يهتم الذين استخرجوه بالترجمة بالقيام باي جهد في اختيار العبارة واتقان الصياغة، ومراعاة الخصائص المميزة للعربية لاجتناب الترجمة الحرفية، التي تطبع اغلب التشريعات المعربة وتحيطها بركاكة مزعجة منفرة .

وتتنوع العواقب في الخطورة بحسب موضوع النص القانوني الذي ينظمه من حيث كونه نص جنائيا او مدنيا اجرائيا او موضوعيا او غير ذلك .

وكثيرا ما ينجم عن هذا الاهمال في مراعاة ضوابط الترجمة واتقانها، مآسي تضحك من كثرة ما فيها من فساد وما ادت اليه من عواقب قاتلة تعطيك دليلا على مدى الاهمال الذي يمارس به المكلفون بهذا المرفق وظيفتهم الخطرة هذه، وكذا الاستخفاف الذي يكنونه للذين يعتمدون على النص العربي وحده، لاستخراج الحكم السليم من قضاة ومتقاضين .

ونذكر من ذلك حال المادة 76 من قانون المسطرة الجنائية الخاص بوضع المتهم اثناء استنطاقه امام النيابة العامة، ومدى سلطتها في الامر باعتقاله او تسريحه الى ان يحضر حرا الى المحكمة، حيث كان يتضمن مفارقة مزعجة ظلت سائدة بنشازها الغريب، الى ان زالت بمناسبة التعديلات التي لحقت قانون المسطرة الجنائية سنة 1992 .

لقد كان النص العربي المترجم يوجب على وكيل الملك او نائبه اصدار امر بايداع المتهم بالسجن في حالة وجود شروط ذلك، بينما كان النص الفرنسي المترجم عنه، يجيز له ذلك من غير الزام، بمعنى انه يبقى له، حتى عند توفر الشروط المبررة للاعتقال، ان يسرح المتهم لدواع تقتضيها حالته، لياتي الى المحكمة من منزلة بعد ان يبيت بسريره، من غير ان يقضي يومه وليلته بالسجن وتنقله منه تلك الحافلة المزعجة السيئة السمعة (1) .

انه مثال يعطيك نموذجا للاستهانة التي تعامل بها اللغة القومية من الذين يقومون بانجاز النصوص القانونية العربية، اذ جعلوها طريقا لمن يتمسك بها واستعمالها الى السجن، وتعطيك كذلك نموذجا للتكريم الذي يضفونه على الفرنسية، اذ جعلوها منها طريقا للنجاة من الاعتقال .

لا نقول هذا من باب الخيال او الافتراض المحال اذ ان من نتيجة هذه المفارقة الغريبة، ان وكيل الملك الذي لا يعرف الفرنسية، او يفضل تطبيق النص العربي، سيتعين عليه ان يبادر الى ايداع كل متهم تتوفر فيه شروط التلبس بالسجن، امتثالا لنص قانوني لا يعطيه الخيار في ذلك، كما ان المتهم الذي لا يعرف الفرنسية سيكون محروما من فرصة ثمينة للافلات من هذا الاجراء المزعج وهو الاعتقال الاحتياطي الذي يعني في حقيقته تنفيذ العقوبة الحبسية قبل احكم بها نهائيا، وهو من الاشكالات القانونية المزمنة التي حيرت القانونيين من قديم، وكذا الحال بالنسبة لمحامي المتهم الذي لا بد ان يؤدي اعتماده على النص العربي الى التقصير في الدفاع عن موكله .

وكأني بمن تعرض لتجربة من هذا النوع وافلت من الاعتقال بفضل النص الفرنسي يوشك ان يهتف بحياة الفرنسية وسقوط العربية فياله من كيد عظيم يصيب الوطن في الصميم، الم نقل ان بؤس العربية ازداد بعد انتهاء الحماية وصار الى ما هو اسوا ! !

لقد كشفت الايام الدراسية التي تنطلق منها في هذه الكلمة، عن وجود اضرار على هذا الخطا وعلى ترسيخه ليكون تقليدا قارا يعطي تلك النتيجة القبيحة في كل الاحوال، وهي ان تكون الفرنسية هي العمدة في التشريع، وان يكون النص المحرر بها هو المرجع المعتمد عليه لاستخلاص المعنى الموثوق به والمتضمن للإنقاذ مما في النص العربي من غموض ونقص وركاكة منفرة .

فقد لاحظ اكثر من واحد ممن حضروا وناقشوا وجود تضارب او تناقض وغموض في النصوص العربية، لا يرتفع الا بالرجوع الى النص الاجنبي بل لاحظوا وجود اخطاء مادية لم يكلف المحررون انفسهم عناء المراجعة الدقيقة لتلافيها، وكأنهم يضنون على النص العربي حتى بالمراجعة الاخيرة اثناء الطبع .

--------------------

1) قراءة في التعديل الجديد للفصل 76 من قانون المسطرة الجنائية للاستاذ طيب محمد عمر، جريدة الاتحاد الاشتراكي، 23 فبراير 1992 .

-------------------

ولم يشفع لهذه التشريعات الجديدة المناسبة التي ظهرت فيها والاهتمام الذي نالته من الدولة ورجال القانون والمتقاضين، من حيث كونها تريد ان تبرهن بها على وجود عدالة راقية بنصوصها القانونية ومحاكمها وكل ادواتها الضرورية والكمالية .

وكما حيرت المعضلة المتقاضين والمحامين والفقهاء فقد حيرت القضاء والقضاة حيث يجدون انفسهم امام نصين عربي وفرنسي متضاربين يعوقانهم عن البت بقضاء سليم برفع الخلاف ويحسم النزاع، ويحقق الانصاف لان القاضي لا يمكنه ان يطمئن الى انه قام بواجبه وهو يطبق النص العربي، اذا كان يعلم ان هناك نصا فرنسيا يتضمن معنى اخر، يمكن ان يعطي حلا اخر، ولذلك اختلف الاجتهاد وتضاربت الاحكام، فيما يجب عمله للخروج من الاشكال .

وعندما وصل الخلاف الى المجلس الاعلى، وجد انه ملزم عملا بنصوص الدستور بان يقرر، توحيدا للاجتهاد، ان النص العربي هو العمدة وان نصوصه بدلالاتها وعباراتها هي التي يجب ان تطبق .

الا انه سرعان ما لاحظ ان الخلاف بين النصين قد يتباعد احيانا الى حد كبير، لا يمكن التغاضي عنه والاصرار على اعتماد النص العربي ولذلك رايناه في نوازل اخرى لاحقة، يخرج على هذا ليقرر ان النص الفرنسي، هو ما يجب تطبيقه ناقضا بذلك قرار لمحكمة استئنافية عدل عن النص الفرنسي الى النص العربي، في نزاع كانت فيه احدى شركات التامين طرفا متضررا من ذلك (2).

ولذا فان ما يجب اختياره مراعاة للواقع ومقتضيات العدالة هو الاتجاه اساسا الى اعمال النص العربي، لكن ليس باطراد بل يجب اعمال النص الفرنسي، عندما يتاكد انه المطالب للقواعد العامة والمحقق للانصاف .

والجهاز او المرفق المعني والمختص بالمسالة هو ( الامانة العامة للحكومة) التي خلفت ( الكتابة العامة للحماية)، فهي المكلفة باعداد التشريعات وبتحرير نصوصها العربية والفرنسية، وهي التي تحتم علينا المناسبة ان نحاسبها لنكشف عن مسؤوليتها .

واذا كانت الكتابة العامة للحماية هي التي بدات هذا المنكر المهين للسيادة، فان تمادي الامانة العامة للحكومة في ارتكابه، وابقائه تقليدا مطردا الى الان يجعلها مسؤولة

---------------------

2) الترجيح بين لغتي النص التشريعي والعمل القضائي المغربي، للاستاذ المهدي سوبو، جريدة العلم، ص. المجتمع والقانون العدد 16619-1-3 جمادى الثانية 1416 هـ 1995 .

---------------------

مسؤولية مشددة لانه من ظلم ذوي القربى الذي هو اشد مضاضة، كما قال شاعرنا العربي منذ عنصر الجاهلية .

واظن ان السادة الذين يتولون انشاء التشريعات وتعريب النصوص الفرنسية سمعوا من يردد صاحب اللغة الواحدة اعور فراو ان هذا يقتضي معاملة اللذين لا يعرفون الا العربية بتلك الطريقة التي نصح بها مثلنا الشعبي الذي يوصي من يعامل ذا العين الواحدة بان يكور له من غير يبالي .

ان الاساس الذي ينطلق منه السادة المكلفون في الامانة العامة للحكومة هو ان النص العمدة الذي يجب لان يعول عليه القانونيون هو المحرر بالفرنسية وان التعريب اللاحق هو مجرد فضلة ونافلة لا تستحق اي اهتمام او عناية ولا يجدر باي احد ان يتعب نفسه في اختيار اللفظ والعبارة وتجويد الصياغة .

ان هذا بكل ما فيه من اهانة للغة الوطن، هو ما ينطق به الواقع مع الاسف !

واذا كانت الترجمة في حد ذاتها خيانة كما يقول المثل الاوربي، فان الامانة العامة للحكومة تزيد في تضخيم هذه الخيانة وتمديدها وتوسيعها، لتستجمع اكبر قدر من الاضرار المادية والمعنوية، التي توحي بها الكلمة، وبالها من مفارقة غريبة تجرنا الى ان ندعي الخيانة على الامانة العامة للحكومة ! ! !

ومما يجب ان يذكر وهو يزيد في حجم هذا المنكر ان الامانة العامة للحكومة لا تنفرد به لان هناك عدة مرافق ادارية وغيرها، تشاركها فيه، سبق ان راينا مثل لبعضها في الضابطة العامة للحالة المدنية، بما تفعله بالاسماء الشخصية والعائلية للمواطنين من تحريف وتشويه، ناتج كذلك عن ذات المنهج الفاسد وهو ازدواج لغة الصكوك والاصرار على ان الحرف الاجنبي هو الاساس في رسم الاسماء والالقاب وضبطها .

وتقع هذه الاهانة المرة في صورة اخرى في بعض المناسبات القانونية ذاتها، نذكر منها ذلك المثال المشهور الذي تحدثت عنه الصحافة يوم تاسيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان وافتتاحه، ويوم عقد اول اجتماع له، حيث اصر البعض على ان يكون افتتاحه بغير لغة الوطن الرسمية، على الرغم مما له من اهمية وخطورة، وكانه يريد ان يؤسس فيه تقليدا يجعله فرنسي اللغة، لولا ان هناك من تدخل لتغيير المنكر في بدايته، وهو بذرة صغيرة، قبل ان يصبح دوحة ضخمة وارفة الظلال، كما وقع في كل مرافقنا الاخرى .

ويبدو ان إهانة العربية على هذا النحو اصبح لدى الكثيرين هدفا يركضون للوصول اليه، كما يفعل المتنافسون في السباق، حتى اصبح لزاما ان تفاجا بالفرنسية تخاطبك في مكان او مقام ليس فيه ما يبرر ذلك باي وجه .

ففي برامج الطبخ التي تقدمها التلفزة تفاجا بمن يصر على ان يتحدث الى المواطنين عن شؤون المعدة بالفرنسية، ونجد هاهنا ايضا من يريد ان يدعي انه لا يستطيع ان يعبر عن المراد بالعربية ( اعني الدارجة) .

وهكذا عشنا حتى راينا من يريد ان يزعم ان العربية قاصرة عن التعبير حتى عن شؤون الطبخ وعناصره من الزيت والسكر والطماطم والبصل، وليس عن شؤون العلم، في الكيمياء والذرة والفلك فقط، كما كان يقال سابقا، فماذا بقي من اهانة بعد ان اصبح الطباخون يأنفون من الحديث الى المواطنين بلغتهم الوطنية ؟

وهناك مثل اخر لا يجوز اغفاله لانه طرى حديثا وتفرضه المناسبة، لكونه حدث في الايام الدراسية التي كانت سبب ظهور هذا البحث، حيث راينا اول شخص ياخذ الكلام بعد خطب الافتتاح لتقديم اول عرض قانوني، يصر على ان يكون حديثه بالفرنسية، متعللا بان بجانبه شخصية فرنسية يفرض حضورها ان يخاطب الحاضرين جميعا بغلة هذا الضيف .

لقد تاملت فيما وقع فاذا بي امام سلوك كان الاجدار بفاعله ان يربأ بنفسه عنه، لان استعمال الفرنسية حرم اغلبية الحاضرين من فهم ما جاء ليفيدهم به، ولان ذلك وقع لاجل ان يفهم شخص واحد، بمعنى انه وقعت التضحية بحق لعموم الحاضرين في سبيل شخص لا يملك هذا الحق، بكل المعايير المستعملة في هذا المقام .

اذ لو تكلم المحاضر بالعربية لفهم الجميع باستثناء الضيف المحتفل به، في حين انه باستعمال الفرنسية ضاع على الكثير من اللذين لا يتكلمون الفرنسية ان يفهموا ما قيل، باسثناء اقلية منهم لم تكن لتضار لو تكلم المحاضر بالعربية .

وكما يحدث عادة، فقد جاء بعد من إتكأ على السابقة وكرر نفس السلوك اكثر من مرة، من غير وجود لأجنبي يكون حضوره عذرا مبررا او ذريعة على الاصح. واذا كان صاحب السابقة قد تادب واستسمح واعتذر، فان من جاء بعده ابى الا ان لا يجمع بين الحشف وسوء الكيلة، كما يقول المثل، ففعل ذلك باستخفاف مكشوف .

واظن اننا لو استشرنا تلك الشخصية المضحى من اجلها لتقرر بنفسها ما يجب لما استطاعت ان تنصح بالتخلي عن لغة الوطن مجاملة لها بالاستناد الى العرف الدولي المعترف به لكل الدول، وهي محجوجة بقانون بلادها نفسه، الذي يمنع استعمال غير الفرنسية في مثل هذه المناسبات، ويذهب الى حد تجريم ذلك والعقاب عليه ! واوجب في حالة كون المحاضر اجنبيا لا يعرف الفرنسية ان يكون بجانبه من يقوم بالترجمة الفورية عنه لعموم الحاضرين .

بل استطيع ان اقول ان هذا الفرنسي اذا كان سره ان نضحي من اجله بلغة البلاد، فانه لابد ان يضمر لنا تحت هذا السرور شيئا من الاحتقار. وهنا يجب ان يعرف من لا يعرف، ان اول من يحتقرنا في تعصبنا للفرنسية على هذا النحو هم الفرنسيون انفسهم .

لقد كان مما اجمع عليه العقلاء ولا يجمعون على عبث، ان من اشياء الانسان والوطن، ما لا يجوز تفويته او منحه، وان الكرم حين يقع على شيء من هذا، لا يكون فضيلة ابدا، ولا يجلب لفاعله الحمد والثناء .

وما احسب الذين يريدون مراكز البعثات الفرنسية في عواصمنا وقد شبعوا من زرابينا الاطلسية والرباطية المهداة لهم للفوز بمقاعد لاطفالهم، الا قد امتلاوا بكثير من هذا الاحتقار، اذ يروننا نشتري لغتهم بالاثمان الغالية والرشاوي الثمينة، وهم يهبونها بالمجان في مناطق اخرى من العالم !

ولا ريب ان عجبهم سيزداد اذا علموا ان اسلافهم في عهد الحماية، كانوا يعرضونها بلا ثمن، يغرون بها المغاربة بمختلف الوسائل وهم نافرون منها بوازع وطني نلمس مغزاه فيما نحن بصدده !

ولا يجوز لاحد ان يشكك في هذا ونحن نرى له دليله البارز في الاثمان الغالية التي يسعرون بها، لغتهم والتي تتصاعد على راس لكل عام بل تتصاعد في العام الواحد احيانا اكثر من مرة. انه سلوك لا يدل على انهم يعاملوننا بالاحترام المناسب المتوقع من حبنا للغتهم !

ان هذا التهافت على الفرنسية، بكل ما فيه من عقوق وطني وما يتضح به من شعور بالنقص ازاء الاجنبي ينطوي كذلك على خسائر مادية كلها غبن وكلها غباء !

ان الذين يصرفون الاموال ويقدمون الهدايا والرشاوي لاجل ان يحصلوا لاطفالهم على مقاعد في مدارس البعثات، انما يجنون عليهم من حيث لا يدرون، لانهم يحبسونهم في لغة قاصرة لا تتعدى قيمتها حدود بلادها وبعض مستعمراتها السابقة الضعيفة اقتصاديا وسياسيا .

ولم يطل الزمن كثيرا حتى برزت هذه الحقيقية تتحدى الجميع، فراينا هؤلاء يضطرون لتحويل الاتجاه الى لغة اخرى ليركضوا وراء الانجليزية يطلبونها بالحاح وبالاثمان الغالية كذلك !

لعل الكثيرين يتذكرون ما يقع لبعض المغتربين حيث يتزوج احدهم اوربية فيحسب الناس انه حقق في هذا الجانب تفوقا حضاريا يحسد عليه، حتى اذا جاء بها فوجئ الجميع بان صفته لم تقع الا على عجوز معدمة تاخذ منه كل شيء ولا ياخذ منها شيئا، لان تمسكنا بالفرنسية اليوم، فيه كل ما في هذه الحكاية من غبن وغباء وخيبة ! !

ولكن يبدو ان الاستلاب فعل فعله وتمكنت هذه اللغة من ان تحفر لها جذورا في تربتنا اكسبتها قيمة داخلية تحفظ لها نفوذها بيننا، مهما تدنت قيمتها خارجيا. اذ ان هناك من افلح في ان يجعل منها شيئا يشبه البشرة البيضاء في بلاد الميز العنصري التي تفاضل بين الناس حسب الوانهم .

لقد اصبح هذا حقيقة موثقة بعد ان كشفت بعض التقارير الدولية حول حقوق الانسان ان التمسك للفرنسية ببلادنا ادى الى خلق بيئة طبقية لغوية، تتيح لطائفة من الاقلية ان تتفوق اقتصاديا وتسود اجتماعيا وسياسيا، بمعيار مرفوض دوليا، لانه يقوم على لغة دخيلة .

لقد ان الاوان لهذا الغبن والغباء وسخافاته ان ينتهي، ان لم يكن حبا للوطن واحتراما لاصوله، فلما تحدانا به الواقع اكثر من مرة، وهو ان الفرنسية ليست هي اللغة الاجنبية التي تستحق منا كل هذه المحاباة والتضحيات !

وبالنسبة لموضوعنا، اعود لاقول ان من الكوارث ان اكتب هذا الكلام حوله سنة 1998 يعد مضي حوالي نصف قرن على انتهاء عهد الحماية، واغلاق كتابتها العامة، التي حلت محلها الامانة العامة للحكومة باطرها المغربية العربية، التي كان من المفروض ان تقوم تلقائيا بتعريب تشريعاتنا ومغربتها، جريا على القاعدة التي سارت عليها كل الامم المماثلة لنا، فاذا بنا نخرج عن هذه القاعدة لنجد ان تشريعنا ما زال في حاجة الى تعريب، ولو ان الذين يصنعونه مغاربة .

ان اللغة الاجنبية لا يجوز لها ( حسب المتعارف عليه دوليا ) ان تخترق مناطق السيادة القومية، ومنها سلطات الدول الثلاث، لاسيما القضائية التي هي المهيمنة، على ما عداها، بمراقبتها وتقويم اعوجاجها .

وحين يقع شيء من ذلك باكراه من الاجنبي المستعمر، فان الاستقلال كان يعني دائما الرجوع الفوري الى الاصل، وانزال لغة المستعمر من مرافق الدولة، على النحو الذي تنزل به رايته من على ابواب المراكز الادارية .

فهذا ما حدث مثلا في مصر حيث سجل التاريخ ان الدولة بادرت سنة 1936 ( اي نفس العام الذي وقعت فيه معاهدة استقلالها) الى تاسيس لجان تفرغت لمراجعة القوانين بقصد اعادة صياغتها لتناسب عهد الاستقلال وظلت تعمل بكد حتى انجزت للبلاد مدونات قانونية موضوعية اصلا بالعربية، سليمة من عيوب الترجمة .

وهذا على الرغم من ان الحقوقيين الرواد الذين بادروا الى هذا الانجاز كانوا في جلهم، من ابناء الطبقة الارستقراطية التي لم تكن سليمة من التفريخ ومن خريجي كليات الحقوق بفرنسا ذاتها، التي حصلوا منها على الاجازات والالقاب العلمية العالية، الا انهم جاءوا كذلك بوعي ثقافي صحيح فلم يزدهم اتقان اللغة الاجنبية الا حبا للغتهم والتعصب لها .

وكان اهم ما تميزت به القوانين الجديدة هو صياغتها في نصوص عربية اصلية تكون وحدها المرجع وتكون النصوص الاجنبية مجرد ترجمات ليس لها الا دور التفسير والشرح. وذلك عدولا عما كان عليه الامر من قبل، حيث كان هذا القطر الشقيق يعاني مثل ما نعاني منه قبل الاستقلال (3) .

وهذا ما كان يجب علينا ان نبادر اليه في اوانه وهو ما يجب ان نستدركه لازاحة هذا الازدواج في لغة النص الذي ظل يعرقل عمل القاضي ويحجب عنه المعنى المراد، ويعوقه عن النطق بقضاء سليم، وهو ضروري ايضا لكي ندخل في المتعارف عليه عربيا ودوليا كي يحترمنا الناس .

ولكن الواقع المؤلم ان المرفق الاداري المختص بتدوين القوانين عندنا، لا يملك المؤهلات الضرورية لتحقيق هذا المراد الكبير الخطير، لان ذلك يتوقف على اطر فنية لها فقه في اللغة وفقه في التشريع معا ودراية بضوابط التقنين .

اذ ان الصياغة التشريعية في فن اخر مستقل يقوم مع مراعاة مقتضى الحال والغاية من القانون وهذا يحتاج الى اسلوب اخر يختلف عن كل الاساليب المعروفة في الكلام العادي والانشاء الادبي، وغير ذلك ويقوم ايضا على التنوع تبعا لتنوع موضوع القاعدة القانونية المراد التعبير عنها .

----------------

3) انظر ما كتبه المرحوم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في الموضوع في الجزء الاول من الوسيط، ط. دار احياء التراث العربي، 1972، ص. 19 .

---------------

ولذا كانت هناك ضوابط لابد من التزامها عند التقنين لاجل تحقيق الغاية المطلوبة، وهي الاعراب عن المعاني المقصودة وتبليغها للمخاطبين بالقانون وهم المتقاضون والقاضي الذي يسمع منهم ويقوم بالبت في النزاع بعد التكييف السليم للخصومة القضائية المعروضة عليه وهذا يقتضي الحرص على ان يكون الاعراب عن المعنى بالاسلوب المناسب للقاعدة القانونية المقننة من حيث كونها تتعلق بالتشريع الجنائي او المدني، ومن حيث كونها تتعلق بتثبيت المراكز القانونية وتحقيق الاستقرار في المعاملات مثل اجال الطعون وقواعد البطلان والتقادم وغير ذلك، ومن حيث كونها تقدم الحلول القانونية الموضوعية للبت في الخصومات، واقرار العدل في الاحكام، وارضاء الافراد فيما يتشوقون اليه من الانصاف الذي يحقق لهم الاطمئنان على حقوقهم (4) .

واول ما يجب الاهتمام بتحصيله في الصياغة، هو تمكين القاضي من الفهم اليقيني المريح، باختيار العبارة الدالة على المعنى من غير غموض، والاصطلاح المعبر عن المراد من غير اشكال، ثم اختيار الجملة المناسبة والتركيب اللغوي السهل، الذي يقرب المعنى مع اجتناب الايجاز المخل والاطناب الممل، كما يعبر علماء البلاغة، والبعد عن المجاز الادبي الذي لا يليق بجدية القانون والبعد عن كل حشو يشوش ولا يساعد على الفهم .

ويدخل ضمن ذلك معرفة ما هو ضروري للنص عليه، وما يجب تركه لفطنة القاضي يستنتجه من دلالة المفهوم او الفحوى، ومنه معرفة ما يجب الدلالة عليه بمنطوق اللفظ وما يجب تركه لمفهومه ومعرفة ما يجب التعبير عنه بتفصيل وما يجب التعبير عنه باجمال .

ثم يجب الحرص على ان يكون في النص قدر من الاجمال يساعد القاضي على الاجتهاد والتكييف الصحيح، والتصرف بحكمة في بعض النوازل الغامضة التي يفاجئنا بها الواقع، لان التطبيق الحرفي للنصوص قد يؤدي الى تفويت العدالة والانصاف المتوخى، لكون النوازل البشرية تتنوع وتظهر في هيئات غريبة، هيهات ان يعالجها النص القانوني الذي صاغه المشرع في زمان ومكان معين، من غير ان يستطيع ان يتوقع ما سيراه القاضي الذي يطبقه عن عجائب وغرائب.

---------------

4) انظر المدخل الى القانون للدكتور حسن كيرة، الباب الثاني في شكل القاعدة القانونية، ص. 181 وما بعدها .

---------------

وتحصيل كل هذا يحتاج الى فهم واسع في فقه اللغة بكل فروعه وفنونه المتشعبة يستنبط ويستظهر تلك القواعد والضوابط الموضوعة لفن القول .

فلابد من دراية متعمقة بالنحو وقواعده، وخصوصا من ذلك احكام النعت والحال والتوكيد والتمييز والضمائر واسماء الاشارة والاسماء الموصولة والمعرفة والنكرة وظرف الزمان والمكان والاستثناء وادواته واحكامه .

ولابد من دراسة الادوات النحوية ومعانيها الدقيقة كحروف الجر والنفي والشرط وغيرها مثل من والى وعن وعلى وفي وما واين ولكن وبل ولا ولو وحتى ومتى وقد وال ومعانيها حيث لكل واحد منها دلالات اصلية وفرعية لا يمكن فهم الجملة او التركيب الا بفهمها .

ولابد من دراسة لعلم الصرف وضوابطه، المتعلقة باوزان الافعال واوزان الاسماء والفعل اللازم والمتعدي، والمعاني التي تكتسبها الافعال من الحروف الزائدة، واسم المكان واسم الزمان والمصادر والجموع، وكذا قواعد الاشتقاق، التي لابد منها لمعرفة توليد الكلمات، التي تتطلبها المعاني الجديدة .

ولابد من اتقان لعلم البلاغة بفروعه المعلومة، لمعرفة الفصاحة ومعناها ومقتضى الحال والفرق بين الجملة الاسمية والجملة الفعلية، ومتى يجب استعمال احداها دون الاخرى، ومعرفة الحقيقة والمجاز واقسامه، والخبر والانشاء والقصر او الحصر، والتقديم والتاخير، والايجاز والاطناب والاستعارة والكتابة

ولابد كذلك من دراسة لعلم المنطق الذي يقول اصحابه انه ضروري للوقاية من اللحن الفكري، ضرورة النحو للوقاية من اللحن اللساني، وبه يكون مضمون الكلام سليما بجانب سلامة العبارة والشكل. فالمنطق هو الذي يرسم للفكر منهجه، الذي يضمن له ان يعمل وينتج بلا خلل ولا زلل، وهو ضروري لبناء الجملة القانونية التي تقوم على التعليل العقلي المؤسس على المقدمات والنتائج، والبرهنة العلمية على سلامة الاحكام، التي يقررها القانون والجزاءات المدنية والجنائية، التي يرتبها على افعال الناس .

ولابد كذلك من دراسة لاصول الفقه، ذلك العلم الجبار الباهر، الذي هو اهم ما يجب ان يتقنه من يتصدى لصياغة التشريع، لادراك الدلالات واقسامها، مثل دلالة العبارة ودلالة الاشارة، ودلالة الاقتضاء والمنطوق والمفهوم والعموم والخصوص والمطلق والمقيد والمترادف والاشتراك والسبب والشرط والمانع، والادوات اللغوية المعبرة عن ذلك، وكذا ادراك المقاصد واقسامها ودرجاتها من ضروريات وحاجيات وتحسينات .

ولا تنتهي هذه الواجبات عند هذا الحد، فانه مطلوب كذلك بالحاح، الاطلاع على التراث التشريعي المدون او المقنن وغيره، وهو غزير متنوع في كمه وكيفه ومظانه، مثل الاحاديث النبوية الشريفة، والقواعد الاصولية، والقواعد الفقهية، التي نجد فيها نماذج عالية رائعة لبلاغة التعبير في التشريع تجمع بين قوة المبنى والمعنى وجمالهما .

ومثال ذلك من الاحاديث النبوية الشريفة، قول الرسول الكريم عليه السلام : الاسلام يجب ما قبله، التائب من الذنب كمن لا ذنب له، انما الاعمال بالنيات، من غشنا فليس منا، الدين المعاملة، الحلال بين والحرام بين، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، الظلم ظلمات يوم القيامة، كل مسكر حرام، ما اسكر كثيره فقليله حرام، البينة على المدعى، لا ضرر ولا ضرار. ومثاله من قواعد الاصول والفقه، العقد شريعة المتعاقدين، الضرورات تبيح المحظورات، المعدوم شرعا كالمعدوم حسا، درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، العمد والخطا في اموال الناس سواء، لا ينسب لساكت قول، العبرة بعموم اللفظ ولا بخصوص السبب، المفرط اولى بالخسارة، ما ثبت بيقين لا ينتفي الا بيقين، ما احتمل واحتمل سقط به الاستدلال، لسان الوكيل لسان الموكل .

اننا نجد في هذه الاقوال والعبارات سلاسة في النطق ومتانة في السبك، وبلاغة في التعبير وايجازا مانعا مطابقا لمقتضى الحال، يكاد يشبه الابداع الشعري بجماله ومتعته المعروفة .

وبجانب هذا التراث العريق يجب الاطلاع على تراث اخر حديث، هو الذي تضمنته المدونات القانونية التي سبقت الى انشائها الدول الاسلامية والعربية لان فيها نماذج من الصياغة القانونية جديرة بالاحتداء والاستئناس لا يمكن الاستغناء عنها. واقدمها مجلة الاحكام العدلية التي دونت احكام الشريعة الاسلامية وصدرت منذ سنة 1869 في عهد الدولة العثمانية .

وتاتي بعدها المدونات القانونية التي انشاتها دولنا العربية بعد استقلالها، وهي متنوعة في اساليبها ودسمة في مادتها العلمية ومتينة في سبكها اللغوي، مثل القوانين المدنية والتجارية المصرية والعراقية والسورية واللبنانية وبعض دول الخليج العربي .

ويجب كذلك الاطلاع والاعتماد على معاجم المصطلحات القانونية، التي صدر منها الجم الكثير، بمجهودات فردية وجماعية، لاسيما تلك التي تولت انشاءها المجامع والمؤسسات اللغوية المتخصصة. ففي هذه المعاجم ثراء في المادة كما وكيفا يغني عن الارتجال الذي نراه باديا في كثير من المصطلحات المستعملة في نصوصنا المغربية، يدل على ان هذه المظان المفيدة لم تكن حاضرة في اذهان الذين تولوا اعداد نصوصنا التشريعية .

ومن ثم نرى ان مرفق التشريع يحتاج الى جهاز بشري مؤهل نظريا وعلميا يتالف من اطر علمية ذات تخصص في القانون واللغة، وما يرتبط بهما من علوم ممهدة او مكملة، وان النص التشريعي يجب ان يكون موضوع معالجات متوالية تتداوله ايدي الخبراء بالتصويب والتنقيح، كما يقع للبضاعة في المصنع، حين تتناولها الالات الأصلية والفرعية بالتطوير والتحسين والتجميل، حتى تخرج اخيرا في هيـئة كاملة جامعة لجمال المظهر ومتانة المخبر .

ومن تمام ذلك ان يكون هذا المرفق مزودا بخزانة علمية غنية بالمعارف المتعلقة بتخصصه من الموسوعات والكتب القديمة والحديثة، المجلات المجمعية المتخصصة، المواكبة لاعمال المجامع والمؤسسات اللغوية في العالم العربي، وكذال المعاجم العامة والخاصة بالمصطلحات القانونية والاقتصادية وغيرها .

ويقتضي هذا ايضا ان تستوعب اكبر كم من المدونات القانونية باعمالها التحضيرية ومذكراتها التفسيرية وحتى احكام القضاء المطبقة والكاشفة عن معانيها عمليا .

ولاجل الاستفادة من هذه المدخرات، لابد لها من تصنيف وتبويب باحداث الطرق الالية والتقنية المستعملة، بحيث يتأتى بسهولة استحضار اي نص قانوني للمقارنة والاستنئاس، كلما اريد تحضير مشروع تشريع في أي موضوع كان .

لا يمكن ان نتحدث عن تعريب التشريع في نصوصه الرسمية، دون ان تستدعي المناسبة الحديث عن تعريف تشريع اخر، يكتبه الناس وهم يتعاملون بالبيع والكراء والوكالة والرهن والشركة غير ذلك. ان العقود التي يبرمها الافراد لتوثيق معاملاتهم ليست الا نصوصا قانونية يعترف لها القانون بهذه الصفة حين يجعلها ( شريعة المتعاقدين ) .

ان هذه الوثائق حين تصل الى المحاكم بمناسبة الادلاء بها من المتقاضين، لاجل اثبات ادعاءاتهم ودفوعهم او نفيها وتكون منطلقا للبت في الخصومة القضائية، تصير جزءا من النصوص القانونية المطبقة، وشطرا من التعليلات التي يمهد بها القاضي لمنطوق حكمه، وتكون هي والنصوص القانونية في درجة واحدة من الحجية، كما نرى ذلك واضحا في حيثيات الاحكام التي تعتمد اساسا على نصوص قانون والوثائق التي يدلي بها اطراف الخصومة .

ولذا كان تعريب التوثيق لاسيما الرسمي منه واردا بالحاح، ونحن نتناول موضوع تعريب التشريع. ان المعضلة في توثيقنا الرسمي المدني انه ايضا مزدوج اللغة، وان الوثائق ايضا تحرر اصلا بالفرنسية، ثم يضطر المتقاضون الى تعريبها بمناسبة الادلاء بها في دعاويهم، بكل ما يمكن ان ينتج من العيوب التي تحدثنا عنها في ترجمة النصوص القانونية. لان الذين يتولون تعريب الوثائق يفعلون لذلك بنفس الارتجال الذي لاحظناه على الذين يترجمون تشريعاتنا القانونية .

واذا كنا قد تحدثنا عن تعجيم اسماء المواطنين الشخصية والعائلية ونسبنا ذلك الى ضابطة الحالة المدنية التي اشتهرت به، فانه يجدر بالذكر ان التوثيق المدني بفرنسته، يشارك في هذه المعضلة، وينتج فيها نماذج اخرى تزيد في ذلك الكم من اسمائنا المشوهة التي تتراكم بمرور الايام .

يحدث هذا حين تكلف المحاكم المتقاضين بتعريب الوثائق، فيقوم المترجمون بنقل اسمائهم الى العربية كما هي بالفرنسية حرفيا، من غير ان يرجعوها الى اصولها العربية .

اذكر من ذلك مثالا ساقته الى المصادفة اخيرا، وهو ان شخصا اسمه ( فرجي) وجد اسمه عندما استخرج شهادة من المحافظة العقارية ينقلب الى ( فرادجي ) هكذا باقحام الالف والدال، ففقد الاسم هويته العربية وخرج منه ( الفرج) الذي اختير من اجله واسيلت عليه دماء عقيقته !

ومن هنا كانت فرنسة التوثيق الموروثة عن عهد الحماية حين كان يتولاه الفرنسيون في الغالب، من اثار ذلك العهد التي يجب ان تزول لبزواله، بتعريب هذا المرفق تعريبا كليا، بان تكون نصوص العقود المتداولة كلها عربية الاصل والنشاة، مهما كان اطرافها في جنسياتهم وان تكون الترجمة من العربية الى غيرها، كما هو معمول به في كل الدول، وليس العكس .

فمن المؤكد والمعمول به تبعا لارتباط التوثيق بالتشريعات وكونه مكملا لها، انه داخل في حيز السيادة الوطنية المحرم على اللغة الاجنبية، والتي يجب ان تحتكرها اللغة الرسمية وحدها، وهو عرف دولي لا تفرط فيه اية دولة لانه لا يوجد من ينازعها فيه .

وربما لا يعرف الكثيرون عندنا، ان الاوراق الرسمية في القانون المصري لا تتحقق لها حجيتها الرسمية الا اذا كانت منشاة في الاصل بالعربية، التي تعد شرطا جوهريا يترتب عن عدمه العدم، وهو ما يعني ان الأوروبيين اللذين يبرمان عقد بيع، ويذهبان الى الموثق لاجل توثيق المعاملة، يكونان ملزمين بان يقبلا انشاء العقد بالعربية وهم يجهلونها ولا يعطيهما القانون هنا الا الحق في ان يكون بجانبهما ترجمان ينقل اليهما معاني فقرات العقد عند تلاوته عليهما (5) .

وانا لست استبعد ان ارى من يهب ليعترض على هذا او يدعي انه سابق لاوانه، يحتاج الى تمهيدات واستعدادات ووقت طويل، بل لا استبعد ان يبرز من اصحاب مهنة التوثيق من يدعي بصراحة اني ادعو الى تخريب هذه المهنة، على نفس الفهم الذي ظللنا نسمعه كلما اثيرت قضية التعريب، حتى فيما يتعلق بالحياة العادية للناس، وهو كلام ناشئ عن نقص في ( التربية الوطنية ) ليس الا .

ان التوثيق من اسهل المرافق القابلة للتعريب، من غير مشقة ومن غير خسارة ولا خراب على اصحاب هذه المهنة الكبيرة الخطرة، لما هو معلوم من ان جميع العقود المستعملة، موضوعة من قديم بصيغة واحدة محفوظة، تتضمن العناصر القانونية التي لابد منها في كل عقد، حسب موضوعه من بيع وكراء وشركة وغير ذلك، ويتداولها الموثقون كما يتداول الناس الاوراق بالنقدية، ويجدونها امامهم حاضرة ليضيفوا اليها هويات الاطراف، وبقية المعلومات المتعلقة بالموضوع، وبعض الشروط الخاصة التي يمكن ان يتفق عليها الاطراف في بعض الاحيان .

ودور الموثق يكاد ينحصر في التزكية التي يضيفها المشرع على شخصيته، من حيث كونه مؤهلا لتلقي الاشهاد وترسيمه، ثم مراقبة الخدمات والاجراءات الادارية السابقة واللاحقة التي يقوم بها الاعوان تحت اشرافه .

وتعريب التوثيق لا يتطلب سوى استعمال النظائر العربية لهذه العقود وهي موجودة بوفرة، منها الشرعي العتيق ومنها المدني الحديث، الذي ما زال يتجدد لمواكبة تطور المعاملات الاقتصادية والاجتماعية، وما ينتج عنها من تعديلات في القوانين، وما تستحدثه من عقود جديدة .

-----------------

5) انظر الوسيط، ط. دار التراث العربي، ج. الثاني، ص 132 .

----------------

فكما ان هناك بجانب العملة الفرنسية، عملات عربية، فان هناك نظائر عربية موازية لكل العقود الفرنسية الفردية والجماعية المتداولة عندنا، في ميدان التوثيق المدني، تنتظر ان تمتد اليها ايدي الموثقين لتضيف اليها البيانات المتعلقة بهويات الاطراف وغيرها وتقوم بتوثيق معاملات الناس بلغتهم القومية عملا بما يفعله كل الناس في كل انحاء الدنيا .

ولذلك استطيع ان اقول ان تعريب التوثيق كان من اول ما يمكن البدء به في التعريب في اول عهدنا بالاستقلال بعد مهلة للقيام ببعض الاجراءات التمهيدية .

وقد كان يجب حتما المبادرة الى تعريب التوثيق، يوم تقرر تعريب القضاء ومغربته، وان يكون ذلك ضمن الاجراءات التي اقترنت بهذه الحركة التي تحققت بسلام .

وكان سينكشف للجميع لو تم هذا، ان التوثيق واصحابه لن يضاروا ابدا من ذلك، على نحو ما وقع للمحامين الاجانب الذين استهول الكثيرون بمنهم تعريب القضاء، وتوقعوا من ذلك شرا وثبورا دون ان يقع شيء مما توجسوه، بدليل انهم ظلوا يمارسون وما زلوا بكل ما كان لديهم من امتياز. وسرعان ما ادرك بعض الذين فضلوا مغادرة البلاد ان ظنونهم السيئة لم تكن في محلها وان يد التعريب التي افزعتهم كانت للمصافحة لا للضرب كما توهموا !

وحتى بعض المحامي المغاربة الذين استثقلوا تعريب القضاء وعبسوا في وجهه وكانه دخيل، سرعان ما حنثهم الواقع واكتشفوا مدى تجنيهم، حين وجدوا انه احوج اليهم المحامين الاجانب، لتعريب مكاتبهم فجنوا منه مغانم كثيرة، ودل ذلك بالبرهان الملموس، على ان التعريب لا يقطع الارزاق، ودل ايضا ان الوطن حقا غفور رحيم، يعفو ويفصح لا ينتقم ! ! !

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 80، ص 108 .

مسطرة التسوية القضائية ( او التصحيح القضائي)

احمد شكري السباعي

أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق الرباط اكدال

ممثل المغرب لدى لجنة الأمم المتحدة

للقانون التجاري الدولي

يتبين من دراسة القانون الجديد ان للمشرع اهدافا وغايات يروم تحقيقها، وطرق تقنية وادارية واقتصادية تكفل نجاح هذه الاهداف وتضمن انقاذ المقاولة، انقادا للانتاج والتشغيل، وحماية لموارد الدولة منن الاندثار او التناقص او التاكل فباندثار المقاولات تندثر هذه الاهداف وبتناقصها تتناقص، وبازدياد المقاولات وفعاليتها تزدهر الحركة التجارية وتتحقق هذه الاهداف .

ولقد ادرك المشرع المغربي ان تشريعات بداية القرن التاسع عشر والقرن العشرين يرجع تاريخ قانون التجارة المغربي الى 12 غشت 1913، الذي تاثر بمدونة نابليون لسنة 1807 - عاجزة كل العجز عن معالجة اوضاع المقاولات التي تعترضها صعوبات، ولا تتلاءم مع التطور الذي طرا على الاقتصاد العالمي الذي لا يمكن ان يكون الاقتصاد المغربي بمعزل عنه ؟ وان سيف الافلاس بات يدمر المقاولة والاقتصاد دون توفير لفرص العلاج فامراض الاقتصاد والمقاولات كامراض الانسان، ينبغي التفكير في علاجها قبل التفكير في استئصال المقاولة وتدميرها. فقوانين الافلاس التي اعتبرت بدورها في حالة افلاس تغلب المعطيات القانونية المحضة، التي لا ترحم التاجر والمقاولة التجارية والشركة التجارية ان وقع التوقف عن دفع الديون المستحقة ( المادة 197 من قانون غشت 1913 المنسوخ ) ان لم ينجح الصلح، وتحمي الضمان العام وحقوق الدائنين على حساب المعطيات الاقتصادية والاجتماعية وموارد الدولة، اسباب وعلل جعلت المشرع يلبس لباس القرن الحادي والعشرين الذي يفرض عصرنة الاقتصاد وتحديث القوانين، وخلق توازن اجتماعي بين المقاولين والمنعشين الاقتصاديين من جهة، وبين الدائنين من بنوك ومؤسسات مالية، خاصة كانت او عامة من جهة اخرى، وبين مصالح الافراد والمجتمع، فالمغرب يشكل جزءا من دول البحر الابيض المتوسط ويسعى الى الشراكة مع الاتحاد الاوربي، والى التعاون مع العالم الانجلوسكسوني، اللذين يعاني اقتصادهما، على الرغم من تقدمه وازدهاره امراضا كثيرة، ولكن تعالج بحكمة نسبية تراعي المصالح الاقتصادية والاجتماعية اولا، وبمعنى اخر، ان هذه الدول سخرت القانون لخدمة هذه المصالح الاقتصادية والاجتماعية لا العكس، دون هدر حقوق الدائنين، اسباب ودوافع جعلت المشرع يفكر كما تفكر هذه الدول المتقدمة في معالجة الامراض والصعوبات التي تعترض المقاولات، والعمل على تصحيح او تسوية اوضاع المقاولة باليات وتقنيات قانونية جديدة .

وقد وقع اختياري على تقنية تمويل المقاولة ليكون موضوع هذا البحث .

فلا غرو ان تسوية ( او تصحيح) وضعية المقاولة تحتاج الى تمويل او ائتمان، كما هي في حاجة الى تنفيذ العقود الجارية ( او التي في طور التنفيذ) ولتامين هذا التمويل وضمان مصالح اصحاب العقود الجارية، تبنى المشرع سياسة حكيمة تطمئن الممولين او الشركاء المتعاملين » « Les partenaires مع المقاولة - من بنوك ومؤسسات مالية وغيرهما - والمساهمين في انقاذها. وكذا اصحاب العقود التي اختار السنديك متابعة تنفيذها، وما كان لهؤلاء الممولين خاصة، ان يغامروا في هذه المرحلة الانتقالية او المؤقتة الحرجة، بتقديم الائتمان او التمويل لمقاولة في طور المعالجة. بعد ما زجت بها الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية الى التوقف عن سداد ديونها ( المادة 560)، الا اذا كانوا على يقين بانهم سيحصلون على ديونهم في تاريخ استحقاقها، او على الاقل بالاولوية على سائر الديون الاخرى، سواء كانت عادية او مقرونة بامتياز او ضمان عند التفويت او التصفية، وهو الضمان القوي والفعال الذي تقدمه لهم المادة 575، تلك المادة التي تمنح امتياز الامتيازات للديون الناشــئة بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح التسوية او التصحيح " Le redressement "، والتي جاء فيها " يتم سداد الديون الناشئة بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح التسوية بالاسبقية على كل ديون اخرى، سواء اكانت مقرونة ام لا بامتيازات او بضمانات" .

ونلاحظ مع الفقه الفرنسي، ان هذه المادة ما هي الا صياغة جديدة فرضها اندثار كتلة الدائنين، حيث كان يميز في ظل القانون القديم او الكلاسيكي ( نظام الافلاس) بين نوعين من الدائنين، الدائنين السابقين عن الحكم او الدائنين في الكتلة "créanciers dans la masse" والدائنين اللاحقين للحكم او دائني الكتلة " créanciers de la masse" (1)، وكانت الافضلية او الاسبقية دائما وفعلا للثانيين على الاوائل .

ولا يعد امتياز حق الاسبقية الذي تقدمه المادة 575، وهو حق مطلق ومقدم على سائر الامتيازات والضمانات الاخرى - الالية الوحيدة في هذا التشريع الجديد لضمان التمويل او تقديم الائتمان الى المقاولة في هذه المرحلة من المسطرة، بل تقوم الى جانبه اليات اخرى، وان كان هو افضلها وامضاها فعالية وقوة، يمكن ان يستعملها السنديك. او رئيس المقاولة بترخيص من القاضي المنتدب، وتتجسد في جواز تقديم رهن رسمي "Une hypothèque" او رهن - حيازي او دون انتقال الحيازة " ou un nantissement" قصد الحصول على التمويل او الائتمان ( المادة 578)، زد على كل ذلك التمتع بضمانات قضائية اخرى سطرتها المادة 653 والتي بمقتضاها يوقف حكم فتح المسطرة ويمنع كل دعوى قضائية يقيمها الدائنون اصحاب الديون الناشئة قبل الحكم، ترمي الى الحكم على المدين باداء مبلغ من المال، او فسخ عقد لعدم اداء مبلغ من المال، وكذا كل اجراء للتنفيذ بقيمه هؤلاء سواء على المنقولات او العقارات، وبمعنى اخر، ان حرمان اصحاب الديون الناشئة قبل الحكم من المقاضاة والتنفيذ، يشكل امتياز اخر لفائدة الممولين للمقاولة بعد الحكم الذين يبقى حقهم في المقاضاة قائما لاستيفاء ديونهم في تاريخ الاستحقاق، والاولوية او الاسبقية عند التفويت او التصفية القضائية وكل ذلك لضرورة تسوية وضعية المقاولة او تصحيحها وتجب التفرقة بين اثر حق الاولوية الذي يمنح حق الاسبقية عند الاقتضاء في مرحلة التفويت والتصفية القضائية وبين مجال نشاة حق الاولوية الذي يقتصر على مرحلة متابعة النشاط، بعد الحكم بالتسوية القضائية او التصفية القضائية .

ونستخلص من هذا العرض ومن المادة 575 نتيجتان هما :

أ‌- وجوب اداء الديون الناشئة بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح التسوية او التصحيح في تاريخ استحقاقها، تحت طائلة المطالبة القضائية مع التعويضات ان كان لها محل (2) .

--------------------

1) مشيل جانتان : القانون التجاري، طبعة 1992، صفحة 362، فقرة 664 .

2) وان لم يذكر النص صراحة، لان القاعدة طبيعية قانونية، ويستفاد ضمنيا من سياق النص .

--------------------

ب‌- سداد هذه الديون بالاسبقية عن كل الديون الاخرى، سواء كانت مقرونة ام لا بامتيازات او بضمانات عند التفويت او التصفية القضائية الذين سنتولى دراستهما في الوقت المناسب .

ويتطلب التعمق في دراسة هذا الامتياز معالجة بعض الاشكاليات التي لا تخلو من صعوبات في بعض الاحيان لغموض النصوص، وهي تحديد مجال او نطاق تطبيق المادة 575، وبداية ونهاية الفترة او المرحلة المؤقتة او الانتقالية والديون المعنية بهذا الامتياز والمقصود بقانونية الديون وغيرها من الاشكاليات .

1- مجال تطبيق المادة 575 :

استعمل المشرع في تحرير المادة 575 صياغة عامة، قد تجعل البعض يظن انها تستغرق، خلافا للحقيقة والواقع والقانون. كل الاوضاع والمراحل التي تمر بها المقاولة بعد صدور حكم فتح التسوية القضائية ( او التصحيح القضائي ) ومهما كانت المساطر المطبقة عليها سواء تعلقت بالمرحلة المؤقتة، او مرحلة حصر مخطط استمرارية المقاولة " le plan continuation" ( المادة 592) او التفويت الكلي للمقاولة " la cession totale" ( المادة 603)، او التصفية القضائية "la liquidation judiciaire" ( المادة 619 ).

ونظن ان صياغة المادة40 الفرنسية تفضل الصياغة المغربية - وان كانت تستوعبها - لانها حددت اثر هذه المادة والحالات التي تنطبق عليها، قاضية بوجوب وفاء الديون الناشئة بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح المسطرة في تاريخ استحقاقها عند متابعة النشاط او الاستغلال، ويقع الوفاء او السداد في حالة التفويت الكلي، او التصفية، وفي حالة عدم الوفاء في تاريخ الاستحقاق عند متابعة النشاط بالاسبقية على كل الديون اخرى سواء كانت مقرونة ام لا بامتيازات او ضمانات باستثناء الديون المضمونة بامتيازات قانون الشغل .

ولكن، وعلى الرغم من عمومية المادة 575 ولعدم بيان مجال او حالات التطبيق لم يتقاعس المشرع المغربي عن وضع مادة خاصة بالتصفية القضائية، خشية من ان يقع التمييز بين التسوية القضائية ( او التصحيح القضائي) والتصفية القضائية لاختلاف

----------------

3) وان لم يذكر النص

---------------

مسطرة كل منهما، والغاية التي تروم كل واحدة منهما تحقيقها وحتى لا يقول قائل : ان المادة 575 تجري على التسوية القضائية دون التصفية القضائية، فكانت المادة 620 التي تمنح الامتياز ذاته، لاستيفاء الديون في تاريخ الاستحقاق، او حق الاولوية على كل الديون الاخرى، سواء كانت مقرونة بامتيازات او بضمانات عند الاقتضاء، تشجيعا ايضا للممولين او مقدمي الائتمان خلال المدة التي تحددها المحكمة لاستمرار مزاولة النشاط. وقد جاء في هذه المادة ما يلي : " اذا اقتضت المصلحة العامة او مصلحة الدائنين استمرار نشاط المقاولة الخاضعة للتصفية القضائية جاز للمحكمة ان تاذن بذلك لمدة تحددها اما تلقائيا او بطلب من السنديك، او وكيل الملك، وتطبق مقتضيات المادة 573 خلال هذه الفترة، بينما تطبق مقتضيات المادة 575 على الديون الناشة خلال هذه المدة" .

واذا كان مجال الامتياز بينا وواضحا فيما يتعلق بالمرحلة المؤقتة او الانتقالية في بلادنا ( مرحلة الملاحظة في فرنسا)، ومرحلة التصفية القضائية، فان الامر مثار تساؤلنا في المغرب، وجدل وخلاف في فرنسا، فيما يتعلق بمرحلة حصر مخطط استمرارية " le plan de continuation" المقاولة ( المادة 592) حيث تملك المحكمة سلطة تقديرية مطلقة في تحديد مدتها على شرط الا تتجاوز عشر سنوات ( المادة 596) .

وسنبين الموقف في القانون الفرنسي اولا ونحدد موقفنا ثانيا على ضوء القانون المغربي الجديد .

أ‌- الموقف في القانون الفرنسي :

يذهب بعض الفقه - بعد التردد والجدل - في فرنسا الى ان مجال الامتياز او الاسبقية المنصوص عليه في المادة 40 لا يمكن - اذا استثنينا حالة التصفية القضائية ( المادة 153) - ان يتجاوز مرحلة الملاحظة "la période d'observation" وبمعنى اخر لا يسوغ ان يعمل به في فترة ما بعد حكم حصر مخطط الاستمرارية او في حالة التفويت، فمشيل جانتان مثلا يرى ان من الحكمة وحسن السياسة ان نعتبر التاريخ الذي يصير فيه حكم حصر المخطط نهائيا هو وقت نهاية مجال تطبيق المادة 40، وفي كل الاحوال فاذا استمر النشاط او الاستغلال بعد انتهاء فترة الملاحظة. دون ان يقع حصر المخطط، فان استمرارية الاستغلال هذه تعد غير قانونية، ولا تستفيد من اثر المادة 40، لان الديون الناشئة هنا لم تكن بصفة قانونية (4) .

ويسير على ذات الاتجاه ايف شارتيي Chartier Yves - مع مبالغة واضحة (5) تستبعد كذلك الديون الناشئة بصفة قانونية خلال فترة التصفية القضائية، دون الاشارة الى فترة استمرارية الاستغلال خلال هذه المسطرة - قائلا " وحيث يفترض ان هذه الديون الناشئة بصفة قانونية خلال مرحلة الملاحظة"pendant la période d'observation » على خلاف ما كانت تطمح اليه ارادة المشرع فمن المحتم استبعاد الديون اللاحقة للحكم الذي يحصر المخطط او يصرح بالتصفية القضائية" (6).

اما روني رويلو فقد لخص الجدل والخلاف حول مجال تطبيق المادة 40 من خلال مراحل اعداد هذا النص قائلا : " لم تكن المادة 39 ( التي اصبحت الان 40) تنص عند المصادقة عليها اثناء القراءة الاولى من طرف مجلس الشيوخ "Le sénat" سوى الديون الناشئة عن متابعة المقاولة لنشاطها خلال مرحلة الملاحظة فقط، على ان تضاف مقتضيات مشابهة تخص مرحلة التصفية القضائـية" (7) .

ويتبين من تحليل هذه الاراء، ان حق الاولوية المنصوص عليها في المادة 40 فرنسية لا يجري الا على الديون الناشئة بصفة قانونية عن متابعة المقاولة لنشاطها خلال فترة الملاحظة التالية للحكم بالتصحيح القضائي "le redressement judiciaire" او خلال الفترة التي تحددها المحكمة كذلك، لمتابعة النشاط بعد التصريح بالتصفية القضائية "la liquidation judiciaire" .

ولقد كان الغرض من توضيح هذه الاشكاليات التي صاحبت مخاض ومجال تطبيق حق الاولوية المنصوص عليه في المادة 40 فرنسية هو تمهيد الطريق لادراك وفهم الموقف في القانون المغربي .

----------------

4) قانون الاعمال، طبعة 1989، صفحة 364 و365، فقرة 670 .

5) الا انه استدرك هذا الاطلاق في نهاية الفقرة .

6) الوسيط في القانون التجاري - الجزء الثاني - الطبعة العاشرة 1986، ص 350 و351 فقرة 216

7) المرجع السابق، ص 856 و857، فقرة 3063 .

--------------------

ب - الموقف في القانون المغربي :

نميز، فيما يتعلق بالموقف المغربي، بين مسطرتي التصفية القضائية والتسوية القضائية ( او التصحيح القضائي)، التي قد تنتهي اما الى حصر مخطط استمرارية المقاولة، او التفويت او التصفية القضائية .

لا يثير مجال تطبيق المادة 575 مغربية اية اشكاليات عندما تاذن المحكمة، بعد التصريح بالتصفية القضائية، باستمرار نشاط المقاولة خلال المدة التي تحددها ( المادة 620)، فالديون الناشئة بصفة قانونية خلال هذه المدة، التي تحدد المحكمة بدايتها ونهايتها بعد الحكم بالتصفية القضائية، وحدها تحظى بحق الاولوية المنصوص عليه في المادة 575 ( المادة 620) بمعنى الوفاء بالديون في تاريخ استحقاقها او سدادها بالاسبقية على كل الديون الاخرى، سواء كانت مقرونة ام لا بامتيازات او ضمانات .

اما مجال تطبيق المادة 575 بعد الحكم بالتسوية القضائية ( او التصحيح القضائي) فيثير اشكاليات خلقت بعض الغموض لعمومية النص، الذي استعمل عبارة " بعد صدور حكم فتح التسوية" الذي تنشا بعده عدة مراحل، المرحلة المؤقتة او الانتقالية ( في فرنسا تسمى مرحلة الملاحظة)، مرحلة حصر مخطط استمرارية المقاولة، مرحلة التفويت، مرحلة التصفية القضائية التي سبق عرض مجال تطبيق المادة 575 خلال مسطرتها .

ولا ياتي هذا الغموض من عمومية النص فقط بل كذلك من عدم تسمية وذكر المرحلة الانتقالية في النص، وتحديد مدتها بالدقة اللازمة، وان كان اجتهادنا قد قادنا الى انها تبدا من تاريخ الحكم بالتسوية القضائية وتنتهي بالحكم بحصر مخطط استمرارية المقاولة او بالتفويت او الحكم بالتصفية القضائية، معتبرين مدة الاربعة اشهر القابلة للتجديد من طرف المحكمة لمرة واحدة بناء على طلب من السنديك - اذ قد ترتفع الى ثمانية اشهر - ( المادة 579) هي مجرد اقصى مدة لعرض اقتراح السنديك - اما مخطط التسوية يضمن استمرارية المقاولة، او تفويتها الى احد الاغيار tiers او التصفية القضائية - على القاضي المنتدب .

وعلى الرغم من هذا الغموض النسبي، نقرر ان مجال تطبيق حق الاولوية او الامتياز المنصوص عليه في المادة 575 يقتصر فقط على متابعة المقاولة لنشاطها في المرحلة المؤقتة او الانتقالية، ولا يتجاوز حدود هذه المرحلة، بمعنى، لا يشمل مرحلة حصر مخطط استمرارية المقاولة، ولا التفويت، ولا حتى التصفية القضائية، ما لم تاذن المحكمة خلال هذه المسطرة بمتابعة النشاط لمدة تحددها - سبق الكلام عنها - تطبيقا للمادة 620 .

ويرجع استبعادنا لمرحلة ما بعد الحكم بحصر مخطط استمرارية المقاولة لعدة اسباب منها ان المحكمة لا تقرر استمرارية المقاولة الا اذا كانت هناك امكانات جدية لتسوية وضعها وسداد خصومها ( المادة 592)، وتشهد ايضا على الاجال والتخفيضات الممنوحة من الدائنين خلال الاستشارة، ويمكنها ان تخفض هذه الاجال والتخفيضات ان اقتضى الحال ( المادة 598 ) ذلك .

اما فيما يتعلق بالتفويت فالامر واضح للفرق القائم بين التفويت ومتابعة النشاط .

2- بداية ونهاية المرحلة الانتقالية او المؤقتة التي هي مناط تطبيق حق الاولوية المنصوص عليه في المادة 575 .

لن نتكلم هنا سوى عن بداية ونهاية مجال تطبيق المادة 575، اي متابعة النشاط خلال المرحلة الانتقالية الفاصلة ما بين حكم التسوية القضائية وحكم حصر مخطط استمرارية المقاولة، اما متابعة النشاط خلال المدة التي تحددها المحكمة بعد الحكم بالتصفية القضائية فقد سبق الكلام عنها، كما ان متابعة النشاط او الاستغلال بعد حكم حصر مخطط الاستمرارية فسيقع التحدث عنه عند معالجة هذا الموضوع .

تنطلق المرحلة الانتقالية او المؤقتة ابتداء من تاريخ الحكم، وبعبارة النص " بعد صدور حكم فتح التسوية ( المادة 575) لان المقاولة تحتاج الى الائتمان لتمويل متابعة نشاطها في هذه المرحلة (8) ( المادة 571) ويندثر الامتياز او حق الاولوية او الاسبقية هذا اما بصدور حكم حصر مخطط الاستمرارية، او التفويت او الحكم بالتصفية القضائية، وهكذا يتبين ان حق الاسبقية المنصوص عليه في المادة 575 بداية ونهاية يبدا بتاريخ حكم وينتهي بتاريخ حكم، وبمعنى اخر، يبدا بحكم فتح التسوية القضائية ( او التصحيح القضائي) وينتهي بحكم حصر مخطط الاستمرارية او التفويت او التصفية القضائية ( المادة 590) .

ولاشك ان مسالة زمن حق الاولوية هذا ( المادة 575) يطرح مشكلة الاثبات ويعتد مبدئيا بتاريخ العقد، الذي يقارن بتاريخ الحكم لمعرفة ماذا كان سابقا عنه او لاحقا

------------------

8) التي جاء فيها : " نتابع نشاط المقاولة بعد اصدار حكم التسوية القضائية" .

-----------------

له، الذي قد يكون رسميا (9) ( المواد 418 الى 424 ق ل ع) او عرفيا، والورقة العرفية دليل على تاريخها ( المادة 425 ق ل م ) ما لم يثبت العكس، ويقع هذا الاثبات بكافة الوسائل سواء كان العقد او التصرف تجاريا (10) او مدنيا .

ويجب ان يفرق ايضا بين نشاة الدين وتاريخ استحقاقه، وتكون العبرة هنا بتاريخ نشاة الدين لا باستحقاقه، فاذا نشا الدين قبل الحكم الا انه اصبح مستحقا بعد تاريخ الحكم فلا يحضى هذا الدين بحق الاولوية المنصوص عليه في المادة 575 التي تتكلم عن الديون الناشئة بصفة قانونية بعد صدور حكم التسوية، لا المستحقة بعد صدور حكم التسوية، وعلى العكس من ذلك، فان مفعول المادة 575 يشمل الديون الناشئة بصفة قانونية بعد صدور حكم التسوية حتى ولو كانت مستحقة بعد المرحلة الانتقالية او المؤقتة، ويشمل الاثر كذلك الديون الناشئة بعد صدور الحكم، ولو كانت متولدة عن عقود او تصرفات ابرمت قبل الحكم كما هو الشان في العقود الجارية او في طور التنفيذ ( المادة 573) .

3- المعنى المقصود بالديون الناشئة بصفة قانونية، وطبيعتها ومدى هيمنة هذا الامتياز او حق الاولوية على باقي الديون الاخرى .

تشترط المادة 575 ان تكون الديون ناشئة بصفة قانونية "les créances nées régulièrement " وبمعنى اخر، ان تنشا عن تصرفات تدخل في سلطات او اختصاصات السنديك، او في الاختصاصات التي يمارسها المدين او رئيس المقاولة وحده - حسب انماط الادارة ( المادة 576 و577) - ولا يعد الدين قد نشا بصفة قانونية، اذا كان التصرف محظورا على احدهما، ومع ذلك تجاوز هذا الحظر، (11) وقام بابرام التصرف، او كان التصرف يتوقف على ترخيص من القاضي المنتدب ( مثلا المادة 578) - الا ان التصرف ابرم دون الحصول على هذا الترخيص، ولا يكون الدين كذلك قانونيا اذا كان ناشئا قبل الحكم، او نشا خارج المرحلة الانتقالية او المؤقتة اي بعد حكم حصر مخطط الاستمرارية، او حكم التفويت او حكم التصفية - ما عدا في الحالة التي تاذن فيها المحكمة ايضا بمتابعة النشاط طبقا للمادة 620 - القضائية .

----------------

9) يقصد ب ق ل ع م : قانون الالتزامات والعقود المغربي .

10) راجع كذلك روبلو، المرجع السابق، صفحة 787 و788 فقرة 2966 .

11) غالبا ما يكون المعيار مبدا غل اليد .

---------------

وتعتبر الديون ناشئة بصفة قانونية سواء كانت تعاقدية، او غير تعاقدية، وبمعنى اخر، ان اثر المادة 575 يشمل الديون التعاقدية، وتعويضات المسؤولية التقصيرية، والديون القانونية او الشرعية كالديون الضرائبية والاجتماعية - كالأجور واشتراكات الضمان الاجتماعي وفواتير المياه والكهرباء وغيرها - الناشئة عن متابعة المقاولة لنشاطها .

وقد يتساءل الباحث حول ما اذا كان اثر المادة 575 يقتصر على الديون المهنية الناشئة عن مهنية تجارية او حرفية بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح التسوية القضائية، ام يشمل كذلك الديون غير المهنية التي تنشا بصفة قانونية بعد الحكم. كالديون الشخصية أو الخاصة، والديون العـائلية، او الديون الناشئة عن انشطة مستقلة عن انشطة المقاولة المحكوم عليها بالتسوية القضائية .

لقد اختلف الفقه حول هذه المسالة، فالبعض يرى ان جميع الديون الناشئة بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح التسوية القضائية تحظى بالاولوية بصرف النظر عن طبيعتها، سواء كانت ديونا مهنية او غير مهنية، مرتبطة او مستقلة عن المقاولة ام لا، اعتمادا على عمومية النص، ولكون المسطرة تشمل سائر اموال المدين وليس فقط ذمة المقاولة، فيكون من العدل تبعا لذلك، ان يشمل اثر المادة سائر الديون ولو لم تكن مهنية مرتبطة بها، الا ان البعض الاخر، يرفض هذا الادعاء ويعتبر منح حق الاولوية حتى للديون غير المهنية على الديون الاخرى، امرا غير مقبول عقلا ويجافي المنطق (12) ويهدر حقوق الدائنين الاخرين خاصة اصحاب الامتيازات والضمانات تجارية كانت ام حرفية .

ونعتبر المقصود بالديون هنا الديون المهنية فقط، لان الغاية هي توفير التمويل والائتمان لمتابعة المقاولة لنشاطها لا الديون غير المهنية كالديون الشخصية او العائلية او التي ترتبط بالمقاولة المحكوم عليها بالتسوية، والقول بغير ذلك يعد عرقلة للتسوية او التصحيح .

ويشمل حق الاولوية الى جانب اصل الدين الفوائد التي لا تخضع للايقاف المنصوص عليه في المادة 659 لترتبها عن ديون نشات بصفة قانونية بعد صدور حكم فتح التسوية القضائية لا قبله، وبمعنى اخر، ان حكم فتح المسطرة لا يوقف سوى سريان الفوائد القانونية او الاتفاقية او التاخيرية الناجمة عن ديون نشات قبل الحكم لا بعده وان يقع الوفاء

-----------------------

12) راجع الق شارتيي، المرجع السابق، صفحة 352 .

----------------------

بكامل الدين - اصل وفوائد - في تاريخ الاستحقاق يوما بيوم، او شهرا بشهر، او سنة بسنة، او اكثر طبقا للاتفاق، ودون تاخير او اجل استعطافي، فان لم يقع الوفاء في الاجل كان من حق الدائن المقاضاة والتعويضات وايقاع الحجوز وغيرها من الاجراءات حماية لحقوقه نظرا لعدم توقف الدعاوي الفردية بالنسبة له - تلك الدعاوي التي تتوقف او تمنع فقط على الدائنين اصحاب الديون التي نشات قبل الحكم ( المادة 653) لا بعده - ولاعفائه حتى من التصريح بديونه - التصريح الذي يفرض على الدائنين الذين يعود دينهم الى ما قبل صدور حكم فتح المسطرة ( المادة 686) لا بعده - وعند الاقتضاء - في حالتي التفويت والتصفية القضائية - يتم السداد بالاسبقية على كل ديون اخرى سواء كانت مقرونة ام لا بامتيازات او بضمانات ( المادة 575)، حتى لو كان الدين مضمون بحق الحبس même celles assor-ties d'un droit « de rétention » (13) ( المواد 291 الى 305 ق ل ع م ) او تعلق الامر برهن حيازي لمنقول ( المادة 1184 ق ل ع م ) (14) .

ولقد جانب روني رويلو الصواب وافتقد السند القانوني، عندما دعا الى الاعتراف بالاسبقية للدائن المالك لحق الحبس، والدائن المرتهن رهنا حيازيا وان لم ينص القانون على ذلك (15) .

وخلاصة القول، ان مؤسسة التمويل "le financement" مؤسسة هامة وحيوية، ولا يمكن الحكم عن نجاحها او فشلها الا من خلال الممارسة العملية .

--------------------

13) وقد نصت المادة 291 على ما يلي : حق الحبس هو حق حيازة الشيء المملوك للمدين، وعدم التخلي عنه الا بعد وفاء ما هو مستحق للدائن، ولا يمكن ان يباشر الا في الاحوال الخاصة التي يقررها القانون" .

14) وقد نصت المادة 1184 ق ل ع م ما يلي : " الرهن الحيازي للمنقول، يخول للدائن الحق في ان يحبس الشيء المرهون الى تمام الوفاء بالدين وان يبيعه عند عدم الوفاء به، وان يستوفي دينه من ثمن المرهون عند بيعه وذلك بالامتياز والاسبقية على اي دائن اخر

15) المرجع السابق، صفحة 859 فقرة 3065 .

------------------

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 80، ص 12 .