الوشاية الكاذبة

عبد الرحيم فتحي
المستشار بمحكمة الاستئناف بأكادير

لقد أسند المشرع مهام تحريك الدعوى العمومية إلى النيابة العامة ما لم يوجد نص خاص يوكل بصفة استثنائية هذا الحق إلى المتضرر أو إلى جهات خاصة في حدود دائرة اختصاصها.

وهكذا يختص الوكلاء العامون للملك في تحريك الدعوى العمومية ويمارسونها في الجنايات عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة، ويمارس وكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية الدعوى العمومية في الجرائم غير التي أشير إليها أعلاه، مع مراعاة اختصاصات محاكم الجماعات والمقاطعات.

ويتسلم وكلاء الملك المحاضر والشكايات والوشايات ويقررون ما يجب أن يتخذ في شأنها أو يأمرون بمباشرة الإجراءات للبحث عن مرتكبي الأفعال المخالفة للقانون الجنائي ومتابعتهم إن اقتضى الأمر ذلك حسب سلطتهم التقديرية.
ويحق لكل متضرر من جناية أو جنحة أن يتقدم بشكاية في الموضوع أمام النيابة العامة، كما يحق له أن يقيمها مباشرة أمام المحكمة طبقا للشروط المبينة في ظهير 18-9-62.

كما يتعين على كل من شاهد اعتداء على الأمن العام أو ضد حياة شخص أو ممتلكاته أن يحيط وكيل الملك علما بذلك.
وتوجب المادة 7 من قانون العقوبات المصري على كل من عاين وقوع جناية تخل بالأمن العام أو يترتب عليها تلف حياة إنسان أو ضرر لملكه أن يخبر النيابة العمومية أو أحد مأموري الضبطية القضائية.

والتبليغ الصادق عن الجرائم حق مقرر لكل إنسان، بل هو واجب عليه إذا كان موظفا وعلم بالجريمة أثناء تأديته لعمله أو بسببه.

والتبليغ لهذا المعنى هو إعلام للسلطات العامة بوقائع تشكل مخالفة لنصوص القانون، وأن التكتم عن هذه المعلومات يعتبر جريمة بالامتناع عن القيام بفعل أمر به القانون.

بل أن التبليغ عن الجرائم جعله المشرع في الكثير من الأحيان عذرا مخففا أو معف من العقاب، كما هو الحال في حالة الإفشاء عن المؤامرة أو الاعتداء على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي. وهكذا فقد خص القانون الفرنسي المواد 103 إلى 108 لمعاقبة كل شخص يمتنع عن إعلام السلطات العسكرية أو الإدارية أو القضائية بوجود أعمال الخيانة أو التجسس وأعفى كل من قام بالإبلاغ دون سواه.

كما عاقب القانون الإيطالي كل من يمتنع عن إخبار السلطة بوقوع جريمة على شخصية الدولة الداخلية أو الخارجية، أو تأخر عن ذلك دون عذر مشروع متى كان العقاب المقرر هو الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة.
وتنص المادة 138 من القانون الألماني على عقاب الأشخاص الذين يتقاعسون عن إبلاغ السلطات العامة في الوقت المناسب، وإن ترك الباب مفتوحا حسب الظروف الواقعية لكر جريمة.

إلا أن هذه الوشاية التي خول المشرع للنيابة العامة صلاحية اتخاذ إجراءات بشأنها تبقى رهينة بمدى مصداقية الوقائع التي تتضمنها، فقد يكون الهدف ن تقديم هذه الوشاية مجرد الانتقام أو التنكيل بالشخص المبلغ ضده، وقد تسيء إلى مركزه الاجتماعي وتعرضه لإجراءات جنائية أو تأديبية، وللكثير من الشبهات وانعدام الثقة، وإن ثبتت فيما بعد براءة المبلغ ضده، بل قد يؤدي به الأمر وراء القضبان، لأن من يقدم بلاغا أو وقائع غير صحيحة، يسهل عليه تهيئ الظروف وتقديم الأدلة الزائفة للإيقاع بخصمه، كما قد يكون الغرض من التبليغ هو إشغال اهتمام السلطات العامة والتأثير على السير العادي للمرافق القضائية والإدارية.

وعليه فبقدر ما أوجب المشرع على كل شخص أن يبلغ السلطات العامة بأي فعل من أفعال الاعتداء من شأنه تهديد الأمن العام وحياة الأشخاص أو ممتلكاتهم، بل وأن المشرع عاقب في حالات خاصة كل من علم بوقوع جناية أو الشروع فيها ولم يشعر بها السلطات فورا، بقدر ماي تعرض لعقوبات زجرية كل من سولت له نفسه التنكيل بالأشخاص والاستخفاف بالسلطات العامة والتأثير على السير العادي للمرافق القضائية أو الإدارية.

وهكذا فقد عالج المشرع المغربي هذا الموضوع في فصل فريد وهو الفصل 445 من ق.مج (من أبلغ...) أما المجلة الجنائية التونسية فقد تطرقت إلى موضوع الوشاية الكاذبة في الفصل 248.

والملاحظ أن المشرع التونسي استعمل كلمة وشاية خلافا لقانون العقوبات المصري الذي عبر بكلمة بلاغ، في حين تضمن الفصل 445 من القانون الجنائي المغربي العبارتين معا، حيث جاءت كلمة وشاية في الفقرة الأولى من الفصل المذكور، أما الفقرة الثانية فقد تضمنت عبارة البلاغ الكاذب.

وإذا كان المقصود من العبارتين قانونا هو نقل معلومات ضد شخص أو هيئة معينة إلى الجهات المؤهلة لاتخاذ إجراءات تأديبية أو زجرية ضد المبلغ ضده، فإن الوشاية لغويا تعني النميمة وهي مصدر لفعل "وشى" أي نم، ووشي به بمعنى سعى به، ويقال وشي الثوب بمعنى حسنه بالألوان ونقشه. والوشي في اللون خلط لون بلون، والنمام يشي الكذب بمعنى يؤلفه ويلونه ويزينه.

أما البلاغ فهو من فعل "بلغ" ويعني وصل وانتهى، وقول أبي قيس بن الأسلت السلمي:
قال، ولم تقصد لقيل الخنى = = مهلا، فقد أبلغت أسماعي
ويقال بلغ الغلام إذا احتلم، كأنه بلغ وقت الكتاب عليه والتكليف، قوله تعالى عز وجل (فإذا بلغن أجلهن ...) أي قاربنه.

وهكذا يتضح بأن اصطلاح الوشاية الذي اقتصر عليه التشريع التونسي هو أدق تغبيرا من البلاغ وابلغ معنى، لأن الوشاية بهذا المعنى تحتمل الصدق والكذب معا، في حين يفترض في البلاغ أن يكون صادقا.

أما الفقه والقضاء في كل من لبنان والأردن فقد عبرا عن البلاغ الكاذب بالافتراء، والافتراء لغويا هو الكذب، لقوله تعالى عز وجل:" ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" وقد جاء في أحد قرارات التمييز في الأردن أن الأركان الواجب توافرها في جريمة الافتراء هي: ......... وأن يكون الإخبار كاذبا وقصد سوء النية.

التطور التاريخي لفكرة الوشاية الكاذبة
الوشاية الكاذبة هي من أهم الجرائم دقة وتعقيدا، ليس فقط لأنها تشكل خطرا على أمن وراحة الأفراد وما يحيق بهم من خطر بسبب الادعاءات والافتراء، وما يتبع ذلك من تنكيل وشبهات، وخلق الاضطراب في الحياة العادية للأفراد والجماعات، بل كذلك بسبب ما تشكله من تأثير على سمعة العدالة، والاستخفاف بالسلطات العامة إدارية كانت أم قضائية، والنيل من السير العادي لمرافق الدولة، والمس باستقرار الأوضاع وتثبيت السلم الاجتماعي.

وتجريم الوشاية الكاذبة هو تطور تاريخي لفكرة سيادة الدولة، والتي تنطلق من مبدأ التزام السلطات العامة بحماية حقوق الأفراد وأعراضهم من جهة، وفكرة التضامن الجماعي الذي يفرض على كل واحد أن يبلغ السلطات العامة بكل ما من شأنه الإخلال بالسير العادي للحياة الجماعية للأشخاص والنيل من حريات الأفراد، وحسن سير مؤسسات الدولة ومرافقها.

وقد كان قانون الألواح الإثني عشر Loi des XII tables أول من سمح للمتهم بأن يتقدم بدعوى التعويض ضد المشتكي في حالة الحكم بالبراءة.

كما فرضت التشريعات المتلاحقة جزاءات زجرية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجرمانية وشريعة تاليون، وتوالت التشريعات في عهد الثورة الفرنسية، إلا أن هذه التشريعات في مجملها اعتبرت أن جريمة البلاغ الكاذب تشكل اعتداء على حقوق الفرد، وسمحت للمبلغ ضده بمقاضاة الشاكي في إطار دعوى التعويض أو دعوى رد الاعتبار.

أما التشريعات الحديثة فقد اعتبرت ن البلاغ الكاذب هو اعتداء على السلطة العامة للدولة بقدر ما هو اعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم. وهكذا فقد أورد المشرع اللبناني جريمة الافتراء في الفصل المتعلق بالإخلال بسير العدالة. كما عاقبت المادة 373 من قانون العقوبات الفرنسي كل من قام بأية وسيلة كانت بتقديم شكاية كاذبة في حق أحد أو بعض الأشخاص إلى رجال الضابطة العدلية أو الإدارية.

إلا أن أغلب هذه القوانين لم تفرق بين الوقائع التي تشكل اعتداء على حقوق الأشخاص، وما يشكل مسا بالسلطات العامة، كما هو الشأن بالنسبة للقانون اللبناني الذي أشار في الفصل 403 منه "أن من قدم شكاية أو إخبارا إلى السلطة القضائية أو إلى سلطة يجب عليها إبلاغ السلطة القضائية، فعزا إلى أحد الناس جنحة أو مخالفة يعرف براءته منها، أو اختلق عليه أدلة مادية على وقوع مثل هذا الجرم ...".

أما المشرع المغربي وخلافا لما ذهب إليه بعض الفقهاء (الموسوعة الجزائية المجلد 15 القاضي فريد الزغبي) فقد عالج موضوع صيانة الاعتداء على شرف الأشخاص وأعراضهم في الفصل 445 من ق.ج المتعلق بالوشاية الكاذبة. في حين تضمن الفصل 264 من ق.ج التبليغ عن الجرائم الخيالية الذي يكون الغرض منه هو إهانة السلطات العامة والاستخفاف بمرافق الدولة، وذلك باختلاق جرائم خيالية لإزعاجها أو تقديم أدلة زائفة.
ونظرا لما تطرح جريمة الوشاية الكاذبة من تساؤلات وما تنطوي عليه من غموض، فلابد من إبراز بعض المقاربات بينها وبين الجرائم المماثلة.

1- الوشاية والحق في تقديم الشكوى
الوشاية حسب التعريف الذي أشرنا إليه، هو كل بلاغ قدم لدى الجهات المختصة لاتخاذ إجراءات بشأنه، ضد شخص معين أو عدة أشخاص عن وقائع معينة على ألا يكون طرفا فيها وهي بذلك تدخل في باب الفصول.

في حين أن الشكاية وإن كان ينتج بمقتضاها نقل وقائع أو معلومات إلى الجهات التي تختص باتخاذ إجراءات بشأنها، إلا أن المشتكي يكون طرفا في هذه الوقائع، ويكون هدفه هو التظلم لدى هذه الجهات من أجل الأضرار التي لحقته من هذه الأفعال، باعتبار أن حق التشكي حق مضمون ومشروع أقرته جميع التشريعات، وهو مقصور فقط على من كان ضحية للجريمة التي وقع التبليغ عنها.

وإذا كان حق التشكي مشروعا ومقررا لكل متضرر فإن الامتناع عن تقديم الشكاية غير معاقب عليه بمقتضى القانون، وأن يطالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقته شخصيا مادية كانت أم معنوية والتي تسببت فيها الجريمة مباشرة، بل أن المشرع اشترط في بعض الجرائم وجود شكاية من لمتضرر لكي تصح المتابعة، كما هو الشأن في جريمتي إهمال الأسرة والخيانة الزوجية.

كما يتجلى الفرق في أن الواشي يمكن أن يتقدم بالبلاغ سواء قبل وقوع الجريمة أو بعد وقوعها أما الشكاية فلا يمكن تقديمها إلا بعد تحقق النتيجة الإجرامية، أو أثناء عملية التنفيذ ولا يمكن تصور المشتكي يتظلم من الجريمة قبل وقوعها، لأنه يتظلم من أفعال ألحقت به ضررا شخصيا أو على الأقل كان يعتقد ذلك.

لذلك فإن الفصل 445 من ق.ج لا ينطبق على الشكاية ولو كانت كاذبة، وأن العقاب يقتصر فقط على البلاغ الذي يقدمه شخص عن جريمة يزعم أنها وقعت لغيره، ولا يتناول الشكوى التي يرفعها المجني عليه عن جريمة يدعي أنها وقعت عليه، ولو لم يدعي فيها بأي حق مدني.

والواقع أنه إذا كان يبدو أن القانون الفرنسي هو الذي أوحى للمشرع المغربي بفكرة تجريم الوشاية الكاذبة باعتباره المصدر التاريخي للقانون المغربي، فإن المادة 273 من قانون العقوبات الفرنسي تنص على صراحة على تجريم الشكاية الكاذبة، كما جرمت المادة 403 من قانون العقوبات اللبناني الوشاية والشكاية معا، وتوسع الاجتهاد القضائي في سوريا واعتبر أن أحكام المادتين 27 و59 تسري على الشكوى كذلك.

إلا أن الفصل 445 من القانون الجنائي المغربي تضمن تجريم الوشاية الكاذبة دون الشكاية الكاذبة، والتي تبقى خاضعة لمقتضيات الفصل 264 متى توافرت العناصر الأخرى، كما يمكن أن تعطي لرافعها الحق في التعويض عن الضرر اللاحق به متى ثبت أن الشكاية التي رفعت ضده قد مورست بشكل تعسفي وألحقت به ضررا ماديا أو معنويا.

والقول بأن العقاب يتناول كذلك الشكاية التي يتظلم فيها المجني عليه من فعل الغير، هو اتجاه لا يستقيم مع ما توخاه المشرع المغربي من سن الفصل 445 من ق.ج وذلك لسببين: قانوني وواقعي.

السبب القانوني: أن الفصل 445 من ق.ج استعمل كلمة "وشاية" وهو مصطلح اتفقت عليه جميع التشريعات، وإن استعمل البعض منها كلمة "بلاغ" كالتشريعين المصري واللبناني.

والوشاية لغويا هو تبليغ جهة أو شخص معين بوقائع لا يعتبر المبلغ طرفا فيها، في حين يفترض في الشاكي أن يكون قد تضرر شخصيا من الأفعال التي قام بالتبليغ عنها، أو على الأقل كان يعتقد ذلك، وأن القول بتجريم الشكاية الكاذبة هو توسع في تفسير لا يستند على أي أساس قانوني، مادام أن المشرع لم ينص صراحة تسلم المحاضر والوشايات والشكايات ولم يقتصر الفصل 38 من ق.م الجنائية على الوشاية وحدها أو الشكاية وحدها.

-السبب الواقعي: أن فتح باب المتابعات في شأن الشكاية قد يحرم المتضرر من ممارسة حق مضمون بمقتضى القانون، وأن ذلك سيدفع به إلى تجب رفع الشكاية ضد المعتدي إذا لم تكن له الوسائل الكافية للإثبات (1). وسنثقل كاهل المتضرر بالبحث عن الدليل تفاديا لأية متابعة لاحقة، وبذلك يسهل على ذوي النيات السيئة التفنن في الإجرام ووسائل التهرب منه.

2- الوشاية والقذف
يقتصر دور الواشي في نقل أخبار أو معلومات إلى جهات معينة حددها القانون وقد تكون الوشاية صادقة أو كاذبة، وفي الحالتين معا فإن الغرض منها هو النيل من شرف واعتبار المعني بالأمر. أما القذف فهو ادعاء واقعة أو نسبتها إلى شخص أو هيئة إذا كانت هذه الواقعة نتمس شرف أو اعتبار الشخص أو الهيئة التي نسبت إليها.
ويتجلى الفرق في أنه وإن كان الهدف من الوشاية الكاذبة والقذف هو ادعاء واقعة تمس شرف واعتبار شخص معين، فإن الوشاية تقتصر على نقل هذه الوقائع إلى جهات مؤهلة لاتخاذ إجراءات بشأنها، في حين أن القذف يجب أن يكون موجها إلى المعني بالأمر. أو أن يصل على الأقل إلى علمه بالطرق التي حددها القانون، ولا يمكن للمجني عليه في هذه الحالة أن يتابع بالوشاية الكاذبة لأن الواقعة التي نسبت إلى الشخص أو الهيئة لم تصل إلى الجهات المعنية وإذا وصلت فإن نقلها لم يكن تلقائيا.
نعم يمكن أن يتخذ القذف صبغة الوشاية الكاذبة، إذا كان الغرض من الوقائع المزعومة بواسطة الخطب مثلا، والتي تمس شرف واعتبار الشخص أو الهيئة، هو تسهيل نقل هذه الوقائع إلى السلطات العامة من أجل اتخاذ إجراءات بشأنها.

3- الوشاية والشهادة
لا يخفى أن الواشي أو الشاهد يقتصر دورهما على نقل معلومات معينة إلى الجهات المختصة، سواء كانت قضائية أو إدارية.
إلا أن الفرق هو أن الواشي يتقدم تلقائيا إلى تلك الجهات المختصة للإدلاء بهذه المعلومات، في حين أن الأخبار التي يتقدم بها الشاهد تكون بأمر من الجهات التي طالبته بأداء الشهادة، سواء كان ذلك أمام الضابطة القضائية أو أمام المحكمة أو قاضي التحقيق، وأن أي تحريف لهذه الوقائع لا يشكل وشاية كاذبة وإن قررت السلطات المعنية اتخاذ إجراءات بشأنها، وتبين بعد ذلك أن هذه المعلومات غير مطابقة للواقع.

4- الوشاية وإفشاء الأسرار
قد يحدث أن يسر شخص لغيره بأخبار تمسه في شرفه أو عرضه، كما إذا صرح لغيره بأن يتاجر في المخدرات، إلا أن هذا الأخير عمد مباشرة إلى إبلاغ السلطات المختصة، أو الجهات المعنية بهذه الوقائع وأفشى السر الذي أؤتمن على كتمانه، وإذا اتخذت إجراءات بشأنها في حق المبلغ ضده، وتبين بأن هذه المعلومات غير مطابقة للواقع أو لم تثبت صحتها، فإن ذلك لا يشكل جريمة الوشاية الكاذبة، ولو كان الغرض من الإفشاء هو التنكيل بالمبلغ ضده أو مجرد الانتقام منه، لأن المبلغ عمد إلى نقل الأخبار كما صدرت عن أصحابها وإن ثبتت عدم صحتها بعد ذلك، لأن صدور هذه المعلومات عن أصحابها تزيل عنها صبغة الوشاية الكاذبة والتي تكون من صنع خيال المبلغ.

كما أنه لا يعتبر وشاية كاذبة إذا كان المبلغ مؤتمنا على الأسرار بحكم وظيفته أو مهنته، كالمدافع عن المتهم حول ما علمه بهذه الصفة، ورجال الدين حول ما أسر لهم به ضمن مهمتهم، وكذلك الأطباء والصيادلة والجراحون حول ما توصلوا إليه بحكم وظائفهم، ولو كان الغرض من هذه المعلومات هو اتخاذ إجراءات بشأنها في حق المبلغ ضده وثبتت عدم صحة هذه المعلومات، لأن دور المبلغ في هذه الحالة اقتصر على نقل وقائع توصل إليها بحكم وظيفته، في حين أن المعلومات التي تتضمنها الوشاية الكاذبة تكون من نسج الخيال.

نعم إذا أوشى المبلغ بوقائع لم تصدر عن أصحابها وثبتت عدم صحتها فإن ذلك يعتبر وشاية كاذبة، ولو تضمنت تلك المعلومات أسرارا صادرة عن المبلغ ضده.

5- الوشاية ومحاضر الضابطة القضائية
إن اختصاصات الشرطة القضائية تتمثل في تحرير محاضر عما أنجزته من عمليات وإعلام وكيل الملك فورا بما يصل إلى علمها من وقائع مخالفة للقانون، وأن توجه مباشرة إلى النيابة العامة أصل المحاضر مصحوبة بنسخ منها مشهود على مطابقتها للأصل، وكذا جميع الوثائق المستندات المتعلقة بها.

وقد أوجبت المادة السادسة من قانون العقوبات المصري على كل من علم أثناء تأدية وظائفه من موظفي الحكومة أو مأموري الضبطية أو مأموري جهات الإدارة، بوقوع جريمة أن يخبر النيابة العمومية بذلك فورا.

ومحاضر الضابطة القضائية بهذا المعنى ما هي إلا وشايات مكتوبة ترفع إلى ممثلي النيابة العامة من أجل اتخاذ إجراءات بشأنها. إلا أن الفرق بينها وبين الوشاية هو أن محاضر الضابطة القضائية ينجزها أشخاص مؤهلون لذلك بمقتضى القانون ومنصبون لهذه الغاية.

وإذا ثبتت عدم صحة الوقائع المضمنة بمحاضر الضابطة القضائية، فلا يمكن متابعة محرري هذه المحاضر من أجل الوشاية الكاذبة، بل من أجل التزوير أو الشطط في استعمال السلطة حسب الأحوال.
إلا أن الضابط إذا نقل أخبارا لا تدخل ضمن اختصاصه وثبتت عدم صحة هذه الوقائع، فإن هذا البلاغ يعتبر وشاية كاذبة متى توافرت العناصر الأخرى.

الوشاية وإهانة السلطات العامة
إذا كان القصد من الوشاية الكاذبة هو تبليغ الجهات المختصة بوقائع معينة لاتخاذ إجراءات بشأنها، فيتعين أن يكون هذا التبليغ ضد شخص أو أشخاص معينين بذواتهم، أو على الأقل يمكن التعرف عليهم بسهولة، وأن الادعاء ضد شخص وهمي لا يشكل جريمة الوشاية الكاذبة.

أما الإهانة فتتحقق بمجرد تبليغ السلطات العامة بجريمة يعلم بعدم صحة وقوعها، أو تقديم أدلة زائفة ولو لم ينسب المبلغ هذه الوقائع إلى شخص بذاته، أو كان المبلغ ضده شخصا وهميا.

كما أنه لا تعتبر جريمة بمقتضى الفصل 264 من ق.ج إلا إذا تم التبليغ إلى سلطة عامة، وكانت الوقائع تشكل جريمة بمقتضى القانون، متى كان الغرض من هذا التبليغ هو ايقاع العدالة في الغلط والتجني على حرمة القضاء واستقلاله، في حين أن الوشاية الكاذبة تتحقق متى تم التبليغ لجهة مختصة لاتخاذ إجراءات بشأنها، ولو لم تكن هذه الجهة تمثل سلطةعامة. كما أنه لا تشترط في الفعال المبلغ بها أن تكون واقعة تحت طائلة العقوبات.

وهكذا يتضح من خلال هذه المقاربات بأن محاضر الضابطة القضائية والشهادات وإفشاء الأسرار وكذلك السب والقذف وإهانة السلطات العامة، ما هي إلا وشايات الا ان صفة المبلغ غيرت الوصف القانوني للوثيقة.

فإذا ضمن الضابط هذه الوشاية من أجل التثبت من وقوع جريمة في وثيقة حدود اختصاصه فإن هذه الوثيقة تعتبر محضرا. وإذا حضر أمام المحكمة أو امام قاضي التحقيق لتوضيح مضمون هذه الوثيقة وأقسم على ذلك، فإن ما سيدلي به من معلومات يعتبر شهادة. أما إذا تظلم لدى وكيل الملك من أجل أفعال معينة تضرر منها شخصيا فان ما جاء في تظلمه يعتبر شكاية، ولو كانت هذه الوثيقة تتخذ شكل محضر رسمي. وإذا افضى للغير بمعلومات مؤمن على كتمانها بحكم وظيفته فإن ذلك يعتبر إفشاء للأسرار.

أما إذا نقل الضباط أخبارا معينة خارجة عن اختصاصه، فإن ما سيدلي به من معلومات يعتبر وشاية، ولو دون ذلك في وثيقة مكتوبة. وإذا تضمنت هذه الوثيقة وقائع تسيء إلى شخص أو هيئة معينة من شأنها المس بشرف أو اعتبار الشخص او الهيئة، او اذا تضمنت تعبيرا شائنا أو تحقيرا أو قدحا فإن ذلك يعتبر قذفا أو سبا حسب الأحوال. اما اذا تم تبليغ السلطات العامة عن وقوع جريمة خيالية، أو قدمت أدلة زائفة فإن ذلك يعتبر اهانة للسلطات العامة.

وهكذا فإن عدم تجريم الشكاية ولو كانت كاذبة لم يأت اعتباطا، أو أن المشرع اغفل تجريمها، بل أن ذلك من شأنه أن يحرم المشتكي من ممارسة حقه في التشكي تظلمه لدى الجهات المختصة حتى لا يفاجأ بمتابعة من أجل الشكاية الكاذبة، وما يتبع ذلك من شبهات ومتاعب التحقيق.

عناصر جريمة الوشاية الكاذبة
ينص الفصل 445 من ق.ج (من أبلغ بأية وسيلة كانت، وشاية كاذبة ضد شخص أو أكثر إلى الضباط القضائيين أو إلى ضباط الشرطة القضائية أو الإدارية أو إلى هيئات مختصة باتخاذ إجراءات بشأنها أو تقديمها إلى السلطة المختصة، وكذلك من أبلغ الوشاية إلى رؤساء المبلغ ضده أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائة وعشرين إلى ألف درهم...).
من خلال هذا التعريف نستخلص عناصر الوشاية الكاذبة كالتالي:
أولا: أن يكون هناك بلاغ
ثانيا: أن يكون البلاغ تلقائيا
ثالثا: أن يكون البلاغ كاذبا
رابعا: أن يكون البلاغ لإحدى الجهات التي حددها القانون
خامسا: أن يكون البلاغ بسوء نية.

أولا: أن يكون هناك بلاغ
البلاغ وهو الإخبار، وهذه العبارة مستقاة من النص الفرنسي، الذي استعمل كلمة Dénonciation، وهو إعلان قد يكون رسميا أو غير رسمي يوجه عادة إلى من يجب أن يعلموا بوجود واقعة لم تصل إلى علمهم أو من هم ملزمون بإعلام السلطات المختصة بذلك. أما الخبر الذي يتوصل به شخص غير ملزم عادة بأن يعلم به، إما بمقتضى القانون أو بحكم وظيفته، أو كان ذلك تقتضيه طبيعة العرف أو العادة، فإن ذلك لا يعتبر بلاغا.

لكن هل يشترط في الوشاية الكاذبة أن يكون البلاغ خطيا؟
لم يستقر الفقه والقضاء على رأي معين فيما يخص اشتراط الكتابة في البلاغ الكاذب، فمنهم من يرى أن الكتابة شرط ضروري في قيام الجريمة، ومنهم من يرى عكس ذلك، وأن الجريمة تتحقق بأية وسيلة كانت.
وقد ذهب المشرع الفرنسي في المادة 373 من ق.ع على أن كل من أقدم بأية وسيلة كانت على تقديم شكاية كاذبة بحق أحد أو بعض الأشخاص (2) (لقد كانت المادة 273 من ق.ع الفرنسي تنص صراحة عل أن تكون الشكاية خطية إلا أن المشرع استبدل هذا الشرط بعبارة بأية وسيلة كانت في القانون الصادر بتاريخ 8-10-43) والملاحظ أن المشرع الفرنسي نص صراحة على عدم اشتراط الشكاية الخطية وإن كان الاجتهاد القضائي في فرنسا لم يأخذ حرفيا بهذا النص (3).

والمشرع المغربي بدوره لم يحدد صورة معينة للبلاغ، فقد يكون كتابة كما إذا وجهت رسائل خاصة إلى الجهات المعنية بشأن وقائع معينة، كما يمكن أن يتم ذلك عن طريق الصحف أو على شكل إعلان و صور أو ملصقات.

وقد يكون شفاها، فيما إذا تقدم المبلغ إلى الجهات المعنية للإدلاء بمعلومات معينة، أو بواسطة التجمعات الخطابية أو الإعلانات الصوتية أو بواسطة الهاتف، وهو ما استقر عليه الفقه والقضاء في المغرب تمشيا مع مقتضيات الفصل 445 من ق.ج.

وهو نفس الاتجاه الذي تبناه القانون المصري والذي لم يحدد شكل معينا للبلاغ، وقد قضت محكمة النقض والإبرام المصرية، بأنه يعاقب على البلاغ الكاذب سواء حصل شفاها أو كتابة.

أما الفقه والقضاء في لبنان فقد ذهب إلى عكس ذلك، واعتبر أن المادة 403 من قانون العقوبات تشترط الكتابة، والتي جاء في مستهلها عبارة شكاية أو إخبار، الأمر الذي يعجل من الوسيلة الخطية شرطا أساسيا لتكوين العنصر المادي للجريمة، وإن كانت المادة المذكورة لا تشير صراحة إلى ذلك.

والقضاء في سوريا وإن تبنى في كثير من الأحيان الرأي القائل بوجوب الكتابة في جريمة البلاغ الكاذب، واعتبر أن الإخبار لا ينتج أثره ولا تتوفر فيه الصفة القانونية ما لم يكن خطيا ومكتوبا، ولا قيمة له إذا بقي في حيز الأقوال المجردة، لأن الافتراء لا يتم إلا بوجود الإخبار المنظم وفقا للقانون، فإذا لم يوجد في القضية إخبار رسمي فلا يكون الافتراء قائما (4). إلا أنه في حالات أخرى لم يجعل الكتابة شرطا لقيام جريمة البلاغ الكاذب، وذهب إلى أن قيام رجال الدرك عن غيرة منهم على المصلحة العامة، وبعد تدوين إفادة المخبر في المحضر، وأخذ التوقيع عليه بقبض المعلومات أو بالتوسع في التحقيق أو بتحرير المحضر النهائي في غياب الشاكي، وذلك بالاستناد إلى ما صدر عن هذا الأخير فقط دون زيادة ولا نقصان (5).

والواضح أن القرار المذكور لم يشترط الرسالة الخطية في البلاغ الكاذب، لأن تدوين الإفادة التي يتقدم بها المبلغ حسب القرار المذكور، لا تتم إلا إذا كان ما أدلى به من معلومات قد تم شفاها، أما القضاء في العراق فيبدو أنه لم يجعل الكتابة شرطا في جريمة البلاغ الكاذب، وقد صدر عن محكمة التمييز أن الإخبار بوقوع الجريمة هو مجرد الإعلان بوقوعها، ولا يتطلب فيه كل ما يتعلق بها من المعلومات(6).

والبلاغ الكتابي يمكن أن يكون مرفوعا على شكل خطاب أو عريضة، وقد يكون مدونا في مذكرة قدمت إلى القضاء، كما يمكن أن يكون الخط بيد المبلغ أو بيد الغير، أو تم ذلك بواسطة الآلة الكاتبة موقع عليه أو لا يحمل أي توقيع، مادام أن التبليغ قد صدر عن الشخص المبلغ، وأثبتت الظروف أن ذلك كان بناء على مبادرة المبلغ الشخصية وإرادته الظاهرة أو إشرافه الفعلي إلا أن الاجتهاد القضائي في سوريا خالف هذا المبدأ واشترط أن يكون الخط من قبل صاحبه وموقع منه.

وليس بالضرورة أن يتقدم المبلغ شخصيا بالبلاغ، بل يجوز أن يوكل من ينوب عنه في تقديمه ويتحقق التبليغ ولو تم ذلك بصفة غير مباشرة، كما لو استغل المبلغ ظروفا معينة ليلقى خطابا يكون الغرض منه إطلاع الجهات المختصة بخبر معين في حق المبلغ ضده.

وقد يحصل البلاغ ولو من طرف الموظف سواء أثناء قيامه بعمله أو بسببه، لأن صفة المبلغ لا أثر لها على جريمة الوشاية الكاذبة، وقد يكون المبلغ هيئة أو جمعية منظمة ذات شخصية مستقلة، كما يمكن أن يقع الإخبار بين الأقارب.

وإذا كان الفصل 445 من ق.ج يشير إلى أن التبليغ يجب أن يوجه هذا شخص أو عدة أشخاص فإنه ليس ضروريا التعريف بهذا الشخص بل يكفي أن يسهل التعرف عليه، كما إذا اقتصر المبلغ على تحديد صفة المبلغ ضده، أو على تعيين الهيئة التي ينتمي إليها.

وقد ذهب القضاء في فرنسا إلى أنه ليس من الواجب تسمية الشخص المشكو وبيان كامل هويته والمعلومات المتعلقة به، لعدم ورود هذا الشرط في النص صراحة، إذ يكفي الإشارة إليه، وعلى سبيل الغمز والتلميح بما سيتيح معه معرفة المجني عليه عن طريق الاستخلاص أو الاتجاه إلى ذلك (7). ويعود لقاضي الموضوع وحده صلاحية تقدير المعلومات المعروضة عليه، وكفايتها في التعرف على الشخص المبلغ ضده.

أما إذا اقتصر الواشي على تقديم بلاغ إلى السلطات المختصة، بوقوع سرقة من طرف بعض الأشخاص دون تعيينهم، ودون أن يعطي أوصافا كافية لكي يسهل التعرف عليهم فإن ذلك لا يعتبر بلاغا.

كما أنه لا تتحقق الوشاية الكاذبة إذا قام شخص بتقديم بلاغ يتهم فيه نفسه بارتكاب جريمة معينة ونسب فيها الجريمة إليه، وهو ما يعرف بالاتهام الذاتي Auto-calomnie، لأن الوشاية الكاذبة تتطلب أن يكون مجنيا عليه وأن المبلغ لا يمكن أنة يكون جانيا ومجنيا عليه في نفس الوقت، وإذا اتخذت إجراءات في حقه بشأن الوقائع التي بلغ بها عن نفسه، وثبتت عدم صحتها فلا يمكن متابعة المبلغ من أجل الوشاية الكاذبة (8).

ثانيا: أن يكون البلاغ تلقائيا
لقد أجمع الفقه والقضاء على أن جريمة البلاغ الكاذب لا تتحقق إلا بعفوية الخبر، دون أن يحمل المبلغ على ذلك تحت أي ظرف من الظروف وبأي شكل من الأشكال، سواء كان ذلك عن طريق الضغط أو الإكراه، أو عن طريق الإيحاء والإغراء.

إلا أن إجبار المبلغ على الحضور أمام الضابطة القضائية لا يمنع من قيام جريمة الوشاية الكاذبة، إذا كان ما أدلى به ذلك من معلومات كان عن طواعية واختيار، ولم تكن له أية علاقة بالموضوع الذي استدعي لأجله.

والوشاية لا يمكن تصورها إلا إذا كان البلاغ تلقائيا، وتتحقق الوشاية الكاذبة متى تقدم الشخص عن طواعية لتقديم معلومات ضد شخص أو أشخاص معينين لدى الجهات المختصة لاتخاذ إجراءات بشأنها. أما إذا تم ذلك بناء على طلب تلك الجهة، فإن التصريح الذي أدلى به المبلغ لا يعتبر وشاية كاذبة وإن تسبب في الإضرار بالغير بهذا البلاغ.

كما أنه لا تعتبر وشاية المعلومات التي يدلي بها الشاهد ضد شخص معين أثناء إجراءات البحث، سواء كان ذلك أمام المحكمة أو قاضي التحقيق أو أمام النيابة العامة، إلا أنه إذا ثبت أن البلاغ لم يقدم إلا بالتواطؤ بين المبلغ والشاهد، جازت معاقبة هذا الأخير على اعتباره شريكا بالاتفاق في جريمة البلاغ الكاذب.

كما أنه لا يعتبر وشاية إذا كان ما أدلى به المبلغ لا يخرج عن نطاق الدفاع عن النفس، ولو كان كاذبا، وترتب عن ذلك اتخاذ إجراءات جنائية أو تأديبية ضد المبلغ ضده.

إلا أنه لا يشترط في المبلغ أن يتقدم شخصيا لدى الجهات المختصة للإدلاء بمعلومات معينة، بل يتحقق البلاغ حتى في حالة ما إذا تم استدعاء المعني بالأمر للبحث معه في شأن وقائع معينة، واستغل المبلغ هذا الظرف ليدلي بمعلومات في حق المبلغ ضده لا علاقة لها بموضوع البحث الذي استدعي من أجله.

إلا أنه من جهة أخرى فإن تلقائية الخبر هو ما أدلى به المبلغ لأول مرة، وأن استدعاءه من جديد لبعض المعلومات التكميلية أو التوضيحية فلا أثر له على تلقائية البلاغ.

وتتحقق الوشاية مهما تعاقب المبلغون للإدلاء بنفس البلاغ، سواء تم ذلك باتفاق بينهم أو كان ذلك على وجه الصدفة.

ثالثا: أن يكون البلاغ كاذبا.
يشترط المشرع المغربي كباقي التشريعات في جريمة الوشاية الكاذبة أن يكون الخبر الذي تم نقله كاذبا. والتبليغ الكاذب هو التبليغ عن أمر ينسب فيه مقدمة وقائع مكذوبة يختلقها ظلما على امرئ يريد الوقيعة به.
أما إذا كان البلاغ صحيحا فإن جريمة الوشاية الكاذبة لا تتحقق، ولو كان الغرض من هذا التبليغ هو التنكيل بالمبلغ ضده.

وقد قضت محكمة النقض التونسية أنه من الأركان الأساسية لقيام جريمة الوشاية الباطلة كذب الوشاية، لكن لا يتوقف تتبع مرتكبها على حكم كان صدر ببطلانها إذ للقاضي المتعهد بالنظر فيها أن يقدر في نطاق اجتهاده المطلق، كذب الواقعة أو كذب بعض الواقعة التي تتضمنها تلك الوشاية (9).

أما إذا كانت الوقائع المبلغ بها غير مطابقة للواقع، وكان المبلغ يعتقد بصحة ما أدلى به من معلومات فإن ذلك يعتبر كذبا.

ومن جهة أخرى فإنه ليس من الضروري أن تكون الوقائع المبلغ بها لم تقع أصلا بل يكفي أن ينسبها المبلغ باطلا لغيره، أو أن تكون قد أسندت على سبيل التأكيد، بل يكفي أن يكون الخبر أسند إلى المبلغ ضده على سبيل الإشاعة أو على وجه التشكيك أو الظن أو الاحتمال.

رابعا: أن يكون البلاغ قدم إلى الجهات المحددة في الفصل 445 من ق.ج.
لا يعتبر البلاغ وشاية كاذبة إلا إذا قدم أمام الجهات المختصة لاتخاذ إجراءات بشأنها، وقد حدد الفصل 445 من ق.ج هذه الجهات على سبيل الحصر، وهي الضباط القضائيون وضباط الشرطة القضائية وضباط الشرطة الإدارية أو الهيئات المختصة لاتخاذ الإجراءات بشأنها. وكذلك رؤساء المبلغ أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم، وهي نفس الجهات التي أشار إليها الفصل 248 من ق.ج التونسي.

كما يقضي قانون العقوبات في مصر على أنه يشترط في البلاغ الكاذب أن يكون قد رفع إلى الحكام القضائيين أو الإداريين، في حين اقتصرت المادة 367 من قانون العقوبات الإيطالي على أن يكون البلاغ قد قدم إلى السلطات القضائية أو السلطة الملزمة بإبلاغ هذه الأخيرة، وهو نفس الاتجاه الذي تبناه المشرع اللبناني في المادة 403 من قانون العقوبات.

ويتسم بصفة ضابط الشرطة القضائية قضاة التحقيق وقضاة الصلح والمسددون وضباط النيابة العامة، وضباط الدرك وذوو الرتب فيه والدركيون الذين قضوا على الأقل ثلاث سنوات من الخدمة وعينوا إسميا بقرار مشترك لوزير العدل ووزير الدفاع الوطني، والدركيون الذين يتولون قيادة مؤقتة لشرذمة دركية أو مركز دركي.

كما يتسم بصفة ضابط المدير العام للأمن الوطني، والمراقبون العامون للشرطة ومندوبو الشرطة وضباطها والباشوات والقواد، وضباط الشرطة المساعدون ومفتشو شرطة الأمن.

وكان مهندسو ومأمورو المياه والغابات في الجنح والمخالفات المنصوص عليها في قانون الغابات والصيد البري في المياه الإقليمية، وموظفو وأعوان إدارة الجمارك في حدود الاختصاصات المخولة لهم بمقتضى القانون، والأعوان التابعين لإدارة مصلحة قمع الغش فيما يخص إثبات المخالفات المنصوص عليها في ظهير 05-10-84.

ويعتبر كذلك في عداد الضباط موظفو وأعوان الإدارات والمصالح العمومية الذين تسند إليهم بموجب نصوص خصوصية بعض سلطات الشرطة القضائية ضمن الحدود المبينة في هذه النصوص وكذا ولاة وعمال العمالات والأقاليم في حالة اقتراف جريمة ضد سلامة الدولة الداخلية أو الخارجية.

كما يتسم بصفة الضباط الإداريين كافة الرؤساء والموظفين الذين لهم حق الإشراف على مرءوسيهم مع إمكانية اتخاذ جميع العقوبات الإدارية والتأديبية، كالوزراء والعمال ورؤساء المصالح والمديرين ومحافظي الأملاك العقارية.
وتعتبر هيئة مختصة الجمعيات المنظمة والمجالس التنظيمية، سواء كانت منتخبة أو معينة كالمجلس الأعلى للقضاء والنقابات والمجالس الاستشارية والنيابية ومجالس هيئات المحامين .... إلخ.

وتعتبر وشاية حسب الفصل 445 من ق.ج البلاغ الذي يقدم إلى رؤساء المؤسسات سواء كانت صناعية أو فلاحية أو تجارية، وكذا أرباب العمل والمديرين ورؤساء المصالح الذين لهم الصلاحية في اتخاذ القرار ولو بصفة مؤقتة.

أما إذا تم التبليغ إلى جهة غير الجهات التي حددها الفصل 445 من ق.ج، أو قدمت المعلومات إلى جهة غير مختصة فإن ذلك لا يشكل وشاية. إلا أن محكمة النقض والإبرام في مصر ذهبت إلى عكس ذلك واعتبرت أن وجود الجريمة لا يتوقف على كون السلطة المقدم إليها البلاغ مختصة أو غير مختصة (10) وهو اتجاه لم يأخذ به الفقه في مصر.

وقد قضت محكمة النقض في فرنسا أنه في حال تعيين هذا الشخص الثالث من قبل المفتري ضمن رسالة موجهة إلى أحد المواطنين، لا تعتبر من قبيل الافتراء وإن كانت تعزو إليه اقتراف جريمة لم يرتكبها، لأنها ليست مقدمة للمرجع القضائي الجزائي الصالح وهو نفس الاتجاه الذي تبناه الاجتهاد القضائي في سوريا، بحيث لم يعتبر مجرد الإخبار مكونا لجريمة الافتراء ولو شفاهيا أمام جمع غفير من الناس لا دخل لهم في الموضوع، ولو كان ذلك يشكل إساءة إلى المجني عليه.

وعليه فإنه لا يعتبر وشاية كاذبة إذا تقدم الواشي ببلاغ لدى إدارة الجمارك يفيد أن المبلغ ضده يقوم بقطع أشجار الغابة ولو ثبت عدم صحة هذا البلاغ، لكون مصلحة إدارة الجمارك ليست مؤهلة لاتخاذ أي إجراء في شأن المخالفات الغابوية.

كما أنه لا يعتبر وشاية كاذبة إذا تقدم الواشي ببلاغ لدى رئيس مصلحة لا يعمل المبلغ ضده تحت إمرته، ولو كان مستخدما بنفس المؤسسة لأن هذا الرئيس له أية صلاحية لاتخاذ أي إجراء في حق هذا الأخير، وهو ما ذهب إليه القضاء في تونس عندما اعتبر أن من أركان جريمة الوشاية الباطلة أن تكون السلطة التي قررت حفظ الوشاية مختصة بالنظر فيها إلا أنه ليس ضروريا أني قدم البلاغ إلى الرئيس الذي له الصلاحية في اتخاذ القرار مباشرة إذا كان هذا البلاغ قدم إلى عون تابع إلى نفس المؤسسة، وكان من وظيفته إشعار الرئيس بذلك.

ومن جهة أخرى فإنه لا تعتبر وشاية كاذبة إذا كان البلاغ قدم إلى سلطة أهلية كما لو بلغ الزوج عن جريمة ارتكبتها زوجته أو بلغ والدا عن أفعال ارتكبها ولده.

خامسا: أن يكون البلاغ بسوء نية
مجرد البلاغ الكاذب غير معاقب عليه إلا إذا كان المبلغ يعلم بعدم صحة الوقائع موضوع الوشاية، أما إذا لم يكن على علم بذلك فإن جريمة الوشاية الكاذبة لا تقوم، ولو تسبب في الإضرار بالغير بهذا البلاغ، بل يجب أن تنصرف إرادة الجاني وإصراره على تقديم البلاغ وتوجيه الاتهام عن قصد لشخص يعلم براءته منها. وهذا هو العنصر المعنوي في جريمة الوشاية الكاذبة.

والعلم بعدم صحة البلاغ يجب أن يتوافر قبل تقديم البلاغ، وقد قضى المجلس الأعلى بأن سوء النية الذي يعتبر عنصرا من عناصر تكوين جريمة الوشاية الكاذبة يتجلى في العلم وقت التبليغ إما بكذب الوقائع المبلغ عنها وإما بتحريف وصفها المعاقب قانونا، أما إذا علم المبلغ بذلك بعد تقديم البلاغ الكاذب فإن جريمة الوشاية الكاذبة لا تتحقق.

وقد قضت محكمة التمييز بلبنان أنه لكي يتحقق جرم الافتراء يجب أن يثبت أن الشاكي كان على علم ببراءة المشكو منه عند تقديم شكواه، وأنه قدم هذه الشكوى عن سوء نية.

وقد ذهب بعض الفقهاء ومنهم شوفو وهيلي، إلى أنه يشترط في البلاغ الكاذب أن يكون المبلغ عالما بالوقائع المبلغ بها، وأن يقصد من ذلك الإضرار بمن بلغ به.

والقضاء في مصر صريح في أن العلم غير كاف في هذه الحالة، إذ يشترط لكي تتحقق جريمة البلاغ الكاذب توافر ركنين هما ثبوت كذب الوقائع المبلغ بها وأن يكون الجاني عالما بكذب هذه الوقائع مع نية السوء والإضرار بالمجني عليه.

وهو نفس الاتجاه الذي تبناه الفقه في لبنان، واشترط في جريمة الافتراء زيادة على العنصر المعنوي، والذي يستند على علم الجاني ببراءة من أسندت إليه الواقعة الكاذبة، العنصر المعنوي الخاص والذي ينشأ عن نية الفاعل من ذلك إنزال الأذى وإلحاق الضرر بالمعتدي عليه، ليس فقط الاحتقار به والازدراء بشخصه، وإنما في إمكانية ملاحقته بجريمة معينة.

إلا أننا نرى عكس ذلك، وأن الهدف من تقديم الوشاية الكاذبة ليس ضروريا لأن لمشرع لم يشترط قصدا خاصا لقيام الجريمة، بل يكفي أن تكون الوقائع المعروضة على الجهة المختصة غير مطابقة للواقع، وأن يكون المبلغ على علم بذلك ولو لم يقصد بذلك الإضرار بالغير أو الإساءة إليه.

ويبدو أن القضاء في المغرب ذهب إلى نفس الاتجاه واعتبر أن العنصر الأساسي في جريمة الوشاية الكاذبة هو القصد العام، أي علم المشتكي بعدم صحة الوقائع التي بلغ بها (11).

وقضى المجلس الأعلى أنه يشترط لقيام جنحة الوشاية الكاذبة، توافر القصد العام وحده، أي العلم بكذب الوقائع المبلغ عنها، إن إضافة قرار محكمة الاستئناف لشرط سوء النية قصد الإضرار بالغير يعتبر خرقا لمقتضيات الفصل 445 من القانون الجنائي، ويعرضه للنقض والإبطال.

كما اعتبر القضاء في تونس أن من الأركان الأساسية لقيام جريمة الوشاية الباطلة كذب الوشاية لكن لا يتوقف تتبع مرتكبها على حكم صدر ببطلانها ... ويقضي الفصل 248 من المجلة التونسية، أن جنحة الادعاء الباطل لا توجد إلا إذا أوشى الفاعل بأمور معروف زورها أي أنه يعرف زورها.

أما الباعث من تقديم الوشاية فلا أثر له على قيام الجريمة متى توافرت العناصر الأخرى، سواء كان الباعث على تقديم الوشاية هو الإساءة إلى المبلغ ضده أو الانتقام منه والوقيعة به، أو كان ذلك بدافع الشفقة أو الحفاظ على كرامة شخص أو جهة معينة، أو أسند البلاغ الكاذب إلى غيره لمجرد التسلية.
بهذا أكون قد أنهيت بحول الله الجزء الأول من موضوع، الوشاية الكاذبة على أن أتطرق لإشكالية رفع الدعوى وكيفية ممارستها وإثباتها في العدد المقبل من هذه المجلة.

الهوامـش
1-لقد أشارت محكمة النقض المصرية إلى أن على عاتق المبلغ وحده يقع عبء إثبات الواقعة التي أبلغ عنها لأن الأصل في الإنسان البراءة حتى يثبت عكسها فإذا عجز المبلغ عن الإثبات حق عليه العقاب متى توافرت للجريمة الأركان الأخرى (المشكلات العميقة الهامة في الإجراءات الجبائية ـ الجزء الأول ص 647 ذ.رؤوف عبيد).
2-الموسوعة الجزائية ـ المجلد 15 ص 155 القاضي فريد الزغبي.
3-الموسوعة الجزائية ـ المجلد 15 ص 155 القاضي فريد الزغبي.
4-قرار محكمة التمييز السورية بتاريخ 22---63 الموسوعة الجزائية المجلد 15 ص 156 القاضي فريد الزغبي.
5-محكمة التمييز السورية ـ الموسوعة الجزائية ـ المجلد 15 ص 157 القاضي فريد الزغبي.
6-قرار عدد 587 بتاريخ 10-10-33 مجلة الفقه الجنائي في قرارات ـ العراق ـ.
7-نقض فرنسي بتاريخ 22-05-59 الموسوعة الجزائية المجلد 15 القاضي فريد الزغبي.
8-إلا أن ذلك لا يمنع من متابعة المبلغ من أجل إهانة السلطات العامة طبقا للفصل 264 من ق.ج متى توافرت عناصر الجريمة ـ حيث يكون الاتهام الذاتي باطلا نتيجة عدة عوامل منها الانتقام من نفس المبلغ، وقد يكون ذلك بدافع التستر عن المجرم الحقيقي أو كما يحدث في بعض البلدان الغربية حيث يفضل بعض الأشخاص الدخول إلى السجن بقصد الاعتناء بصحتهم مجانا، أو الاختفاء في المؤسسة السجنية خوفا من الانتقام.
9-قرار تعقيبي عدد 4311 بتاريخ 23-03-66 المجلة الجنائية التونسية.
10-نقض بتاريخ 05-03-50 الموسوعة الجنائية ص 129 ـ جندي عبد المالك.
11-قرار المجلس الأعلى عدد 8060 بتاريخ 10-12-87 المجلة العربية للفقه والقضاء ج 9 ص 435.


مجلة المرافعة

الحماية التشريعية والقضائية للنيئة

ذ.الحنفي طيرا
محام بهيئة أكادير

منذ المناظرة الدولية لستوكهولم لسنة 1972عرف المجتمع الدولي بزوغ الوعي الإيكولوجي بالحق والواجب الإنساني
في خلق تربية تحسيسية بجمالية المحيط البيئي حيث الماء النقي والهواء النظيف وبالجملة أصبح من حق المواطن رؤية المحيط البيئي محميا عبر واجبه في تكريس وتطوير هذه الحماية المؤمنة بحق الإعلام الإيجابي في المادةالبيئية واعتبارا لكون البعض ينحرف عن هذا الوعي الإيكولوجي ويعاكسه بانحراف يلحق أضرار إيكولوجية بمحيط الأفراد والدول الشيء الذي استدعى وضع سياسات تشريعية دولية ووطنية لحماية البيئة من مخاطر الانحراف والتدمير وقد اتخذت هذه الحماية عدة مستويات منها الجنائية والمدنية والإدارية مع ضرورة التركيز بصفة أساسية على تحسين القضاة بإعمال ضوابط مرنة في تقدير المصلحة والضرر الإيكولوجيين للمساهمة في تعميق القانون البيئي الذي هو بالأساس مثل القانون الإداري من صنع القضاء وقواعده يصنعها القاضي الإيكولوجي.

1)الوعي الإيكولوجي بالحق والواجب الإنسانيين في حماية وتطوير البيئة:
لقد تولد عن تطور المدن والتحولات العالمية الحضرية والطموح إلى تنمية إنسانية مستديمة وعي إيكولوجي أو بيئي يلفت الانتباه إلى تلوث الهواء عبر حركة السير داخل الحواضر والشاكل الوادي الحار وجودة المياه والسكن العشوائي أو ما يسمى في علم الاجتماع الحضري بقرونة الحواضر والمجاعة والجفاف والتصحر والأمطار الحمضية وغيرها من المشاكل التي ولدت اهتماما دوليا واستدعى إدراج الأمم المتحدة في عملها لبرامج بيئية كان مبتداها من خلال أعمال منظمة البحر الدولية واليونسكو ليتطور هذا الوعي الإيكولوجي إلى محطات دولية أبرزها مناظرة ستوكهولم التي تمخض عنها بتاريخ 16 جوان 1972 بمبادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلان ستوكهولم هذا الإعلان الذي يقر في مبدئه الأول حق الإنسان في العيش في بيئة سليمة يتولى بحكم الواجب حمايتها وتطويرها وحسب تعبير ERIC-LIMARE في بحثه حول حق الإعلام في المادة البيئية (فلإنسان دائن ومدين في نفس الوقت البيئة سليمة)(1).

مناظرة استوكهولم وضعت تصميم عملي فعال لحماية البيئة ويقر مبدأ 21 من إعلان استوكهولم على أنه (طبقا لميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي فالدول لها الحق السيادة في استغلال خيراتها وفق سياساتها البيئية ومن واجبها أن تؤمن عدم الإضرار ببيئة الدول).

وحسب ERIC-LIMARE فالمناظرة تناولت التقييم البيئي وكذا التسيير البيئي ومختلف تدابير الدعم أما التدابير والتقييم البيئي يشمل التحليل والبحث والحراسة وتبادل المعلومات في المادة البيئية (2).

وهذا الوعي الإيكولوجي الدولي دامت لم الاستمرارية ذلك أن قمة ريو لسنة 1992 حول التنمية المستديمة ركزت بدورها على التحولات المناخية وظاهرة التلوث البحري كمشاكل بيئية كبرى تواجه الدول إلى جانب المشاكل المتعلقة بالمدن الكبرى من تطهير وجودة المياه ومشاكل السكن والهدف بطبيعة الحال هو البحث عن توازن طبيعي وبيئي كمصلحة أساسية لكل دولة دولة وهذا ما حدا بألمانيا إلى رفع الحق في البيئة السليمة إلى مستوى مبدأ أساسي مسطر في القانون الأساسي الألماني الذي دخل حيز التنفيذ سنة 1994/11/15 بحيث تنص المادة 20 منه على ما يلي (أن الدولة تتحمل بالإضافة إلى مسؤولياتها عن الأجيال القادمة تحمي كذلك المرتكزات الطبيعية للحياة بواسطة التشريع وفق النظام الدستوري والسلطة التنفيذية والقضائية ضمن الشروط ضمن الأولويات الأساسية وهو ما يعني أن الوعي الإيكولوجي أصبحت له أبعاد وغازي حقوقية وتحسيسية بدور الإنسان ف تنمية وسطه البيئي وخلق المستقبل الإيكولوجي لقريته ومدينته ودولته وقارته ومجتمعه الدولي.

2) التدابير التشريعية في المادة البيئية دوليا وأوروبيا وإفريقيا:
إلى جانب برنامج الأمم المتحدة حول البيئة المتمخض عن المناظرة استوكهولم والذي تلته التوصية الدولية عدد 2997 كما أن اللجنة الدولية للحقوق التابعة للأمم المتحدة تحضر حاليا نص الاتفاقية الدولية لمسؤولية الدول عن الأضرار البيئية والتي على أساسها ستبنى المعاهدات الأوروبية وهناك الاتفاقية التي وقعت عليها حاليا 7 دول وهي موضوعة للتوقيع منذ 16 نونبر 1998 وهي التي تدخل ضمن اختصاص المحاكم الجنائية الدولية أو التي اعترف المجلس الأوروبي نصين لاتفاقيتين هامتين الأولى تخص المسؤولية المدنية عن الأضرار الناجمة عن الأنشطة الخطيرة الماسة بالبيئة (Lugane 1993) واتفاقية استراسبورغ 1998 الخاصة بالحماية الجنائية للبيئة وهناك أيضا معاهدة ماستريخت التي تطور وتقوي اختصاصات المجموعة الأوروبية في المادة البيئية وتركز أساسا على التنمية المستديمة المرتبطة بسياسات البيئة وعموما أوروبا تطمح إلى تضمين الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الحق في العيش في بيئة سليمة لينضاف هذا الحق لباقي الحقوق الأساسية المرتبطة بالشخص أما على المستوى الإفريقي فيقول الباحث الإيكولوجي Monice kengne (أن الإنتاج القانوني الإفريقي في المادة البيئية ضعيف جدا ومرد ذلك راجع لعدم اهتمام المنظمات الإفريقية بهذا المجال وأن العديد من المشاكل التي صدرت بها توصيات مثل الجفاف والتصحر والمجاعة ذهبت أدراج الرياح مضيفا على أن بلده الكامرون تشهد تعاون عدة بنيات لوضع القوانين البيئية سواء نابعة عن السلطة التشريعية أو التنفيذية) (3) .

3) القاضي الإيكولوجي بين الواقع والطموح:
من خلال ما سبق ذكره حول الوعي الإيكولوجي والحماية التشريعية دون نسيان القوانين الداخلية الخاصة بالبيئة في كل من أوربا وأمريكا وكندا حيث أن معظم التدخلات التشريعية للقوانين الداخلية للدول تؤكد منهجيا على أن عدم احترام المحيط يترجم أتوماتيكيا لمخالفة إيكولوجية مجرم عليها قانونا وتطرح بشأنها المسؤولية الجنائية للمنحرف الإيكولوجي حسب تعبير الباحث الفرنسي Patrick-Mistretta (4) خاصة وأن الفقرة الأولى من الفصل 410 من القانون الجنائي الفرنسي تدخل ضمن المصالح الأساسية للأمة (توازن الوسط الطبيعي والبيئي) وهو ما يعني أن تحديد المسؤولية سواء جنائية أو مدنية أو إدارية هو عمل قضائي محض بصفته الجهة المختصة لفصل المنازعات وفق مصادر القانون المعتمدة والتي من بينها أساسا الاجتهاد القضائي بل حسب تعبير المحامي الباريزي الدكتور (C. HUGLO) فالقاضي هو الذي خلق القانون البيئي (5) وحسب نفس الأستاذ فإحصائيات المنازعة المعروضة على القضاء فهي تتوزع وفق النسب التالية:

النزاعات المتعلقة بالمسؤولة المدنية لبيئية تتراوح ما بين 2 - 3%.
النزاعات المتعلقة بالمسؤولة الإدارية البيئية في مجال التهيئة الحضرية حوالي 20%.
وأخيرا النزاعات المتعلقة بالقانون العام البيئي.

وأهم ملاحظة يجب تسطيرها هو قلة النزاعات المدنية (6) وبخصوص فعالية القضاء الفرنسي في مجال زجر مخالفات الانحرافات الإيكولوجية يرى الباحث الجامعي Patrick-Mistretta أن الفائدة من أطروحته الجامعية (المسؤولية الجنائية للمنحرفين الإيكولوجيين) هو إثبات عدم كفاية السلاح الجنائي وحده طالما أن هناك خصاصا في الوعي الإيكولوجي لدى بعض القضاة الذين يرفضون دائما الإقرار بالمسؤولية الجنائية للمنحرفين الإيكولوجيين ولضمان هذا التحسيس من اللازم حسب نفس الباحث إعمال ثمة إصلاحات للحد من الانحراف الإيكولوجي مثل الأمطار الحمضية وتأثيرات البلاستيك وارتفاع طبقة الأوزون واجتثات الغابات وانقراض الحيوانات دون نسيان كوارث تسربات المعامل كحادثة Bpropol بالهند التي أودت سنة 1984 بحياة 4000 شخص ومن جملة الإصلاحات التي يقترحها الباحث المذكور ضرورة خلق جنح جديدة تجرم المساس بالبيئة وتضمينها مباشرة بالقانون الجنائي مؤكدا على أن الهدف الرئيسي من الأطروحة يبقى هو تعميق تطوير العقليات وزجر كل مخالفات قواعد حماية البيئة ولم يتوان الباحث في الدعوة لتجاهل القانون البيئي الفرنسي الحالي والدعوة مجددا لسياسة بيئة جديدة تلزم المواطنين بالشعور بأن كل ما يمس البيئة هو تهديد خطير للكائن البشري (7). وهناك نقطتين أساسيتين يتباحث بشأنهما القضاة الإيكولوجيين لإرساء ثوابت مسطرة الدعوى الإيكولوجية النقطة الأولى تتعلق بالضرر الإيكولوجي، فحسب المحامي HUGLO يرى أن المساطر أمام القضاء الفرنسي تقضي في المادة البيئة بمبدأ (لا دعوى بدون ضرر شخصي) (8) في حين يرى المحامي فيرتينو وولكير أن القضاء الكندي سنة 1996 قضى قضية (Laidlow) من طرف القاضي السيد Mercier على لأنه في القانون البيئي غياب الضرر الحقيقي ليس بمعيار نهائي لأن الضرر الكموني كاف لتبرير الجنحة) (9) كما يجب لفت الانتباه إلى يقظة وزارة البيئة ووزارة العدل الكنديين بحيث يتتبعان أولا بأول مآل الدعاوي الإيكولوجية ويحاط بها الرأي العام علما في نطاق حق الإعلام الإيجابي الذي تأخذ فيه الوزارة المبادرة تلقائيا لإخبار الرأي العام.

تبقى الإشارة بصدد الضرر البيئي على ملاحظة الأستاذ HUGLO القائلة بأن الضرر الإيكولوجي هو ضرر عام (10) وهو ما يسمح وفق اجتهادنا الإداري الوطني بإدراجها ضمن اختصاص قضاء الإلغاء الإداري وهو أمر من شأنه أن يجنبنا مناقشات الصفة المباشرة التي تشكل مدار مناقشات القضاء الأوروبي مع حفظ حق الأطراف بالطبع للجوء للطريق الموازي لطلب التعويضات وتكشف اجتهادات قضائنا الإداري مرة أخرى عن قوة صلابتها أمام القضاء العالمي المقارن.

النقطة الثانية في مجال الدعوى الإيكولوجية تتعلق بالصفة بحيث قضت محكمة ستراسبورغ بعدم قبول دعوى عائلات (Bas-Rhim) ورفضت استئنافية باريز دعوى جماعة Longyumeau ضد مطار أورلي الدولي معللة ذلك بكون الجماعة ليست لها صفة تحريك الدعوى باسم سكانها ويستنتج هنا أن القضاء يعتبر الصفة حق شخصي مباشر وإن كانت هناك ثمة استثناءات مثل سماع دعوى الفيدرالية الفرنسية لشركات حماية الطبيعة كطرف مدني كما أن محكمة Roveer سمعت في قضية الصيادين دعوى الصيادين في نطاق ما يسمى بالدعوى الجماعية أو الدعوى المتحدة (11).

نأمل أن يستفيد تطبيق قضائنا من فكرة الضرر الكموني الكندية والدعوى المتحدة الفرنسية أو ما يسميه فقهائنا بوحدة الخصوم للدفع بتعميق الوعي الإيكولوجي في بلدنا قضائيا حتى لا تعرقله الإشكالات المسطرية ويفتقد الجوهر وهو زجر حالات تدمير البيئة أو على الأقل الإقرار بمسؤولية مقترفيها.
ختاما تبقى الإشارة إلى أن أحسن حماية للبيئة هي شعور الإنسان بواجبه في الحفاظ على جمالية محيطه الطبيعي وسعيه إلى تعميق الثقافة الخضراء.

الهوامش
(1) Le droit à l'information en matière d'environnement ERIC-LIMARE.
(2) Même document cité.
(3) ECOOVOX : Mouric KENGNE.
(4) La responsabilité pénal du délinquent écologique. Patrick-Mistretta.
(5) La qualité pour agir de victime d'un dommage de pollution (maître C. HUGLO) Semaine juridique l'année 1999.
(6) Même article cité.
(7) Patrick-Mistretta (Cité).
(8) M.C. HUGLO (cité).
(9) Droit de l'environnement : Revue de la jurisprudence en matière de l'environnement، éd. 1996. André Durochere (cité) et autre.
(10) M.C. HUGLO (cité).
(11) Même article cité


مجلة المرافعة

التوازن العقدي بين الواقع والنظرية في عقد التأجير التمويلي

رياض فخري: طالب باحث بجامعة عين شمس
القاهرة ـ جمهورية مصر العربية.

إذا كان عقد اللزينغ هو صناعة أمريكية ظهرت في منتصف هذا القرن، إلا أن أصوله الحقيقية تعود إلى العهود القديمة مع ظهور الحضارات المنظمة وعلى الخصوص في عهد الإمبراطورية البابلية في بداية القرن 18 قبل ميلاد المسيح، ذلك أن حمو رابي كأول مشرع منظم في التاريخ كان قد نظم في قوانينه من بين ما نظم المعاملات التجارية، علاقة الملكية، عقد العمل، ووضعية الدائنين في حالة عدم يسرهم، وللتخلص من الديون المستحقة عليهم كانوا يبيعون قوت عملهم لدائنيهم ويمنحونهم تأمينا مهما: رهن زوجاتهم...أما فيمصر فإن فكرة الليزينغ كانت قد ظهرت نحو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد في عهد الإداري العظيم موحد القطرين "مينا" مع الصعود الملحوظ لطبقة البيروقراطية في عصره وللهياكل الاجتماعية التي تطورت بشكل كبير مع ما يستتبع ذلك من نتائج حتمية: ميلاد العلاقات المنظمة بين الدائنين والمدينين.

هذا التأصيل التاريخي لا يمكن في الحقيقة أن يفاجئنا، فالليزينغ في صورته الأولى كإيجار بسيط بين متوسط الأجل للأصول المنقولة والعقارية، هو تعبير عن أن هذا المخلوق القانوني قد ولد مع الملكية وتطور في محيط اقتصادي انطبع بالحاجة وبتكامل الأداءات وخلق علاقات ترابط ضرورية(1).
فالثري الذي يؤجر معدته،عبده لثري آخر، المالك الذي يؤجر عقاره، أرضه لأحد المساكين الفلاحين لمدة فصل واحد أو لفترة أطول يمارس بدون أن يعلم بذلك عملية الليزينغ صحيح أن الغائية والفائدة الاقتصادية والضريبية للعملية وفلسفتها كتقنية كانت في هذه الفترة مجهولة.

فإذا كان الإيجار هو بالفعل مؤسسة قديمة نجدها في كل تاريخ الإنسانية والذي يترجم حالة الدونية والضرورة المادية لطرف ما من الجمهور النشيط في الجماعة في العائلة، في القبيلة، في المدينة أو في الدولة تجاه الآخر، فإن الليزينغ ومن يعد التأجير التمويلي المستخلص من مفاهيم تقليدية يترجم نوعا من التجريد الجديد، التمييز بين الملكية والاستمتاع. رفعة واستعلاء الثاني على الأول مع كل النتائج الفلسفية، القانونية، الاقتصادية والسياسية الناتجة عنها.

إلا أن تبلور الصورة الجديدة التي يعرف بها الآن التأجير التمويلي لم يبدأ إلا ف ي سنة 1952 في الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب الكورية منتظرا عشر سنوات ليعبر المحيط نحو أوربا وتكون أول ممارسة في إنجلترا ثم فرنسا سنة 1962 على أن تنظيمه التشريعي لم يتم إلا في سنة 1966 بقانون رقم 66-455 الصادر في 2/7/1962، ثم في بلجيكا بالمرسوم الملكي رقم 55 الصادر في 10/02/1967 وفي إسبانيا بمرسوم قانون رقم 15 لسنة 1977، ثم إيطاليا بقانون رقم 183 لسنة 1976 والبرتغال بمرسوم قانون رقم 135 لسنة 1979.

ليعبر في ما بعد حوض البحر الأبيض المتوسط ويستقر في بعض الدول الإفريقية وعلى رأسها تونس والمغرب:
ففي تونس كانت أول ممارسة في سنة 1984 مع شركة ليزينغ تونس(2) منتظرا عشر سنوات لكي ينظم تشريعا بقانون رقم 94-89 الصادر في 27/7/1994،أما في المغرب فلقد كانت أول شركة ممارسة له قد ظهرت في سنة 1965 وهي مغرب ليزينغ(3) منتظرا 31 سنة لكي يجد له مكانا في لمدونة التجارية بظهير 15 ربيع الأول 1417- 1/8/1996. ليتجه جهة الشرق ويستقر في مصر الذي يشكل فيها حالة منفردة من حيث توازي الممارسة والتشريع حيث لم تعرف مصر أي ممارسة للتأجير التمويلي إلا بعد صدور القانون المنظم له وهو القانون رقم 95 لسنة 1995، على أن هذه القوانين الثلاثة الأخيرة قد اعتمدت على القانون الفرنسي كمرجعية لها، بدون أن تأخذ بعين الاعتبار معالجة الثغرات التي بانت عنها الممارسة في تطبيق هذا القانون سواء عل المستوى القضائي الفقهي وبدون مراعاة لخصوصيات الظرفية الاقتصادية التي تمر بها هذه الدول، وهي عموما سمة لا ينفرد بها قانون التأجير التمويلي بل عادة ما انفك مشروعنا عن ممارستها منذ عهدهم بالتقنيات الحديثة.

وإذا كنا غير معنيين في هذه الدراسة بمعالجة كل الجوانب القانونية لعملية التأجير التمويلي، فإن عنوانها يفرض علينا أن نتطرق لما يمكن أن يشكل دليلا على عدم توازن الأداءات بين أطراف العملية وبالخصوص بين المؤجر التمويلي والمستأجر التمويلي، لنستخلص أنه غالبا ما يكون هذا الأخير هو الطرف الضعيف في العملية ويتحمل كل مخاطرها ليل الأزل بمنأى عن كل ضرر ينعم بثمار القوالب القانونية التي صبت فيها العملية بشكل أن تخدم أمنه على حساب المستأجر التمويلي. في محاولة لرد على المزايا التي يحاول رجال المال والاقتصاد وللأسف حتى بعض رجال القانون ـ الذين غالبا ما يكونوا مستشارين لمؤسسات تمارس هذا النشاط ـوإرجاعها لحجمها الحقيقي لتوضيح أنه بالرغم من أن عملية التأجير التمويلي قد تبدو محملة بالمزايا والفوائد بالنسبة لمن يلجأ إليها كوسيلة تمويلية لاستثماراته، إلا أنها لا تخلو من سلبيات قد تعصف أحيانا بكل تلك المزايا.

وذلك من خلال الخطة التالية:
ـ ارتفاع بدلات الإيجار بما لا يتناسب مع الاستمتاع بالأصل محل الإيجار التمويلي.
ـ تحمل المستأجر لعبء الإصلاحات الكبرى والصغرى.
ـ التزام المستأجر بمخاطر فقد الأصل.
ـ إعفاء المؤجر من الضمان.
ـ الخاصية الانفرادية للشرط الفاسخ وغياب الشرط الفاسخ بخطأ من المؤجر التمويلي.
ـ طابع المبالغة في الشرط الجزائي.
ـ الاعتبار الشخصي.

ارتفاع بدلات الإيجار بما لا يتناسب مع الاستمتاع الحقيقي بالأصل محل التأجير التمويلي
عادة ما يتم تقديم عقود التأجير التمويلي للعملاء وكأنها اتفاقات إيجارية، على أن تسمح هذه الاتفاقات في الممارسة بأن يتوصل المستأجر في نهاية الاتفاق إلى ملكية الأصل إذا رغب فيذلك، وعلى المستوى الاقتصادي يشكل التأجير التمويلي وسيلة لتمويل استثمار المستأجر حالا محل طرق تمويل الاستثمارات التقليدية. فعلى أساس القيمة الايجارية للأصل من جهة وثمن اقتناءه من جهة أخرى وفي الأخير تكلفة القرض التقليدي، تجب مقارنة بدلات التأجير التمويلي حتى يمكن استخلاص طبيعتها الباهضة.

فبالنسبة للعنصر الأول، يبدو أن تحليل بدلات الإيجار يثبت بأن القيمة الايجارية للأصل لم تؤخذ بعين الاعتبار في حساب مبلغها رغم أن بعض الكتاب يذهبون إلى أن قسط الإيجار يمثل مقابل الاستمتاع بالأصل مع اعترافهم بالطبيعة المالية الخالصة لهذه الأقساط هكذا إذن تعتبر أقساط التأجير التمويلي على المستوى النظري أقساط ايجارية رغم أن طريقة حسابها تستجيب لمعايير مختلفة تماما. وعندما يدفع بارتفاع هذه الأقساط مقارنة بتلك التي نجدها في عقود الإيجار البسيطة، يكون الرد هو أنها لا تطابق إلا جزئيا الاستمتاع بالأصل من جهة، ومن جهة أخرى إمكان المستأجر اقتناء ملكية الأصل في نهاية مدة الإيجار. وعلى أساس أن هذه الأقساط تشكل رسميا ايجارية ـ أقساط إهلاك، مردودية بالنسبة للمؤجر وإيجارات مخصوصة بالنسبة للمستأجر. فإنه في هذه الحالة يجب بالضرورة أن تتجاوز القيمة الايجارية للأصل. فإذا كانت القيمة الايجارية في السوق الايجاري تتكون من عدة عناصر: مقابل استعمال الأصل الذي يتضمن حالة الأصل، الاستعمال، مدة حياته المادية، وتأثير قوى العرض والطلب في السوق، أما بالنسبة لثمن اقتناء الأصل وقيمته السوقية، فإنه لا تشكل عناصر محددة للقيم الايجارية، من جهة لأن أقساط الإيجار هي مصدر دخل فيحين أن رأس المال يظل هو القيمة السوقية للأصل، والإيجار لا يتصور بالنتيجة إهلاك ثمن اقتناء هذا الأصل ومن جهة أخرى حتى وإن كان ثمن الاقتناء واجب الإهلاك باعتباره محل استثمار من قبل المؤجر، فليس سوى على أساس القيمة الايجارية للأصل يسمح قبض البدلات بإهلاك قيمة اقتناءه. وغالبا ما يتحقق هذا الإهلاك على مدة جد طويلة تتطلب دائما عدة عمليات إيجار، وهو ما يختلف مع الوضع في التأجير التمويلي، ذلك أن إهلاك رأس المال المستثمر من قبل المؤجر في اقتناء الأصل، هو الهدف الذي يبحث عنه الممول، بالإضافة إلى مردوديته، وهو إهلاك يجب أن يتحقق في عملية إيجار واحدة. وتتقيد مدة هذه العملية الواحدة بمدة العمر الاقتصادي للأصل مما ينتج عنه أن مبلغ أقساط الإيجار المحددة هي أكثر ارتفاعا من تلك التي نجدها في الإيجار الكلاسيكي حيث لا يتدخل أي معيار من النوع المالي لتحديد القيمة الايجارية.

فعلى أساس معايير مالية بحتة، يتحقق إهلاك ثمن اقتناء الأصل،تغطية المصاريف المالية والعامة للمؤجر وهامش ربحه وتكون بدلات الإيجار التمويلي لا تأخذ بعين الاعتبار أبدا القيمة الايجارية للأصل لأنها جد مرتفعة مقارنة بهذه الأخيرة، وبالتالي يمكن القول إن هذه البدلات تتجاوز بكل المقاييس القيمة الايجارية الحقيقية للأصل وبأنها أكثر تكلفة من تلك التي نجدها في الإيجار البسيط.وحتى وإن كانت هذه الأقساط تمثل جزئيا مقابل استعمال الشيء، فإنها سوق تكون أكثر ارتفاعا من تلك الموجودة في الإيجار البسيط، لأنه يضاف إلى هذا الجزء جزء يطابق خصوم تكلفة الائتمان الممنوح.

أما إذا قارنا بدلات الإيجار في التأجير التمويلي بثمن اقتناء الأصل،فسوف نستنتج أن المبلغ العام لتحملات التأجير التمويلي هي أكثر ارتفاعا من ثمن اقتناء الأصل، وذلك، بفعل مكونات هذه التحملات التي تتضمن بالإضافة إلى ثمن الاقتناء جزءا من المصاريف، فوائد ومقابل الخدمة التي يقدمها المؤجر التمويلي.

على أن هذه التكاليف المضافة قد تجد بالتأكيد مبررها فيكون المستأجر لا يشتري مباشرة الأصل من المورد ويدفع ثمنه. لأنه لو كان الأمر كذلك لما كانت هناك حاجة وفائدة من تدخل المؤجر التمويلي، لكن بمجرد ما يقدم هذا الأخير مساعدته يصبح له الحق في تعويض يعدل مبلغ التكاليف المضافة.

فإذا كانت عملية التأجير التمويلي هي عملية تمويلية تسمح للمستأجر في نهايتها باقتناء ملكية الأصل، التي يحتفظ بها المؤجر التمويلي عل سبيل الضمان، وبالتالي يصبح المستأجر مطالبا بدفع الثمن مضافا إليه تعويض الائتمان الممنوح من قبل المؤجر التمويلي الذي لم يعد دوره يختلف كثيرا عن دور البائع بالقرض.

إلا أن تكلفة التأجير التمويلي هي أكثر ارتفاعا من تكلفة الشراء بالقرض لأن البائع بالقرض الكلاسيكي يتبقى هامش ربحه مثمنا في ثمن بيع الأصل لتغطية الفائدة التي تتضمن المصاريف التي تثور بمناسبة منح الائتمان وتسمح بتعويض هذه الخدمة الإضافية، عكس المؤجر التمويلي الذي يدفع ثمن الاقتناء المستردع من خلال بكلات الإيدار مشافا إليه مبلغ إجمالي يغطي المصاريف العامة والمالية التي تتطلبها العملية وتسمح بتحقيق ربح نقدي. وفي الممارسة إذا تعلقت هذه العمليات بأصول متشابهة، فإن مدتها لا تكون بالضرورة متاسوية، كما أن تكلفة التأجير التمويلي هي أكثر ارتفاعا عن تكلفة البيع بالقرض، لأن تكلفة الأول لا يمكن أن تحسب إلا انطلاقا من تحيين(4) وبنفس المعدل، البدلات التي يجب دفعها مستقبلا وأخذا بعين الاعتبار الفوائد المستحقة استقلالا عن مدة الدفع.
فالمؤجر التمويلي لا يتدخل في أية عملية إلا بناء على طلب عميل معين في استثماره يعتبر بعد دراسة الملف قابلا للتنفيذ بمساعدة المؤجر الذي يجب أن يستثمر مبلغا من المال لاقتناء أصل معين، وهو مال قد يحصل عليه من مؤسسة للقرض، فعملية التأجير التمويلي هي إذن عملية مستقلة في أعين المؤجر التمويلي وبالتالي يحمل عملية بمصاريف التمويل الذي يقدمه. وباعتبارها شركة تمويلية فهي لا تنظر لرؤوس أموالها الخاصة بشكل مختلف عن رؤوس الأموال الخارجية التي يمكن أن تلجأ إليها، فما دامت مستثمرة فإنها تستحق تعويضا يضاف ليه المصاريف العامة التي تثور بمناسبة العملية وتلك المتعلقة بالنشاطات العامة لمشروعها، وهامش ربح باعتبارها مؤجرا تمويليا، وهي كلها تكاليف يتحملها المستأجر مستعمل الأصل.

هكذا فإن المستفيد المستأجر في التأجير التمويلي يدفع مصاريف البائع التمويلية، جزءا من المصاريف العامة، هامش ربحه، مصاريف المؤجر التمويلي، جزءا من مصاريفه العامة وفي الأخير هامش ربحه. من هنا نصبح في غنى عن البرهنة على الطبيعة الباهضة لبدلات الإيجار في التأجير التمويلي مقارنة بثمن اقتناء الأصل والخدمة التمويلية المأخوذة بعين الاعتبار.

وتزداد الطبيعة الباهضة لبدلات الإيجار التمويلي وضوحا إذا قارناه بتكلفة القرض التقليدي. فعندما كان المؤجر التمويلي غير قادر على استرجاع الضريبة على القيمة المضافة المضمنة في ثمن الاقتناء، كان الكتاب لا يترددون فيالوقوفعلى التكلفة الباهضة للإيجار التمويلي بإثارة معدل عام الفائدة جد مرتفع، وهو ما يجعل من الإيجار التمويلي تركيبة جد باهضة مقارنة باشكال القرض التقليدي(5)، وبعد أن أصبح المؤجر التمويلي قادرا على تحويل الضريبة على القيمة المضافة لعملائه ورخص له بالاسترجاع الفوري للتكاليف المحققة بعد هذه المرحلة أثبتت أن التأجير التمويلي هو تكلفة جد باهضة مقارنة بالتمويل الكلاسيكي، ذلك أن تأثير التعديلات الضريبية لا يبدو حاسما في وقت استمرار ارتفاع التكلفة، ففي سنة 1963 كتب أحد الكتاب أن الليزينغ لا يمكن أن يتم بمعدلات أقل ارتفاعا من معدلات القروض المباشرة(6).

وكيف يمكن أن يكون غير ذلك ما دام المؤجر التمويلي نفسه يعود للتمويل البنكي حسب معدلات تحددها السوق التمويلية وفي تكلفتها تمثل مصاريف يتحملها المؤجر التمويلي، ويجب تغطيتها ببدلات الإيجار التي يدفعها المستأجر.
وإذا كان من الصحيح أن حالة من الشك تجثم على تقييم تكلفة التأجير التمويلي فإن المقارنة تختلف على حسب التحيين ومردودية المشروع المستعمل والتأثير الضريبي المباشر وغير المباشر، إلا أن ذلك لا يمنع من إثارة مع الكثير من الكتاب طابع بدلات الإيجار التمويلي الباهضة ليس فقط مقارنة بتكلفة القرض التقليدي لكن أيضا مقارنة بالقيمة الايجارية للأصل وثمن اقتناءه.

تحمل المستأجر بعبء الإصلاحات الكبرى والإصلاحات الصغرى
دائما ما تنص اتفاقات التأجير التمويلي على تحمل المستأجر بالتزام صيانة الأصل والقيام بكل الإصلاحات الضرورية للحفاظ استعماله.

فالمستأجر مطالب ليس فقط بتحمل عبء القيام بالإصلاحات التي يتحملها عادة المستأجر في عقود الإيجار عموما، بل بالإضافة إلى ذلك القيام بالإصلاحات الكبرى على حسابه الخاص والتي يتحملها مبدئيا مؤجر الشيء.

فعقود التأجير التمويلي تنص على أنه خرقا للمادة 1721 ق.م.ف. والمادة 638 و 639 من ق.ل.ع مغربي، تكون كل المصاريف الضرورية للتشغيل، الصيانة، وإصلاح الأصل، على عاتق المستأجر، خارقة بذلك المبدأ الذي وضعته القوانين المدنية والقاضي بتقسيم الإصلاحات التي يتطلبها الأصل محل الإيجار بين المؤجر والمستأجر، فالإصلاحات التي تهدف إلى الحفاظ والمحافظة على الأصل في حالته المادية التي تسمح باستمرار استغلاله كمصدر لدخل المؤجر، تشغيل الأصل والحصول على أفضل استعمال له، هي عموما أقل أهمية، ولا تهم سوى المستأجر المستعمل للأصل أكثر من مؤجره وبالتالي تعتبر إصلاحات بسيطة يتحملها المستأجر.

هكذا فإن عقود التأجير التمويلي تخرق إذن قانون التحملات في هذا التوزيع المتناسق للصيانة كنتيجة طبيعية للمصالح المتبادلة للطرفين، واضعة على كاهل المستأجر كل الإصلاحات(7)، فإن المستأجر يجد نفسه متحملا فعلا بالتزام المحافظة على الأصل في مواجهة المؤجر التمويلي.

ولا يكفي أن ندعي بأن المستأجر يخطط لاقتناء ملكية الأصل في نهاية الإيجار وبالتالي يتحمل مسبقا بالالتزامات المرتبطة بالملكية، لكن نقول بأن الالتزام المطلق هو "عادي". فمن جهة ليست للمستأجر سلطة الملكية على الشيء فحتى سلطات استعماله هي مقيدة. وما يمكن أن يكون صحيحا بالنسبة للتحملات، يجب أن يكون كذلك بالنسبة للامتيازات، كما أن المالك من جهة أخرى يستطيع إذا قرر ذلك، الاحتفاظ بالأصل على حالته المادية أو في أحسن حالة للتشغيل حسب رادته وبدون إلزام. كما أن المستأجر في التأجير التمويلي ـ على الأقل في الممارسة عندنا كما في فرنسا ـ ليس ملزما باقتناء الأصل والحصول على ملكيته في نهاية الإيجار، بل هو مجرد خيار، إن شاء استخدمه، وإن شاء أنهى العقد، ورغم ذلك، فإنه ملزم بالقيام بهذه الإصلاحات في مداها الأكثر إطلاقا، لأن المؤجر يجعله يتحمل بمصاريف الضمان الذي يفرضه عليه ويحتف به خلال كل مدة العقد، وباعتبار القواعد المدنية هي من طبيعة مكملة فإن المؤجر يستطيع ليس فقط إعفاء نفسه من القيام كمؤجر بالإصلاحات الكبرى، بل يقوم أيضا بتحميل المستأجر بها.

وتتكرس هذه الوضعية أكثر من خلال التنصيص الشائع والذي نصادفه في كل اتفاقات التأجير التمويلي، قاضيا بأنه إذا كانت أعمال الصيانة تتطلب تركيب قطع غيار وملحقات تجهيزية للأصل، فإن هذه الإضافات تصبح تلقائيا في ملك المؤجر، بدون إمكان مطالبته بأي تعويض مقابل ذلك، لتصبح هكذا أمام حالة ملموسة للالتصاق المنقول، حيث الحقوق المتبادلة للملاك هي محددة من قبلهما ما داما مرتبطين باتفاق.

على أن ما يبحث عنه المؤجر هو أصل قابل لإعادة بيعه لأنه يأخذ دائما بعين الاعتبار التحسب لتخلف عميله، أصل قادر على ضمانه ضد المخاطر"، ورغم أن المستأجر الذي يتحمل بمصاريف هذه الصيانة،إلا أن المؤجر التمويليله مصلحة حقيقية في حسن صيانة الأصل. فهو ليس عديم المصلحة حين يصر على خرق قواعد القانون المدني، خصوصا وأنه لو لم يكن مهتما، لكان يكتفي بإعفاء نفسه من الالتزام بالقيام بالإصلاحات الكبرى فقط بدون أن يحملها المستأجر،وما دام قد حملها له، فلأن مصلحته تقتضي ذلك حتى تبقى وضعيته متميزة كدائن تجاه المستأجر الذي هو في حاجة للمساعدة المالية ولكي يظل قادرا على إملاء شروطه في مقتضيات كهذه.

التزام المستأجر يتحمل مخاطر فقد الأصل
دائما ما تنص اتفاقات التأجير التمويلي على أن الطرف الذي يتحمل مخاطر فقد الشيء هو المستأجر التمويلي، هذا الأخير يظل طيلة مدة الاتفاق مسؤولا عن كل مخاطر تدمير أو فقد الأصل جزئيا أو كليا.

وتظل مسئوليته قائمة،حتى وإن كان الضرر ناتجا عم قوة قاهرة أو حادث فجائي. ووحدة الخطر الناتج عن فعل المؤجر التمويلي هو الذي يمكن أن يعفيه من المسؤولية، وهو خطر يقترب من استحالة الحدوث.

ولتقبل بأن اتفاقا ما يحمله بآثار القوة القاهرة، لابد بالتأكيد أن يكون لجوء المستأجر لإبرام مثل هذا الاتفاق يشكل له ضرورة قصوى، إن لم يكن هذا اللجوء في حد ذاته هو حالة قوة قاهرة!.

فالعقود التي تتضمن بنودا متعلقة بتأمين الأصل، تقتضي بأنه في الحالة التي لا تغطي فيها بوليصة التأمين هذه الكارثة، أو في الحالة التي لا يمكن فيها تنفيذ البوليصة لأي سبب كان، تكون الآثار بالتأكيد هي نفس آثار عدم تأمين الأصل والتي لا تخرج عن أحد الأمرين التاليين: فإما أن يستبدل المستأجر الأصل بمثله وعلى حسابه، وإما أن يدفع للمؤجر تعويضا مساويا لمبلغ بدلات الإيجار المتبقية، مضافا إليها مبلغ القيمة المتبقية للأصل في نهاية المدة الحاسمة كمقابل للاقتناء الاحتمالي لملكيته. فالمخاطر التي تحملها المستأجر هي إذن ذات وقع جد ثقيل على كاهله، لأن إرجاع الأصل لحالته الأصلية خصوصا في حالة التعيب الكامل يمكن أن يساوي في مصاريفه تكلفة الاستثمار الرئيسي الذي دفعه المؤجر في اقتناء ملكية الأصل مع بقاء بدلات الإيجار المتبقية لم تستحق واجبة الدفع في آجالها(8).

وباعتبار أن الاتفاق كان يجب أن يسير وينفذ بشكل عادي، فإن البدائل المتاحة أمام المستأجر هي ثقيلة في نتائجها: فهو سوف الثمن الذي كان سيدفعه لاقتناء ملكية الأصل في نهاية المدة الحاسمة بدون أن يستطيع استعماله ولا حتى اقتناءه لأنه، دمر عن آخره، وبتحمله كل مخاطر الفقد حتى في حالة القوة القاهرة، فإن المستأجر يشارك شخصا كان يمكن أن يقوم بأحد أعمال التصرف الطبيعية إراديا، فهو مطالب إذن تجاه المالك إما بأن يرجع الأصل لحالته أو أن يدفع له ثمنه على سبيل التعويض. على أن هذا التعويض لا يطابق التعويض الذي تدفعه شركة التأمين. فهذا التعويض يجب أن يسمح للمؤجر بإهلاكه كليا ثمن شراء الأصل واسترجاع مصاريفه والحصول على هامش ربح مخصوم من العملية التي كان يمكن أن تسير بشكل عادي.

فالمؤجر التمويلي يتصرف فعلا كممول منح قرضا وطلب ضمانا وباعتبار أنه فقد المبلغ المدفوع، يطلب من المقترض إرجاع الضمان لحالته الأولى بفرض دفع البدلات المستحقة من قبل المقترض بسبب إضعاف الضمان المقدم.

ولا أحد يهتم بالغاية الرئيسية التي يبحث عنها المستأجر التي تكمن في استعمال الشيء وربما اقتناءه في نهاية العقد.
وهي الغاية التي التزم من أجلها في عقد التأجير التمويلي بدفع أقساط الإيجار، إلا أنه في حالة الهلاك الكلي، لا يستطيع استعمال الشيء وفي حالة الهلاك الجزئي لم يعد قادرا على استعماله حسب تخصيصه الرئيسي أو على الأقل ضمن الشروط المأمولة. وإن لم يعده لحالته الأصلية فإنه يفقد استعمال الأصل ويدفع للمؤجر وبدون تقسيط ثمن الإيجار التمويلي.

إعفاء المؤجر من الضمان
تقضي القواعد العامة في المادة الايجارية بأن المؤجر يتحمل التزام ضمان تشويش الاستمتاع الذي يلحق بالمستأجر، وهو الالتزام الذي يتفرع من التزام رئيسي آخر وهو ضمان الاستمتاع الهادئ بالشيء محل الإيجار.

أما عقود التأجير التمويلي فدائما ما تقضي بإعفاء المؤجر التمويلي منكل التزام بالضمان وإن كان القضاء قد فرض شروطا لاعتبار هذا الإعفاء صحيحا ومقبولا. ويظل الإعفاء قائما حتى في حالة تدمير الأصل أو تعيب تشغيله أو سوء مردوديته لعيب فيه،وذلك خرقا للمادة 1724 ق م ف والمادة 643 وما يليها من ق ل ع، كما أن المستأجر يتخلى عن كل تعويض وحق في الفسخ للاتفاق في مواجهة المؤجر، في حالة عدم مطابقة الأصل لأي سبب كان، كما لا يستطيع المستأجر أن يعلق أو يوقف دفع أقساط الإيجار(9).

فإعفاء المؤجر التمويلي هو إذن تام وكامل في مادة ضمان العيوب الخفية، لأنه لا يسأل مهما كان الضرر اللاحق بالمستأجر ومهما كان التاريخ الذي ظهر فيه العيب المضر به، كما أن هذا الأخير يتخلى عن كل رجوع ضده، سواء كان بالتعويض أو بفسخ عقد التأجير التمويلي أو أخيرا بتخفيض أقساط الإيجار. فقط الفعل الشخصي للمؤجر هو الوحيد الذي لا يمكن أن يعفيه من كل مسؤولية رغم أن حدوث هذا الفعل الشخصي يظل صعب الحدوث في الممارسة لأن الأصل لا يمر أبدا من حيازته في أية لحظة من مدة الاتفاق، إلا أن الفرضية تظل ممكنة مثلا في حالة الإضرار بالأصل أثناء القيام بمراقبته من قبل المؤجر أو من يمثله.

وبالنسبة لبعض الكتاب لا يخص هذا الإعفاء الالتزام بضمان العيوب الخفية للأصل، وبالتالي فإن المؤجر يظل مسؤولا وضامنا لحالات التعرض مثل رفع يد المستأجر أو نزع حيازته، ليس فقط بفعل المؤجر الشخصي بل أيضا بفعل الغير(10). على أنه في هذه الحالة الأخيرة لا يسأل المؤجر إلا عن فعل الغير القانوني أي التعرض القانوني أما الأفعال المادية أو التعرض المادي فتظل خارج الضمان. ومن جهتنا نرى أن الاتفاقات لا تنص صراحة على الإعفاء من ضمان التعرض، وعلى كل حال إذا لم يعد المستأجر قادرا على الاستمتاع بالأصل، فإن المؤجر لا يمكن أن يظل معفيا من تنفيذ التزامه بجعل المستأجر يستمتع بالأصل وبالتالي يمكن فسخ عقد التأجير التمويلي لعدم تنفيذ المؤجر لالتزامه الرئيسي. على أن الحل سوف يكون مختلفا تماما إذا أخذت الطبيعة التمويلية الحقيقية لدور المؤجر بعين الاعتبار قانونيا، فباعتباره مول الحصول على الشيء من قبل المستأجر، فإنه لا يمكن أن يسأل عن التزام آخر.
على أنه يجب الرجوع لعبارات العقد المسمى إيجارا وفقا لاتفاقات التأجير التمويلي لتفسير ومعرفة ما إذا كان المؤجر يلتزم بضمان رفع يد أو نزع حيازة المستأجر أو على العكس تعفيه من هذا الالتزام الذي من المفروض مبدئيا أن يثقل كاهل المؤجر التمويلي بمقتضى مواد القانون المدني التي تنص على الضمان. إلا أن الإعفاء الصريح من الالتزام بضمان التعرض يبقى صحيحا ما دامت المواد المذكورة هي من القواعد المكملة التي يمكن استبعاد تطبيقها. أما في حالة سكوت العقد، فيمكن التساؤل عن ما إذا كانت البنود المتعلقة بالإعفاء من الالتزام بضمان العيوب الخفية يمكن أن يتم تمديدها أم لا للالتزام بضمان التعرض، وبعبارة أخرى هل هي بنود شاملة الإعفاء من كل ضمان أم أنها خاصة فقط بضمان العيوب الخفية؟

على أن تفحص شروط صحة الإعفاء من الضمان وهي استلام الأصل بدون تحرير محضر صعوبات الذي يفترض أن المستأجر قد قبله على الحالة التي هو عليها. ثم شروط تحويل ضمان المؤجر لدى المورد للمستأجر، ينتج عنه أن الأمر لا يتعلق إذن إلا بحالة الأصل الذي استلمه المستأجر، وبالتالي فإن الإعفاء لا يتعلق سوى بالالتزام بضمان العيوب الخفية دون التعرض(11).

كما أن بنود اتفاقات التأجير التمويلي غالبا ما تنص عل أنه في الحالة التي لا يستطيع فيها المستأجر استعمال الأصل بالطريقة المتفق عليها لسبب مستقل عن إرادة المؤجر، فإنه لا يستطيع الرجوع ضد هذا الأخير. وغالبا ما يأتي هذا المقتضى بصيغة عامة تدفع إلى فهم إعفاء المؤجر من كل مسؤولية مهما كان الحادث الذي شوش على الاستمتاع لمجرد أن هذا الحادث لا يجد مصدره في فعل راجع للمؤجر، فإذا كانت حقوق الغير التي تسببت فينزع حيازة المستأجر لا علاقة لها بالمؤجر ولا يتحمل بها فإنه يسأل عن ضمان تعرض هذا الغير القانوني.

وما دام القاضي ملزما بفهم العبارات التي تحمل معنيين في الاتجاه الذي يوافق مادة العقد،فإنه يصبح من السهل استنتاج عدم اهتمام المؤجر الكامل بأي ملمح تقني للأصل، لأن كل بنود العقد تفسر بعضها، وذلك بعطاء كل بند المعنى الذي ينتج عن العقد ككل.

فباعتبار أن المؤجر قد نص مسبقا على أن المستأجر يفترض أنه قبل الأصل في حالته كما هو لحظة استلامه، وبأنه لا يتحمل أية مسؤولية إذا كان المستأجر لا يستطيع استعمال الأصل بالشكل المتفق عليه مهما كان السبب، فهو إذن يعفي نفسه كل التزام بالضمان في مادة العيب كما في مادة التعرض.

فالإعفاء من مسؤولية المؤجر التمويلي عن الضمان بنوعيه هو إذن كامل وتام ويجد صحته وشرعيته في الأسباب التي عرضناها أعلاه ونضيف لها الآن حرية اختيار المستأجر للأصل ومورده من جهة ومن التزاماته كوكيل عن المؤجر في استلام الأصل وفي الأخير كون القواعد القانونية التي تنص على التزام المؤجر بالضمان هي قواعد مكملة وغير ملزمة لأطراف أي اتفاق.

الطابع الانفرادي للشرط الفاسخ
ما يهمنا في هذه النقطة هو كيف أن عملية التأجير يتم ترتيبها من قبل المؤجر التمويلي بشكل لا يسمح للمستأجر التمويلي بطلب فسخ عقد التأجير التمويلي بسبب خطأ المؤجر.
فمن الصعب تقبل وإثبات خطأ المؤجر التمويلي في إطار العمليات، ذلك لأن الالتزامات الثلاثة الرئيسية التي يتحمل بها المؤجر التمويلي بصفته مؤجرا للشيء يتم تنفيذها بشكل يجعل خطأه غير وارد وغير قابل للإثارة بما يسبب في الفسخ.

فالتسليم يتم مباشرة بين المورد والمستأجر، باعتبار هذا الأخير وكيلا للمؤجر بهذا الخصوص، وكل خطأ في التسليم لا يمكن إلا أن يتحمله المستأجر بصفته كوكيل أخطأ في تنفيذ وكالته(12). أما إذا لم يتم تنفيذ التسليم أو نفذ بشكل سيء من قبل المورد، هنا أيضا يمكن إثارة مسؤولية المستأجر كوكيل في اختيار الأصل ومورده(13) فلقد كان يمكن التمسك بخطأ المؤجر التمويلي لو كان المورد قد استعمل حقه بحبس الشيء ـ Non adempleti contractus. لكي يسلم المعدة. باعتبار أنه كمشتري لم يدفع الثمن، لكن المؤجر لا يدفع الثمن إلا بعد تسليم الشيء وبعث المحضر الموقع من قبل المستأجر والمصاحب بفاتورة نهائية لثمن الشراء.

أما فيما يخص صيانة الشيء، فإن الإصلاحات الكبرى التي تنص عليها القواعد العامة عادة ما يتحملها المؤجر، لكن في عقود التأجير التمويلي دائما ما يعفي المؤجر نفسه من كل التزام يتعلق بالصيانة ويعمل على تحميل المستأجر بها.
وفي الأخير وكما رأينا سابقا دائما ما يعفي المؤجر نفسه أيضا من كل التزام بالضمان، محولا حقوقه بهذا الشأن لدى المورد للمستأجر وبالتالي لا يمكن إثارة مسؤولية المؤجر التمويلي على هذا الأساس وبالأحرى طلب فسخ العقد من قبل المستأجر التمويلي.

وكل ما يستطيع المستأجر فعله بهذا الخصوص هو الاستناد إلى رفض المؤجر التمويلي التعاقد على البيع بعد قبوله طلب التأجير الذي تقدم به المستأجر ورفضه إبرام عقد التأجير التمويلي بالنتيجة وغالبا ما يتجسم هذا الرفض في الامتناع عن إرسال وصل الطلبية باسمه ولحسابه: إلا أن إبرام عقد البيع في حد ذاته ليس التزاما يتحمله المؤجر يتولد عن اتفاق التأجير التمويلي، بل فقط يمنع عدم إبرام البيع وتسلم الشيء من البائع الذي لا يخضع إلا إذا كان مرتبطا بعقد بيع تام ونهائي. وبالتالي يكون المؤجر بذلك قد أخل بالتزامه بالتسليم المتولد عن اتفاق التأجير التمويلي المعتبر إيجارا، وهكذا فقط تمكن إثارة مسئوليته على هذا لأساس.

هكذا فإن المؤجر ليس ملزما سوى بجعل المستأجر يستمتع بالشيء وما دام هذا الأخير يدخل في علاقة مباشرة مع المورد لتوفير هذا الاستمتاع فإن تنفيذ هذه العلاقة وإعمالها هي أمور يتحملها المستأجر، لكن المؤجر هو من يجب عليه أن يخلق جينة هذا التسليم والتي هي عقد البيع مع المورد. فهذا هو الالتزام الحقيقي الوحيد الذي يمكن أن يشكل أساسا لإثارة مسؤولية الموجز عن عدم تنفيذه له(14).

طابع الاعتبار الشخصي في اتفاقات التأجير التمويلي
إن الطبيعة الخاصة لعقد إيجار الأشياء لا يمكن أن ينتج عنها بالضرورة بعض الملامح التنظيمية للعلاقات التي تربط الأطراف المتعاقدة في عقود أخرى مثل عقد القرض.

وبافتراض مع التحفظ أن عقد الإيجار قد يشكل أساسا لتحقيق عملية قرض، يصبح تدخل الإيرادات الخاصة ضروريا للتعبير من خلال الإيجار عن بعض الملامح المتعلقة بالقرض، حتى يمكنه أن ينتج أثارا متشابهة. من أجل هذا الهدف تستخدم عقود التأجير التمويلي تقنية الاعتبار الشخصي المستندة من القانون الخاص.

ويعني الاعتبار الشخصي أنه في علاقة قانونية ما تلعب الاعتبارات المتعلقة بالمواقف الأخلاقية والسمعة وائتمان الشخص دورا حاسما في إبرام الاتفاق.

وبهذه الطريقة تبرم على أساس الاعتبار الشخصي العقود التي تفترض وجود بين المتعاقدين علاقات ضيقة للأمانة والثقة، مثل عمليات البنوك وبصفة خاصة عمليات القرض، ما دامت تتأسس على عنصر الثقة في المقترض والمقرض.

أما النتائج المتولدة عن الاعتبار الشخصي في اتفاق ما فهي متعددة، فمثلا الالتزام بعمل لا يمكن أن ينفذه غير المدين به إلا برضا الدائن عندما يكون لهذا الأخير مصلحة في أن ينفذه بنفسه.
كما أنه من المتفق عليه أن مجموع الالتزامات الناتجة عن اتفاق ما مهما كانت طبيعته لا يمكن تنفيذها مبدئيا إلا من قبل المتعاقد شخصيا.

أما بالنسبة للاتفاقات المتتالية التنفيذ، فلا يمكن الاستمرار في تنفيذها إذا أصبح المدين غير قادر لأي سبب كان على تنفيذ أداءه بنفسه: هكذا فإن موته، انعدام أهليته أو إعلان إفلاسه، يؤدي إلى إنهاء العقد بالإضافة إلى أن الخطأ في شخص المتعاقد هو عامل حاسم في العقود المبرمة على أساس الاعتبار الشخصي لطلب إبطالها.

على أن عقد إيجار الأشياء لا يعتبر منعقدا على أساس الاعتبار الشخصي: فالمؤجر المستغل لشيء ما يحصل على المقابل المالي لاستمتاع المستأجر بهذا الشيء، فهو لا ينتظر شخصا بعينه ولا أداء لا يمكن أن ينفذه إلا شخص بعينه. كما أن قواعد القانون المدني تنص على أنه من جهة يستطيع المستأجر مبدئيا أن يؤجر من الباطن الشيء وحتى التنازل عن حق إيجاره للغير، ومن جهة أخرى لا ينتهي الإيجار بسبب وفاة المستأجر أو المؤجر. فالمستأجر ليس ملزما إذن باستعمال الشيء شخصيا، لأن المؤجر قد يرى مدينه يتغير ويستمر الإيجار ساريا مع الخلف العام للمستأجر.

لكن الاعتبار الشخصي يمكن أن يستنتج من التنظيم الاتفاقي للعلاقات التعاقدية نفسها إذا كان العقد لا ينص على الاعتبار الشخصي. ففي إيجار ما، بنود المنع من التأجير من الباطن أو التنازل عن حق الإيجار هي صحيحة، كما يمكن استخلاص طابع الاعتبار الشخصي للاتفاق من وجود بند يقضي بفسخ الإيجار لوفاة أحد الأطراف أو إعلان إفلاسه وهو ما يعني أن شخصية المتعاقد تؤخذ بعين الاعتبار.
لكن لا فائدة من إثارة الاعتبار الشخصي للاتفاق لاستبعاد تطبيق القواعد المتعلقة به في الوقت الذي يوجد في العقد ما ينص على مخالفتها.

فإثارة الطبيعة الخاصة للإيجار في التأجير التمويلي والقول بأنه إيجار مالي لا يكفي: لأنه إذا كان المستأجر يهدف إلى اقتناء ملكية الأصل في نهاية المدة الحاسمة، وبالتالي يدفع الأقساط التي في مبلغها لا علاقة له لا كميا ولا كيفيا بالقيمة الإيجارية للأصل، فإن حقوقه على هذا الأصل لا يمكن افتراضها واعتبارها أضيق من حقوق مستأجر عادي في القانون المدني.

فصحيح أن اتفاقات التأجير التمويلي غالبا ما تتضمن بنودا من التأجير من الباطن للأصل أو التنازل عن حق إيجاره للغير، إلا أنه يمكن أن يكون لها استثناءات، تحت شكل بنود تشترط ترخيص أو موافقة المؤجر المستبقة. هكذا فإن البند الذي ينص على فسخ الاتفاق في حالة التسوية القضائية أو تصفية ممتلكات المستأجر،كما أن إنهاء العقد في حالة وفاته هو بند عادي وشائع في عقود التأجير التمويلي.

ذلك أن شرط الموافقة المسبقة يتماشى مع الملمح المالي لتدخل المؤجر التمويلي. على أنه إذا وجد أمام مدين جديد في قواعده المالية هي أقوى وأصلب من قواعد سلفه، يصبح من مصلحته أن يوافق ويرخص بالتنازل أو التأجير من الباطن: لأن موافقته تسمح له بالتمكن من مراقبة الشيء بشكل أكثر فعالية في حدود الامتيازات التي يحصل عليها: وفعاليتها في لعب دورها كضمان.

فالإيجار في التأجير التمويلي يسمح للمؤجر التمويلي بالتواجد في وضعية مميزة أكثر من أي دائن آخر: وإذا حصل وتوفي المستأجر، فإن العقد يصبح منفسخا فورا وبالتالي يسترجع المؤجر التمويلي الأصل محل الإيجار، فاقدا بذلك الأقساط المتبقية التي لم تستحق، لكنه لا يفقد القيمة التجارية والاقتصادية للأصل الذي في إعادة بيعه أو إعادة تأجيره يعد أحسن تعبير عن تنفيذ ضمان الدين. فالمؤجر التمويلي يستفيد من تأمين على الحياة يبرمه المستأجر بمبلغ مساو لثمن اقتناء الأصل، هكذا فإن المؤجر التمويلي يغطي مبلغ رأس المال المستثمر من قبله في العملية ليجد نفسه في الأخير حاصلا على رأس المال المستثمر، أقساط الإيجار المدفوعة حتى وفاة المستأجر والقيمة التجارية للأصل لحظة الوفاة. حتى أن موت المستأجر يصبح في بعض الأحيان الوضعية الأكثر إفادة للمؤجر التمويلي!!.

هكذا إذن يصبح تدخل الإيرادات الخاصة حتميا لترتيب عقود التأجير التمويلي، باستخدام البنود المخالفة للقواعد العامة للإيجار، الذي يصبح مطبوعا بالاعتبار الشخصي الذي تؤدي إليه العملية الائتمانية التي يغطيها. فتضمين الإيجار لهذه البنود يسمح للمؤجر التمويلي بالاحتفاظ بالعلاقات القانونية مع المستأجر بدون أن يجبر على رؤية المدين بتغير بدون موافقته المسبقة ووفاة المستأجر لم تعد تهدد مصالحه كما أن إعلان إفلاسه حتى وإن كان يفرض عليه قيود قانون الإفلاس لا تعرقل حقه على الشيء، ولا دينه الذي يستطيع الاستمرار في الحصول عليه من مدير التفليسة(15).

طابع المبالغة في الشرط الجزائي
غالبا ما يحدد مبلغ الشرط الجزائي كتعويض عن الفسخ على أساس بدلات الإيجار المتبقية لم تستحق: وذلك بنسبة 5/4 أقساط الإيجار المتبقية، وقد تنخفض إلى 4/3 ونادرا ما تكون النصف.

وقد يختط أحيانا تعويض الفسخ لعدم تنفيذ المستأجر لالتزامه في نتائجه بالفسخ الودي، بناء على طلب المستأجر. إلا أنه يبدو أقل وقعا في هذه النتائج ما دام في حالة الفسخ الودي أو التقابل يلتزم المستأجر في الحالة التي لا يقدم فيها مستأجر جديد أو مقتني بدفع مجموع بدلات الإيجار المتبقية التي لم تستحق، على عكس حالة الفسخ الجبري التي يلتزم فيها المستأجر بدفع فقط جزء من هذه الأقساط، وفي الحالتين يسترجع المؤجر لتمويلي الأصل. وعندما تسمح عقود قليلة للتأجير التمويلي للمستأجر بالاقتناء المبكر بناء على طلبه للأصل، فإنه يلزم بدفع كامل الأقساط المتبقية التي لم تستحق مضافا إليها القيمة المتبقية الأصل، على أنه لا مجال لدفع هذه القيمة المتبقية لا في حالة التقابل ولا في حالة الفسخ بسبب خطأ المستأجر.

وتحت تأثير محاولات الحد من آثار الشروط الجزائية المجحفة ومنذ تعديل وتلطيف مبدأ عدم مراجعة الشرط الجزائي في سنة 1975 في فرنسا وسنة 1995 في المغرب(16)، أصبحت بعض اتفاقات التأجير التمويلي تنص على أن ثمن عادة البيع أو إعادة الإيجار بعد فسخ الاتفاق، يتم خصمه من مبلغ تعويض الفسخ المستحق على المستأجر.
ويتضح من ذلك مدى الربط في نظر شركة التأجير التمويلي بين القيمة السوقية للأصل الذي تسترده والتعويض الاتفاقي عن الفسخ. لكن هذه الميزة لا تتقرر إلا إذا تم بيع الأصل أو تأجيره بالفعل، وبعبارة أخرى يتحمل المستفيد الذي أخل بالتزاماته العقدية مخاطر تسويق الأصل.

إن تحديد التعويض الاتفاقي بجميع أقساط الإيجار المتبقية التي لم تستحق لهو أكبر دليل على أن ما يهم شركة التأجير التمويلي هو بالأساس ضمان إهلاك كامل رأسمالها والحصول على ربحها. وإذا كانت العقود قد اتجهت إلى تحديد التعويض في الشرط الجزائي بنسبة محددة من تلك الأقساط فلأن ذلك قد أتى نتيجة لما أثير حول تلك العقود من محاولة الجمع بين التنفيذ العيني للالتزام المستأجر بدفع بدلات الإيجار تحت غطاء الشرط الجزائي وبين فسخ عقد التأجير التمويلي، بالإضافة إلى أن تحديد الشرط الجزائي في نسبة 5/4 أو 4/3 بدلات الإيجار المتبقية التي لم تستحق كما هو الغالب يتوقف من جهة على مدى تأكد شركة التأجير التمويلي من تسويق الأصل المسترد أي إعادة بيعه، ومن جهة أخرى يتوقف على حسابات مالية صرفة توازن فيها بين مزايا قبض الشرط الجزائي بعد الفسخ وإمكانية توظيفه في صفقات جديدة ومقدار عوائد رأس المال التي لا تحصل عليها بسبب فسخ العقد وعدم استكمال الوفاء بأقساط الأجرة(17).

وإذا كانت شركة التأجير التمويلي تحقق هلاك رأسمالها بالمضي في تنفيذ عقد التأجير التمويلي حتى انتهاء المدة الحاسمة وبالتالي لا تتأثر مصالحها المالية بتناقص قيمة الأصل مع الزمن، إلا أنها قد تواجه مخاطر السوق في الحالة التي تسترد فيها الأصل قبل أن يوفي المستأجر بكامل التزاماته المالية المتولدة عن العقد. ولتفادي ذلك ذهبت إلى ضمان إهلاك رأسمالها عن طريق إلزام المستأجر بدفع التعويض المقرر بموجب الشرط الجزائي المنصوص عليه في العقد. رغم أنها لا تكون متأكدة من ذلك دائما خصوصا إذا كان فسخ العقد قد حصل بسبب عجز المستأجر عن دفع بدلات الإيجار نتيجة إعساره.

ويستشف من ذلك أن استرداد الأصل للتصرف فيه يلعب نفس دور دفع الشرط الجزائي: ضمان إهلاك رأسمال شركة التأجير التمويلي رغم أن للأمرين محاذيرهما: مخاطر السوق فيما يخص الاسترداد ومخاطر إعسار المستأجر في ما يخص دفع الشرط الجزائي. لذلك تعمد إلى الجمع بين الأمرين للتخفيف من المخاطر التي تتعرض لها.
ورغم ذلك يمثل إهلاك رأس المال والحصول على أرباحه بشكل يسمح لشركة التأجير التمويلي بتحقيق الربح الهدف الرئيسي الذي تسعى الشركة إلى تحقيقه من خلال تنفيذ العقد حتى نهاية مدته الحاسمة.

وإذا كان هدف الشركة من الشرط الجزائي هو تحقيق هذا الهدف، يثور الاتهام حول اعتبار الشرط الجزائي سبيلا لتغطية جبار المستأجر على الوفاء بدفع بدلات الإيجار رغم فسخ العقد، وبالتالي تثور تهمة الجمع بين التنفيذ العيني للعقد وفسخه.

وعلى ذلك إذا كان العقد يتضمن شرطا فاسخا يقترن به التزام يقع على عاتق المستأجر بدفع جميع أقساط الأجرة المتبقية التي تنتجها حالة الاتفاق على سقوط الأجل في عقد يوصف بأنه عقد تمويل. وليس تغطية الأمر تحت ستار التعويض سوى محاولة لترتيب آثار سقوط الأجل في عقد غير قابل لإعمال فكرة سقوط الأجل باعتباره من العقود الزمنية التي لا يمكن معها إلزام المستأجر بدفع بدلات الإيجار مع توقف استمتاعه بالأصل محل الإيجار، على أن سقوط الأجل في هذه الحالة لا يقترن بفسخ العقد وإنما يقترن بالتنفيذ العيني للعقد وذلك بتعويض الدائن عن طريق إسقاط آجال الأقساط(18).

على أن البعض حاول تبرير ذلك بأن الشرط الجزائي يستخدم لتعويض الأضرار التي تلحق شركة التأجير التمويلي بسبب فسخ العقد الناتج عن عدم تنفيذ المستأجر لالتزاماته، وباعتبار أن تعويض الفسخ محسوب على أساس أقساط الإيجار، فإن هذه الأقساط نفسها تحسب على أساس معايير مالية صرفة، والضرر اللاحق بالمؤجر بفعل الفسخ لا يمكن تصوره سوى تحت ملمحه المالي، فالمكونات الرئيسية للأضرار هي الخسارة اللاحقة والكسب الضائع، وفي مادة التأجير التمويلي يتعلق الأمر بخسارة مالية وبفوات ربح مالي، ذلك أن الخسارة اللاحقة تتمثل في الجزء الغير المستهلك من رأس المال المستثمر في اقتناء الأصل، المصاريف المالية، مصاريف التخزين وإعادة البيع أو إعادة الإيجار. أما الربح الضائع فيتمثل في هامش الربح المتتالي المدمج في أقساط الإيجار المستحقة ولم تدفع.

والحقيقة أن تحديد ما يعد من قبيل ما يلحق من خسارة ويفوت من كسب على النحو المتقدم يمنع من إعادة النظر في تكييف الشرط الجزائي وأيضا من اعتبار التعويض مبالغا فيه إلى درجة كبيرة، ذلك أن عدم إهلاك رأس المال بالكامل وعدم استيفاء الربح أمر مؤكد دائما إذا ما تم فسخ عقد التأجير التمويلي وزال عن عاتق المستأجر بدفع أقساط الإيجار.

ومع ذلك أشار البعض إلى تجاوز الشرط الجزائي الحدود المعقولة نظرا لأن المؤجر يجمع بين استرداد الأصل بماله من قيمة سوقية وبين الحصول على مبلغ التعويض.

ويمكن التساؤل عما إذا كان يجوز تبرير هذا الجمع بالمخاطر التي تواجهها شركة التأجير التمويلي: مخاطر السوق ومخاطر إعسار المستأجر؟ إن خطر الإعسار هو من المخاطر التي يتعرض لها كل دائن في علاقته بمدينه. وتواجه الشركة هذا الخطر بالحصول على ضمانات عديدة أهمها على الإطلاق حق ملكية الأصل. وما يؤكد استعدادها لمواجهة هذه المخاطر، اتفاقها مع البائع على التعاون معها أو الاسترداد(19).

وبالمقابل يواجه المستأجر وضعية صعبة جدا، فبالإضافة إلى توقف انتفاعه بالأصل المؤجر يلتزم بدفع تعويض يمثل نسبة كبيرة من أقساط بدلات الإيجار التي لم يستطع دفعها، مما يعرضه للتنفيذ الجبري على أمواله للحصول على هذا التعويض.

هكذا يتضح من خلال ما ناقشناه أعلاه أن عقد التأجير التمويلي هو أبعد ما يكون من أن يشكل نموذج العقد الذي يحقق توازن أداءات أطرافه، بل على العكس هو نموذج صارخ لاستعلاء القوي على الضعيف حيث تستغل الأول الثاني ليفرض عليه من البنود أكثر مما هو في حاجة إليه ليحفظ مصالحه مستغلا قوالب القانون الخاص المكملة من جهة وخلو النصوص الخاصة بالتأجير التمويلي من المقتضيات التفصيلية للآليات التي تحكم هذا العقد من جهة أخرى تاركة حرية المبادرة لإرادة الأطراف التي بالضرورة سوف يخضع فيها الطرف الضعيف الذي يحتاج إلى تمويل، لإرادة القوي الذي لا تهمه سوى مصالحه. لذلك على المشروعات التي تلجأ إلى هذا النوع من التمويل أن لا تتسرع وتنخدع بالمزايا التي قد يبدو لها أنه يقدمه، بل عليها أن تدرس بتأني مقتضيات هذا التمويل وآثاره حتى تستطيع تقرير اللجوء إليه بدون مخاطر.

الهوامش
(1)- El Mokhtar Bey : de la symbiotique dans les leasing et crédit -bail-mobillier dalloz 1970.
(2)- Tunisie leasing : le manager N 16- Octobre 1997.
(3) -Maroc leasing : le contract de crédit- Bail au Maroc mémoire juin 1983 Rabat- Labdi Samit.
(4)- Actualisé.
(5)- في سنة 1964 ذكر Gaullier بأن معدل الفائدة في الليزينغ كان يتراوح بالمتوسط بين 12 و 14 % ص 755.
(6)- Charmont : leasing or not leasing :homme et technique Dec 1963-p 1304.
(7)- يرى Giovanoli أن المستأجر ملزم بضمان حقيقي تجاه المؤجر، يتعلق بفقد وتدمير الأصل: ص 239.
Mario : le crédit -bail-leasing en Europe 1980. librairies techniques.
(8) Charles Goyet : le louage et la proprité à l'épreuve de crédit-bail et du bail superficiare L.G.D.J..1983.
(9)- Micéle harichaux ramu le transfert des dans le crédit - bail mobilier ; Rev.trim. de dr.com : 31 é année n 2, Avril-juin 1978.
(10)- Gavalda et stouffet.p 652, fournier pr 22 : droit bancaire 2é ed litec- Paris. France.
(11)- les clauses limitatives ou exoneratoires de responsabilité en Europe, droit des at- de droit des obligations de l'université Paris 1. faires, actes du colloque des 13 et 14/12/1990, centre.
(12)- El Moukhtar Bey : de la symbiotique dans les leasing et le crédit- Bail mobilier p 13.
(13)- cermieux - Israel : leasing et crédit- bail mobilier p 53 ed Dalloz 1975.
(14)- دور القاضي إزاء الشرط الصريح الفاسخ: د. محمد حسين منصور 1995 منشأة المعارف بالإسكندرية.
(15)- Sophie mougenot- Mathis : le crédit- bail mobilier dans le redressement et la liquidation judiciaires des entreprises - Thèses de doctorat en droit 1994 Université de Tours.
(16)- د. فؤاد هلال: مستقبل الشرط الجزائي بعد صدور القانون 1994 رقم 25-27 بتاريخ 13/07/1995، مجلة القانون والاقتصاد العدد 14-197.
(17)- د. هاني محمد دويدار: النظام القانوني للتأجير التمويلي 1994 دار الجامعة الجديدة للنشر.
(18)- د. هاني محمد دويدار: عدم توازن الأداءات في اتفاق التأجير التمويلي رسالة دكتوراه 1995 جامعة بوردو فرنسا.
(19)- المقيد القيم طلال مختار:" البند الجزائي في القانون المدني": رسالة دكتوراه 1974 من جامعة باريس.



التنفيذ المعجل في المادة الاجتماعية

ذ.محمد عطاف
الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بورزازات

مقدمـة:
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له" ويقال أن السرعة في إصدار وتنفيذ الحكم أحيانا لن تكون سرعة في نجدة الحق وحمايته، بقدر ما تكون سرعة في اغتياله، ويقال أن العدالة البطيئة قد تصل إلى من يستحقها، في وقت تصبح فيها عديمة الفائدة إلى درجة أن البعض يشبهها بالإسعاف الطبي لن يكون ناجحا إلا إذا أقدم في أسرع وقت.

وللتوفيق بين المبدأين ارتأت التشريعات إيجاد مبدأ التنفيذ المعجل للأحكام واعتمدت لتبرير ذلك إما على طبيعة النزاع وإما لحماية طبقة معينة من المتقاضين.

والقاعدة العامة في تنفيذ الأحكام أنه لا يجوز تنفيذ الحكم إلا إذا كان حائزا لقوة الشيء المحكوم فيه ( قوة الأمر المفضى به) أي غير قابل للطعن العادي أي التعرض أو الاستئناف، أو كان الحكم باتا أي لم يعد يقبل الطعن العادي أو غير العادي، أما إذا كان الحكم ابتدائيا أو نهائيا غيابيا، فإن ممارسة الطعن تتحول دون التنفيذ، طبقا للفصلين 132 من ق.م.ج (التعرض) أو 134 من نفس القانون (الاستئناف وأجله).

ومبدأ التنفيذ المعجل، أحدث كاستثناء للقاعدة العامة المذكورة فأجاز تنفيذ الحكم رغم قابليته للتعرض أو الاستئناف، وهو بذلك امتياز ممنوح للمحكوم له بتنفيذ حكم بمجرد صدوره قبل الوقت المحدد لإجرائه، ويدعي تنفيذا مؤقتا لأن صحته متوقفة على النتيجة النهائية للطعن في الحكم بالتعرض أو الاستئناف، كما يدعي تنفيذا معجلا لأنه يحصل قبل الوقت الطبيعي لتنفيذ الأحكام.

التنفيذ المعجل يكون قانونيا عندما يأمر به القانون في حالات حددها بصفة حصرية، كالقضايا الاستعجالية، والأوامر بناء على طلب (153 من ق.م.ج) والقضايا الاجتماعية (285 من ق.م.ج) وأوامر قاضي التوثيق (179 و212 من ق.م.ج) وقد أشار لهذا النوع كل من القانونين المصري في المادتين 288 و289 من قانون المرافعات المدنية والقانون الفرنسي في المادة 514 من القانون الجديد للمسطرة المدنية، وهو لا يخضع تقريره لسلطة المحكمة.

ويكون التنفيذ المعجل قضائيا، عندما يترك تقريره للقاضي ويشير له الفصل 147 من ق.م.م وحدد حالات كونه وجوبيا، كما جعله اختياريا تبعا لظروف القضية التي يجب توضيحها.

ولم يعد القانون الفرنسي يفرق بين الحالتين، إذ نص في الفصل 515 من قانون المسطرة الجديد، على أنه يمكن الأمر بالتنفيذ المعجل بطلب من الأطراف أو بصفة تلقائية في غير الحالات التي يمنع فيها، في كل حالة يرى القاضي أنه ضروري ومطابق لطبيعة الدعوى.

« L'exécution provisoire d'une décision peut être ordonnée à la demande des parties ou d'office, hors les cas ou la lois l'interdit, chaque fois que le juge l'estime nécessaire et compatible avec la nature de l'affaire ».

وسأحاول بعون الله، التطرق للموضوع في مبحثين أخصص أحدهما لموقف القانون المغربي من التنفيذ المعجل في القضايا الاجتماعية، والآخر لموقف القضاء المغربي من التنفيذ المعجل في القضايا الاجتماعية.

المبحث الأول: موقف القانون المغربي من التنفيذ في القضايا الاجتماعية.

خصص المشرع المغربي الفصل 285 من ق.م.م للتنفيذ المعجل في القضايا الاجتماعية وأوضح أنه "يكون الحكم مشمولا بالتنفيذ المعجل بحكم القانون في قضايا حوادث الشغل والأمراض المهنية في قضايا الضمان الاجتماعي، وقضايا عقود الشغل والتدريب المهني رغم كل تعرض أو استئناف:

هذا وإن كانت حوادث الشغل لا تثير أي نقاش حول قابليتها للنفاذ المعجل، لكون الأحكام الصادرة في شأنها تتعلق بإيرادات الغرض منها تعويض المصابين النقض الحاصل في قدراتهم البدنية ورغم ذلك فقد يثور النقاش حول الرأس المال الذي يحكم به في حالة العجز الذي يقل عن 10% طبقا للفصلين 156 من ظهير 6/02/1963 المعدل بظهير 9 أكتوبر 1977 كما يمكن إضافة حالة الحكم بتصفية الغرامة اليومية التي يحكم بها أحيانا طبقا للفصلين: 79 و143 من ظهير 1963 عند حصول تأخير غير مبرر في تنفيذ حكم صادر بأداء إيراد سنوي.

أما قضايا الضمان الاجتماعي فإنها لم تثر بدورها ما يدعو إلى التفكير أو التساؤل عن نوعية القضايا التي قصدها المشرع.

والنقاش القانوني القائم حاليا يدور حول عبارة قضايا عقود الشغل والتدريب المهني الواردة في الفصل 285 المذكور.
وقد كان المشرع المغربي في ظل المسطرة المدنية القديمة يخضع القضايا الاجتماعية للمبادئ العامة في التنفيذ المعجل (الفصلين 191.85 من ق.م.م القديم)، وبعد صدور ظهير 27/7/1972، المحدث للمحاكم الاجتماعية الذي لم يعمر طويلا ـ إذ بدأ العمل به في فاتح يناير 1973 وألغي بالظهير الشريف بمثابة قانون المؤرخ في: 28/09/74 بالمصادقة على نص قانون المسطرة المدنية (الفصل الخامس) وقد نص ظهير المحاكم الاجتماعية في الفصلين 46 و47 على النفاذ المعجل في قضايا حوادث الشغل والأمراض المهنية والضمان الاجتماعي، وأخضع قضايا عقود الشغل والتدريب المهني للنفاذ المعجل القضائي وأحدث مسطرة لإيقاف التنفيذ طبقا للفصل 191 من ق.م.م القديم.

وهكذا نجد من خلال دراسة ظهير المحاكم الاجتماعية لسنة 1972 أن المشرع المغربي رغم إحداثه لمحاكم اجتماعية منظمة ومستقلة بإجراءاتها ووسائلها، فإنه ترك مسألة التنفيذ المعجل في قضايا عقود الشغل لسلطة القاضي وأقر إمكانية إنجاز مسطرة إيقاف التنفيذ في قضايا حوادث الشغل والأمراض المهنية، مما يدعو إلى التساؤل في ظل المسطرة المدنية لسنة 1974.

هل هناك مبررات قوية تجعل المشرع حاليا يدخل قضايا عقود الشغل والتدريب المهني ضمن القضايا التي تنفذ بقوة القانون وتكون بذلك غير خاضعة لمسطرة الإيقاف طبقا للفقرة الأخير من الفصل 147 من ق.م.م.

هذا وينظم القانون المصري مسطرة للنفاذ المعجل في بعض قضايا عقود الشغل، وجعله تنفيذا معجلا قضائيا في المادة 290 من قانون المرافعات، ونص ضمن حالات التنفيذ المعجل القضائي على:

"الأحكام الصادرة بأداء النفقات والأجور والمرتبات" وفسر الفقه والقضاء الأحكام الصادرة بالأجور والمرتبات بأنها الأحكام التي تصدر في دعاوي المطالبة بالأجر والمرتب الناشئ عن عقد العمل سواء كان عقد عمل خاص أو عقد عام، طالما أن الاختصاص بنظر المنازعات للقضاء العادي، فإذا لم يكن المبلغ المطلوب أجرا، كالتعويض والمعاش ومكافأة نهاية الخدمة فلا يجوز شمول الحكم الصادر به بالتنفيذ المعجل القضائي (كتاب قواعد المرافعات ـ قواعد التنفيذ. الكتاب الثالث ـ الدكتورة أمينة مصطفى النمر).

أما المشرع الفرنسي فقد أحدث نظاما خاصا للقضاء الاستعجالي لدى المجالس والمحاكم المختصة بالنظر في القضايا الاجتماعية، بمقتضى الفصل 512 وما بعده من قانون الشغل، وقد أدخل عدة تعديلات على المرسوم الذي أحدث هذا الاختصاص الصادر في 12 شتنبر 1974 بغض النظر عن الحالات العامة للقضاء الاستعجالي الممنوحة للقضاء الاجتماعي بمقتضى مرسوم 23 نونبر 1979، بإمكانية تطبيق الفصلين 848 و849 من ق.م.م الفرنسي المتعلقين بالقضاء الاستعجالي العادي أمام القضاء الاجتماعي، كلما توفر عنصر الاستعجال وحددت الفقرة الثالثة من الفصل 516 من قانون العمل الفرنسي، التعويضات القابلة للنفاذ في الأحكام الاجتماعية وحددتها في مبلغ لا يفوق أجور ستة أشهر من العمل.

وبمقارنة بسيطة بين التشريعات المغربية والمصرية الفرنسية يظهر أن التشريع المغربي وضع قاعدة عامة دون تعيينها بحدود مقبولة، ومعايير موضوعية عند النص على "عقود الشغل والتدريب المهني" مما جعل المحاكم تختلف اختلافا متباينا في طريقة فهم العبارة المذكورة، مما سنحاول الإشارة له في الفرع الآتي.

المبحث الثاني: موقف القضاء المغربي من التنفيذ المعجل في القضايا الاجتماعية.

يظهر من خلال استقراء أحكام المحاكم المغربية، أن مسألة النفاذ المعجل لم تكن تثير كثيرا من النقاش لدى المحاكم الابتدائية، فمجرد اقتناع القاضي الابتدائي بالأسباب التي اعتمد عليها في حكمه فإنه يذيله بعبارة النفاذ المعجل، وعند إغفاله التنصيص على التنفيذ فإن كتابة الضبط لا تعترض في تنفيذ الحكم مادام صادرا في مادة اجتماعية طبقا للفصل 285 من ق.م.م.

أما لدى محاكم الاستئناف فإن وجهة نظرها في مفهوم عبارة "عقود الشغل والتدريب المهني" قد تطور منذ بداية العمل بظهير 1974 واعتبرت أول الأمر، أن المشرع إنما يقصد التعويضات الناتجة عن عقد العمل واستبعدت بذلك التعويض عن الطرد التعسفي وأعطى بعضها تفسيرا لذلك بأن ذكر بأن التعويضات المتعلقة بالإعفاء والأخطار والأجور تعويضات ناتجة عن المسؤولية التعاقدية، في حين فإن التعويض عن الطرد التعسفي ناتج عن المسؤولية التقصيرية بسبب خطأ المشغل، وهي خاضعة لسلطة القاضي ولا يمكن إضفاء النفاذ المعجل عليها.

وقد انتقد هذا الموقف الأستاذ لمراني زنطار (أستاذ مساعد بكلية الحقوق بمراكش) في الموضوع الذي تقدم به في الندوة حول "القانون الاجتماعي حصيلة وإصلاح" المنظمة من طرف كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء يومي 10/11 مارس 1989 ووارد في انتقاده ما يلي:

"بالنسبة للخطأ، نقول بأن الخطأ العقدي هو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ عن العقد فالمدين قد التزم بالعقد، فيجب عليه تنفيذ التزامه... فإذا لم يقم المدين في العقد بالتزامه كان هذا هو الخطأ العقدي، ويستوي في ذلك أن يكون عدم قيام المدين بالالتزام ناشئا عن عمده أو عن إهماله أو عن فعله أي دون عمد أو إهمال... ولعل هذه الأركان ـ أركان المسؤولية التعاقدية ـ هي نفس الأركان في المسؤولية التقصيرية، الأمر الذي جعل القضاء المغربي لا يضع حدا فاصلا بين المسؤوليتين... نخلص من ذلك أن جميع التعويضات المستحقة عن إنهاء عقد العمل ينبغي اعتبار مسؤولية رب العمل عنها مسؤولية تعاقدية وبالتالي شمولها بالنفاذ المعجل... انتهى كلام ذ/أمراني منشور بالمجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية عدد: 22/90 صفحة 94 وما بعدها.

ويتبين بطبيعة الحال موقف محاكم الاستئناف من خلال الأحكام التي تصدرها بإيقاف التنفيذ المعجل، ويظهر حاليا أن جميع محاكم الاستئناف بالمملكة متفقة على الأمر بإيقاف التنفيذ المعجل في التعويضات المتعلقة بالأخطار والإعفاء والطرد التعسفي، مع اختلاف في التشدد حول بقية التعويضات كالمكافآت والأجور والتعويضات العائلية.
في حين يظهر أن قضاة المحاكم الابتدائية لازالوا يتبعون توصيات الندوة التي عقدتها وزارة العدل في شهر يناير 1979 حيث أوصت الندوة (على التأكيد على احترام مقتضيات الفصل 285 من ق.م.م في كليته والفقرة الأخيرة من الفصل 147 من ق.م.م في انتظار كلمة المجلس الأعلى).

ولعل رسالة سيادة وزير العدل الدورية المؤرخة في 29 يوليوز 1991 الموجهة إلى المحاكم والتي تحث بصفة غير مباشرة على عدم إخضاع التعويض عن الطرد التعسفي للنفاذ المعجل قد تغير من نظرة قضاة المحاكم الابتدائية في الموضوع، غير أن ذلك سيخلق بالمقابل تضاربا في التفسير للحكم عند سكوت القاضي عن النفاذ المعجل بصفة قانونية، كما قد تقوم بالمقابل نزاعات ترمي إلى الاحتجاج ضد أحكام المحاكم الابتدائية التي ترفض التصريح بالنفاذ المعجل القانوني، أو تقوم احتجاجات د مصالح التنفيذ بكتابة الضبط.

وقد أحدث المشرع الفرنسي مسطرة خاصة للطعن في أحكام قاضي الدرجة الأولى الذي يرفض أو يسكت عن حالة النفاذ المعجل القضائي بمقتضى المسطرة المنصوص عليها في الفصل 525 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي.

وأوجد المشرع المصري مبدأ استئناف الخطأ في الوصف ونظمه في المادة 291 من قانون المرافعات في حين لا نجد في القانون المغربي تنظيما لطريق التظلم في إغفال أو رفض القاضي الابتدائي إعطاء صبغة النفاذ المعجل للحكم، على أن بعض محاكم الاستئناف ذهبت ـ عن صواب ـ إلى قبول الطلبات المقدمة في هذا الشأن إلى الرئيس الأول في إطار دعوى الصعوبة (ف 149 من ق.م.م)، وقد صدر عن الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بالرباط أمر تحت عدد: 2717 ملف 644/82 بتاريخ: 24/6/1983 قبل فيه الاحتجاج من الناحية الشكلية ورفضه موضوعيا بعلة أن القاضي الابتدائي علل موقفه بخصوص النفاذ المعجل، مما يجعل كل تدخل لقاضي المستعجلات في إطار دعوى الصعوبة، منطويا على مساس بحجية الحكم ويبرر بالتالي الحكم برفض الطلب، (الأمر يتعلق بالاحتجاج ضد حكم القاضي الابتدائي الذي رفض النفاذ المعجل في النفقة المحكوم بها لعلة وجود نزاع حول الحالة الشخصية لمستحقها) الأمر منشور بالمجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد عدد: 15/84 ص 159.

وأعتقد ـ مع احترام وجهة النظر المذكورة ـ أنه لا مانع على السيد الرئيس الأول في مثل هذه الحالة من رفع إيقاف النفاذ المعجل الذي أمر به القاضي الابتدائي، مادام الحكم صادرا في مادة النفقة التي تنفذ بقوة القانون، ولا يشكل تدخله مساسا بحجية ما قضى به الحكم لأن الحجية تتعلق بموضوع الحق لا بطريقة تنفيذه، خاصة وأن المجلس الأعلى دأب على العكس منه على منع محاكم الاستئناف من إيقاف النفاذ المعجل في قضايا النفقة وبقية الأوامر الصادرة في نطاق الفصلين 179 و212 من ق.م.م (انظر القرارين عدد: 32 بتاريخ: 9 مارس 1977 ملف اجتماعي 56.692 وعدد 76 بتاريخ: 06/06/77 ملف اجتماعي 555511 ـ منشورين بمجلة القضاء والقانون عدد 128، يوليوز 78 صفحة 98 و109).

أما موقف المجلس الأعلى في موضوع النفاذ المعجل في القضايا الاجتماعية فيظهر أنه موقف بدا بالتشدد في ضرورة احترام النفاذ المعجل لينتقل إلى موقف معتدل، ثم تحول إلى موقف مبهم.

وهكذا بدأ المجلس الأعلى الموقر نظره إلى النفاذ المعجل القانوني بنظرة متشددة وذكر في إحدى قراراته الصادرة بتاريخ: 14/05/77 تحت عدد: 66 ملف اجتماعي 59334 ما يلي:
"وحيث أن الأحكام التي يمكن النظر في طلبات إيقاف تنفيذها هي تلك التي يأمر القضاة بحكم سلطتهم التقديرية بتنفيذها مؤقتا، أما الأحكام التي تنفذ بقوة القانون فلا يمكن إيقاف تنفيذها (قرار عدد: 196 خ 31/10/77 ملف 63644) وأوضح في قرار مماثل "وحيث أن المبالغ المحكوم بها مرتبطة بعقد الشغل الذي كان يربط طرفي الدعوى" ورفض إيقاف التنفيذ.

وأكد المجلس نفس الاتجاه بقراره عدد: 501 بتاريخ: 28/05/80 ملف مدني 76813 عندما انتقد ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف بالدار البيضاء من التفريق بين التعويضات والحقوق المتفرعة مباشرة عن عقد العمل كالأجر والرخصة والتعويضات العائلية على عكس التعويضات المتعلقة بالطرد والإعفاء والإشعار فإنها لم تنشأ مباشرة عن عقد العمل، ونخص بذلك حكم غرفة المشورة بالدار البيضاء فيما قضت به من إيقاف النفاذ المعجل في التعويضات الأخيرة (ويتضح من أحد القرارات الصادرة عن الغرفة الاجتماعية بالمجلس تحت عدد: 1105 بتاريخ: 29/4/1991 ملف اجتماعي 90.9080 (منشور مجلة الإشعاع عدد: 6 صفحة 161، أن الغرفة الاجتماعية لازالت تطبق نفس التشدد في التفسير).

ويمكن فهم موقف الاعتدال في تفسير المجلس الأعلى لعبارة قضايا عقود الشغل الواردة في الفصل 285 من ق.م.م من قراره عدد: 376 بتاريخ: 28 ماي 1984 في الملف الاجتماعي 5099، (منشور بمجلة القضاء والقانون عدد: 135-136 صفحة 191) حيث أورد فيه:

"وبما أن الأحكام الصادرة في شأن التعويض عن الطرد نتيجة فسخ عقد العمل باستثناء الحقوق التي يستمدها العامل بمقتضى النصوص التشريعية تبقى خاضعة لمقتضيات الفصل 147 من ق.م.م فيما يتعلق بطلب إيقاف التنفيذ، فإن الأحكام الصادرة بالرجوع إلى العمل من أجل نفس السبب تبقى بدورها خاضعة لمقتضيات الفصل المذكور باعتبارها بديلا للتعويض عن الضرر".

ونرى أن هذا الموقف للمجلس، يساير التفسير الذي أعطته غالبية محاكم الاستئناف للنفاذ المعجل في قضايا عقود الشغل.

أما الموقف المبهم للمجلس الأعلى، فيمكن استنباطه، من قبوله للاحتجاج بمقتضيات الفصلين: 147 و285 من ق.م.م أمام المحاكم التي تبث في التعويض أو الاستئناف دون إمكانية تقديم نفس الاحتجاج أمام المجلس الأعلى عندما يقدم إليه طلب لإيقاف تنفيذ حكم اجتماعي تأسيسا على الفصل 361 من ق.م.م، فقد أورد المجلس الموقر في قرار صدر برئاسة ذ/ إبراهيم قدارة وبمقتضى تقرير المستشار ذ/أحمد العلمي ما يلي:

"وفيما يتعلق بالدفع المثار من طرف المطلوب في إيقاف التنفيذ والمتخذ من أن الفصل 285 من ق.م.م صريح في أن التنفيذ المعجل يتم بقوة القانون بالنسبة لقضايا الشغل.

لكن حيث أن دعوى إيقاف التنفيذ المنصوص عليها في الفصل 361 من ق.م.م هي دعوى مستقلة وذات طبيعة عامة تشمل جميع الأحكام المدنية كيفما كان نوعها، ويشمل مفعولها الأحكام الانتهائية المرتبطة بها، لذلك فإن دعوى المطالبة الرامية إلى إيقاف تنفيذ حكم صادر في مادة الشغل تعتبر مقبولة لأنها أقيمت طبقا لأحكام الفصل 361 من ق.م.م ومستقلة بذاتها لا تستند إلى طعن بالتعرض أو الاستئناف، مما لا مجال معه للاحتجاج بمقتضيات الفصل 285 من ق.م.م الذي يسري مفعوله بالنسبة للأحكام القابلة للتعرض والاستئناف فقط مما يترتب عنه اعتبار الدفع المتمسك به غير مرتكز على أساس قانوني...

يأمر المجلس الأعلى بإيقاف تنفيذ الحكم المشار إليه أعلاه وبالصائر على المطلوب ضده الإيقاف.
(قرار عدد 149 بتاريخ: 27/02/1980 ملف عدد: 81053 أورده الأستاذ محمد السماحي في أطروحته: نظام التنفيذ المعجل للأحكام المدنية في القانون المغربي ط 82-83 صفحة 152).

لذلك يمكن اعتبار وجهة نظر المجلس الأعلى هذه جد متناقضة مع المبادئ العامة لتنفيذ الأحكام والتي تجعل الأحكام المكتسبة لقوة الشيء المحكوم به قابلة للتنفيذ باستثناء الحالات المنصوص عليها في الفصل 161 من ق.م.م وهي قضايا الأحوال الشخصية والزور الفرعي والتحفيظ العقاري، وإذا كان المجلس الأعلى في حيثياته المذكورة يسمح بتقديم طلبات إيقاف تنفيذ أحكام حائزة لقوة الشيء المحكوم به وصادرة طبقا للفصل 285 من ق.م.م بالاعتماد على الفصل 361/2 التي تنص "وبصفة استثنائية على إمكانية إيقاف تنفيذ حكم مدني طعن فيه بالنقض" فإن الموقف المدعو للاستغراب هو كيف يسمح المجلس الأعلى بحرمان المحاكم العادية من حق إيقاف تنفيذ أحكام أقل ما يقال عنها أنها قابلة للتعرض أو الاستئناف وأنها لم تحز بعد بقوة الشيء المحكوم فيه، ويظهر أن المجلس الأعلى اعتمد أكثر في قراره 80.149 على حرفية النصوص، كما يمكن القول أن التعليل الوارد في القرار لا نعتقد أنه حصل الإجماع عليه.

والموقف المبهم الذي طبع نظر المجلس الأعلى فيتمثل كذلك في معالجة القضايا الاجتماعية الصادرة في إطار الفصل 285 من ق.م.م معالجة عادية وأصبح يصدر في شأنها قرارات بإيقاف التنفيذ، مكتفيا بتعليل عام يستعمله لإيقاف بقية القضايا في إطار الفصل 361 من ق.م.م.

وهكذا يورد المجلس الأعلى حيثية مفادها وحيث سبق طلب نقض القرار المذكور.
وحيث أن المجلس الأعلى بعد اطلاعه على الوثائق المدرجة في الملف وعلى ظروف النازلة وملابساتها ارتأى الاستجابة للطلب المرفوع إليه، ليقرر بذلك إيقاف تنفيذ الأحكام الاجتماعية الحائزة لقوة الشيء المحكوم فيه، والخاضعة للنفاذ المعجل القانوني دون الإشارة إلى توفر الاستثناء المنصوص عليها في الفصل 361 من ق.م.م.

(انظر عدة قرارات منها القرار عدد: 1873 بتاريخ: 30/10/89 ملف اجتماعي: 89.9882 والقرار عدد 274 بتاريخ: 5/2/90 ملف اجتماعي: 89.10245).

وقد نظم القانون المصري هذه الحالة بمقتضى الفصل 251 مرافعات واعتبره وقفا قضائيا وليس قانونيا إذ لابد من الأمر به من طرف محكمة النقض واشترط لذلك أن يخشى من التنفيذ وقوع ضرر جسيم يتعذر تداركه، وأن لا يحصل التنفيذ، كما أضاف قانون رقم 65 لسنة 1977 إجراء يتعين معه على محكمة النقض بعد إيقاف التنفيذ تعيين جلسة للنظر في الطعن خلال ستة أشهر.

ولم يحدث المشرع الفرنسي أية مسطرة أمام محكمة النقض لإيقاف تنفيذ الأحكام التي لا يوقف الطعن بالنقض نفسه التنفيذ (المادة 579 من ق.م.م. و19 من قانون 13 يوليوز 67) ولعل ذلك راجع إلى احترامه لمبدأ التقاضي على درجتين، وإلى قابلية الحكم الذي اكتسب قوة الشيء المحكوم فيه للتنفيذ وعزز بذلك الهيبة والاحترام للأحكام القضائية بدليل أنه لم يتبع نفس المنهج القضاء الإداري، حيث لمح لمجلس الدولة وللمحاكم الإدارية بإيقاف تنفيذ المقررات الإدارية والقضائية بمقتضى شروط نظمتها المواد 48 من قرار 31/7/45 بالنسبة لمجلس الدولة والفصل 96 إلى 101 من مرسوم 13 يوليوز 1973 المتعلقين بالمسطرة أمام المحاكم الإدارية والمعدلين بقانون 31/12/1987 المحدث لمحاكم الاستئناف الإدارية.

وعلى سبيل الاستطراد وضرورة إجراء المقارنة، ارتأيت أنه من لملائم الإشارة إلى أنه قد عاشت مقتضيات الفصل 400 من ق.م.ج بين مؤيد ومناهض فترة غير يسيرة من حياة قضائنا، إذ أن إحداثها للتنفيذ المؤقت في التعويض المسبق، أو الجزء من التعويض المحكوم به جنحيا لم يرق فئة معينة من المتقاضين، رغم ما لها من مجرد تقرير لما سبق أن نصت عليه مقتضيات الفصل الخامس من الظهير الشريف المؤرخ في ثامن يوليوز 1937، حول التأمين، ولم يلق تطبيق الفصل الخامس المذكور اذلي أوجد آنذاك بدوره مبدأ التنفيذ المؤقت للتعويض المسبق في حالة عدم قبول الحكم للتعرض، لم يلق أي اعتراض من المحاكم العادية (عدة أحكام صادرة عن المحكمة بالدار البيضاء (سنوات 54 و1955 منشور بمجلة المحاكم المغربية لشهري ماي 54 ونوفمبر 1955) أو بالمجلس الأعلى قرار عدد: 14543 بتاريخ: 5/3/1964.

لكن بظهور نفوذ شركات التأمين في الساحة الاقتصادية المغربية أصبحت الانتقادات توجه إلى تطبيق الفصلين المذكورين (5 من ظهير 37 و400 من ق.م.ج).

ولقيت الانتقادات بعض الصدى لدى القضاء، وقد دشنت محكمة الاستئناف بالرباط هذا الصدى بإصدارها القرار المؤرخ في: 28/11/1967 إذ سمحت الغرفة المدنية الأولى بهذه المحكمة وهي تبث في غرفة المشورة كهيئة جنحية بإيقاف تنفيذ ما قضى به حكم جنحي من النفاذ المعجل في نصف المبالغ المحكوم بها، معتمدة على تعليلات غير واضحة، كما عمد السيد رئيس المحكمة الابتدائية بالدار البيضاء بمقتضى أمره المؤرخ في: 25/11/1967 ملف: 5449 كقاضي المستعجلات إلى إيقاف المعجل الذي أمر به حكم جنحي من منح تعويضات مع النفاذ المعجل لأولياء ضحية حادثة صيد.

(انظر الأمر وتعليلاته غير المقنعة بمجلة المحاكم المغرية عدد 2 أبريل 62 صفحة 42).

وقضى الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء في الملف الاستعجالي 701/14 بتاريخ: 25/10/1978 قرار 931 بإيقاف إجراءات تنفيذ الحكم الجنحي الصادر في الملف الابتدائي عدد: 4503 بتاريخ: 8/11/1977 في مقتضياته المدنية إلى أن يبث في استئناف الحكم، اعتمادا على دفوعات الشركة الأمريكية للتأمين" (انظر القرار وهو منشور في مجلة المحاكم المغربية عدد 13، دجنبر 78 صفحة 61).

كما بادرت وزارة العدل إلى إصدار مناشير في الموضوع تحث فيها على التزام الدقة والرزانة في تطبيق المقتضيات التشريعية حول النفاذ المعجل إذا تعلق الأمر بتعويضات عن حادثة سير (انظر المنشورين 526 و527 بتاريخ: 10 أبريل 1970) إلا أن المنشورين الصادرين بعد ذلك في 22 دجنبر 1978 تحت عدد 829 و830 لم يخفيا على ما يظهر تأثيرهما بانتقادات شركات التأمين، إذ ورد في المنشور الأول (... فقد انعكس ذلك بوجه خاص على الوضعية المالية لشركات التأمين التي تلعب دورا في الاقتصاد الوطني بواسطة الادخارات والاحتياطات).

وفي هذا أورد الأستاذ محمد السماحي ـ في أطروحته عن نظام التنفيذ المعجل للأحكام المدنية في القانون المغربي (سنة 85) ما يلي:
(... ولعل ذلك ما جعل بعض المحاكم تتحايل على القانون فتجعل قسطا كبيرا من التعويض النهائي، قد يصل إلى ثلثيه، مسبقا ليس غير، لتوفر له الاستفادة من النفاذ المعجل القانوني، ومثل هذه الوضعية لم تكن لتروق شركات التأمين فتدفعها إلى التشكي لدى وزارة العدل بها، وبالفعل فقد وجدت شكواها أخيرا صداها لدى المسؤولين، وكان من نتيجة ذلك إصدار السيد وزير العدل منشورا تحت عدد: 832... إلخ) انتهى كلام الأستاذ السماحي المرجع المذكور صفحة 154.

وبصدور ظهير ثاني أكتوبر 1984 المحدث لنظام خاص للتعويض عن حوادث السير لم يعد أحد يتحدث عن الصعوبات المالية التي يحدثها تطبيق الفصلين 400 من ق.م.م والفصل 5 من ظهير 1937 من طرف المحاكم.

ويمكن القول ـ اعتمادا على ما ذكر ـ بأن النفاذ المعجل في ميدان حوادث السير بين سوء وحسن تطبيقه، كان بداية الشرارة التي أشعلتها شركات التأمين، وزودتها بالتحدث عن المبالغة في التعويضات التي خلقت لها صعوبات مالية، لتجعل المشرع يتدخل لحمايتها بإصدار ظهير 2/10/1984، لكن الغريب أن أي ملف يتعلق بتصفية أو إفلاس شركة التأمين لم يعرض على المحاكم خلال تلك الفترة، بل على العكس فإن المخالفات التي نتجت عن التهافت على إنشاء تلك الشركات هو الذي كان موضوع متابعات جنائية، ولذا فإن تدارك الوقوع في نفس المصير في ميدان القضاء الاجتماعي، يفرض نفسه بإيجاد الحلول القانونية التي قد يفسرها البعض على أنها شطط ليتدخل بسببها للحد من أبرز مميزات السلطة القضائية، وهي "الاقتناع المعلل" ويكفي للاستدلال على ما أقوله إصدار قانون 25/12/1980 المنظم لعلاقات الكراء، وقانون 02/10/1984 حول التعويض عن حوادث السير.

وفي الختام ارتأيت أنه من الملائم الإشارة إلى وجهة نظر سبق لي أن تقدمت بها في الندوة الثانية للقضاء الاجتماعي التي نظمتها وزارة العدل في الفترة ما بين 25 و26 فبراير 1982، والتي تتمثل في إمكانية التفكير في أن المشرع المغربي عندما نص على عبارة "قضايا عقود الشغل والتدريب المهني" ولم ينص على "الخلافات الناشئة بين المشغل والأجير"، رغم أنه في جميع الفصول التي تعالج القضايا الاجتماعية يتحدث عن الصنفين سواء في الاختصاص في الفصل 20 من ق.م.م. وطريقة تقديم الدعوى في الفصل 23، وفي الفصل 27 عند التحدث عن تكوين هيئة المحكمة، والفصل 278، عند التحدث عن الأحكام الصادرة في القضايا الاجتماعية، أقول أن المشرع المغربي بتصنيفه القضايا الاجتماعية إلى نزاعات مرتبطة بعقود الشغل وإلى خلافات ناشئة بين المشغل والأجير وتخصيصه النفاذ المعجل القانوني لقضايا عقود الشغل، فإنه لاشك يريد استبعاد الخلافات الناشئة بين المشغل والأجير، ويمكن تفسير نزاعات عقود الشغل بالنزاعات المرتبطة بعقد الشغل مباشرة كالأجرة والعمولات والمشاركة في الأرباح، والساعات الإضافية والعطلة السنوية والتعويضات العائلية والمنح السنوية، وكل هذه الطلبات يمكن أن ينشأ عليها نزاع أثناء تنفيذ عقد الشغل، أما الطلبات المترتبة عن فسخ عقد الشغل كالإشعار والإعفاء والتعويض عن الطرد، فهي تعويضات مرتبطة بالخلافات الناشئة بين المشغل والأجير، بمناسبة فسخ عقد العمل، فالنزاعات Contestations المتعلقة بعقود الشغل هي مجرد مجادلة في قرارات يتخذها رب العمل وتلحق ضررا بالأجير، ويمكن المطالبة بالتعويض عنها سواء أثناء تنفيذ عقد الشغل أو بعد فسخه، وتنفيذ الأحكام الصادرة عنها تنفيذا معجلا قانونيا، ولا تصل إلى درجة الخلافات (Différents) المشار إليها بعد ذلك، وقد بين بوضوح هذا التصنيف الفصل 20 من ق.م.م عندما قال: النزاعات الفردية المتعلقة بعقود الشغل أو التدريب المهني والخلافات الفردية التي لها علاقة بالشغل أو التدريب المهني.

Des Contestations d'ordre individuel relatives aux contrats de travail, et des différents individuel en relation avec le travail…)

لذلك يمكن التفكير واحتراما لمبدأ التطبيق الضيق للقانون في أن المشرع المغربي لم يكن يقصد بعبارة "قضايا عقود الشغل" الواردة في الفصل 285 من ق.م.م إلا أن النزاعات المتعلقة بالشغل أي التي تنتج عن تنفيذ عقود الشغل ويستبعد بذلك الخلافات الناشئة بين المشغل والأجير فالنزاعات (Contestations) مجرد مجادلة في قرارات المشغل في حين تبقى الخلافات أو الخصومات أكثر جدية (Différents) وتتعلق بطلبات تخرج من نطاق عقود الشغل.

وعلى أي حال، فمهما حاولنا إيجاد تفسير ملائم لنية المشرع عند التنصيص على إدماج القضايا الاجتماعية ـ نزاعات أو خلافات ـ ضمن القضايا القابلة للتنفيذ المعجل بقوة القانون، ودون قيد، فلن نجد التفسير الملائم.

ففي تعليق للأستاذ محمد التبر على قرار محكمة الاستئناف بالرباط عند قبولها لمبدأ إيقاف النفاذ المعجل للتعويض المحكوم به في حكم جنحي ذكر "أنه ينبغي على القاضي حتى إذا كان يستهدف العدول عن الشطط المقترف في الحكم المستأنف، ألا يستند في قضائه إلى الإنصاف فقط، وألا يفرغ القانون من مفهومه الدقيق، وألا يفقد المسطرة الجنائية من استقلالها ومن مميزاتها الخاصة، وأنه ينبغي أن يبقى القاضي مكلفا بتأويل القانون وتطبيقه كما هو قائم، لا كما كان عليه أن يكون قائما، ذلك لأن ضمان حقوق المتقاضين لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق التطبيق الضيق للقانون".
(مجلة المحاكم المغربية مارس، أبريل 68 عدد: 2 صفحة 37).

ومادام المشرع المغربي قد قنن النفاذ المعجل للقضايا الاجتماعية بنص قابل للتأويل إلا أنه على أي حال تجديد قد كان قصد المشرع من سنه هو أن يكسب حماية خاصة لحقوق فئة اجتماعية من المتقاضين دون أن يعرف أن عواقب مثل هذه الحماية المبالغ فيها، قد تؤدي إلى الحرمان النهائي، حتى من الحماية التي تضمنها المبادئ العامة في قواعد تنفيذ الأحكام وهو خطأ نعتقد أن الأوان قد حان لإصلاحه.

والله ولي التوفيق.

مجلة المرافعة