شر ط الإشهاد في عقد النكاح

الدكتور محمد الكشبور
أستاذ بكلية الحقوق - الدار البيضاء

مقدمة:
1- يبرم عقد الزواج عادة بإيجاب يصدر من احد طرفيه وقبول يطابق هذا الإيجاب يصدر من الطرف الثاني. الا انه، ونظرا لأهمية هذا العقد وخطورة الاثار التي تترب عليه، فان الشارع الحنيف قد اضاف للركنين السالفين شروطا اخرى لا يصح الزواج الا بتوافرها. من هذه الشروط انه يجب ان يكون كل من الزوجين بالغا عاقلا وان يكون خاليا من الموانع الشرعية وان تمثل المراة في العقد بوليه وان يكون للمرأة مهر واخيرا ان يتم الاشهاد على الزواج (1).

واختلال احد هذه الشروط يجعل عقد الزواج فاسدا، فيكون إذن توافر الشرط من عدمه فاصلا بين الصحة وعدمها في هذا الصدد.

لقد جرى العمل الفقهي والقضائي عموما على التعامل مع هذه الشروط بحذر شديد، فلا يصرح بفساد عقد الزواج الا في الحالات التي تكون فيها الحجة جد قوية لا تخلف الشرط، بخصوص عندما يمس النزاع نسب الأولاد وعرض الزوجة.
---------------------------------
1) راجع الفصلين الرابع والخامس من مدونة الأحوال لشخصية
انظر للزيادة في الإيضاح حول اركان عقد الزواج وشروطه، الدكتور صلاح الدين زكي .
أحكام قانون الأسرة في الفقه الإسلامي والتشريع المغربي، مطبعة النجاح الجديدة 1985 . ص33 وما بعدها.
-----------------------------
وبالإضافة الى ما سبق، فان المتمعن جيدا في احكام الفقه الاسلامي بوجه عام، وفي احكام مدونة الاحوال الشخصية بوجه خاص سيلاحظ انه لا تلازم دائما بين فساد عقد الزواج وعدم ثبوت النسب مادام ان هذا الاخير يثبت في حالات يكون فيها الفساد بينا (2).
والقرار الذي نحن بصدده يطرح مشاكل قانونية تتصل اساسا بشرط الإشهاد في عقد الزواج وباثباته

الوقائع:
2- رفعت السيدة …. دعوى نفقتها ونفقة ابنتها على شخص ادعت انه زوجها، وكان عليها بادئ ذي بدء ان تثبت العلاقة الزوجية عن طريق الرسم الذي يحرره العدول عادة الا انها أثبتت هذه العلاقة عن طريق لفيف تضمن معرفة شهوده لطرفي النزاع وشهادتهم بثبوت الزوجية واتصالها بينهما كما أثبتت ان عدم توثيق الزواج امام العدول يعود بالأساس الى تخوف الزوج من المشاكل العائلية التي من الممكن ان تحدثها له زوجته الاولى .

حكمت المحكمة الابتدائية بعدم ثبوت الزوجية عن طريق اللفيف مادام العدول متواجدين بالمنطقة التي ابرم بها الزوج.
وقد ألغت محكمة الاستئناف الحكم المذكور وحكمت من جديد بثبوت الزوجية عن طريق اللفيف اعتمادا على الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من مدونة الاحوال الشخصية التي تسمح للقاضي بسماع دعوى الزوجية بصفته استثنائية عن طريق البنية الشرعية
------------------------------
2) سوف نلاحظ مثلا ان العقد المجمع على فساده يثبت به نسب الأولاد متى كان الزوج حسن النية وان العقد المختلف في فساده يثبت به النسب دائما.
راجع في هذا الصدد الفصل37 من مدونة الاحوال الشخصية.
-----------------------------
وقد نقض المجلس الاعلى قرار محكمة الاستئناف بناء على وسيلتين أولهما ان حالة الاستثناء غير متوفرة في الواقعة ما دام بالمنطقة التي ابرم بها الزواج عدول، وثانيهما ان خوف الرجل من امرأته الاولى وكتمان عنها الزواج بغيرها يتنافى وقصد الشارع من الحرص على إفشاء النكاح وإعلانه.

وعليه، فاننا سنناقش قرار المجلس الاعلى انطلاقا من الوسيلتين التي اعتمدهما.
الإشهاد في الفقه الإسلامي:
3- ذهب جمهور الفقهاء وعلى رأسهم الأئمة الأربعة الى ان الاشهاد شرط لازم لإبرام عقد الزواج لا يقوم هذا الاخير الا بتوافره. وسندهم في ذلك أحاديث رويت عن الرسول الكريم منها انه " لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل" (3) وانه " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة " (4) بين الفقهاء.

وإذا كان الاجماع منعقدا بها حول شرط الإشهاد، فانهم قد اختلفوا حول الوقت الذي يجب ان يتم فيه. فبينما قد اقتضى الاحناف والشافعية والحنابلة تحققه وقت إبرام العقد لكي ينعقد الزواج صحيحا، قد اقر المالكية صحة انعقاده بغير شهود على ان يظل العقد موقوفا بحيث يمتنع على الزوج الدخول بزوجته الى حين تمام الاشهاد.
-----------------------------------
3) رواه الامام احمد عن عمران بن حصين ورواه الدارقطني عن عائشة.
4) رواه الترميذي عن ابن عباس.
على انه لابد من الاشارة الى هناك خلافات كثيرة بين الفقهاء حول الاشهاد وقد اجمل ابن رشد هذه الخلافات في مؤلفه بداية المجتهد ونهاية المقتصد. دار الفكر. الجزء الثاني. ص13.
------------------------
وعليه، فبالنسبة للرأي الاول فان الإشهاد شرط في العقد، بينما هو بالنسبة للرأي الثاني شرط في الدخول فحسب.
وغني عن البيان ان الزواج ينعقد صحيحا نافذا عند المالكية متى وقع الاشهاد عليه عند ابرام العقد، فترتب عليه جميع آثاره في الحال بما في ذلك صحة الدخول. بل ان هذا هو المستحب عندهم .

موقف المشرع المغربي من الخلاف حول الإشهاد:
4- ينص البند الاول من الفصل الخامس من مدونة الاحوال الشخصية على انه: " يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين عدلي سامعين في مجلس العقد … "
إذن، ليس هناك شك في ان المشرع المغربي قد غض الطرف عن المالكية في هذا الموضوع واتبع ما انعقد عليه اجماع المذاهب السنية الثلاثة الاخرى (5).

اهمية الإشهاد في الفقه الإسلامي
5- لا يوجد في الواقع عقد يحمل في طياته نفس الخطورة التي يحملها عقد الزواج، ولذلك فقد شرط المشرع الاسلامي ان يتم الاشهاد عليه، خلافا لما عليه الامر بالنسبة لبقية العقود الاخرى المتداولة بين الناس.
--------------------------------------
5) انظر المزيد من الايضاح محمد ابن معجوز احكام الاسرة في الشريعة الاسلامية وفق مدونة الاحوال الشخصية. مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء 1983 ص 144 وما بعدها.
انظر كذلك صلاح الدين زكي م. س ص103 وما بعدها.
------------------------------------
والإشهاد يرمي على العموم الى انشاء العقد بين افراد المجتمع وعلى الخصوص بين الأقارب و الجيران دفعا للريبة وكلام السوء.
وقد خص عقد الزواج وحده بذلك لانه يتعلق بالأعراض وبالأنساب وتبنى عليه احكام ذات اثر كبير في حياة الشخص وحياة اسرته كحرمة المصاهرة وثبوت النسب والحق في الارث.

وبالإضافة الى ما سبق فان الاشهاد على الزواج يوفر لصاحب المصلحة في كل نزاع يتعلق بإثبات الزوجية، البينة لشرعية المطلوبة في هذا الصدد (6).
ونستنتج ان الاشهاد يرمي الى تحقيق غرضين أساسين الاول يتعلق باشهار الزوج، والثاني يتعلق بإثباته امام القضاء .

تحريم نكاح السر في الفقه الإسلامي:
6- اذا كان الإشهاد - وبإجماع المذاهب السنية الاربعة كما رأينا- شرطا من شروط صحة الزواج لا يتم هذا الاخير الا بتوفره، واذا كان الإشهاد كمبدأ يفيد الاشهار والاعلان، فان ذلك يفيد من ناحية اخرى ان نكاح السر - وبإجماع المذاهب السنية الاربعة هنا كذلك- يقع فاسدا (7) لكن ما المقصود بنكاح السر؟
--------------------------
6) عمر بن عبد الله. احكام الشريعة الاسلامية في الاحوال الشخصية. دار المعارف بالإسكندرية 1968. ص85 وما بعدها.
7) يقول ابن عاصم الغرناطي وهو بصدد تصنيف الأنكحة الفاسدة :

والعقد للنكاح في السر اجتنب ولو بالاستكتام والفسخ يجب
--------------------------

مفهوم نكاح السر في الفقهي الاسلامي :
7- لم يتعرض المشرع المغربي من خلال مدونة الاحوال الشخصية لمفهوم نكاح السر.
ونكاح السر لدى جانب هام من الفقه المالكي هو ما طلب من الشهود الذين حضروا عملية إبرام العقد كتمانه يقول ابن عرفة في هذا المجال : " نكاح السر باطل والمشهور انه ما امر الشهود حين العقد بكثمه ….. (8)
وللزيادة في الإيضاح يرى هذا الجانب من الفقه ان نكاح السر هو ما طلب من الشهود اثناء العقد او قبله كتمان العلاقة الزوجية، اما اذا طلب منهم ذلك بعد ابرام العقد فلا يكون هناك أي سر(9).
ونكاح السر يفسخ قبل الدخول وبعده عند المالكية. وقد روي عن الامام مالك رضي الله عنه انه لا ينفسخ اذا طال عليه الأمد (10).
---------------------------
8) انظر شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل، دار الفكر بيروت. ج 3 ص188.
ويضيف بعض الفقهاء لهذه الصورة الحالة التي يتفق فيها الزوجان والولي على كتمان الزواج.
جاء في البهجة شرح التحفة : "….. المشهور كما لابن عرفة ان نكاح السر هو ما امر الشهود حين العقد بكتمه ولو كان الشهود ملء الجامع ولا مفهوم للشهود بل كذلك استكتام غيرهم لقول الباجي ان اتفق الزوجان والولي على كتمه ولم يعلموا البينة بذلك هو نكاح سر…"
التسولي. البهجة شرح التحفة. المجلد الاول دار الفكر. ص271 و272.
9) انظر محمد بن يوسف الكافي. احكام الاحكام على تحفة الحكام. دار الفكر1978. لبنان ص85 و86.
انظر كذلك الزرقاني. م . س.
وانظر التسولي. م. س.
10) انظر كذلك ميارة الفاسي. شرح على تحفة الحكام . دار الفكر بيروت . ج 1 ص 173.
انظر الزرقاني . م. س ص 188.
---------------------------------
وقد ذهب الحنفية والشافعية والظاهرية الى ان الزواج ينعقد صحيحا متى حضره شاهدان فقط، ولو طلب منهما كتمانه اذ في رايهم كيف يكون هذا الزواج وقد حضره أربعة هم العاقدان والشاهدان (11)

هل نكاح السر محقق في الواقعة المضمنة في قرار مجلس الاعلى:
8- يستفاد من الوقائع الذي أتثبتها القرار ان الزواج التي ابرم بين المدعية والمدعى عليه قد تم الاشهاد عليه من طرف جماعة من الناس، ومن ثم فان نية إخفائه من الزوج عن زوجته الاولى لا يضفي عليه اطلاقا مفهوم نكاح السر من وجهة الفقه المالكي الذي يجب ان تفسر أحكام مدونة الاحوال الشخصية على ضوء مبادئه.

ولنفرض ان المدعى عليه قد وثق عقد زواجه امام عدلين وعمل كل ما في وسعه لإخفاء هذا الزواج عن زوجته الاولى، فهل يعتبر ذلك نكاح سر ؟

مما تجدر ملاحظاته ان المجتمع المغربي مليء بافراد متزوجين باكثر من امراة لكنهم يخفون التعدد عن زوجاتهم، بحيث كلا منهن تعتقد انها الزوجة الوحيدة في حياة الرجل. فهل نستطيع القول ان هؤلاء الافراد يعيشون في حرام؟ لا نعتقد ذلك.

وحتى اذا سلمنا، تمشيا مع منطق المجلس الاعلى - وهو منطق غير سليم كما أسلفنا- بفساد الزواج الذي نحن بصدده، لتخلف ركن الإشهاد فيه، فانه سيكون لا محالة نكاحا مختلفا في فساده، ما دام ان بعض المذاهب السنية الاخرى تعتبر الزواج الذي حضره شهود وطلب منهم كتمانه قد انعقد صحيحا منتجا لكافة آثاره.

---------------------------------
11) محمد البناني. حاشية الزرقاني على مختصر سيدي خليل. م. س ص188.
راجع كذلك محمد مصطفى شلبي. أحكام الأسرة في الإسلام - دراسة مقارنة دار النهضة العربية. 1977 ص104 وما بعدها.
---------------------------------

والزواج المختلف في فساده - وبصريح الفصل37 من مدونة الاحوال الشخصية يثبت به النسب ويثبت به حق التوارث مادام لم يفسخ (12).
لو انتبه المجلس الاعلى لهذه الحالة لا اعتبر البنت لاحقة او على الاقل لما تصدى للنزاع، فتظل امكانية ذلك واردة امام محكمة الاحالة، خاصة ان القضاء المغربي ويتقدمه المجلس الاعلى نفسه قد اعتبر في قضايا سابقة ان نسب الأولاد يلحق بالمدعى عليه رغم عدم صحة الزواج (13).

إثبات عقد الزواج :

9- ان الفقه الإسلامي عموما - وبدون الدخول في التفاصيل - يسمح باثبات العلاقة الزوجية باقرار الزوجين وشهادة الشهود ببينة السماع وبالقرائن القوية كمعاشرة الرجل والمراة معاشرة الأزواج وظهورهما امام -الناس بذلك المظهر، وقد جرى العمل القضائي بالمغرب - ومنذ زمن بعيد- على قبول شهادة اللفيف كبينة شرعية كافية لاثبات العلاقة الزوجية (14).
--------------------------
12) ينص الفصل37 من مدونة الاحوال الشخصية على ما يلي :
1- النكاح الفاسد لعقده يفسخ قبل الدخول وبعده وفيه المسمى بعد الدخول والفاسد لصداقه يفسخ قبل الدخول ولا صداق فيه ويثبت بعد الدخول بصداق المثل .
2- كل زواج مجمع على فساده كالمحرمة بالصهر منفسخ بدون طلاق قبل الدخول وبعده ويترتب عليه تعيين الاستبراء وثبوت النسب اذا كان حسن القصد اما اذا كان مختلفا في فساده فيفسخ قبل الدخول وبعده بطلاق ويترتب عليه وجوب العدة وثبوت النسب ويتوارثان قبل وقوع الفسخ".
13) القرار رقم5 الصادر بتاريخ 9 يناير1978 في القضية ع 62659 أورده الاستاذ احمد الخمليشي في مؤلفه التعليق على قانون الاحوال الشخصية. مطبعة المعارف الجديدة بالرباط1984. ص171 و172.
راجع كذلك القرار رقم 197 الصادر بتاريخ 22 دجنبر1975 في القضية ع 45891 . أورده الاستاذ احمد الخمليشي وعلق بمرجعه السابق ص172 ( هامش 38).
-----------------------------

والفقه الإسلامي كقاعدة عامة لا يعرف مسالة التوثيق عقد الزواج ولا يعرف نظام العدول، وانما هي امور اقتضتها مصالح الناس عند ما تعقدت سبل الحياة، وضعف الوازع الديني لدى أغلبية الافراد (15).

موقف المشرع المغربي من اثبات عقد الزواج:
10- يستفاد من بعض مقتضيات التشريع المغربي وخاصة الفصلين 5 و41 من مدونة الاحوال الشخصية ان عقد الزواج لا بد وان يوثق في وثيقة رسمية من طرف عدلين منتصبين للإشهاد في مجلس العقد.

تعتبر الوثيقة التي يحرره العدلان كمبدأ هي الأداة الاصلية المسموح بها لاثبات العلاقة الزوجية في التشريع المغربي .
ولان الضرورات تقدر بقدرها، فقد سمح هذا التشريع بصفة استثنائية بسماع دعوى الزوجية عن طريق البينة الشرعية اي الوسائل المتعمدة في الفقه المالكي، وان جرى العمل على اعتماد اللفيف في هذا الصدد.
واسباب حالة الاستثناء لا تخف على احد وقد تعرض لها المهتمون بفقه لاحوال الشخصية بالتحليل المستفيض فليرجع إليها(16).
----------------------------
14) المزغراني، م. س ص 49 وما بعدها.
انظر كذلك احمد الخمليشي م. س ص173 وما بعدها.
15) صلاح الدين زكي م. س ص 146 .
16) فمن جهة هناك عقود غير موثقة أبرمت قبل دخول مدونة الاحوال الشخصية الى حيز التطبيق والمبدا هو انه ليس للقانون اثر رجعي، ومن جهة ثانية ورغم ان الجهل بالقانون لا يعد عذرا فان أغلبية سكان المدن والبوادي المغربية على غير علم باحكام تلك المدونة ومن جهة ثالثة هناك عادات مستحكمة في نفوس الناس والتي يصعب التخلص منها بكل سهولة في بعض الاحيان ومن جهة رابعة فليس من المستبعد ان تحول امور بين المتعاقدين وتوثيق زواجهما.
----------------------------
مفهوم حالة الاستثناء في القضاء المغربي :
11- يتبين من القرارات الصادرة عن المجلس الاعلى في هذا الصدد ان القاعدة التي تسمح باللجوء الى حالة الاستثناء هي قاعدة لها طابع موضوعي وطابع شكلي، فمن الناحية الموضوعية فانه يجب على قاضي الموضوع ان يبين بكل ووضوح حالة الاستثناء التي كانت السبب في عدم توثيق الزواج والتي اعتمدها الخصم في الدعوى، ومن الناحية الإجرائية فانه يجب عليه ان يبرر اخذه او عدم أخذه بتلك الحالة والا عرض حكمه للنقض.

12- لقد عمد القضاء المغربي في مجموعه - ويسايره في ذلك المجلس الاعلى (17)- الى التوسع في مفهوم حالة الاستثناء بكيفية تكاد تستغرق جميع حالات عدم توثيق الزواج رسميا امام العدول. وهكذا فقد قرر ان :
" جل سكان البادية وحتى البعض من الحاضرة يستغنون عن إحضار العدول اكتفاء بالجماعة وان الإشادة بالزواج وشهرته تكفي، وان مرد ذلك الى العادة التي استحكمت في نفوس المغاربة سواء من بقي بالبادية او من نزع الى الحاضرة وان المشرع المغري عندما اجاز سماع البينة اعتبر ما استحكم في نفوس المغاربة، واعتبر الحفاظ على الاسرة من التصدع طبقا للفقرة الثالثة من الفصل الخامس من المدونة …. " (18) كما اقر في قرار آخر ان " … سببه عدم توفر المتداعيين على عقد نكاح يرجع الى العادة التي ورثها الافراد واستحكمت في نفوسهم مما يجعل البينة هي الوسيلة الكفيلة لحل المشكل …" (19).

وفي قرار ثالث " … ان إثبات الزواج بالبينة الشرعية يعتبر مصلحة كبيرة للهيئة الاجتماعية …"
--------------------------
17) الأحكام المشار اليها في ما يلي - واحكام أخرى كثيرة سوف لن نشير اليها لان التعليق الذي نحن بصدده يتطلب بعض الاجمال - الأستاذ احمد الخمليشي في مرجعه السابق. ص 162 وما بعدها.
18) قرار رقم111 الصادر بتاريخ 5 ماي1975 قضية تحت عدد 49575 .
19) قرار رقم29 الصادر بتاريخ 23 يناير1975 قضية تحت عدد 45546.
-----------------------
(20) وفي قرار رابع : "… ان المشرع لم يحصر حالة الاستثناء في وجود العدول في منطقة دون اخرى بل ترك الباب مفتوحا امام المتنازعين في اثبات الزوجية بمقتضى الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من المدونة…" (21).

13- وقد علق أستاذنا صلاح الدين زكي على الموقف السالف ذكره قائلا : " ذلك قضاء وان كان لم يسلم من نقض الفقه، فانه سليم وصحيح وسديد، ذلك لانه قد استجاب الى إرضاء الحاجة العملية المشروعة التي تثور في المجتمع المغربي وغيره من المجتمعات الإسلامية في الواقع ،ومع ما يتمشى مع إرضائها هو خير تفسير لنصوص التشريع الوضعي وحفظ الزواج لطابعها الإسلامي، فالشريعة الغراء لا تعرف نظام التوثيق والموثقين. وما يقال من ان هناك مبدا تخصيص القضاء، فمردود بانه مبدا خطا يحسن الابتعاد عنه اذ الواقع انه يمكن اتخاذه وسيلة لقلب أحكام الشريعة الغراء رأسا على عقب …" (22).

ورغم ذلك، فان القضاء المغربي وعلى راسه قضاء المجلس الاعلى، وان توسع في مفهوم حالة الاستثناء فانه لم يكون دائما واضحا في تفسيره لها اذ كثيرا ما يتناقض مع نفسه في هذا الصدد ويعتبر مثلا ان واقعة ما تبرره الاخذ بحالة الاستثناء ثم يقرر في واقعة مشابهة عكس ما قرره فيما قبل (23) ومن هنا ننطلق لتقييم موقف المجلس الاعلى.
-----------------------------
20) قرار رقم153 الصادر بتاريخ30 يونيو1975. قضية تحت عدد 41778 .
21) قرار رقم228 الصادر بتاريخ 21 ماي1975. قضية تحت عدد 47563.
22) صلاح الدين زكي. م. س ص146. 23.
23) ومن ذلك ان القضاء المغربي، ويدعمه المجلس الاعلى في ذلك، يرى احيانا انه لا يمكن اثبات الزواج عن طريق البينة الشرعية في المناطق التي يتواجد بها عدول وفي أحيان اخرى يرى عكس ذلك على ما سوف نوضحه في الفقرة الموالية.
----------------------------

تقييم قرار المجلس الاعلى :
14- جاء في قرار المجلس الاعلى ما يلي :
" حيث ان الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية اشترط لصحة الزواج حضور شاهدين عدلين يشهدان بالإيجاب والقبول عن المتعاقدين بينما نصت الفقرة الثالثة من نفس الفصل على انه يجوز للقاضي بصفة استثنائية سماع دعوى الزوجية واعتماد البينة الشرعية في ثبوتها وقد صدرت عن المجلس الاعلى عدة قرارات تفسر حالة الاستثناء بحالات معينة كوقوع الزواج في مكان لا عدول فيه او في ظروف يعسر فيها الاستدعاء العدول لإشهادهم على الزواج وما شابه ذلك وليس منه حالة الاستثناء التى اعتمدها القرار المطعون فيه وهي خوف الرجل من امراته الاولى وكتمانه الزواج بغيرها بمفهوم الفصل5 أشار له على ان تلك الحالة تنافي قصد الشارع من الحض على افشاء النكاح وإعلانه …".

- لقد سبق للمجلس الاعلى من خلال قرارات كثيرة ان قرر ان وجود العدول بمنطقة معينة لا يحول دون توافر حالة الاستثناء. ومن هذه القرارات نذكر القرار رقم37 والصادر في11 فبراير1980 تتلخص وقائعه فيما يلي :
ان السيدة ….. سجلت دعوى بالمحكمة الابتدائية بمراكش على السيد … والذي يعمل كشرطي بنفس المدينة تذكر فيها ان المدعى عليه وهو زوج لها قد تركها هي وابنائها الثلاثة … منذ … ولإثبات الزوجية ادلت بلفيف، وقد صدر الحكم الابتدائي غيابيا وفق طلبات المدعية مع يمينها على عدم الإنفاق.

استأنف المدعى عليه هذا الحكم. وقد بين في موجب استئنافي انه لا تربطه بالمدعية اية علاقة زوجية ولا سبق له ان انجب منها، اما اللفيف الذي ادلت به فهو غير صحيح لكونه شرطيا لا يمكن ان يعقد زواجه الا بعد إذن خاص من رؤسائه، وان البينة الشرعية لا يلجا اليها الا عند عدم وجود عدول.

وقد بينت المدعية في استئنافها الفرعي ان ما جنح اليه المستانف لا يستند على اساس لكونه قد حضر لدى عائلتها صحبة طائفة من الناس وأنكحه إياها وليها امامهم بعد الاتفاق على جميع الشروط الزواج وبعد قراءة الفاتحة وقد لجا المدعى عليه الى هذه الطريقة لانه استحال عليه الحصول على الاذن الإداري اذ سبق له ان حصل عليه وتزوج به من امرأة اخرى قبل ان يعقد على المدعية.

وقد ألغت محكمة الاستئناف حكم الدرجة الاولى وحكمت من جديد بعدم ثبوت الزوجية لان ليس في الوقائع ما يبرر - حسب زعمها - الأخذ بحالة الاستثناء، وان الزوجية لا تثبت في مثل هذه الأحوال الا بعدلين.

وقد نقض المجلس الاعلى قرار محكمة الاستئناف معللا موقفه بالكيفية الاتية:
" وحيث ان حالة المطلوب ضده النقض كشرطي متزوج يصعب عليه الحصول على اذن بالزواج ليمكن له ان يتقدم به امام العدول، وان مثل هذه الحالة تشكل حالة الاستثناء …" (24).

وبالإضافة الى القرار السابق هناك القرار رقم611 الصادر عن المجلس الاعلى بتاريخ 13 يونيو1983 تتلخص وقائعه كما يلي :
سجلت السيدة … مقالا لدى قاضي أولاد عبو ذكرت فيه انها متزوجة بالسيد …. لمدة اربعة سنوات وقد أنجبت منه بنتا له من العمر ثلاث سنوات.
-----------------------
24) ج. ع 37 الصادر بتاريخ11 فبراير1980 في القضية تحت عدد74935 ( قرار غير منشور).
-----------------------
وقد غادر بيت الزوجية منذ سنتين تقريبا ولم يعد ينفق عليها ولا على بنته منها.
ولقد أجاب المدعى علي بالإنكار سواء فيما يتعلق بالزوجية او فيما يتعلق بالبنت.
ولقد أثبتت المدعية الزواج عن طريق لفيف.
ولقد رفض القاضي الابتدائي دعوى المدعية لانه تبين له ان شهود اللفيف يقطنون بالبيضاء وليس بالمكان الذي رفعت به الدعوى.

لقد الغت محكمة الاستئناف بسطات ذلك الحكم، وحكمت للمدعية من جديد بثبوت الزوجية وبالنفقة المطلوبة.
وبتاريخ6 يوليوز1976 نقض مجلس حكم استئنافية سطات على اساس ان هذه الاخيرة لم توضح حالة الاستثناء التي اعتمدتها، لقد أحيلت الدعوى على استئنافية البيضاء.

وقد حكمت استئنافية البيضاء بثبوت الزوجية بناء على شهادة الشهود رغم انهم يقطنون بالبيضاء لانه قد تبين للمحكمة المذكورة بان الزوج قد تزوج بالمدعية بالبيضاء وسكن معها في تلك المدينة ومنطقيا لن يكون الشهود الا من البيضاء.
الذي يثير الانتباه في هذه القضية - بالاضافة الى كون مدينة الدار البيضاء ملأى بالعدول - الطريقة التي عللت بها محكمة الاحالة الاستثناء والتي اقرها عليها مجلس الاعلى نفسه :
" … واما الدفع بكون الزوجية لا تثبت الا بعقد النكاح المنصوص عليه في اول الفصل الخامس من المدونة، فان المنصوص عليه فقها انه لا يجوز الدخول بالزوجة الا بعد العقد عليها كما هو مذكور في اول الفصل الخامس ولكن بعد الوقوع ودخول الزوج بزوجته فان النكاح يفسخ بان العقد ليس بركن ولا شرط في النكاح، كما في فتوى ابن لب حسبما نقله التسولي عند قول العاصمية.

وفي الدخول الختم في الإشهاد * * * وهو مكمل في الانعقاد
ان ان إثمار النكاح مع علم الولي للزوجين يكفي وان لم يحصل اشهاد وهكذا كانت أنكحة السلف وهكذا حين يكون النكاح والدخول مشتهرا شائعا يسقط الحد باتفاق وثبت النكاح الشيء الذي حدا بالمشرع المغربي ان جعل حالة الاستثناء في الفقرة الثالثة من الفصل الخامس المذكور انه يجوز بصفة استثنائية اثبات الزوجية بالبينة الشرعية ذلك انه اذا وقع النكاح والدخول بين الزوجين ونتج عن ذلك الزواج مولود فان الزوجية تثبت بالبينة ولو كانت سماعية كما في الشيخ خليل وغيره وأقرته الفقرة الثالثة المشار اليها …" (25).

والحقيقة ان ما ضمن بهذا الحكم يستحق نقاشا قد يخرجنا عن الموضوع الذي نحن بصدده، يكفي ان نقول ان مفهوم حالة الاستثناء تتطلب من القضاء إبراز العائق الذي حال دون توثيق عقد الزواج وهو ما لم تقم به محكمة الاحالة وانما أبرزت المبادئ العامة للزواج في الفقه المالكي فتكون تلك المحكمة قد جانبت الصواب من حيث التعليل وان انتهت الى نتيجة عادلة.

هل هو تراجع ام سهو ؟
15- قد يبدو ان المجلس الاعلى - ومن خلال القرار الذي نناقشه- قد تراجع عن مواقفه السابقة والتي أعطينا عنها مثالين من خلال الوقائع أعلاه والتي دارت بمدينة مراكش ومدينة الدار البيضاء وهما مدينتان لا يمكن أبدا ان نقول انه ليس بهما عدول.
---------------------------
25) القرار611 الصادر في 13 يونيو1983 منشور بمجلة قضاء المجلس الاعلى ع 35/36 ص135 وما بعدها.
-------------------------

بل ويبدو لنا جيدا من خلال العبارات التي استعملها المجلس الاعلى وخاصة عبارة " … لقد صدرت عن المجلس الاعلى عدة قرارات تفسر حالة الاستثناء بحالات معينة كوقوع الزواج بمكان لا عدول فيه … " ان مصدري هذا القرار لم يكونوا على علم كاف بالمواقف السابقة للمجلس الاعلى بهذا الصدد.

خطورة قرار المجلس الاعلى على الوضع الاجتماعي والديني للأسرة المغربية.

16- نخلص مما سبق ان القضاء المغربي كثيرا ما يتناقض بصدد حالة الاستثناء، وان هذه التناقض قد يتمثل خطرا واضحا على الأسرة المغربية من ناحيتين:

فمن جهة، فان وضعية الاسرة التي لم توثق عقد الزواج الذي ترتكز عليه وتستمد منه شرعيتها امام العدول قد تكون وضعيتها جد هاشة بحيث تتوقف هذه الوضعية على موقف القضاء المغربي من تفسيره لحالة الاستثناء، وهو موقف يتقلب من واقعة لأخرى كما أسلفنا.

ومن جهة ثانية، فان عدم توثيق عقد الزواج امام العدول مع الاشهاد عليه من طرف عامة المسلمين قد يجعل هذا الزواج باطلا من ناحية القانون الوضعي مع ما يترتب على ذلك من اثار وخيمة قد تمس الأبناء في نسبهم، وصحيحا ومنتجا لكافة اثاره من ناحية الفقه الإسلامي.

وبالإضافة الى ما سبق فاننا نعتقد ان مسالة توثيق عقد الزواج قد قرر في الدرجة الاولى لمصلحة الزوجة التي تكون عادة ضحية الإنكار من طرف الزوج او ورثته عند وفاته على ما يستفاد من كثرة القضايا التي تعرض عادة على المحاكم المغربية. لذلك فيجب ان تفسر الفقرة الثالثة من الفصل الخامس من مدونة الاحوال الشخصية لمصلحتها لا ضدها.

* مجلة المحاكم المغربية، عدد، 52، 61.

حول صندوق مال الضمان

لأستاذ عبد العزيز بن زاكور
عضو مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء

ان تكاثر السير على الطرق بالمغرب، وما نتج عنه من حوادث، عددا وخطورة، قد دفع بالمشرع الى تعزيز النظام المتعلق بالتعويض عن عواقب الحوادث بإجراءين أساسيين :
أولهما، بواسطة قرار 6 شتنبر1941 الوزيري، الذي تم بمقتضاه سن اجبارية التامين عن السيارات.
وثانيهما يكمن في احداث صندوق مال الضمان، او بعبارة ادق " صندوق مال الضمان لفائدة بعض ضحايا الحوادث الناتجة عن السيارات".

وقد برز هذا الصندوق للوجود، داخل ما كان يسمى بالمنطقة الفرنسية للمغرب، بمقتضى ظهير 22 فبراير1955، والذي صدر النص المتعلق بتطبيقه منذ تاريخ 23 فبراير1955، في شكل قرار وزيري.

وغداة تحرير ما كان يسمى بالمنطقة الشمالية للمغرب، واسترجاع مدينة طنجة واسترجاع منطقة افني، اصبح الظهير والقرار الوزيري المذكورين نافذي المفعول في تلك الاجزاء من التراب الوطني، بمقتضى على التوالي ظهير بتاريخ 15 مايو1958، ثم قرار مشترك لنائب كاتب الدولة في المالية ونائب الدولة في الفلاحة بتاريخ 4 نونبر1958، وظهير بتاريخ 19 يناير1970.

هذا، ويجدر بنا في اطار أعمال المؤتمر المتعلقة بمناقشة المشاكل المحيطة بحوادث السير، ان نذكر ببعض مميزات صندوق مال الضمان من حيث دوره وتنظيمه وتمويله، وشروط اللجوء اليه، وكذا المسطرة المتبعة في هذا الشان وذلك قبل ابداء بعض الملاحظات فيما يرجع لمدى قيام الصندوق بالدور المنوط به، وبعض المقترحات فيما يرجع لمسطرة الاستفادة منه.

دور تنظيم وتمويل صندوق مال الضمان :
يكمن تعريف صندوق مال الضمان بكونه مؤسسة ذات صفة اجتماعية للضمان الاحتياطي، يمكن دورها في تحمل، حسب شروط وفي نطاق حدود معينة، التعويض عن حوادث السير، في حالة عدم تامين بالمعنى العام.

وهكذا فانها مؤسسة يلجا اليها، بالاساس، عندما يكون مرتكب الحادثة مجهولا، او يكون معسرا، او عندما يكون مؤمنا نفسه معسرا.

وبالفعل فانه ورد في الفصل الاول من الظهير 22 فبراير1955، ما يلي ترجمته " القيام بتعويض، كلي او جزئي عن الاضرار الجسمانية الناتجة عن السيارات ينشا " صندوق ضمان لفائدة ضحايا حوادث ناتجة عن سيارات" من اجل " القيام بتعويض، كليا او جزئيا، "الاضرار الجسمانية الناتجة عن السيارات، بما فيها الدراجات ذات محرك، او الناتجة عن " مقطوراتها والتي تسير على الارض باستثناء العربات التي تنتقل على سكة، وذلك " في حالة ما اذا كان الاشخاص المسؤولين عن هذه الحوادث مجهولين او عاجزين عن "تعويض الضحايا بسبب عسرهم، واحتمالا بسبب عسر شركة التأمينات او المؤمن الذي ابرم " معها ومعه أولئك الاشخاص عقدة تامين".

كما وقد جرى العمل - دون اية منازعة منذ احداثه حسبما يظهر - بتمديد دور الصندوق حتى إلى الحالة التي يكون فيها مرتكب الحادثة غير مؤمن عن مسؤوليته المدنية، او عندما يتمسك مؤمنه تجاه الغير المتضرر بدفع بتوقيف العقدة او الضمان، او بعدم التامين، او باستثناء للتامين، او بتامين جزئي، وذلك استنتاجا من مقتضيات الفصل4 والمقطع الثاني من الفصل 5 والمقطع الثاني من الفصل 8 من القرار الوزيري.

ويتوفر هذا الصندوق على الشخصية المدنية مع ما يترتب عن هذه الشخصية من حقوق، وذلك كما ورد في الفصل الثاني من الظهير - حسب ما يلي ترجمته ( دائما اقرب ما تكون حرفيا للنص الفرنسي الاصلي) :
" تخول لهذا الصندوق الشخصية المدنية.
" يمكن له ان يقتني بالمقابل او مجانا اموالا منقولة او عقارية، وان يترافع امام القضاء، وبصفة عامة ان يباشر جميع العمليات الضرورية لسيره، اما بنفسه، واما بواسطة مؤسسات تامين. وله بصفة خاصة صلاحية عقد اتفاقات بشان تسيير تام او جزئي مع هيئات الضمان.
" وتمسك حساباته حسب الشكل التجاري".
أما فيما يخص التنظيم، فان الفصل الثالث من الظهير، كما وقع تعديله بظهير 30 يونيو1958، والفصل 14 من القرار الوزيري، كما وقع تعديله بمرسوم 28 يونيو1965 الملكي، ينصان على ان الصندوق يضم جميع المؤسسات المقبولة لممارسة عمليات التامين ضد الاخطار على اختلاف أنواعها الناتجة عن استعمال السيارات المشار اليها في الفصل الاول من الظهير.

كما ينص على ان الصندوق يديره مجلس اداري يتألف من اربعة عشر عضوا، اغلبهم ممثلين لشركات التامين المشار إليها، بالاضافة الى ممثلين عن المهن الصناعية والتجارية والفلاحية، وكذا مستعملي السيارات، وذلك بتعيين من الوزير المكلف بالمالية وباقتراح من شركات التامين وهيئات اخرى محددة.

ويعين الوزير المكلف بالمالية ايضا مندوبا للحكومة يحضر جميع اجتماعات المجلس الإداري، ويطلع على جميع الوثائق الضرورية لممارسة مهمة المراقبة المنوطة به، كما يتمتع بحق الاعتراض ( الفيتو)، وذلك حسب شروط معينة.

ويتوفر الصندوق على قانون اساسي ( تمت المصادقة عليه من طرف وزير المالية بمقتضى قرار صادر بتاريخ 13 اكتوبر1956)، يحدد كيفية تسييره وكيفية ضبط ميزانية حساباته.
ويتوفر الصندوق ايضا على قانون داخلي ( تمت المصادقة عليه بمقتضى نفس القرار الانف الذكر)، يحدد العلاقات القائمة بينه وبين مختلف شركات التامين سواء فيما يرجع لتتبع الاجراءات بالحوادث التي تهمه) (وهذا في نطاق مقتضيات الفصل 2 من الظهير، والفصل 4 من القرار الوزيري)، اما فيما يتعلق ببعض شروط اداء مساهمتها في تمويله.

وبالفعل، فان تلك المساهمات، التي تشكل جزءا نسبيا من مجموع اقساط التامين المحصل عليها من طرف شركات التامين، تضاف بقصد تمويل الصندوق الى مساهمة المؤمن لهم والمستخلصة مع الاقساط التي يؤدونها بين يدي تلك الشركات، والى الاقتطاع الذي يتحمله اصحاب السيارات المخلين بالتنظيمات المتعلقة بالتامين الإجباري، والذي يساوي قدر الغرامة الجنائية المحكوم بها عليهم لذلك السبب، ولو كانت هذه الغرامة موقوفة التنفيذ ( الفصل 4 من الظهير، والفصل 10 من القرار الوزيري).

لذا، واعتبارا لكل ما سبق، يمكن القول بخصوص صندوق مال الضمان، على غرار ما قيل بشان نظيره الفرنسي والذي كان قد احدث بفرنسا حوالي 3 سنوات قبله، انه مؤسسة خاضعة للقانون الخاص ومكلفة بمصلحة عامة.
فما هي اذن شروط اللجوء الى هذه المؤسسة ؟

شروط اللجوء الى صندوق مال الضمان
باستثناء الشرط المتعلق بالسيارة ذاتها حسب المعنى الوارد في الفصل الاول من الظهير يمكن تصنيف باقي شروط اللجوء الى صندوق مال الضمان بناء على ما يتعلق منها بالمتضرر - او بمكان الحادثة - او بطبيعة الضرر - او بطبيعة دور الصندوق.

1) الشروط المتعلقة بالمتضرر :
أ‌) يجب ان يثبت الضحية او ذوو حقوقه اما وجود موطنهم بالمغرب، واما كونهم رعايا دولة يتمتع في ترابها الرعايا المغاربة بامتيازات معادلة للامتيازات الناتجة عن مقتضيات ظهير 22 فبراير1955 (الفصل 6 من القرار الوزيري ).

وتجدر الاشارة هنا الى ان الدولة الوحيدة - على ما يظهر - التي يربط بينها وبين المغرب اتفاق من هذا القبيل هي تونس - وذلك بمقتضى الرسالتين المتبادلتين في هذا الشان بين وزيري المالية بحكومة كل من البلدين بتاريخ 26 يونيو1972، ذلك ان الاتفاق الذي تمت المصادقة عليه بالنسبة للمغرب بمقتضى ظهير مؤرخ فـــي 8 غشت1973. ( انظر الملاحظة الاضافية : بخصوص فرنسا، في ختام هذا العرض ).

ب‌) ويجب عليهم ايضا ان يثبتوا بان الحادثة تخول لهم الحق في التعويض بمقتضى النصوص الجاري بها العمل بشان المسؤولية المدنية، وكذلك بان المسؤول عن الحادثة لم يقع التعرف عليه، او انه وجد في حالة عسر كلي او جزئي بعدما تم تحديد التعويض بمقتضى صلح او قرار قضائي قابل للتنفيذ، وكذلك الشان بالنسبة لمؤمنه اذا كان المسؤول عن الحادثة مؤمنا ( الفقرة 2 من الفصل 6 من القرار الوزيري).
ومن الجدير بالذكر في هذا الباب :
ان عدم التعرف على المسؤول عن الحادثة ( كما هو الشان ايضا بالنسبة للحالة التي يكون فيها غير مؤمن)، يجب الاشارة اليه في المحضر المحرر بمناسبة الحادثة، والذي يتعين على رجال الشرطة او الدرك ان يوجهوا نسخة منه، داخل عشرة ايام، مباشرة الى الصندوق ( المقطع الاول والمقطع الاخير من الفصل 3 من القرار الوزيري) .

وانه لاثبات، في مواجهة صندوق مال الضمان عسر المسؤول عن الحادثة يكفي اثبات توجيه انذار بالاداء يكون قد تلاه رفض او بقى دون نتيجة خلال اجل تام مدته ثلاثون يوما ابتداء من التبليغ ( المقطع الاخير من الفصل 6 من القرار الوزيري).

كما ان ثبوت عسر شركة التامين او المؤمن يترتب عن سحب الرخصة المنصوص عليها في القرار الوزيري الصادر ايضا بتاريخ 6 شتنبر1941 والمتعلق بتوحيد مراقبة الدولة على مؤسسات التامين، وذلك بسبب عدم كفاية الضمانات المالية ( المقطع الاخير من الفصل 6 من القرار الوزيري التطبيقي).

ج‌) وعلاوة على الشروط السابقة فانه يتعين على المتضرر ان يدلي لصندوق مال الضمان بنسخة من القرار القضائي او نسخة مشهود بمطابقتها لاصل عقد الصلح المحدد للتعويض بصفة نهائية ( المقطع الاول من الفصل 6 من القرار الوزيري ).

هذا، وهناك بعض المتضررين الذين لا يمكن لهم الاستفادة من صندوق مال الضمان، وهم :
أصحاب السيارات المعنية ( ما عدا في حالة سرقة هذه السيارات ) وسائقيها وبصفة عامة كل شخص كانت له حراسة تلك السيارة حين وقوع الحادثة.
اذا كانوا منقولين في تلك السيارة ( الازواج والاصول وفروع الاشخاص المشار اليهم انفا، وكذا شركاء صاحب السيارة، وحارسها، اذا كانوا منقولين لاجل ما تقتضيه نشاطاتهم المهنية المشتركة.
وعندما تكون السيارة مسروقة، مرتكبو السرقة ومشاركوهم، وكذا الاشخاص المنقولون الاخرون، ما عدا اذا اثبت هؤلاء الآخرون حسن نيتهم.
الا انه يمكن لاؤلئك الاشخاص ان يستفيدوا من ضمان الصندوق عندما تكون الحادثة قد تسببت فيها سيارة اخرى وذلك في حدود مسؤولية حارسها ( الفصل 2 من القرار الوزيري) .

2) الشرط المتعلق بمكان الحادثة :
ينص القانون فعلا على شرط واحد في هذا المجال، ألا وهو وقوع الحادثة داخل حدود التراب المغربي ( الفصل الاول من القرار الوزيري والنصوص الممدة لتطبيقه الى غير ما كان يسمى بالمنقطة الفرنسية للمغرب)

3) الشروط المتعلقة بطبيعة الضرر :
بالرجوع الى نص الفصل الاول من الظهير، يستنتج بان الاضرار القابلة للتعويض من جانب صندوق مال الضمان هي الاضرار الجسمانية اللاحقة بضحية الحادثة.

غير ان الفصل الاول من القرار الوزيري يضيف من جهته ان التعويضات التي يتحملها الصندوق هي التعويضات المستحقة لضحايا الحوادث الجسمانية او لذوي حقوق أولئك الضحايا.

فالملاحظ هنا ان القرار الوزيري جاء بتعبير اوسع ليشمل ليس فقط الاضرار الجسمانية اللاحقة بالضحايا بل ايضا الاضرار اللاحقة بهم او بذوي حقوقهم نتيجة الحوادث الجسمانية.

لذا، فانه اذا كان من المؤكد بانه لا محال للاستفادة من ضمان الصندوق فيما يخص الخسائر التي تصيب العربات نفسها والملابس وغيرها من الاشياء، فان هناك اشكالا فيما يرجع للاستفادة من ذلك الضمان فيما يرجع لباقي الاضرار الناجمة عن حوادث السير التي ترتب عنها جرح او قتل.

وبالفعل تبرز الصعوبة فيم يرجع لمعرفة ما اذا كان يحق الحصول من صندوق مال الضمان على التعويض عن غير الاضرار الجسمانية الحاصلة للضحية نتيجة جرحه او الأضرار الحاصلة لذوي حقوقه نتيجة هلاكه؟
يمكن الاجابة عن هذا التساؤل، انطلاقا من التعبير الاوسع الوارد في الفصل الاول من القرار الوزيري، بان جميع الاضرار الجسمانية ذاتها آو الاضرار المادية المرتبطة بشخص الضحية نفسه، مثل الحرمان من سند العيش من خلال فقدان اولاد قاصرين لابيهم، تندرج في نطاق ضمان الصندوق، وذلك ما يظهر انه لم يكن ابدا موضوع منازعة امام المحاكم.

لكن ما هو الامر بالنسبة للضرر المعنوي الناتج لاخ عن هلاك اخيه، بسبب حادثة جسمانية اودت بحياته، او نفس الضرر الناتج لوالد راشد عن هلاك ابيه ؟

لقد طرحت هذه المسالة عدة مرات على المحاكم لكن، وبالاسف لم يقع على ما يظهر، نشر أي حكم آو قرار في الموضوع.

لذا فاننا لم نتمكن من العثور سوى على قرار وحيد، صادر عن المجلس الاعلى بتاريخ 23 فبراير1977 في الملف المدني 004.50. وهذا القرار يجيب على السؤال المطروح بالنفي، وذلك بعلة مجرد التصريح بان صندوق مال الضمان لا يتحمل التعويضات المعنوية التي يمكن أن يحكم بها لفائدة المتضررين.

4) الشروط المتعلقة بطبيعة دور صندوق مال الضمان :
سبق ان أشرنا الى ان دور الصندوق انما هو دور احتياطي.
ومما يؤكد على طبيعة هذا الدور انه متى كان للضحية او لذوي حقوقه ان يحصلوا على تعويض جزئي لسبب اخر، بمعنى سبب مستقل عن مسؤولية مرتكب الحادثة، فان الصندوق لا يتحمل سوى التعويض التكميلي (الفقرة الثانية من الفصل 6 من القرار الوزيري) .

غير انه ينبغي الإشارة أيضا الى ان استفادة الضحية او ذوي حقوقه من بوليصة تامين شخصية او بوليصة تامين على الحياة لا تمنعهم من الاستفادة من ضمان الصندوق طالما ان راس المال الذي يمكن الحصول عليه نتيجة مثل تلك البوليصتين لا يعتبر " تعويضا" وخصوصا ان النص الانف الذكر يتحدث عن تعويض جزئي.

وعلى العكس، فانه يتعين الاسقاط من المبالغ التي يمكن ان يتحملها الصندوق للمبالغ ذات الصبغة التعويضية والتي يحق للضحية او ذوي حقوقه الحصول عليها مثلا من الدولة، وذلك ما يظهر ان الاجتهاد القضائي قد استقر عليه بفرنسا.
* * *
مسطرة اللجوء الى صندوق مال الضمان
ان المسطرة الواجب اتباعها تختلف حسب اختلاف الحالات الممكنة، وذلك مع مراعاة الشروط التي سبق ذكرها.

1) في حالة ما اذا كان مرتكب الحادثة مجهولا :
يجب في هذه الحالة .. على الضحية او ذوي حقوقه ان يوجهوا طلبهم الرامي الى التعويض عن الضرر الحاصل لهم داخل اجل تام تبلغ مدته 6 اشهر ابتداء من تاريخ الحادثة، على ان ذلك الطلب يجب إرساله عن طريق البريد المضمون مع اشعار بالتوصيل ( المقطع الاول من الفصل 5 والمقطع الاول من الفصل 6 من القرار الوزيري ) وهذا الاجل يعتبر أجلا مسقطا للحق، عدا اذا كان هناك عذر مقبول ( المقطع الاخير من الفصل 5 من القرار الوزيري ).

فإذا لم يحصل الآفاق مع الصندوق، اما على تحديد التعويض واما حول وجود مختلف الشروط التي تخول الحق في الحصول على ذلك التعويض فانه يمكن للضحية او ذوي حقوقه ان يرفعوا دعوى الى المحكمة المختصة، على ان هذه الاخيرة يمكن ان تكون المحكمة التي وقعت الحادثة في دائرة نفوذها ( المقطع الثاني من الفصل 7 من القرار الوزيري ).

2) في حالة ما اذا كان مرتكب الحادثة معروفا لكن غير مؤمن :
يجب في هذه الحالة على الضحية او ذوي حقوقه :
من جهة، ان يوجهوا طلبهم الى الصندوق عن طريق البريد المضمون مع إشعار بالتوصل، داخل اجل 6 اشهر، لكن ابتداء اما من تاريخ الصلح واما من تاريخ القرار الذي اكتسب قوة الشيء المحكوم به.
ومن جهة أخرى، ان يكونوا قد حصلوا على صلح ( أي حسب ما يمكن فهمه، مع المسؤول عن الحادثة الذي عجز بسب عسره عن تنفيذ هذا الصلح )/ او أقاموا دعوى داخل اجل تام مدته 18 شهر ابتداء من تاريخ الحادثة ( المقطع الثاني من الفصل 5 من القرار الوزيري ).
يعتبر كذلك الأجلان المذكوران انفا، مسقطين للحق، عدا اذا كان هناك عذر مقبول ( المقطع الاخير من الفصل 5 من القرار الوزيري) .

وفي غير ذلك من الحالات فانه لا يجوز مقاضاة صندوق مال الضمان، خصوصا قصد التصريح بحكم مشترك، في نطاق تطبيق الظهير المؤسس له ( المقطع الاخير من الفصل 7 من القرار الوزيري ).

غير انه يسوغ للصندوق ان يتدخل في جميع الدعاوى الرائجة بين ضحايا حوادث السير الجسمانية او ذوي حقوقهم، من جهة، والمسؤولين او مؤسسة التامين المؤمنين لديها من جهة أخرى، وبحكم تدخله هذا، كطرف رئيسي فان له الحق في استعمال جميع طرق الطعن كما ان تدخله لا يمكن ان يبرر اصدار حكم عليه ( المقطع الاول مــن الفصــل 8 مـن القـرار الوزيـري )، كمـا اكـد المجلــس الاعلى ذلك في قرارات صادرة عنه بتاريخ 16 مارس1961 ( مجلة محاكم المغرب عدد 25/4/1961 الصفحة 43) وبتاريخ 15 يونيو1961 ( مجلة محاكم المغرب، عدد 10/11/1961، الصفحة 99) وبتاريخ 20 فبراير1964 ( مجلة محاكم المغرب، عدد 10/4/1964 الصفحة 38).

أما بخصوص منطلق تدخل الصندوق فان هذا التدخل يمكن ان يتم :
اما بناء على اشعار من جانب كتابة الضبط، وهذا في حالة اقامة الدعوى امام محكمة مدنية.
واما بناء على اشعار من جانب الضحية او ذوي حقوقه، وهذا في حالة طلب التعويض امام محكمة زجرية.

وبالفعل يجب على كتابة الضبط، في الحالة الاولى، ان تقوم، بناء على البيانات الواردة في المقال الافتتاحي للدعوى بإشعار صندوق مال الضمان بواسطة رسالة مضمونة، وذلك داخل اجل شهرين ابتداء من اليوم الذي تكون قد عملت فيه بطلب التعويض الموجه ضد مدعى عليه غير مؤمن ( او لم يقع ذكر مؤسسة تأمينه في المقال)، وذلك كما يتبين من المقطعين الثاني والثالث من الفصل 8 من القرار الوزيري.

اما في الحالة الثانية، فان واجب الاشعار، الملقى على عاتق الضحية او ذوي حقوقه، بانتصابهم أطرافا مدنية او رغبتهم في ذلك، يتم القيام به 15 يوما على الاقل قبل الجلسة، وبواسطة رسالة مضمونة مع الاشعار بالتوصل، ويجب ان يتضمن الاشعار المذكور الاشارة الى المحكمة التي سوف تبث في القضية، وكذا اسم ومهنة وموطن المطلوب الحكم عليه. ويترتب عن انعدام الاشعار داخل الاجل المذكور، اذا لم يقع تدخل الصندوق في الدعوى، عدم امكانية مواجهة هذا الاخير بالقرار الصادر بشان طلب التعويض ( المقطعين الرابع والخامس من الفصل 8 من القرار الوزيري).

3) في حالة ما اذا كان مرتكب الحادثة معروفا، ولكن أثيرت في حقه دفوع تتعلق بتوقيف العقدة او ضمان، او عدم التامين، او استثناء للتامين او تامين جزئي :
يلاحظ أولا في هذا الباب انه يتعين على مؤسسة التامين نفسها ان تصرح من جهتها بالحوادث التي ارتات ان تتمسك في شانها بدفع من الدفوع المذكورة ( الفقرة الاولى من الفصل 4 من القرار الوزيري ).

كما يتعين عليها بخصوص الحالة التي تكون فيها التامين جزئيا، واذا لم يقبل المسؤول عن الحادثة أن يبرأ ذمته في آن واحد معها، من قدر التعويض الذي يتحمله ان توجه اليه باسم الضحية او ذوي حقوقه، الانذار المنصوص عليه في الفصل 6 من القرار الوزيري. واذا لم يسفر ذلك الانذار عن نتيجة، داخل اجل شهر واحد فانها في حالة ابرام صلح ( بمعنى صلح بينها وبين الضحية او ذوي حقوقه فيما يتعلق بجزء التعويض الذي تتحمله من جهتها)، وبعد الحصول على موافقة صندوق مال الضمان تقوم لحساب المؤمن لديها باداء المبلغ المجعول على عاتقه وتشعر الصندوق بهذا الاداء ( المقطع الثاني من الفصل 4 من القرار الوزيري).

وباستثناء ما سبق ذكره، فان باقي الشروط المتعلقة بالمسطرة التي ينبغي مراعاتها في هذا الباب، هي نفس الشروط الخاصة بالحالة التي يكون فيها المسؤول عن الحادثة معروفا لكن غير مؤمن ( التي تعرضنا اليها فيما قبل) وذلك عدا ما ورد ضمنها من واجب الإشعار الملقى على عاتق الضحية او ذوي حقوقه عندما تكون القضية رائجة امام محكمة زجرية ويكون مشارا في محضر الحادثة الى وجود تامين مع البيانات المتعلقة بمؤسسة التامين ( المقطع الاخير من الفصل 8 من القرار الوزيري ).

هذا، وتليق الاشارة قبل التطرق للجزء الاخير من هذا العرض، الى ان صندوق مال الضمان خول له المشرع حق الحلول، محل الدائن بالتعويض في جميع حقوق هذا الاخير ضد المسؤول عن الحادثة، أو احتمالا ضد المؤسسة التي تؤمنه اذا عجزت هذه المؤسسة بدورها بسبب العسر، كما ان له الحق استرجاع الفوائد المتعلقة التي دفعها، وذلك على اساس السعر القانوني الجاري به العمل في المادة المدنية، وكذا استرجاع المصاريف التي تحملها للمتابعة ( الفصل 6 من الظهير والفصل 9 من القرار الوزيري).

ملاحظات واقتراحات :
1) الملاحظات :
من الملاحظات الاساسية التي يمكن إبداؤها، نتيجة ما سبق عرضه، ما ينصب منها على موقف المجلس الاعلى من الضرر المعنوي، وعلى موقف صندوق مال الضمان من تحمل التزاماته القانونية في حالة ما اذا كان المسؤول عن الحادثة غير مؤمن ومعسر وفي حالة ما اذا كان مؤمنا لدى مؤسسة تامين معسرة.
* * *
أ‌- حول موقف المجلس الاعلى من الضرر المعنوي :
انطلاقا من قرار المجلس الاعلى الصادر بتاريخ 23 فبراير1977 المشار اليه سابقا، ونظرا لعدم معرفة القرارات الاخرى التي يكون قد أصدرها ( وهذا لكونها غير منشورة)، يظهر بان المجلس الاعلى اول تأويلا ضيقا الاضرار التي اراد الشرع ان يحمل التعويض عنها من طرف صندوق مال الضمان، وبالتالي فانه تصعب مسايرته في ذلك التأويل.
وبالفعل، ومن ناحية أولى، لم يميز المشرع، ضمن الفصل الاول من الظهير، بين الاضرار المادية وبين الاضرار المعنوية التي تكون مرتبطة بالاضرار الجسمانية الحاصلة.

ومن ناحية ثانية، وكما سبقت الاشارة اليه، جاء القرار الوزيري التطبيقي للظهير بتعبير واسع، اذ يشير الى تحمل صندوق مال الضمان ( التعويضات المستحقة لضحايا الحوادث الجسمانية او لذوي حقوقهم).
فعلاوة على استعمال هذا القرار التطبيقي لعبارة " الحوادث الجسمانية" وإضافته عبارة " ذوي الحقوق"، فلم يميز بين ذوي الحقوق الذين يكون قد لحقهم ضرر مادي بسبب وفاة الضحية وبين ذوي الحقوق الذين أصيبوا من جراء ذلك بضرر معنوي فقط.
وبالإضافة الى ذلك، لم يستبعد القرار التطبيقي امكانية تعويض ذوي الحقوق عن الاضرار اللاحقة بهم شخصيا حتى في حالة ما اذا بقيت الضحية على قيد الحياة، الشيء الذي يؤكده استعماله لعبارة " ذوي الحقوق" وليس مجرد كلمة " ورثة".

لذا، فانه يكون من الاقرب الى الصواب اعتبار صندوق مال الضمان متحملا لكافة الاضرار التي تصيب الضحية او ذوي حقوقه، نتيجة حادثة جسمانية باستثناء ما يتعلق منها بالاشياء ذاتها ( أي الخسائر الطارئة على العربات او الملابس مثلا).

ومما يؤيد وجهة النظر هذه، انه بالرغم من استعمال، ضمن قانون 31 دجنبر1951 ( الفصل 15) المؤسس لصندوق مال الضمان الفرنسي، نفس الصيغة الواردة في القرار الوزيري " ضحايا الحوادث الجسمانية او ذوي حقوقهم"، فان الاجتهاد القضائي الفرنسي اقر بوجوب تحمل الصندوق المذكور جميع عناصر الضرر الجسماني، المادية منها والمعنوية، في حالة وفاة الضحية المعنوي اللاحق بذوي الحقوق والضرر المادي المناسب لحرمانهم من الموارد الممنوحة لهم من طرف الضحية ( النقض الجنائي، 13 يناير1960 : مجلة القصر، 1960، 1، 126) كما اقر بوجوب تحمل الصندوق المذكور الضرر المعنوي الممنوح تعويضه لزوج او اصول ضحية أصيبت بعاهة خطيرة نتيجة الحادثة ( النقض المدني 2، 18 دجنبر1967 : المجلة العامة للتأمينات الأرضية 1968/387).

بل ويذهب الاجتهاد القضائي الفرنسي الى اقرار وجوب التعويض من طرف صندوق مال الضمان عن بعض الخسائر المادية ذاتها، شريطة ان يكون المسؤول عن الحادثة وقع التعرف عليه ( قصد تلافي كل محاولة تدليس، وفي حدود مبالغ معينة، لكن ذلك تبعا لنص تشريعي جديد صادر بتاريخ 30 نونبر1966.

ب‌- حول موقف صندوق مال الضمان من تحمل بعض التزاماته القانونية :
يستنتج من المعلومات التي تلقيناها من العديد من الزملاء الذين مارسوا نوازل مماثلة، ان صندوق مال الضمان يرفض القيام باي اداء ما لم يقع اثبات - بواسطة محضر رسمي بشان عدم وجودها ما يحجز - عسر المسؤول عن الحادثة لغير المؤمن او المحكوم بعدم تأمينه.
وليس هناك، على ما يبدو، أي قرار قضائي يكون قد تم نشره بخصوص هذه المسالة.
الا انه يظهر مثل هذه المسالة ليس من شانها ان تبرر اية منازعة جدية من لدن صندوق مال الضمان، ما دام ان النص القانوني المنظم لها واضح وصريح في القول :
" بالنسبة لصندوق مال الضمان يترتب عسر المسؤول عن الحادثة عن انذار بالأداء، تلاه " رفض او بقي دون نتيجة خلال اجل تام مدته ثلاثون يوما ابتداء من التبليغ ( المقطع الاخير " من الفصل 6 من القرار الوزيري").

فلا حاجة اذن الى " الالحاح حول عدم مشروعية الزام المتضرر بالادلاء بمثل المحضر المذكور، والا اصبح الدور المنوط قانونيا بصندوق مال الضمان فارغا من مدلوله، وذلك سيما وان القانون يكفل حق صندوق مال الضمان في الجوع بصفة تامة وامتيازية، ضد المعني بالامر، كما سبقت الاشارة اليه ( المقطعين الاول والثاني من الفصل 6 من الظهير والفصل 9 من القرار الوزيري. كما يكفل له حق اتخاذ اجراءات تحفظية المقطع الثالث من الفصل 6 من الظهير ).

ومن ناحية أخرى فمن المعلوم ان بعض شركات التامين قد صدرت قرارات وزارية يسحب رخصتها منذ عدة سنوات بسبب عدم كفاية ضماناتها المالية ( خاصة الشركة الدولية للتامين " كومبانيا انترناسيونال دي سيكورورس)، والشركة المغربية للتأمينات العامة " كومبانيا ماروكي ديسيكوروس جينيراليس".

غير انه، بالرغم من وضوح وصراحة النص القانوني الوارد في هذا الشان، ( المقتضيات الاخيرة من الفصل6 من القرار الوزيري) اضطر العدد العديد من المتضررين ومن بينهم الكثير من ضحايا حوادث السير التي تكتسي في نفس الوقت صبغة حوادث الشغل ان يذعنوا لصلح نهائي من المصفى الإداري لتلك الشركات صلح قلما تم على اسس متجاوزة لنسبة 30 في المائة من حقوقهم، وذلك تلافيا للصعوبات المرتبطة بمقاضاة صندوق مال الضمان ولضياع الوقت.

فلا شيء يمكن ان يبرر الموقف لصندوق مال الضمان في هذا الصدد، سيما وانه من بين الاهداف الاساسية التي احدثت بالذات من اجلها ضمان المتضررين المعنيين من خطر عسر مؤسسات التامين، وان حق رجوعه مكفول ايضا، وبصفة تامة وامتيازية ( الفصل 6 من الظهير والفصل 9 من القرار الوزيري).
ولعل عدم تحمل صندوق مال الضمان لمثل الالتزامات المذكورة راجع الى تضخم مجموع تكاليفه وقلة موارده نسبيا.

لذا، فانه يكون من اللائق ان تتدخل وزارة المالية، بحكم سلطة الوصاية والمراقبة المباشرة التي تتوفر عليها قانونا على صندوق مال الضمان، قصد حمله - وعند الاقتضاء قصد مد الدولة له يد المساعدة - على تحمل التزاماته المذكورة بصفة مرضية ومطابقة للدور الاجتماعي الذي عليه ان يقوم به.
* * *
2) المقترحات :
بالإضافة الى الاقتراح الآنف الذكر، والذي يرمي الى تدخل الادارة في نطاق النصوص القانونية نفسها، فانه يمكن بناء على ما تمليه تجربة العديد من الزملاء الممارسين في هذا الميدان، اقترح تعديل النصوص المذكورة في اتجاه تبسيط بعض جوانب مسطرة اللجوء الى صندوق مال الضمان، وذلك تعزيزا لدوره الاجتماعي وسعيا وراء ربح بعض الوقت لفائدة المتضررين الذين كثيرا ما يصعب عليهم ادراك متطلبات تلك المسطرة وكثيرا ما يصبحون منذ وفاة معيلهم، في حالة احتياج مطلق.

ومن بين هذه الاقتراحات :
فانه يكون من اللائق السماح للمتضرر بادخال صندوق مال الضمان في دعواه، أكان مرتكب الحادثة غير مؤمن، او كان من شان مؤسسة تأمينه ان تندفع باي عنصر يمكن ان يؤدي الى استبعاد ضمانها كليا أو جزئيا.
كما يكون من اللائق، بالتالي، تخويل الحق للمحاكم في اصدار الاحكام المناسبة ضد صندوق مال الضمان، ومنها مثلا الامر بإحلاله، في حدود التزاماته القانونية، محل المسؤول عن الحادثة، في نفس الوقت الذي قد تامر فيه باخراج مؤسسة التامين من الدعوى وذلك اذا ما ثبت عسر المسؤول المذكور حسب المقتضيات القانونية الجاري بها العمل حاليا.

اما فيما يخص الاجال المنصوص عليها في الفصل 5 من القرار الوزيري مراجعتها بناء على الاسس التالية :
اعتبار اجل 6 اشهر، الوارد في المقطع الاول من الفصل المذكور والمتعلق بالحالة التي يكون فيها مرتكب الحادثة مجهولا، اجلا لاشعار الصندوق بالرغبة في الحصول على ما يلزم هذا الاخير من التعويض، مع تمديده الى غاية سنة كاملة ابتداء من تاريخ الحادثة.
اعتبار اجل 6 اشهر، الوارد في المقطع الثاني في ذلك الفصل والمتعلق بالحالات غير الحالات الانفة الذكر، اجلا لاشعار الصندوق بابرام الصلح مع مرتكب الحادثة اذا كان غير مؤمن كليا، او مع مؤسسة تأمينه اذا كان مؤمنا جزئيا، والرغبة في الحصول من الصندوق عند الاقتضاء على ما يلزم هذا الاخير من التعويض مع الابقاء على نفس مدة ذلك الاجل ابتداء من تاريخ الصلح المذكور.
توحيد اجل 18 شهرا للتقاضي، الوارد في اخر المقطع الثاني من ذلك الفصل، مع اجل الحق العام (5سنوات) ابتداء من تاريخ وقوع الحادثة، اذ لا مبرر لتمييزه عنه، سيما وانه كثيرا ما لا يتأتى انهاء تحرير محاضر الشرطة المتعلقة بحوادث السير. وإرسالها الى النيابة العامة، والبحث عن البيانات المتعلقة بها والاطلاع عليها او الحصول من كتابة الضبط على صورة منها، وجمع بعض المعلومات والوثائق الضرورية الأخرى، داخل اجال قصيرة.

هذا، وفيما يرجع للعلاقات الدولية فلا شك انه سوف يكون من المفيد، صيانة لحقوق عائلات مئات الاف المواطنين العاملين بالخارج، وخاصة بأوربا الغربية، العمل على ابرام اتفاقات مماثلة للاتفاق المبرم مع تونس في سنة 1972 وذلك علما بانه في فرنسا مثلا، وان كان يعترف للاجنبي القاطن بها بحق الاستفادة من صندوق مال الضمان الفرنسي، فلا يعترف لذوي حقوقه أنفسهم بهذا الحق الا اذا كانوا قاطنين بدورهم بفرنسا.

تلكم كانت بعض الملاحظات والاقتراحات التي رأيت بقدر ما سمحت لي به الامكانيات ان تقدم بها كأرضية، على الصعيدين النظري والتطبيقي، لمناقشة ستكون، دون ما شك، هامة ومجدية.

ملاحظة إضافية :
علاوة على تونس، فقد تبين ان المغرب مرتبط ايضا باتفاق متبادل، حول اللجوء الى صندوق الضمان بكل من البلدين تم توقيعه مع ملحقه بالرباط بتاريخ 15/7/1975 غير انه لم يتم نشرهما بالمغرب الا بمقتضى ظهير مؤرخ في 8/5/1978 منشور في الجريدة الرسمية عدد 3424 بتاريخ 14/6/1978،

الأستاذ عبد العزيز بن زاكور
عضو مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 20/19، ص 38 .

حرمة الجسم البشري وتهافت القانون الوضعي

بقلم الاستاذ احمد باكو

اطلعت على حكمين يلتقيان معا، على اختلافهما، وتباعد مصدرها على حرمة الجسم البشري وحصانته، ويستندان الى ذلك في تعليل ما قضيا به فاتلف لي منهما، موضوع قانوني اجتماعي ، جدير بالمعالجة والبحث.

الا ان طليعة الموضوع ومقتضيات احوالنا، لاسيما في هذه الايام فرضت الاقتصاد في تناول التحليل القانوني للحكمين، الاسهاب في الجوانب الاجتماعية للوقائع وان كانت فرعية، لان الغرض بالذات هو بيان تهافت القانون الوضعي في معالجته للأخلاق.

وهذا هو السبب في ان الكلام انصرف في الاكثر الى الجوانب الاخلاقية للقضية، والى العرض بالذات وقيمته والمقارنة بين القانون الوضعي والشريعة الاسلامية في اعتباره وحمايته وفروع اخرى اقتضاها المقام.

وأول الحكمين أجنبي، صدر عن القضاء الفرنسي ويتعلق باستئجار الارحام للاستيلاء والثاني وطني محلي، صدر عن القضاء المغربي، ومن محكمة الاستئناف بالبيضاء بالذات، ويتعلق بدعوى تعويض عن استغلال صورة شخص بدون إذنه.
وبالنسبة للحكم الاول، فانه يجب الاشارة اولا الى اني لم اطلع على نسخته الرسمية، ولم اعلم به،الا عن طريق خبر نشرته احدى الصحف، جاء فيه ان القضاء الفرنسي، قرر منع المعاملة المتعلقة باستئجار الارحام للاستيلاء، وابطل التعاقد الوارد على ذلك. الا ان الجريدة، لم تغفل الاشارة الى التعليل، الذي استند اليه الحكم، ، فيما قضى به وهو حرمة الجسم البشري بذلك حصل ما يكفي، للحديث عنه بهذا التعليق(1) . بيانا للمقصود نذكر ان العلماء توصلوا أخيرا، الى ان وسيلة جديدة للإستيلاد باستتئجار، او استعارة رحم امراة ثانية لتحمل نطفة ملقحة من رجل وامرأة، نيابة عنهما، ولفائدتهما، ليكون المولود منسوبا اليهما بعد ان تضعه صاحبة الرحيم المستعار.

وسرعان ما اصبح بعض الناس، في أوربا وامريكا يستعملون هذه الوسيلة ويستأجرون نساء لحمل الأجنة، على النحو المذكور، ونشأت من ذلك نزاعات متعددة عرضت على القضاء.
واسلاميا فان معيار الحلال والحرام، الذي يضبط النسب بدقة شديدة لا يدع أي مجال للشك، في ان كل تلاعب بالنسب من هذا النوع، ممنوع وباطل، باعتبار انه ضرب من السفاح المضاد للزواج، لا يشفع له أي دافع، ولو كان يقصد حسن لان النسب حق للولد المتوقع، أي احد، لا يحق لوالديه ان يخرجاه الى الوجود الا بالزواج شرعي، تحمل فيه الزوجة جنينها، لينبت في رحمها الذي خرجت منه بذرته.

وبالنسبة للقانون الوضعي فان المعضلة، مازالت محل اختلاف واضطراب في الاجتهاد من حيث جواز المعاملة في ذلك، ومن حيث نسب المولود، ومن الأحق من المرأتين بان تكون امه.
ومما نشرته الصحف من ذلك، ان القضاء الفرنسي، نطق أخيرا برأيه في المشكلة فقرر بصراحة منع المعاملة، وبطلان العقود الواردة على استعمال رحم امرأة بديلة لتحمل نيابة عن غيرها، سواء كان ذلك باجرة تاخذها او بالتطوع والتبرع استنادا الى ان هذا يسيء الى حرمة الجسم البشري، وحصانة حالته، وهذا هو الحكم الذي نحن بصدده.
واستناد القضاء الفرنسي الى حرمة الجسم البشري، على هذا النحو جدير بالانتباه والاعتبار، في عمرنا الحاضر، لان الاهتمام بحرمة الجسم البشري، من هذا الجانب المتعلق برحم المرأة بالذات، فيه اهتمام بالعرض واعتبار احترامه معيارا للمنع والاباحة، وهو اتجاه غير مألوف لان المعمول به في القوانين الوضعية اليوم، هو عدم اعتبار العرض وضرورة حمايته، معيار الضبط معاملات الناس بل ان احترام حرية الأفراد، وامضاء كل ما يتراضون عليه هو المعتبر، ولو كان فيه انتهاك صريح لأعراضهم ، كما هو مشاهد فيما تبيحه القوانين في الغرب، وما يجيزه القضاء من أنواع الفنون التي تعتبر بالمعيار الأخلاقي والديني، وهو الحق، دعارة صريحة
ولتوضيح المقصود والمغزى، يجب الانتباه الى ان حرمة الجسم البشري في الجانب المتعلق برحم المرأة هي التي راعتها الأديان السماوية، والإسلام بالخصوص، حين قيد حرية
----------------
(1) الدورية القانونية ع.3/4 أكتوبر نوفمبر 92 ص. 12.
-----------------
الأفراد، فيما يرجع للعرض والأسرة، وحرم الزنى وكل ما يؤدي اليه، ولم يعترف الا بالزواج، الذي حماه بزواجر جنائية تجعل الخيانة فيه، شبيهة بخيانة الوطن أي الخيانة العظمى، على عكس القوانين الوضعية التي أباحته بين العزاب أولا، ثم سرعان ما اخذت تبيحه حتى بين المتزوجين، كما هو مشاهد، من اتجاه السلطات التشريعية في الغرب، الى إلغاء جريمة الخيانة الزوجية، على اساس ان احترام الحرية الشخصية للأفراد، اولى بالاعتبار.

ولمزيد التوضيح فان يجب الانتباه الى ان الزنى، ليس الا نوعا من استئجار الارحام، او استعارضها، وان استئجارها هنا اقبح واضر بالنسبة للذي منعه القضاء الفرنسي، لان هذا يكون بغاية النيابة في حمل الجنين، لفائدة صاحبي النطفة، لسبب لا يخلو من قصد حسن، لا سيما انه لا يؤدي الى حرمان المولود المتوقع، من الانتماء الىابوين، يرعيانه ماديا على الأقل.

واما استئجار الأرحام للزنى، فلا يخفى انه كل شر، من البداية الى النهاية لان الدافع إليه، هو إرضاء النزوات الشخصية ويقترن بالجناية على الزواج، حين يقع من الزوجين، ثم الجناية على اللقطاء المتولدين منه، بإحيائهم ليعيشوا بدون ابوين يلتزمان برعايتهم، وهو احياء خير منه الإعدام، وقبل هذا وبعده هنا الامراض الكثيرة التي تنشا منه وتنتشر به، وعصرنا الحاضر، شاهد على تحقق هذه المفاسد كلها.

وعلى الرغم من كل هذا، فان القوانين الوضعية في البلاد الغربية، مجمعة الان او تكاد على إباحة الزنى، حتى بمعناه الضيق الذي حصرته فيه الحضارة الغربية، وهو الذي يقع من الزوجين، ضدا من احدهما على الاخر.

وزاد المنظرون لذلك في الأغراب والشذوذ، حين برروا هذه الإباحة، باحترام الحرية الشخصية للافراد، وهو عذر اقبح من الزلة، لان من المسلم به بداهة ان للحرية الشخصية حدودا أهمها وأعظمها تلك التي يلزم بها الفرد نفسه، برضاه واختياره، وهي العهود التي يعطيها والعقود التي يبرمها، ولهذا كان الوفاء بالعهود والعقود، من الأخلاق الفطرية الأزلية، التي نشا عليها الناس، ونظموا بها حياتهم، في جميع الأطوار، التي مرت بها الإنسانية وكانت المعيار الذي يقاس به مدى تحضر الامم ورقيها.

ولا ينبغي ان يكون هناك جدال ونزاع، في ان عقد الزواج، هو أعضم العقود التي يبرمها الإنسان، واعظم العهود التي يعطيها وأولاها بالوفاء والإنجاز، فكيف يجئ فكر الحضارة الأوربية اليوم، ليبيح للناس نقضه، من غير جزاء زاجر؟ انه خرق صريح لقاعدة قانونية ازلية تعرفها الحضارة الاوربية حق المعرفة، وبها نظمت معاملاتها خير تنظيم، حتى اذا وصلت الى اكبر عقد يبرمه الإنسان نحته جانبا بعذر اقبح من الزلة.

وهذا يطلعنا على مدى إخفاق الوضعية، في حماية العرض والأسرة، ومدى الخطأ القاتل الذي تردت فيه، حين جعلت الحرية الشخصية للأفراد، اولى بالاعتبار من اعراضهم، واباحت لهم التراضي على الفسق وخيانة اعظم عقد يبرمه الإنسان.
* * *
فما هي الاسباب والدوافع، التي أوصلت الأوروبيين، وقانونهم الوضعي، الى حالهم مع العرض اليوم؟ قد يبدو لاول وهلة ان الغربيين ولدوا كلهم فاقدين لحاسة العرض، جاهلين قيمته، وضرورة حفظه وصيانته، ولكن الحقيقة غير ذلك، لان الواقع ان الاهتمام بالعرض، من الأخلاق الفطرية التي يولد بها كل انسان سوى.

ولذلك فانه ليس من المبالغة ان نقول، ان معرفة الغربيين للعرض والتخلي به، كامن في نفوسهم، ولكن واقعهم المريض حملهم على ان يكبتوا هذا الخلق، ولا ينكشف الا في بعض المناسبات، حيث نجده يعبر عن نفسه تلقائيا، على نحو ما نراه، في بعض دعاوي القذف، التي تمتلئ بها المحاكم هناك، وعلى نحو ما نراه، في مواسم الانتخابات، حيث نجد سوابق المرشحين الشائنة في الاخلاق، من اكبر ما يجرح الإنسان ويؤخره ويسقطه.‍‍!

والدليل على الإنسان يولد متخلفا بالاحساس بالعرض موجود بوضوح، لدى اطفال الغربيين، الذين نجد لديهم غيرة معدودة عند الكبار، الذين لاشك انهم ولدوا بها، ثم فقدوها بالتدريج، في واقعهم وما فيه.
وفي أخبار الجرائم كثيرا ما نجد اطفالا، يقتلون غيرة وانتقاما لشرف الأسرة، كأن يعمد طفل الى قتل خليلة والده او خليل والدته، وهي حوادث لا يخلو منها عالم الإجرام في الغرب، وكان المفروض ان يكون هذا الدافع، بعيدا عن نفسية الاطفال.

وفي ادب الغربيين الروائي المسجل والمحلل لواقعهم ونفسياتهم، اثار تعتبر دلائل لا يستهان بها، على ما نقول، ففي رواية للكاتب النمساوي ستيفان زفايج، يقدم لنا نموذجا لذلك، من خلال عرضه لقصة امرأة تسافر صحبة طفلها في رحلة استجمام بعيدا عن الزوج، وتجيئها الفرصة للخيانة، بمناسبة تعرفها على شخص، تبادل معها الأعجب والاستلطاف، ولكن طفلها يحس في نفسه بشيء ما، جعله يكره الصديق، فظل يتربص بهما، ويفسد عليهما كل خلوة يدبرانها، لارتكاب الجريمة، الى ان أيأسهما من ذلك، فرجعت الزوجة الى بيتها وزوجها، دون ان ترتكب الخيانة، بعد ان همت بها، ودبرت لها وكان الفضل في ذلك لطفلها، او لغيرته الفطرية على الأصح.

وما أظن الكاتب ابتكر هنا، واقعة غير موجودة، او تخيل شيئا بعيدا عن الحقيقة، لان ما رواه يصدقه الواقع.
ولكن لماذا لم يظهر اثر هذا الخلق الكبير، في حياة الغربيين، وفي قوانينهم الوضعية، على الرغم من التقدم العلمي، والرقي الحضاري، والأنظمة المثالية، التي وصلوا إليها في تدبير الحياة، في مختلف مناهجها. ولماذا نبذوه واهملوه، حتى صاروا الى ما هم عليه الآن من تفكك وانحلال في الاسرة.

السبب في ذلك، انهم لم يسلكوا السبل الضرورية لضبط الأخلاق وقمع الفواحش، المؤدية الى الإخلال بحرمة العرض، ولم يستعملوا الوسائل التي لابد منها لذلك.

فاذا كانوا قد حرموا بعض الفواحش، وخصوصا الخيانة في عقد الزواج، ووضعوا لها عقوبات، وصلت بالتطور الى ان أصبحت رمزية تقريبا، فانهم لم يفطنوا الى ان جرائم العرض، لها طابع خاص، يوجب ان يقترن بتحريمها، تحريم كل ما يؤدي إليها، وبدون هذا يجد الناس أنفسهم يحرمون ما لا يستطيعون اجتنابه.

وهذا ما وقع للغربيين مع قانونهم الوضعي، حيث وجدوا انفسهم، لا يستطيعون ان يطبقوا النصوص القانونية التي أرادوا بها، صيانة العرض، وحماية عقد الزواج بالذات، فعمدوا الى تعديل العقوبات، المتعلقة بالخيانة الزوجية بالتخفيف، وتقييد المتابعة فيها، بتلك الشروط المعروفة، الى ان انتهى بهم الأمر أخيرا، الى الغاء الجريمة كليا.

وهذا يعني انهم عالجوا العرض بقتله، على النحو الذي يرتضيه بعضهم للمريض الميؤوس من شفائه.
وقد كان من سوء التدبير هذا، أي عدم الاهتمام، بتحريم أنواع السلوك، المسيئة للعرض، والمؤدية الى انتهاكه، ان نشأت اعراف اجتماعية، وعادات في السلوك، لابد مع وجودها، من وقوع المحذور.

من ذلك مثلا، عادة المراقصة في الحفلات التي يستحسنها عرفهم، ويرون فيها نوعا من السلوك المهذب، من غير ان ينتبهوا الى عواقبها الخطرة.

وقد أراد بعضهم ان يمدح هذه العادة، ويبررها بكونها تؤدى وظيفة اجتماعية مهمة لان بها يتم الزواج، حيث ينشا من تلك الوقفة العاطفية تعرف وتوادد، يتحول الى زواج وليس هذا الا نوعا من السفسطة التي طالما سمعنا بعضها، لتبرير مناكر الحضارة الاوروبية، لان المراقصة اذا كانت تؤدى الى الزواج احيانا، فانها تؤدى في أحيان اكثر الى نقضه بالطلاق والخيانة، لانها لا تقع بين العزاب وحدهم، ولان بها ينجر الزوج او الزوجة الى استلطاف شخصي اخر، فيكون ما لابد منه.

والحق الذي يؤيده الواقع، أنها من الابواب الكبيرة التي تدخل منها الخيانة الى بيت الزوجية، وهذا ما يعترف به الغربيين أنفسهم حين يقولون الحق، في بعض الاحيان.

ونعود مرة اخرى الى الاستشهاد في هذا الموضوع بأدب الغربيين الروائي، وما يصوره من واقعهم المريض، بأمانة وعلم.

اعتقد ان اعظم اثر أدبي، عالج موضوع الخيانة الزوجية في المجتمع الفرنسي، هو رواية " مدام بوفاري" للكاتب الفرنسي جوسفان فلوبير التي صور فيها ببراعة، كيف تسقط المرأة في هذه الرذيلة، والاسباب، البيئية والنفسية التي تستدرجها لذلك، من خلال سيرة البطلة التي انتهت الى ذلك المصير المؤلم الذي يعرفه من قرأ الرواية والشاهد فيها، هو الواقعة التي ساقها المؤلف، حين أراد ان يكشف لنا مدخل بطلته الى السقوط: انها لم تكن، سوى وقفة للرقص، في حفلة عامة، جمعتها مع ذلك الشخص الذي أغواها اوغوته، فانست فيه ما لم تجده في زوجها، او هكذا صور لها خيالها في تلك اللحظة، فسقطت معه، وكررت الفعل مع غيره، بعد ان زهد فيها، كما يقع عادة.

هنا أيضا نقول، ان الكاتب لم يبتدع شيئا من خياله، بل عبر عن حقيقة يصدقها الواقع، لأنه ما كان ليخلص لفنه ويصدق فيه، لو اختار لنا مدخلا اخر، غير هذه المراقصة التي يمكن ان نقول ان البطلة وشريكها، كانا معا ضحية لها.
* * *
ومن الجوانب التي عسرت على الغربيين، الوفاء للعرض، انهم استبعدوا المعيار الأخلاقي في ضبط الفنون، فادخلوا فيها، كثيرا من الفجور والمجون حتى انحصرت وظيفتها اليوم، في قتل الحياء وقامت بذلك " شر قيام" وأتاح هذا للمنحرفين من الفنانين، ان يفسدوا الأذواق، ويمجنوا الحياة، ويفرغوا الضمائر، من الوازع الأخلاقي، كما يريدون، بأهوائهم المريضة من خلال الأفكار التي يتبنوها، عبر طريق التمثيل في المسرح والسينما، ففي كل جلسة فنية اليوم، لا يخرج الانسان، من خلال ما يراه بعينيه، ويستقر في ذهنه لا من أفكار، الا بما يزهده في بيت الزوجية.

وعندما حصل اليأس، من الحفاظ على العرض، والالتزام بالأخلاق الفطرية، بسبب هذه البيئة، التي لا تساعد على ذلك، اخذ الغربيون، يخططون لان يعيشوا بدون عرض، وكان لابد من نظريات جديدة، تحل محل الضوابط الأخلاقية الأزلية، الحافظة للاسرة التي اصلها الدين، ورسخها في النفوس، مثل الحياء والغيرة والعفة. وهنا جاءت تلك المذاهب المادية، التي اعتبرت الدين نفسه خرافة، واعتبرت الزواج والأسرة مجرد عادات ناشئة عن أسباب اقتصادية وقتية،لابد ان تزول بزوالها.

وفي ميدان الفنون والآداب، ولأجل تبرير مفاسدها طور الغربيون، مذهب " الفن لفن" الذي كان نظرية منبوذة، تدعو الى تجريد الأعمال الفنية، من الالتزامات الاخلاقية، ليصبح مذهبا اصليا قارا، فصارت الفنون والاداب، متخصصة في هدم الاخلاق، واقتلاع وازعها من النفوس، ومسخ الفطرة البشرية.

كما انهم انحرفوا بمفهوم الحرية الى معنى واسع، غير منطقي، وذلك بإلغاء الحد الأخلاقي للحرية الذي يوجب العقل ان يتقيد به كل انسان.

وهذا كله سهل على القانون الوضعي ان يتدخل لهدم أركان الأسرة، وقتل العرض رسميا، بتلك التشريعات الكثيرة الخطرة التي تجيزها البرلمانات الأوربية، من حين لحين، لإلغاء كثير من المسلمات الأخلاقية، الضرورية لحفظ الأسرة، على نحو ما تراه بالخصوص في الدول الاسكندنافية والانجلوساكوفية، حتى صار كل ممنوع مباحا، وطغى الحرام على الحلال، وصار بعض ما يجري في بيوت الدعارة، يجري مثله في بيت الأسرة من غير حرج !
* * *
ولأجل ان يتضح هذا الانحراف الخطر، الذي انجرف اليه القانون الوضعي، في علاج قضية العرض والأسرة، لابد من مقارنة مع الشريعة الاسلامية، في المنهج السليم، الذي سلكته، في هذا المجال، فتوصلت به الى ذلك الغايات السامية، التي سادت الى ان نحاها وطردها، القانون الوضعي، الذي جاء مع موجبات التغريب التي عمت بلادنا الإسلامية.

تلتزم الشريعة الاسلامية، وتسلك في ميدان التحريم والتجريم، منهاجا جليل النفع، وهو أنها اذا حرمت شيئا، حرمت معه، كل ما يؤدي اليه، ومن هنا جاءت القاعدة المقررة في هذا الباب، وهي كل ما يؤدي الى الحرام فهو حرام.

وقد اخذ الاسلام بهذه القاعدة، بنوع من التوسع في المحرمات المتعلقة بالعرض بالنظر لقيمته وأهميته لقيام الاسرة، وبالنظر لان الناس يضعفون كثيرا إزاء هذا النوع من المحرمات، حتى انه يمكن ان يقال ان الجاني والمجني عليه، يكونان معا ضحية فيها.

وبالنسبة لكبرى هذه المحرمات وهي السفاح او الزنى، فان الإسلام لم يكتف بتحريم الفعل، بل حرم كل ما يؤدي إليه، من الوسائل والوسائط.
وهكذا نجده يبدأ في ذلك بتحريم النظرة، أي استعمال حاسة البصر للتأمل الشهوائي، ونجد النص القرآني المتناول لهذا مصوغا بعبارة هي حقا من الكلام المعجز، في قوله تعالى { ولا تقربوا الزنى انه كان فاحشة وساء سبيلا(2) ليكون النهي متعلقا بالاقتراب، قبل الفعل، ويكون الفعل منهيا عنه بالأولى والت أكيد، ويكون اجتناب الوسائط واقيا من اقتراف الفعل المقصود بالتحريم بالذات.

وجاء الوحي الثاني أي السنة النبوية التي نطق بها الرسول، عليه ازكى السلام فزاد هذا المعنى بيانا، والبلاغة القرآنية جمالا، فقال صريحة( فيها أيضا بلاغة كثيرة لمطابقتها لمقتضى الحال) : ان العين تزنى.
وما بين هذه النظرة والفعل، نجد كثيرا من المحرمات الاخرى التي تشتد تصاعديا، كلما كانت قريبة من الفعل، حتى لا يكاد الإنسان، يجد الوسيلة اليه، وقد يصور لنا خيالنا المتشبع بالحضارة الغربية، التي تبيح كل شيء ان الإسلام يلقى على الناس عنتا وإرهاقا شديدين بهذه المحرمات الكثيرة، ولكن الواقع يعكس ذلك، لان كل هذه المحرمات، ليست إلا اساليب علاجية، لتهذيب الطبيعة البشرية، ومساعدة الإنسان على ضبط غرائزه والا وسائل وقائية تساعد المسلم على ان يلتزم ، ويفي لتعاليم الاسلام، وفي هذا الجانب الخطير، حتى يتعود ذلك ويصير وازعا قويا في نفسه، يتحرر به من سلطان الشهوات.

وقد يصور لنا ذوقنا العصري أيضا ان نتيجة هذه المحرمات الكثيرة، هي حرمان الرجال من النساء والعكس، وليس الامر كذلك هنا أيضا، لان كل ما هو محرم هناك مباح هنا، بشرط ان يأتيه الإنسان، من بابه المشروع وهو الزواج.

والمقصود من هذه الضوابط كلها، هو صيانة الفطرة بتهذيب الطبائع والغرائز، لتصير خادمة للأخلاق، لا خارقة لها، والمقصود أيضا، هو تحويل الناس من الفوضى الى النظام، لحملهم على ان يلجوا باب الزواج، حتى لا يلتقي رجل وامرأة الا في بيت الزوجية، ولا يولد مولود، الا على فراشها.

بالمقارن ة بين هذين المقدمات ونتائجها، نجد ان القانون الوضعي، ينشئ بيئة تستحيل فيها العفة او تكاد، لان كل ما فيها، يدعوا الى الحرام ويسهله، حتى صار الإنسان يقع فيه، من غير ان يطلبه، ويسعى اليه، ونجد الإسلام ينشئ بعكس ذلك، بيئة يستحيل فيها الانحراف او يكاد، حتى يضطر الإنسان الى الاستقامة ولو دعته نفسه الى العكس، ويكون لعقد الزواج، حرمته المطلوبة، وسيادته المطلقة من غير ان تزاحمه وتنافسه، مقاولات الدعارة حتى تطرده، كما هو واقع اليوم؟

اذا عدنا الى الحكم بعد هذا، تأكد لنا مدى إخفاق الحضارة الغربية، وقانونها الوضعي، في معالجة قضية العرض نظريا وعمليا.
-------------------
(2) سورة الإسراء الاية 32.
--------------------
لا ريب انها مفارقة غريبة مضحكة، ان يراعي القضاء الفرنسي، حرمة الجسم البشري في هذا الجانب المتعلق باستئجار الأرحام للاستيلاد، ويبيح هذا الاستئجار في السفاح، الذي هو اخطر واقبح وأولى بالمنع .

ولا ريب انه سيظهر من ينتبه لهذه المفارقة، فيتحدى بها المحاكم في النوازل اللاحقة. ولن نعجب اذا رأينا هذا الاجتهاد يزول مستقبلا، ليحل محله آخر، يبيح هذا الاستئجار، مسايرة للإباحة المطلقة، المطردة في هذه الأمور كلها.
* * *
واما الحكم الثاني، فانه صدر من محكمة الاستئناف بالبيضاء، في نازلة مخالفة ولكن يجمع بينها وبين سابقتها، ان المنطوق والحيثيات، في الحكمين معا، يستندان الى حرمة الجسم البشري وعدم جواز العبث به، باي وجه.
تتلخص وقائع هذا الحكم في ان شخصا وجد وجهه مصورا في بطاقة بريدية، معروضة للبيع من انتاج شريكة تتجر في ذلك، فبادر الى رفع الدعوى، لطلب التعويض، على اساس انه لم يأذن المنتجة بهذا، وان استغلالها لصورته الشخصية تجاريا، يعطيه الحق في التعويض المادي (3).
وعلى الرغم من ذلك ان المدعى اقام دعواه، على اساس مادي وجرت الدعوى على اساس انه يستحق نصيبه في الريع، الذي استفادته الشركة من استعمال صورته كما توحي بذلك وقائع الدعوى، وحيثيات الحكم، فان التعليل في القضيتين معا، ينتهي في الاخير الى حرمة الجسم البشري، وعدم جواز العبث به على أي وجه.
وقد وجدت في هذا الحكم كسابقة مناسبة للتطرق الى بحوث فرعية، ان كانت ادخل في الجانب الاجتماعي، فإنها مما لا يحسن السكوت عنه ذكرتني وقائع هذا الحكم بعبث اخر طالما ارتكبها مصور التلفزة عندنا، حتى أدمنوا عليه، حيث نجدهم في الحفلات الغنائية المنقولة، يحرصون على اصطياد الوجوه ( النسوية طبعا)، بانتقاء ظاهر مقصود، ليؤلفوا منها مناظر، ينقلونها الى الشاشة، في إخراج يرمي الى توضيح ما يردده المغني من غزل ومن الواضح ان هذا يعتبر ايضا اعتداء على حرمة الآنيان، ماديا ومعنويا، لانه ليس من المقبول، ان تفاجأ امرأة، بمناسبة حضورها حفلة غنائية، بوجهها مستعملا لهذا الغرض الذي لا يمكن ان يكون بريئا والذي فيه على كل حال، استغلال مادي، من النوع الذي استند اليه المدعى في نازلتنا لطلب التعويض؟
----------------
(3) مجلة المحاكم المغربية ع. 64/65 ص.117.
----------------
وهناك جانب اخر من هذا العبث، يتجلى فيه الطيش والتعسف اكثر من سابقه، نراه كلما جرى استجواب مع شخصية نسوية في بعض البرامج الأدبية او الفنية ـ فنجد صاحب الكاميرا او المخرج يجتهد في التلاعب بالتصوير، حتى يستخرج من الجلسة، مناظر لا تخلو من وقاحة أحيانا.

ذات مرة في برنامج أدبي جيئ بأدبية محترمة لحوار ثقافي فاذا بالسيد المصور يجتهد
في التقريب، بينها وبين محاورها حتى وصل من ذلك الى منظر من النوع الذي يتفنن مخرجو السينما في "ابداعه" حين يجمعون بين بطل الفلم وبطلته.

أتذكر بالمناسبة اقتراحا مهما لأحد القراء لاحظ في رسالة له لإحدى الجرائد ان بعض المطربين، في الحفلات العامة المتلفزة، لا يصعدون الى خشبة المسرح، الا بعد ان يفقدوا وعيهم، ليؤدوا أغانيهم في هيئات وحركات، لا تخلو من بداءة.

واقترح علاجا لذلك، ان يحرص المسؤولون على الا يصعد أيحد للغناء الا بعد الفحص، على نحو ما يقع مع الرياضيين، بعد انتهاء المسابقات.

تذكرت هذا الاقتراح الناجع، لأني أرى انه يجب تمديده الى السادة المصورين والمخرجين، فلا يؤذن لأي منهم بمباشرة عمله، الا بعد التأكد من سلامته تلافيا لما وقع وتكرر.

فليس من المقبول ان تكتشف هذه الأدبية او غيرها، ان السيد المخرج ظل يتفنن، حتى حول جلستها الى منظر يكاد يشبه بعض لقطات السينما الخليعة دون ان تأخذ على ذلك تعويضا ماديا على الأقل على اساس ان التمثيل يكون بثمن، ولا يكون بالمجان، وليس من المقبول ان تعود البنت او الزوجة الى البيت، من حفلة حضرتها لتجد من يخبرها بان وجهها كان بجوار المطرب وهو يغني رغم أنها كانت بين الجمهور بعيدة عنه بفواصل متعددة.
* * *
على كل فان من الواجب ان نشير الى ان الجرأة على جسد المرأة على هذا النحو واسوأ منه، شاع في كل مكان، وفي هذا العمر، حتى اصبح " تقليدا عالميا".
حدث في مبارة نسوية لكرة القدم بإحدى الدول الأوربية، ان قفزت لاعبة لضرب الكرة، فإذا ببعض ملابسها السفلية، يسقط عنها، فظهرت على ما يكره الإنسان ان يظهر عليه فإذا بكاميرات المصورين، تتزاحم وتتراكم عليها، متسابقة لالتقاط المنظر، قبل ان يزول ويفوت.

لقد دارت هذه الصورة، على الكرة الارضية، كما تدور الأقمار الصناعية الان، وتزاحمت الصحف على نشرها، كما تزاحم عليها المصورون من قبل، حتى ان مجلة أدبية لم تتورع عن نشرها، " لإتحاف" قرائها بها، على الرغم من ان المنظر، يتعلق بسقطة وزلة قدم، لا بعرض راقص في بار، وكانت صاحبة الصورة، في وضع الضحية المحتاجة الى الإسعاف، ومن الإسعاف ان نبادر الى سترها لا الى فضحها.

وفي الألعاب الرياضية ومناسباتها، يجد المصورون فرصتهم المفضلة، لإشباع عبثهم بأجساد النساء والارتزاق من ذلك بالتفنن في اصطياد الصور المفرطة في الخلاعة، الغالية الثمن المروجة لصحفهم اكثر. وهذا واضح فيما يقع، في مهرجانات العاب القوى، حيث يتهافت المصورون، على أجساد الرياضيات، كما تتهافت الغربان على الحيف، لالتقاط اقبح الحركات. ولا يختارون للنشر منها، الا ما كان ابعد عن الرياضة، وادخل في الخلاعة ولم يحدث ان رأينا صحيفة رياضية، تتوزع عن نشر هذه المناظر المناكر، التي يجتهد المصورون، في التقاطها وانتقائها.

الا ان هذا كله، على شدة قباحته، يبدو هينا، إذا قارناه، بما يفعله مخرجو السينما الذين يصنعون بأجساد النساء، نفس ما يصنعه تجار الدعارة، من غير فرق وزادنا الفكر المعاصر، فقدم لإباحة هذا والرضى به، عذرا هو اقبح من الزلة حين برره بحرية الفنان، في التعبير وتصوير الواقع وان كل هذا يجب ان يحترم ويستحسن، لانه من " الفنون الجميلة".

فإذا قرانا ما يردده المثقفون اليوم، فيما يكتبونه في عصرنا، عن المخرجين المشهورين بالجرأة على أجساد الممثلات، فاننا نجدهم يضفون عليهم ما يشبه الحصانة والعصمة، في كل ما يبدعونه من مناكر، في هذا الموضوع.
والا فأقرأ ما يكتبه النقاد اليوم، عن المخرجين المشهورين بالخلاعة، مثل السويدي برجمان والايطالي بازوليني والمصري يوسف شاهين وغيرهم، واقرا مثالا لذلك ما استقبل به بالنقاد، احد المخرجين المغاربيين، الذي فكر، ليبدع إنتاجا يرفع الكساد عن السينما المحلية، فلم يجد الا ان يدخل الكاميرا، الى حمام النساء في بلاده، ويضع ذلك الشريط الذي تزاحم عليه الجمهور، وتسابقت عليه المهرجانات في اوروبا، تمنحه الجوائز بسخاء لانه " أتحف" الناس هناك في الغرب، بنماذج من الخلاعة، مستوردة من الشرق، استخرجها لهم، من الحمامات الشعبية.

لقد نال هذا " المبدع" بعمله هذا، اعظم التزكية، واعظم الثناء داخل بلاده وخارجها بالخصوص، مكافأة له على انه لم يستحي، فصنع ما شاء له هواه، ونقل لجماهير العالم، أسرار حمامات النساء.
لقد بلغ من تعسف المخرج وجرأته ان استفز بإنتاجه، نساء وطنه، فعقد معه الاتحاد النسوي لبلاده ندوة لاتهامه صراحة بابتزازه البذيء " لجسد المرأة" من خلال تصويره غالبية مشاهد الفيلم، في حمامات النساء، وعلى الرغم من ان المخرج، لم يستطع ان يقدم جوابا يبرر ما صنعه، فان اللواتي حاكمنه، لم يستطعن أن يدنه بشيء فخرج فائزا ببراءة ضمنية، تجيز له ما فعل، رغم ثبوت إدانته!

ويبدو ان الإقبال الكبير، الذي حظي به الشريط، من الجمهور في بلاده، وخارجها، على الرغم من انه محلي، وكذا الجوائز التي نالها في المهرجانات العالمية، أفحم الاتحاد النسوي في بلاده، بكل ماله من سلطة ونفوذ، فلم يستطع ان يدينه، ولو بالتوبيخ والاستنكار، لانه مما لا يستساغ ان يستنكر النساء عملا فنيا حظي بالإقبال في أوربا، لان هذا سيجر عليهن، تهمة الرجعية والتخلف، وهي تهمة يجب اجتنابها ولو بقبول الابتزاز البذيء من المخرج لجسد المرأة وهي الصيغة التي عبرن بها، عما فعله في شريطه، بمواطنات بلاده!
* * *
ويجوز أيضا ان نذكر، ضمن العوامل والأسباب التي تجرئ هؤلاء السفهاء على حرمة النساء ما يصنعه لهن تجار الملابس من أزياء الموضة.
فاذا كان من المسلم ان الإنسان لا يمكن ان يحترمه الغير، الا اذا احترم نفسه، فان قبول النساء لما يصنعه تجار الأزياء وتلقيهن لذلك بالرضى والترحيب، لابد ان يكون من نتائجه الا يجد المصورون ومخرجو السينما، أي مانع أدبي او قانوني، يعصم النساء من عبثهم، وان يوغلوا في ذلك، الى ابعد حد.

هنا نصطدم بحقيقة لا مهرب منها ولا مفر، وهي ان رضى المرأة، اكبر دافع وحافز ومشجع لهؤلاء، على ان يفعلوا بها، كل ما يزينه لهم هواهم، وان يبالغوا في ذلك حتى يصلوا فيه الى حد أخال الكاميرا الى الحمام رغبة في انتاج شريط، يرفع الكساد الذي تعاني منه السينما المحلية، ان مطاوعة المرأة في هذا كله، هو سبب الاسباب، ومصدر المصادر.

فمن يستطيع ان يجادل في ان بإمكان النساء اليوم، وقد اصبح لهن تكتلات وتجمعات ومنظمات، تقرر وتوصي وتحتج، وتأمر وتطاع، في كثير من الاحيان، ان يتدخلن، لمنع هذا العبث، وردع القائمين به، او حصره في حدود معينة، على الاقل، فحتى اذا سلمنا، وجارينا انحراف الحضارة الغربية، فيما تراه، من ان التعبير عن الجمال في المرأة لا يكون الا بعرضها مسلوخة كالذبيحة، فان الذوق والنظام، يقتضيان ان يبقى ذلك محجوبا، في المتاحف والمعارض، ويأبيان ان يرى الناس، في جلساتهم العائلية، أسرار علب الليل، ولقطات السينما الخليعة، بمناسبة نقل مهرجان للألعاب الرياضية،او مناسبة الدعاية لمشروب او صابون !

وعلى الرغم من أننا ملزمون بتراث هائل من الأخلاق العائلية، كالحياء والعفة والغيرة، وغيرها من الفضائل الفطرية الدينية التقليدية، فان نشاطنا النسوي، راض كل الرضى، عن هذه المناكر والتعسفات، التي تقع صباح مساء على حرمة المرأة، في جسمها ومعنوياتها، من غير ان نسمع احتجاجا او استنكارا، يحد من هذا او يمنع انتشاره على الأقل.

وكما هو واضح، فان مجرد كون ذوق الحضارة الغربية، يرضى للنساء بهذا الاستغلال ويصنفه ضمن الفنون الجميلة، كان كافيا، لان يتلقى نساؤنا، كل ما نراه اليوم، بالقول والرضى، ان لم نقل بالاعتزاز، على اساس انه دليل على التحضر، والالتحاق بركب الحضارة الغربية في أوروبا.

ولقد هالني ان قرأت تقريظا للشريط المغاربي الذي أشرنا اليه، بقلم نسوي، يثنى خيرا على المخرج، لانه في نظر الكاتبة، وبعبارتها: استطاع بشاعرية كبيرة،ان يصور اشياء يعرفها بخصوصيتها وضحيتها. لقد جاء الفيلم معبرا عن اتجاه فني معين، وهو السينما الواقعية التي كثيرا ما بشر لها المخرج... ورغم الانتقادات التي وجهت للفلم، من جهة مبالغته، في عرض أجساد النساء في الحمام، كأحد المواضع المحرمة، في السينما العربية، فقد لقي إقبالا جماهيريا في جميع الدول التي عرض بها، اذ انه حقق نجاح تجاري، في تاريخ السينما التونسية، ووصل عدد الذين شاهدوا الشريط في باريس الى 150 ألف مشاهد …الخ (1).

هذا ما تقوله كاتبة عن شريط سينمائي يدخل الحمام، ليكشف النساء للجمهور، ويتاجر بذلك، لتحقيق اكبر دخل للسينما في بلاده، وفي كلامه نرى ذلك السبب الذي قلنا انه منع النساء في بلاد المخرج، من ادانته، مصرحا به، حين تحتج لتقريظها للشريط، بانه حقق اكبر نجاح جماهيري، محليا وفي فرنسا بالذات، فحيث لقي نجاحا في باريس، فقد تطهر من كل عيب، ومن كل محرم شرعا او عقلا !!!

فهناك في الغرب، يقرر ما هو حلال وما هو حرام، بصرف النظر عن أي مرجع، او أي معيار اخر، وأولئك هم الذين يصوغون ويطبخون لنا أفكارنا ويحوكونها، على النحو الذي يحكون لنا الأزياء التي نلبس، ويطولون فيها ويقصرون، وعلينا ان نلبس ماحاكوا، وان نتجرع ما طبخوا ثم علينا ان نقول ما أحلاه، وهو يقطع امعاءنا؟ فهل سجل التاريخ، تخلفا عقليا كهذا؟ ! ألا ترى ان الاستلاب والتغريب، أصاب البعض منا، بأمراض يصعب تشخيصها ثم متى كان الإقبال الجماهيري، دليلا على الجودة والصلاح، اذا صح هذا اذن، صح ان نحكم بصلاح وجودة الفنون الخليعة، في علب الليل، والمسرح التجاري، وسينما البورنو، ونمجد اصحابها، لان هذه الفنون، تحظى بذلك الرواج المفرط الذي يدل على أصحابها الملايين، بل يجب بناء على المعيار، ان نحكم بصلاح المخدرات، ونمجد أصحابها وتجارها، فلا يكون هناك سبب، لان نحاصرهم بتلك العقوبات الشديدة، التي تصل أحيانا الى الاعدام !
--------------------
(4) صحيفة 8 مارس ع. 57. مارس 92 - ص : 14.
-------------------
ولدينا في المغرب مثال يستدعيه المقام، لا يمكن ان نعطي هذا الموضوع حقه، دون التطرق اليه، انه عريضة " المليون توقيع" التي جاءت لتفرغ المسدس كله، في قلب الاب والزوج، وسلطتهما في الاسرة، وتركت السفهاء، يمارسون على المراة، كل ما تسوله لهم أهواؤهم المريضة، وأغراضهم التجارية، وكأن النخبة التي صنعت العريضة، وقرعت بها أبواب السلطات الرسمية، تجهل ان ما تعانيه النساء خارج الاسرة ابتداء من الشارع، الى الادارة والمعمل، لا يقارن ابدا، بما يمكن ان تعاينه، من السلطات العائلية، مهما تكن الاخطاء التي يمكن ان تأتى منها.

لعل الكثيرين يجهلون ان سلطة المشغلين في عقود العمل العامة والخاصة، أقوى من سلطة الاب او الزوج في عقد الزواج، بوجه تزري به المقارنة، كما لا يمكن ان يقال السيف أمضى من العصا!

والا فأين علاقة التبعية التي تطبع عقد العمل وتميزه من علاقة المودة والرحمة التي تطبع العلاقات داخل الأسرة، وأين سلطة الاب المفعمة شفقة، وسلطة الزوج المفعمة مودة ورحمة، من سلطة رب العمل، المفعمة جبروتا وقسوة، وأين موقف الزوجة امام زوجها، تطالبه ببعض حقوقها، في عزة ودلال، من موقفها، امام رئيسها في العمل، تطالبه ببعض حقوقها القانونية، في ذلة وصغار، ما يجره عليها ذلك، من أطماع خبيثة، لا يمكن ان يسلم منها بشر، في مثل هذه الأحوال !؟
وأين حال المرأة وهي سيدة آمرة في بيتها من حالها في مكان العمل، وهي خادمة مأمورة تطيع ولا تطاع، مهما تكن مركزها، وبطبيعة الحال، ومن غير حاجة لان نفصح عن نتيجة تنبئ عنها مقدماتها، فانه لا عاصم للمرأة من شطط رئيسها في العمل، وفي هي ملزمة بالإذعان ، بقوة القانون، حين يريد منها مالا يجوز ان يطلبه وما لا يجوز ان تعطيه، ولذلك فان جميع الفروض السيئة هنا واردة راجحة!

وبجانب علاقة التبعية وكل ما فيها، فان هناك عرافا خفية، تذعن لها المرأة في عقود العمل، وتعتبر شروطا عرفية، مدخولا عليها، من ذلك ان العرف جار على ان المرأة عاملة او موظفة، ملزمة بمؤهلات اخرى، شكلية بدنية، في كثير من عقود العمل، حيث نجدها هنا ملزمة بان تتجمل لمشغلها وزبنائها اكثر مما تفعل لشريك حياتها.

وفي بعض المهن التجارية يعتبر هذا مؤهلا جوهريا من الضروري ان تحرص عليه المرأة، إذا أرادت ان تضمن قبولها في العمل، وان تستمر فيه. وهذا يطلعنا على ان المراة، مطالبة هنا " بالكفاءة الجسدية" اكثر من الكفاءة العقلية.

وهناك مهن تشترط على المرأة، درجة عالية من الحسن الجسدي، فلا تحظى فيها بالقبول الا بعد ان توزن وتقاس طولا وعرضا ومحيطا، وهي شروط تنزل بها الى ما دون مستوى الآنيان، ولو انها محبوبة عند الكثيرات.

وهناك نجد المشغلين يلزمون المرأة، بشروط جمالية،لا يشترطها الأزواج في شريكات حياتهم، على الرغم من ان هذا النوع من الشروط، لا موضوع له في عقود العمل التي يجب ان تقوم على الكفاءة المهنية وحدها
وفي عقود العمل الواردة على الفنون الجميلة، نجد معايير القبول، شبيهة بتلك التي يستعملها الجزارون، لاختيار ذبائحهم، وإلا فهل رأيت نجمة في سماء الفن، خالية من هذه المؤهلات الجسدية المغرية؟!

من تفسير الواضح اذن ان نقول، ان البلاء والعناء هو ما تعانيه المرأة خارج الأسرة في عقود العمل، بجميع انواعها، لاسيما تلك التي لا تخفى، انها تستأجر منها مزاياها الجسدية، لا مزاياها العقلية، وخبرتها العلمية، فتضع لقبولها شروطا، تعود بها الى عهود النخاسة والاسترقاق.

ومن الواضح آيضا، ان هذا هو ما كان يجب ان يغضب ويلفت النظر، قبل اي شيء اخر، لحمل السلطة التشريعية على ان تتدخل لوضع ضوابط في عقود العمل خاصة بالنساء، تحميهن من الإذعان، لتلك الشروط المهينة، وترفع عنهن ذلك الغبن الخطير، الذي يصيبهن في معنوياتهن بالخصوص.

واذا كان الغربيون الذين صنعوا قانون العمل، في شكله الحاضر، ونقلناه عنهم، قد أغنوه بما يكفي من تلك الضوابط الخاصة بحماية العامل، من الإذعان والاستغلال الاقتصادي، فانه لم يكن يجوز ان ننتظر منهم ان يضعوا ضوابط خاصة بالمراة، لحمايتها مما ذكر لنقتبسها منهم، لان القوم هناك، كما ذكرنا عالجوا مشكلة العرض وهمومه وغمومه، بقتله ودفنه، حتى أجاز قانونهم واعرافهم، نوعا من عقود العمل المتعلقة بالفنون، هي الدعارة بعينها.
ام ان هناك من سيرد علينا، في كل هذا، بالتكذيب التام، حسب طريقة البلاغات الرسمية، على اساس ان المرأة واعية حافظة لنفسها، وان الرجال أيضا واعون، وان الكل يتصرف تصرف الملائكة الذين لا يعصون الله؟ !

اذا كان الغربيون، بكل حضارتهم وثقافتهم، وذوقهم الرفيع، وتأدبهم اللطيف مع نسائهم، يعانون مما سموه" بالتحرش الجنسي" حتى في الأسلاك العليا اللوظيفة، وبين علية الموظفين، فماذا نقول نحن، عن إدارتنا العامة والخاصة وحالها كما نعرف؟ !

أظن اننا يجب ان نخرج من هذا، باقتناع يقيني بان هناك عقود عمل، لا يجوز ان يكون لها وجود في مجتمعنا، وفي مقدمتها عقود الإشهار التي تستأجر مفاتن المرأة لجذب الانتباه الى البضائع، وكذا بالأولى عقود الفنون الجميلة التي تفعل نفس الشيء على نحو مكبر، كما وكيفا، ونظرا لان العرض هنا يسبق الطلب، في كثير من الأحيان، فان الانضباط المطلوب، يجب ان ياتي من المرأة، قبل غيرها، بان تمتنع من عرض كل خدمة من هذا النوع، مهما كان الطلب، ومهما كان الثمن!

ولكن هل يقبل منا البعض، ان نقترح مثل هذا؟ ما أظن الا ان هناك، من سيستخف كل هذا الكلام باسم التمدن والتحضر، لان معيار الحضارة كما صنعه الأوروبيين بعد ان قتلوا العرض، يقتضي ان يكون لكل دولة متحضرة، " ثروة قومية" من المفاتن النسوية، تأخذ منها ما يجب، لتجهيز النوادي الليلية الضرورية لازدهار السياحة، وكذا ما يجب لازدهار الفنون الجميلة، من الراقصات والممثلات، وما يجب لاقامة مسابقات الجمال، في المواسم المختلفة الخ..

ولا باس بكل ما في هذا، من استرقاق للمراة، واستغلال بشع لعرضها لان الحضارة الأوربية استطاعت " تبييض" كل هذه المناكر، بفلسفات مادية تحلل كل حرام في هذا الباب، وتقنع بان المال أهم من العرض واغلى. وعلينا نحن، وقد اتخذناها قدوة ان نقلد ونطيع، مهما كان الثمن الذي يجره علينا هذا، والخسائر التي نتحملها في ديننا ودنيانا !!!

هنا يتأكد لنا ان كل نراه ونسمعه، من أفعال واقوال في هذا الموضوع لا يسعى الى صيانة حرمة المرأة وكرامتها، بقدر ما يسعى الى اركابها في قطار الحضارة الاوربية، سواء سار بها الى الأمام، او رجع بها القهقرى الى عهود النخاسة والاسترقاق او اقبح.

وهنا يجب ان يسمح لنا من يعتبر نفسه معنيا بهذا الكلام، لنصارحه بانه اذا كان المقصود، من تحرير الفتاة، من سلطة الأب، هو تمكينها من الدخول في هذه المعاملات العصرية، وإبرام مثل هذه العقود، فان هذا سفه، يوجب التحجير لا التحرير!
* * *
وليس هذا فقط، فحتى اذا تجاهلنا هذا الباب المستور، فان أمامنا جانبا آخر اخطر يتجلى فيه ما لاحظناه، بوجه مفضوح، لا عذر فيه لمتجاهل او ساكت.
المقصود هو هذا الانحلال البشع، الذي أضرم في الاخلاق نارا، لم تحاول منظماتنا النسوية اطفاءها، ولو بنفخة لطيفة كتلك التي تطفئ بها الشموع، على الرغم من ان المرأة هي ضحيتها الاولى!
وكان المصيبة هنا ليست مصيبة، والا فهل رأيت ما تعانيه اخلاق الأسرة، من ازمات قاتلة، يكون ذات يوم، موضوعا للبحث والمناقشة، في مؤتمر او ندوة نسوية ؟ّ!

ويلفت النظر من ذلك، هذه الحرية الواسعة التي يحظى بها تجر الدعارة، في كل مكان، بل هذه الحماية التي تعتبرها بعض أوكار الفجور السرية والعلنية، لا سيما المتسترة وراء مرافق السياحة !
هل نحتاج لان ننبه، الى ان المرأة أصبحت تستعمل طعما، لاصطياد العملة الصعبة من أجلاف السياح، وان الذين يديرون المقاولات المروجة لذلك، يحظون بحماية تشبه الحصانة؟

وهل تحتاج لان ننبه الى هذه الأرقام القياسية وفضائحها التي تتفجر من حين لحين، كالقنابل التي تصم الآذان؟!
فكيف يسوغ السكوت عن كل هذا، والانتباه الى بعض الأخطاء التي يمكن ان تصيب البنت، من سلطة الوالد، او الوالي بوجه عام والحال ان أيدي الفجار، تبطش بالنساء في كل مكان، من غير حد ولا ضابط، وبحرية مطلقة تلفت النظر؟ !

هنا استطيع ان ادعي والواقع دليلي، ان اللواتي يتعرضن للإكراه على الفسق بجميع أنواعه، اكثر من اللواتي، قد يتعرض للاكراه من الوالد على الزواج، مع ملاحظة انه لا يفعل هذا، الا اضطرارا وغيرة، حين يرى ما لا يمكن دفعه، الا بإجراء من هذا النوع !

ومثال الاب الذي يكره بنته، على ن تتزوج رجلا، غير مكافئ لها في العمر، طمعا في ماله، لا وجود له بالكثرة التي تشخصها السينما والمسرح، هناك حقا، في بعض البوادي، أعراف تتساهل في معيار السن فتزوج الصغيرة للكبير، من غير حرج، ولكن هذا غير منعدم في البيئات المتحضرة الراقية نفسها، حين يكون الزوج، ذا مركز في المجتمع، من حيث المال او الجاه او الشهرة او غير ذلك، على ما ترويه الأخبار من حين لحين.

وقد ساقت الى المصادفة، وأنا اكتب هذا، خبرا في مجلة، يتحدث عن مراهقة من الطبقة الراقية، تعلقت بفنان في عمر والدها، وذي زوجة وأولاد وهددت بالانتحار اذا استمر الأب في معارضة زواجها منه. وهنا نلاحظ كيف ان البنت، هي التي تسعى لإكراه والدها، على ان تقترن بشخص يكبرها، وذي زوجة وأولاد.
وليس من أفعال الرشداء ان نصرح ونعول بالاحتجاج، حين تقع هذه المفارقة في بعض عقود الزواج ونتعامى عنها ونسكت، وهي تتكرر يوميا في مقاولات الدعارة، حيث يسوق تجارها، سوق الأغنام، فلذات الأكباد من صبايا أواخر القرن الحال الى شيوخ من مواليد القرن الماضي، لا مزية لهم الا جيوبهم المتضخمة كبطونهم !

ام ان هناك من يريد منا ان نحمق، كما حمق الغربيون، فنعالج مشكلة العرض وهمومه وغموضه بقتله ودفنه، على النحو الذي فعلوه واستراحوا وحينئذ فلا مانع، من أضعاف السلطة الأبوية وإزاحتها، بل يجب القضاء عليها نهائيا، لثبوت انها اكبر عائق لنشوء فنون الحضارة الأوروبية وازدهارها، لان كل اب مهما كان، لا يرضى حين يرجع الى فطرته السليمة، ان يرى بنتا له بين ايدى أساتذة الرقص، او مخرجي السينما، يشتقون من جسدها من فنوف المجون ما يملأ خزائنهم ويملأ المجتمع فسادا وانحلالا.!

وقد ساقت الى المصادفة، مرة اخرى، خبرا في مجلة، يروي ان أحد كبار نجوم الغناء في أوربا، دخل في صراع مع ابنته، حين بادر الى تانيبها، على ظهورها في أوضاع غير لائقة، ببعض المجلات، كما حاول منعها، من ان تصبح عارضة للأزياء الخ

ولم يفت الخبر ان يشير الى ان البنت تحدت الوالد بأنها تجاوزت سن الرشد ولم يبق له الحق في التدخل في حياتها، بعد ان خرجت من ولايته. وهو جواب قانوني لا يسع الوالد حسب مقتضيات التشريعات الوضعية الا ان يذعى له ويسكت!

ولا ريب ان ابا من أهل الفن، أدرى الناس، بما لابد ان يجري على بنته، حين تدخل دنيا الفن ولا ريب ان هذا الوالد سيجر على نفسه تأنيبا قاسيا من نقاد الفن وتجاره الذين لا يعادون شيئا كما يغادرون السلطة الأبوية، وتدخلاتها التي بها، يمكن ان يجد الإنسان شريكة للحياة، جديرة بان تكون اما لأولاده، وإلا دخلت فورا تحت طاعة سفيه، يحولها الى "مشروع سياحي"، يلهو به الناس، في احدى علب الليل او غيرها، بترخيص من السلطة، وعقد عمل، يخولانه ذلك " بقوة القانون"، وهذا على احسن الفروض!
* * *
لم نخرج عن الموضوع، وان بدا ذلك، لأننا اذا رجعنا الى قراءة الحكم الذي نحن بصدده، بعد كل ما تفرع اليه الكلام، من اجتماعيات وفنيات، ازددنا يقينا، بتهافت القانون الوضعي، وتناقضه وتخلفه، في معالجة قضية العرض، وحرمة الجسم البشري، وتفاهة الضوابط التي وضعها لذلك اذ مما يدخل في الموضوع ان نجري مقارنة بين منطوق الحكم ووقائعه، وبين " المحاكمة الأدبية او الحبية" التي تعرض لها صاحب الشريط المشار إليه، من الاتحاد النسائي لبلاده، والبراءة الضمنية التي خرج بها، على الرغم من بشاعة " التهمة" وعلى الرغم من ان المخرج، لم يستطع ان يقدم مبررا مقنعا لما فعل.

وهذه المقارنة، ليست نشازا، على الرغم من الفروق الواضحة بين الحالين، لان هناك مناسبة جامعة، هي ان القانون الوضعي، وتعاليم الحضارة الاوربية، هي التي تحكم هنا وهناك.

اذ ان من المفارقات المضحكة المبكية، ان نرى في الحكم، شخصا يبادر الى رفع دعوى، لطلب التعويض، عن سرقة وجهه واستغلاله، من شركة تتاجر بالصور ويحصل من المحكمة على " إدانة مدنية" بالحكم له بالتعويض، بينما نرى أحد تجار السينما، يقوم بسرقة عورات النساء ليتاجر بها، ويحقق اكبر ربح، في تاريخ السينما المحلية، ويسكت الجميع عن هذا الاعتداء الخطر، الذي يضرب المجتمع في الصميم، ويسئ الى حرمة النساء إساءات موجعة قاتلة، لاحد لأثارها، ويعجز الاتحاد النسائي المختص، عن إدانته، ولو بالتوبيخ القولي، تم يصبح هذا الفاعل بما فعل، عبقري بلاده وفنانها المبدع، وان يكون بين مادحيه أقلام نسوية.

ويستدعي المقام، ان يتساءل الانسان، عن الطريقة التي توصل بها المخرج، الى إدخال الكاميرا الى الحمام، ليصنع ما صنع، فهل استأذن النساء ليدخل عليهن ويصورن بحالتهن، فقبلن ذلك، وطاوعته على ما يريد، على اساس ان يقوم بعمل فني، ومشروع تجاري، يجلب المال والشهرة الفنية للبلاد.

هذا احتمال بعيد لان النساء التقليديات الشعبيات يستحيل ان يقبلن هذه الدنية،لأنهن بأميتهن، مازلن لحسن الحظ، بعيدات عن مفاهيم الحضارة الاوربية، التي تجعل مثل هذا المنكر، فضيلة محمودة.

لم يبقى إذن الا ان نرجح، ان يكون المخرج، قد فعل ما يجب، واتى البيت من بابه، فاستأذن السلطة واصحاب الحمام، وهيأ طاقما نسويا من الممثلات المنتخبات، وتلا عليهن أدوارهن لتمثيل حال النساء في الحمام، وتشخيص ذلك الواقع، الذي لا يجوز ان يرى ويعاين…

هنا ستقول الحضارة وقانونها الوضعي، انه لا اعتداء على حرمة أحد يبرر الاعتراف والاحتجاج، لان هناك إذنا واتفاقا قبليا، وهنا نقول ان المصيبة اعظم واخطر، لان هذا يعني ان هناك نساء متعلمات متحضرات، قبلن ان يتعاقدن مع المخرج، لاستغلال أجسادهن، لانتاج تلك المناظر الوقحة التي لم يتردد الاتحاد النسوي في بلاده في وصفها " بالابتزاز البذيء لجسم المرأة" وان كان قد قبل هذا الابتزاز وأجازه، بعد ان جلب المال وجوائز التفوق.
* * *
بل ان الموضوع ليأبى الا ان يعود بنا، ونحن نختمه، الى ما بدأنا به، وهو تهافت القانون الوضعي، وإخفاقه في حماية العرض، وتفوق الشريعة الاسلامية واحسانها فيما وضعته من ضوابط، وتشريعات سامية تحقق هذه الغاية بإتقان.
فقد فاتنا ان نشير الى ان من جملة الوسائل التي حرص عليها الإسلام، في هذا الباب، انه استعمل خطة في التقنين، ثبات الضوابط الفطرية التي وضعها والزم بها، بحيث لا يستطيع الناس ان يخضعوها لأهوائهم، على مقتضى التطور الذي يلحق السلوك والأفكار بمرور الزمان وتفاعل الحضرات وتلاحقها.

كان من هذا ان الشريعة الإسلامية، حرصت على ان تضع المحرمات الحامية للعرض، وأخلاق الأسرة، كبراها وصغراها معا، في اعلى مصدر تشريعي، وهو القران الكريم، الذي نجد فيه، بجانب النصوص الناهية، عن الفواحش الكبرى، نصوصا اخرى للنهي عن المحرمات الصغرى، المؤدية الى تلك الفواحش، ومنها الايات الآمرة بغض البصر!

واذا عبرنا عن المقصود بلغة القانون اليوم، قلنا ان الشريعة الاسلامية، حرصت على ان تقنن هذه المحرمات، بنصوص دستورية، لا يمكن ان ينالها أي تغيير او تعديل، ولا يمكن ان يتسلط عليها، أي اجتهاد يرمي الى التحلل منها بأي تأويل.

اذ اننا اذا اعتبرنا القران الكريم دستورا، وجب ان نعتبر نصوصه دستورية، لا يمكن نسخها الا بنصوص في قوتها، وحينئذ فلا يمكن ان نتصور هذا النسخ الا اذا تصورنا إمكان ظهور نبي جديد يستنزل قرانا جديدا من السماء وهذا فرض مستحيل شرعا.
والحكمة من ذلك، كما هو واضح هي ضمان الاستقرار والاستمرار، لهذه الضوابط النظرية لحماية الزواج والأسرة والاخلاق الخادمة لها، مهما طال الزمان وتطور الناس، وتفاعلت أفكارهم وحضاراتهم.
وكأن الإسلام هنا، عناية منه بهذه الاخلاق النظرية، وخوفا عليها، يخون العقل البشري ولا يأتمنه عليها، فرفعها الى حيث لا يمكن ان يدركها اجتهاده، اذا ظهر له ان يغير فيها ويعدل.
ويبدو الان ان هذا التخوين كان صوابا، لان الواقع زاخر بالدلائل، على ان العقل البشري، قد ينحاز للهوى ضدا على الحق، فتراه يؤيد الباطل وتراه يقدم لذلك، تعديلات خادعة، كأقوال النصابين!

الم يظهر مفكرون تجلت عبقريتهم، في هدم هذه الأخلاق الأنانية الفطرية الضرورية، واعتبارها وكذا مصدرها الديني، مجرد خرافات، سقط فيها الإنسان بجهله، ويجب ان يتخلص منها، بعلمهم الذي ابتكروه وزينوه بكل خادع من زخرف القول!

فحين يراجع الإنسان هذا التراث المتراكم، الذي انتجه المفكرون الماديون، الليبراليون منهم واليساريون، يجد نظريات وفتاوي علمية بمنهج دقيق، وبراهين خادعة، لا يكاد ينجو منها، الا راسخ في العلم، ذو عقل مسلح بالايمان، يعرف كيف يكتشف السم في الدسم !
ويبدو صواب هذا التخوين كذلك، وبوجه اقوى، حين نرى اليوم السهولة التي يتم بها نسخ المحرمات الأزلية وإلغائها داخل الهيئات التشريعية التي تضم النخبة والعلية أهل الحل والعقد من الناس.
اذ يكفي اليوم، تقديم مشروع قانون الى البرلمان، بإباحة محظور معين، لتراه يحظى بالأغلبية ويصبح تشريعا ملزما ولو تعلق بقلب حقائق الحياة، وتغيير مالا يجوز تغييره، من أحوال الإنسان!
ألم نقرأ في مراجع القانون الدستوري مرارا ان أحد برلمانات أوربا العريقة، يستطيع ان يفعل كل شيء سوى ان يحول الرجل امرأة او المرأة رجلا؟ ولكن مهلا، فان الزمان كشف ان قائل هذا الكلام، كان مقصرا، لان الانحطاط تطور بالناس هناك، حتى صار هذا الاستثناء نفسه، داخلا فيما تستطيعه البرلمانات الأوروبية، وفيما تشرعه.

وقد يتوقع الآنيان ان يجد لدى السلطة القضائية، ما يلجم السلطة التشريعية، حين تضل وتنحرف، فتحلل مالا يجوز تحليله، ولكن الواقع هو العكس، فحين يقرا الإنسان بعض الاحكام التي يصدرها القضاء في الغرب من حين لحين، عند الاحتكام اليه، فيما يتعلق ببعض الأعمال الفنية الخارقة للحياء يزداد يقينا، بان البشرية مهما بلغ بها العلم والتقدم والتحضر، غير مؤهلة لان تؤتمن على عرضها، وان الإسلام كان على صواب، حين خوفها من هذا الجانب.

ففي هذه الأحكام، نجد وقائع، تتحقق فيها كل الاركان المكونة لتلك الجرائم التقليدية، المقصود بها حماية اخلاق المجتمع، مثل الإخلال بالحياة، والتحريض على الدعارة، وإفساد الشباب وغيرها. وعلى الرغم من هذا تصدر الأحكام فيها بالاباحة والاجازة، بتعليلات تحس فيها بالمباهاة بالتضحية باخلاق المجتمع كله، فداء لحرية سفيه يريد ان يعبر عن نزواته المرضية، وان يتكسب بذلك ويغتني.
ويزداد العجب حين نجد السلطة الرابعة، تبادر الى تزكية هذه الإباحيات وحمل الرأي العام على الاقتناع بها، فنرى اقلام الكتاب البلغاء، تتنافس في الدفاع عن كل منحرف، يريد ان تشيع فواحشه بين الناس.
* * *
فماذا بعد كل هذا، وما هي النتيجة والعبرة التي يجب ان يخرج بها العاقل؟
في كل ليلة اليوم، تنعقد في الدول المتحضرة، مآت بل آلاف الحفلات، والحلقات الفنية.
تقوم في جوهرها، على استغلال الأعراض، في صورة مقاولات تؤجر فيها المرأة جسدها،لانتاج فنون من المجون، في شكل عروض للرقص او التمثيل، في دور اللهو والمسرح والسينما يتحلق حولها الناس يستهلكونها بعد اداء ثمن مقاعدهم، وبرضى المجتمع بغوغائه وعليته بهذا، ويراه من مظاهر التحضر والتقدم، وتحسب حين تأخذ في احصاء عدد دور اللهو، التي تشتعل أضواؤها كل ليلة، وعدد الأجساد المعروضة فيها، ان الرجال هناك، اتفقوا على تسخير كل ما لديهم، من أمهات وبنات وأخوات، لهذا النشاط الليلي العاري، الذي لا تنقطع مواكبه.

ويقف الاسلام وحده، بنصوصه القرآنية المعصومة من التبديل والتغيير، ليسفه هذا كله، ويسمع الناس صوت الفطرة( في الآيات الآمرة بغض البصر) ويقول بان هذا كله ليس الا انتهاكا لحرمة الجسم البشري وان وقوعه على النساء ليس الا انتهاكا لاعراضهن، مهما كانت المظاهر التي يتلون بها، وان الغرض من القيم العظمى وأحوال الإنسان الخاصة التي لا تباع كما لا يباع الوطن، وكما لا تباع الحرية وان منظمي هذا ومؤطريه والأذنين به وآتمون مشاركون في الجرم، وان العقود الواردة على ذلك باطلة لا تنتج الا الحرام والفساد.

وبالنسبة للمسلمين، فانهم محجوجون بقرانهم ونصوصه فورا، ولا يحتاجون الى دليل غيره، ولا يستطيعون التحلل من مقتضيات واثر مخالفتها.

واما بالنسبة لغير المسلمين فان هناك معيارا لا يكذب ولا يحابى عند الاحتكام اليه، وهو الواقع وما فيه
يحتج منظرو فنون الحضارة الغريبة بان لها منافع اقتصادية ومعنوية روحية، ويلحون على ان هذه الفنون تهذب الذوق وتسمو بالروح وتصحح العلاقة بين الرجل والمرأة ليعيشا في مودة وسلام من غير كبت والاعداء.

فماذا يقول الواقع، فهل تعيش المرأة حقا في سلام، وهل تحظى بالاحترام من الرجل، ويعاملها بطريقة سوية خالية من العقد والتعقيد؟
الجواب حاضرو تقدمه جرائم العرض الواقعة اليوم على المرأة في اوربا وامريكا بانتظام وتصاعد مخيفين !

ان ظهور هذه الجرائم التي أخذت اليوم بحجمها وكيفها الوحشي، طابعا وبائيا في تلك المجتمعات التي تبيح كل أنواع الفسق، وتنفي كل انواع المحرمات الفطرية التقليدية، وعدم ظهورها بهذا القدر في مجتمعاتنا الشرقية التي ما تزال تأخذ ببعض المحرمات الدينية في أخلاق الاسرة، ثم ظهورها في مجتمعاتنا لاحقا بقدر ما نقتبس من سلوك الحضارة الأوربية باطراد لدليل من الواقع على ان الواقع يؤمن بالقران ويصدقه، ولو كره الكافرون.

ان من البلادة الا يدرك الانسان، ان تقديم جسد المرأة على هذا النحو، ليكون وسيلة للتسلية والترفيه، ليس الا نهبا واعتداءا عليها وعلى عرضها، يحرض على الأكثر والأقبح
فمن العبث الا يدرك الإنسان، ان هذا الاعتداء البصري له ارتباط ديني، بالاعتداءات الفعلية التي تقع على المرأة اليوم بوحشية حتى أصبحت ظاهرة مرضية. ذات طابع وبائي، كما تدل على ذلك، الإحصاءات والدراسات الكثيرة، المنجزة في الموضوع.

وليس ضروريا ان يكون المرء متخصصا في علم مالكي يشخص الحالة ويعرف الداء وسببه، فبإسراف فنون العصر، في كشف النساء، بذلك التوقح المعروف، سقطت هيبة الأنوثة وحرمتها، ولابد ان تسقط بسقوطها، حرمة المرأة، فلا يرى فيها الرجال الا وعاء للملذات.

واذا زدنا في هذا، ما تزيده أزياء العصر التي يتسع خرقها كل يوم، حتى صار حال النساء، غاديات في الشوارع، كحالهن في علب الليل او يكاد، تأكد ان من المستحيل ان تكون العاقبة، غير هذه الكارثة التي جعلت المرأة في الغرب المتحضر الراقي، معرضة للنهب الوحشي من الرجال، سوقتهم وعليتهم، وكأن الإنسان المتحضر لا يسعد بالمرأة، الا وهي مسلوبة، مأخوذة بالعنف والاكراه.!
فطبيعة تفاعل الاسباب والمسببات، تقتضي ان الاوربي الذي يقضي سهرة في عرض للبالي، على الطريقة الروسية، مثلا او عرض سينمائي، بإخراج سويدي او إيطالي او فرنسي، ( فقد تعددت الطبخات، التي يقدم بها أصحاب السينما لحوم النساء لجمهورهم)، لا يمكن ان نتصور ان يذهب بعد فراغه الى الكنيسة، ليتطهر ويستغفر، بل لابد ان يتجه بذهنه وبحركاته فورا وتلقائيا، ( بقانون الفعل ورد الفعل وباشر الأفعال الانعكاسية المعروف في علم النفس)، الى البحث عن ضحية يحقق تلك التخيلات، المحتشدة في ذهنه، من اثر تلك المشاهد، بوقاحة معادلة لوقاحة مرئياته، وبشراسة ( كلاب بافلوف) المشروحة في كتب علم النفس.

فأين الحاق والمحقوق والفاصل والمفصول في هذه المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، فيما يرجع لحرمة الجسم البشري، وفيما يخص جانبه النسوي المعرض للانتهاك اكثر؟
وماذا تفضل المرأة، وماذا يفضل الناس لأمهاتهم وأخواتهم وبناتهم، عند المقارنة بين قوانين وضعية تبيح المرأة للناس، من غير ضابط ولاحد، بين قانون سماوي يجعل مجرد الاقتراب منها بنظرة فضولية، اعتداء على كرامتها، قريب وشبيه بالاعتداء الفعلي على عرضها، لانه محاولة وشروع فيه، والواقع شاهد وحكم؟

*مجلة المحاكم المغربية، عدد 67، ص67.

تصفية التركة وقسمتها

للأستاذ محمد الرافعي
المستشار بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء

تمهيد :
موضوع تصفية التركة وقسمتها هو المقصود من دراسة علم الفرائض واما غيره من تصحيح مسائل الورثة فهو كله وسيلة لكيفية قسمة الاموال وايصالها الى اصحابها على قدر سهامهم (1).
وقد تعرض قانون الاحوال الشخصية المغربي لهذا الموضوع في البابين التاسع والعاشر من الكتاب السادس في الفصول :
270 الى 297. واحال في هذا الفصل الاخير على الراجح او المشهور او ما جرى به العمل من مذهب الامام مالك (2).
--------------------------
(1) انظر ص 221/ ايضاح الاسرار المصونة في الجواهر المكنونة لاحمد الرسموكي، وانظر كذلك ص 148/1 فتح القريب المجيب فقد نقل : " ولو قلنا هو ثمرة الفرائض ونتيجتها لم يكن ذلك بعيدا".
(2) الراجح ما قوى دليله، والمشهور ما كثر قائله، وما به العمل هو القول الضعيف الذي حكم به لقضاة العدل، وقد نظم ابو الشتاء ذلك فقال :
ان يكـــن الدليـــــل قد تقـوى فراجح عندهم يسمــــــــــــى
والقول ان كثر من يقول بـه يسمى بمشهور لديهم فانتـبه
والعمل هو الضعيف قد حكم به قضاة العدل رعيا للحكـــم
مشهورهم لراجح تعارضـــا يقدم الراجح وهو المرتضى
وقد العمل حيث ما جــــــرى على سواه مطلقا بلا مــــــرا
ص 40، منهاج الناشئين.
-------------------------
وبناء عليه سأتناول دراسة هذا الموضوع في مبحثين اثنين : الاول اخصصه لموضوع تصفية التركة اذ هو يسبق قسمتها على الورثة واخصص الثاني لدراسة تسليم التركة وقسمتها على الورثة. واركز في دراستي هاته على مذهب الامام مالك باعتباره المذهب الرسمي للدولة وأقارن ان اقتضى الحال بالمذاهب الاخرى.

وتجرد الملاحظة ان موضوع تصفية التركة وقسمتها تعرض له قانون المسطرة المدنية في الفرع العاشر من الباب الثالث المتعلق بالمساطر المتعلقة بالاحوال الشخصية وذلك في الفصول 243 الى غاية الفصل 262.
واحكام هذه الفصول تكاد لا تتعارض مع فصول مدونة الاحوال الشخصية الانفة الذكر اللهم الا ما كان من بعض الاضافات سأنبه عليها في حينها. والله الموفق للصواب.

المبحث الأول
تصفية التركة
من المعلوم ان التركة تتعلق بها حقوق غير حق الارث وهي تعطى بالاسبقية وحسب الترتيب المنصوص عليه فقها وقانونا (3).
ومن المعلوم كذلك ان حق الارث وهو في المرتبة الاخيرة لا ينقل لمستحقه شرعا الا بموت مالكه وبعد تصفية التركة (4).
------------------------
(3) انظر نص الفصل 218 من مدونة الاحوال الشخصية المغربية وانظر قول خليل : باب يخرج من تركة الميت حق. تعلق بعين …." وشراحه في هذا الباب. وانظر كذلك ص 23 وما بعدها من مذكرات الاستاذ الادغيري عبد السلام.
(4) الفصل 219 م ح ش.
-----------------------
أولا : فيما هي هذه التصفية ؟
في حياة الموروث تكون ذمته المالية هي اساس التعاقد، لكن بموته تنتهي ذمته، ويصبح ماله عليه من ديون للتركة وعليها فتكون لها الشخصية الاعتبارية في لغة القانون، لان الذمة عند المالكية لا تبقى عبد الموت لانها صفة من صفات الحياة فتزول بزوالها والدين يتعلق بالتركة نفسها لا بذمة الميت (5).
واذن الامر يحتاج الى عدة اعمال حتى تسدد ديونها وتنفذ وصاياها، ثم ما بقي بعد هذا يقسم على الورثة كل حسب نصيبه الشرعي .
فالمراد بالتصفية على هذا هي مجموع الاعمال التي غايتها حصر حقوق المتوفى والتزاماته واداء الحقوق المتعلقة بالتركة لاصحابها من الدائنين والموصى لهم والورثة (5 م).

وقد ذكر الدكتور يوسف موسى : ان الفقه الاسلامي عني عناية شديدة بما يسمى اليوم ( تصفية التركة) وذلك ضمانا لاصحاب الحقوق المتعلقة بالتركة حتى لا يبغي بعضهم على بعض ومن اجل هذا بين الفقهاء ما يقع على عاتق وصي الميت المختار من تبعات وما يصح او لا يصح من تصرفاته في التركة، كما قرروا ان للقاضي - بما له من الولاية العامة - ان ينصب وصيا اذا لم يكن الميت قد اختار حال حياته وصيا بعد وفاته" (6).
---------------------------------
(5) انظر ص 99/9 الوسيط للسنهوري. وقد ذهب الى اعطاء وصف الشخص الاعتباري للتركة الدكتور عبد الفتاح عبد الباقي قائلا :
" ان مؤدى قاعدة الا تركة الا بعد سداد الديون هو الا توزع اموال المتوفى على ورثته الا بعد وفاء ديونه، واذا ان الامر هكذا فان القانون يفترض بالضرورة وجود شخص تنسب له هذه الاموال الى حين توزيعها على الورثة ولايجاد هذا الشخص، علينا ان نختار بين امرين فاما ان ناخذ بما قاله الشرعيون من اعتبار الشخص بعد موته حيا حكما حتى تسدد ديونه، واما ان نقرر ان شخصية الانسان تنتهي بموته ولكن بعد موته يوجد شخص معنوي جديد هو التركة…. ومما يؤد الامر الاول هو ان الشريعة لا تعرف فكرة الشخصية المعنوية …. ولكنني أميل مع ذلك الى الاخذ بالامر الثاني واعتبار التركة شخصا معنويا يتملك اموال المتوفى ويلتزم بديونه حتى تسدد لان احكام القانون تشف عن الرغبة في اعتبارها شخصا معنويا …..".
انظر ص 67-68 نظرية الحق قلت : ما اشار اليه عبد الفتاح من ان فقهاء الشريعة يعتبرون الشخص بعد موته حيا حكما حتى تسدد ديونه هو مذهب الحنفية والشافعية لان الدين عندهم يبقى في ذمة الميت حتى بعد موته وهو احدى الروايات الثلاث عن ابن حنبل.
وما اشار اليه من نصوص القانون المدني الصريح تشف عن الرغبة في اعطاء وصف الشخص الاعتباري للتركة، نفس الراي يقال بالنسبة لنصوص مدونة الاحوال الشخصية المغربية وكذلك فصول المسطرة المدنية فقد ورد في الفصل 272 مثلا " لا يجوز لاي وارث قبل تصفية التركة ان يتصرف في مال التركة …" فهو قد نسب المال للتركة، وجاء في الفصل 279 " نفقات التصفية على التركة" …. الخ .
(5 مكرر) ( انظر الهامش رقم 1 ص 141 التركة والميراث في الاسلام للدكتور محمد يوسف موسى)
(6) ص 141، التركة والميراث في الاسلام.
---------------------------------------
وموضوع تصفية التركة قبل قسمتها متداخل مع ما يسمى في الفقه الايصاء بالنظر، فقد ذكر الفقهاء هناك شروط الوصي المختار وموجبات عزله، وما هي الاعمال التي له القيام بها الى غير ذلك من الامور التي تعتبر من قبيل تصفية للتركة (7).
لكن لفظ التصفية والمصفي دخيل على الفقه الاسلامي وان نظام التصفية الذي قننته القوانين الوضعية يختلف في بعض اموره عما عليه الشان في الفقه(*).

وقد ذكر ابن عبد البر القرطبي انه ( ينبغي للمرء ان يتخير الوصي لتنفيذ وصيته وللنظر على بنيه اذا اراد ذلك، واذا اوصى الى رجل غير مامون كان للحاكم ان يفسخ وصيته وينقلها الى غيره لان المال للورثة فاذا اخطا الميت في النظر لهم كان الحاكم ناظرا لهم … واذا كان في تركة المتوفى رقيق وماشية ودواب، فمن حسن نظر الوصي بيع الرقيق، ولا باس ان يحبس منهم للخدمة من فيه نصح وكفاية او من يصلح من الإماء للحضانة، واما دواب النتاج فان كان النظر حبسها لفضل نتاجها في ذلك الموضع وذلك الزمان حبسها الوصي على الايتام والا باعها وعوضهم ما هو اغبط، واما الماشية وهي الابل والبقر والغنم فان كان يدويا فكان في حبسها نظر وغبطة للأيتام حبست عليهم والا بيعت ونظر في ثمنها، واما الرباع والحوائط (7 م) فلا يباع شيء منها على يتيم الا عن حاجة او ما يخشى تهدمه او ما لا عائدة ولا مرد فيه او ما جاوره ذو يسار او سلطان فزاد في ثمنه زيادة بينة فيباع منه على ان يعوض الأيتام بالثمن ربعا يكون أبين نفعا … الخ (8).

وقد تعرض ظهير مدونة الاحوال الشخصية لمهام الوصي والمقدم في الباب الرابع من الكتاب الرابع والباب السادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر أعني الفصول 147 الى غاية 172 …
-------------------------------
(7) انظر قول خليل : وانما يوصى على المحجور عليه أب وصية كأم ان قل …. وقوله : وللوصي اقتضاء الدين وتأخيره بالنظر والنفقة على الطفل الخ وللتوسعة اكثر ننظر الصفحات 245 وما بعدها من الجزء الاول / مواهب الخلاف.
(*) انظر ص 64-65 وما بعدها من احكام التركات والمواريث للامام محمد ابي زهرة .
(7 مكرر) قال ابو الشتاء : واعلم ان الاصل هو الارض وما عليها من بناء وشجر، ثم البناء يسمى رباعا واصلا والاشجار تسمى بساتين وحوائط واصولا والارض تسمى عقارا لانها تعقر السكة والفأس وتسمى اصلا ايضا ص 256/1 مواهب الخلاف .
(8) انظر ص 1031 - 1033/2 الكافي في فقه اهل المدينة المالكي .
-------------------------------
ثانيا : كيفية تعيين المصفي
والمهم من هذا انه ليس للقاضي ان ينصب وصيا لتصفية التركة وتنفيذ ما عليها من حقوق اذا كان المتوفى قد اختار وصيا قبل موته (9).
وينبغي له ان ينصب مصفيا للتركة من ضمن من يتفق الورثة على اختيار ه والا أجبرهم على ذلك اذا راى موجبا لتعيينه على ان يكون من الورثة بقدر المستطاع وذلك بعد سماع أقوالهم وتحفظاتهم وذلك فيما اذا تعلق بالتركة حق عام او طلبه احد الرشداء من الورثة او كان فيهم قاصرون لا وصي لهم وكذلك اذا كان احدهم غائبا، لان القانون المغربي في الفصل 270 من المدونة والفصل 222 من قانون المسطرة المدنية أوجب على القاضي ان يتخذ عند الاقتضاء جميع ما يجب من الاحتياطات المستعملة للمحافظة على التركة. كما خوله بصفة خاصة الحق في ان يقرر وضع الأختام وايداع النقود والاوراق المالية والاشياء ذات القيمة، والمسطرة المتبعة في ذلك منصوص عليها في الفصول 221 الى 240 من قانون المسطرة المدنية المغربية (10).

وما يتعين عليه اتخاذه اعلاه يكون اما بمبادرة منه اذا كان في الورثة قاصر لا وصي له او كان احدهم غائبا واما بناء على طلب من وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية اذا كان الهالك أمينا عموميا، وفي هذه الحالة لا تتخذ الاجراءات المذكورة الا بالنسبة للاشياء المودعة وغرف المسكن التي توجد فيها، واما بطلب من القاصر، كما يمكن له ذلك اذا طلبها احد المعنيين بالامر وكان هناك ما يبررها " الفصل 223 من ظهير المسطرة المدنية".
----------------------
(9) انظر مقتضيات الفصل 157 و195 من مدونة الاحوال الشخصية فقد نص على ما يقوم به الوصي من قبل الاب من الاعمال التي يقوم بها المصفي وظهير المدونة المغربية لم يوجب على القاضي - كما هو الشان في القانون المصري المادة 878 - اقرار تعيين الموروث وصيا للتركة، بل كل ما في الامر انه نص في الفقرة الثانية من الفصل 151 : تعرض الوصاية بمجرد وفاة الاب على القاضي لتثبيتها" وحسنا فعل ظهير المدونة المغربية اذ هو بذلك ينسجم مع ما سار عليه الفقه المالكي والحنفي من ان المرء "المرء اذا اوصى الى رجل غير مامون كان للحاكم ان يفسخ وصيته وينقلها الى غيره" ص 1031/2 الكافي لابن عبد البر، وجاء في مختصر الطحاوي ما يشبه هذا حيث قال : " الاوصياء الاحرار البالغون على ثلاث مراتب : وصي مامون على ما اوصى به اليه مضطلع بالقيام به، فلا ينبغي للحاكم ان يعترض عليه فيما اوصى به ما لم يعلم منه خروجا عن الواجب فيه الى غيره …."
(10) ما ذكر اعلاه من الاحكام يتمشى مع ما سار عليه الفقه الاسلامي من للحاكم نصب وصي في ثلاث حالات: اذا كان في التركة دين او كان فيها وصية او كان في الورثة صغير وذلك للقضاء والتنفيذ وحفظ الصغير نفسه وماله. اداب الاوصياء على هامش جامع الفصولين ج 2 ص 99 نقلا عن هامش ص 142 التركة والمواريث في الاسلام للدكتور محمد يوسف موسى.
------------------------
ثالثا : مهام المصفي :
يعين القاضي للمصفي مهامه التي عليه ان يقوم بها برسم تعيينه الذي يحدد فيه علاوة على ذلك الاجل الذي يتعين فيه على المصفي ان يقدم نتيجة احصاء التركة ( الفصل 276-277 من ظهير مدونة الاحوال الشخصية) والفصل 246-247 من ظهير المسطرة المدنية)
ومن اول هذه المهام التي يتعين المبادرة بها قيامه باحصاء جميع ممتلكات الهالك بواسطة عدلين طبقا لقواعد الاحصاء الجاري بها العمل اذ يعين القاضي تلقائيا او بطلب كل من له مصلحة عدلين للقيام بذلك بحضور الاطراف او ممثليهم، واذ لم يتات استدعاء احد الاطراف لبعد او غيبة او غير ذلك عين القاضي من يمثله، ويشتمل رسم الاحصاء المذكور على التاريخ وبيان من قام به ومكانه والاطراف الذين طلبوه، وتعيين وتقويم الاموال العقارية ان وجدت والسندات والمنقولات والقيم والنقود ( ف 241 من ق م م (10 م) .

ورسوم التركة وتقييد المختلف عن الميت لا يكون حجة على غيره من توافقوا عليه من الورثة فان شهد عليهم بالحضور والموافقة كانت حجة على المتوافقين عليها دون غيرهم نقله في المعيار وعلله بان ما فيها مجرد حكاية وقع إملاؤه على العدلين ولا حجة فيه على غير المشهود عليهم بالموافقة (11).

ويجب عليه ايضا القيام بالبحث عما للتركة من ديون لها او عليها ( ف 249/2/ ق م م). واذا انقضى الميعاد المحدد لتقديم الاحصاء قدم قائمة مفصلة يثبت فيها جميع ما خلفه الهالك من عقار ومنقولات، ويجب عليه ان يثبت في هذه القائمة ما تكشف عنه اوراق الموروث وما هو ثابت في السجلات العامة من حقوق وديون وما يصل الى علمه من أي طريق كان ( ف 250 من ق م م وف 281 من مدونة الاحوال الشخصية) وعليه - اثناء التصفية القيام بما يلزم من اعمال الادارة والنيابة عن التركة في الدعاوى اذ تجري في حقه احكام الوكالة بعوض ولو لم يكن مأجورا (12). واستيفاء ما لها من ديون قد حلت وذلك بالطبع بعد اثبات الموجبات المنصوص عليها فقها. وهي اثبات موت الدائن وعدة ورثته واثبات الدين الذي له الغير وصدور الحكم بذلك لقول الزقاق .
ومن يدعي حقا لميت ليثبتن له الموت والوارث بعد لتفصلا
------------------------
(10) مكرر
(11) انظر شراح لامية الأحكام لدى قول الزقاق ولا يشمل الإشهاد بالحق مسندا لزيد على عمر وسواه من الحلا.
وانظر كذلك ص 217/3 ( المنهل العذب السلسبيل)
(12) الوكالة باعتبار لزومها بالعقد او الشروح وعدم لزومها بواحد منهما فيها تفصيل وحاصله ان كل وكيل مفوضا كان او مخصوصا ممكن عزله كما له هو ان يتخلى عن الوكالة ويعزل نفسه متى شاء وهذا اذا كان بغير عوض لان الوكيل بعوض من السبعة الذين لا يعزلون وهو المشار اليهم بقول الزقاق
سوى وكيل خصام ان نزاع تحصلا ولا عذر او ذي الاجر والعرس
الخ.
فالوكالة عن طريق الاجارة تلزم الموكل والوكيل بالعقد ان كانا راشدين طائعين، انظر ص 125 وما بعدها من الجزء الثاني لمواهب الخلاف.
-------------------------
ويقوم المصفي كذلك بعد استئذان القاضي وموافقة الورثة بوفاء الديون التي على التركة المتعين قضاؤها بعد ثبوت الموجبات اعلاه الا انه هنا تجب يمين القضاء على رب الدين (13).
وهذا في حال حياة رب الدين، واما اذا كان الدين لميت على ميت لم يحلف الا من يظن به العلم من ورثة الدائن وممن يظن به ذلك الزوجة لان الغالب انها تعرف حال زوجها.
اما اذا كان الورثة كلهم لا يظن بهم العلم بان كانوا صغارا او كانوا كبارا ولكنهم كانوا غائبين وانما حضروا بعد موت موروثهم فلا يمين عليهم ويقبضون دينهم بدونها (14).
والاستيفاء المذكور يكون بعد حلول اجل الديون التي هي للموروث، اما اداء ما عليه فيحل ولو كان مؤجلا بموته طبقا لقول ابن عاصم.
وحل ما عليه من ديون اذ ذاك كالحلول بالمنون (15).
واما الديون التي وقع النزاع فيها فتسوى بعد الفصل فيها نهائيا ( ف 254 من ق م م وف 285 من م ح ش).
-------------------------
(13) هي في الحقيقة يمين نفي القضاء، فهي على حذف مضاف والاصل فيها الاستحسان وتسمى يمين الاستبراء لطلب حالفها البراءة من دعوى مقدرة وهي دعوى الغريم البراءة من الحق، وقد أوجبت احتياطا لحق من لا يتاتي له الدفع عن نفسه وجمع النظائر التي تجب فيها هذه اليمين سيدي احمد بن القاضي بقوله :
اذا كان دين على ميــــــــــت وذي غيبة وصبي وجنـــــــون
يميـــن القضـــاء على مــدع عليهم حقوقا قضى الحاكمون
كذاك على الحبس او بيت ما ل وما ما للمساكين فالعالمون
حكوه وفي مستحـق العروض وفي الحيوان لـــه مثبتــــــون
انظر ص 20-21/2 مواهب الخلاف.
(14) انظر ص 23/2/ مواهب الخلاف .
(15) انظر ص 241/2 ميارة على التحفة وص 46 وما بعدها من كتاب مسائل الديون - وبحلول الدين المؤجل بموت المدين قال الشعبي والنخعي وسوار ومالك والثوري والشافعي واصحاب الراي وهو احدى الروايتين عن احمد، وعلة ذلك انه لا يخلو اما ان يبقى في ذمة الميت او الورثة او يتعلق بالمال ولا يجوز بقاؤه في ذمة الميت لخرابها وتعذر مطالبته بها، ولا ذمة الورثة لانهم لم يلتزموها ولا رضى صاحب الدين بذمتهم وهي مختلفة متباينة ولا يجوز تعلقه على الاعيان وتاصيله لانه ضرر بالميت وصاحب الدين ولا نفع للورثة فيه.
ص 482/4 المغني
-----------------------------
وفي حال اعسار التركة او احتمال ذلك يجب على المصفي ان يوقف تسوية أي دين ولو لم يقم في شانه نزاع حتى يفصل نهائيا في جميع المنازعات المتعلقة بديون التركة ( ف 255 من ق م م) ( ف 286 من م ح ش) والدائنون للتركة في حال النزاع لا يكلفون بالحصر اعني اثبات انه لا يوجد دائن غيرهم بخلاف الورثة فان القاضي لا يقسم عليهم حتى يكلفهم ببينة تشهد بحصرهم وموت موروثهم ورتبتهم من الميت قال ابو الشتاء :
" وذلك لان عددهم معلوم بالجيران واهل البلد فلا كلفة في الاثبات عليهم، واما الديون ومقاديرها ولمن هي فيعسر الاطلاع عليها وكثيرا ما يقصد الناس الى كتمانها قاله ابن عبد السلام (6)".

وتجدر الملاحظة ان وفاء ديون التركة يقوم به المصفي مما يحصله من حقوقها وبما تشتمل عليه من نقود ومن ثمن ما في التركة من منقول فان لم يكن كل ذلك كافيا فمن ثمن ما بقي بذلك من عقار التركة، وبيع منقولات التركة وعقاراتها يكون بالمزاد العلني الا اذا اتفق الورثة على ان يتولوا ذلك لانفسهم بقيمته المقررة من طرف الخبراء او بواسطة المزايدة فيما بينهم مع مراعاة المقتضيات المتعلقة بالقاصرين ( ف 256 من ق م م وف. 287 من م ح ش).

والمقتضيات المتعلقة بالقاصرين في الموضوع الانف الذكر منصوص عليها في الفصول 201 الى غاية الفصل 211 من ظ م م والفصل 158 و159 من ظ ح ش وبيان ذلك انه لا يجوز للوصي او المقدم ان يباشر التصرف في عقار القاصر او المهم من امواله بالبيع والشراء او الشركة او الاقراض او الرهن او القسمة او المخارجة او أي نوع من انواع التصرفات المرتبة لحق عيني او المفوتة لاصل او ما يؤدي الى تفويته الا باذن القاضي ولا ياذن هذا الاخير في بيع العقار الا بعد ان يثبت لديه بحجة شرعية :
1- ان الضرورة تدعو لبيع العقار .
2- وان هذا العقار هو الاولى بالبيع من غيره.
3- وان يكون البيع بالمزاد العلني .
4- وان لا يوجد زائد على الثمن الذي أعطي فيه .
5- وان يكون الثمن نقدا وحالا .
----------------------------
(16) ص 251-252/1 مواهب الخلاف.
---------------------------
وذكر التاودي على لامية الاحكام ان الحاكم لا يبيع الا بثبوت يتم المحجور واهماله وملكه لما بيع، وان المبيع هو الاولى وان يكون البيع المذكور بالتسوق. وهو اظهار المبيع للبيع والمناداة عليه مرارا لحصول الرغبة فيه - وعدم الفاء زائد، والسداد في الثمن أي عدم النقص فيه، وكونه عينا حالا لا عرضا ولا مؤجلا، وكونه بالخيار اياما ثلاثة، ومن الشروط كذلك حيازة الشهود له اهـ. بتصرف (17).

ونقل ابو الشتاء في حاشيته له ما نصه : " وحاصل ما أفاده خليل في هذا المقال مع شراحه ان بيع الحاكم يكون بشروط ثلاثة عشر :
دعاء الضرورة لوفاء دين ونحوه من كل ما يبيع له الوصي، وثبوت يتمه واهماله وملكه لما اريد بيعه بالنسبة للاصول وثبوت انه الاولى بالبيع ان كان له غيره وحيازة الشهود (8) والتسوق بالمبيع (19) او تقويم عارف له وعدم الفاء زائد على الثمن الذي اعطي فيه، والسداد في الثمن. وكونه عينا، وكونه حالا، والتصريح باسماء الشهود على المعمول به". اهـ (20).

ويظهر من عرض النصوص الفقهية اعلاه ونص الفصل 159 وغيره من نصوص مدونة الاحوال الشخصية وكذا المسطرة المدنية، ان بعض الموجبات لم يذكرها القانون، ولكن ختم الكتاب المتعلق بالموضوع في الفصل 172 بالنص على الرجوع الى الراجح او المشهور او ما جرى به العمل من مذهب الامام مالك في كل ما لم يشمله هذا القانون فيه متنفس للقاضي العدل الذي ينشد الحفاظ على مصالح القاصرين اليتامى، ذلك ان الموجبات المنصوص عليها فقها أضمن وأحوط في الابقاء على اموال المحجور، والحفاظ عليها من ايدي العابثين.

فاذا وقع ونزل ان القاضي باع تركة أيتاما قبل اثبات الموجبات، هل يحمل فعله هذا على ان البيع محمول على استيفاء الموجبات ؟ او محمول على غير وجود الشروط ؟
---------------------------
(17) ص 248 249/1 مواهب الخلاف.
(18) حيازة الشهود هنا المقصود بها بيان الحدود وهذا ما لم تتضمن بينة الملك حدود الاصل وسائر ما يتميز به وما لم يتفق الخصمان على الحدود. قال ابن عاصم :
وناب عن حيازة الشهود توافق الخصمين في الحدود
انظر ص 148 حاشية الوزاني على التاودي على اللامية طبعة حجرية.
(19) التسوق هو النداء عليه للبيع بالسوق وشهرته فيه وهو المعبر عنه بالمزايدة العلنية قال في العمل المطلق: وبيعه على اليتيم كله " على المزايدة هذا اصله ص 148 - 149 ن م س.
(20) ص 249/1 مواهب الخلاف.
--------------------------
اختلفت نقول الفقهاء في ذلك فنقل التاودي قول البرزلي (21) بان القاضي الذي باع تركة قبل اثبات الموجبات أفتى السيورى بنقض البيع، وان فات لزمه المثل في المثلي والقيمة في المقوم يوم البيع اهـ.
وقد استصوب كلام السيوري ابو الشتاء قائلا : " ان بيع القاضي محمول على غير وجود الشروط وهو الصواب خلاف ما في الكراس الاول من معاوضات" المعيار ونوازل ابن رشد من ان بيع القاضي محمول على استيفاء الموجبات وعل من ادعى انخرامها اثباته …. (22)

اما الاسباب التي تباع لها اصول المحجور فهي ان يكون به ضرورة الى كسوة او نفقة او قضاء دين او ما لابد منه وليس له ما تندفع به حاجته، وان يكون في بيعه غبطة (23)، او يخاف عليه الهلاك بغرق او خراب (24) ومن الحاجة الزواج ان احتاج اليه.
وحاصل الامر - كما قال ابن قدامة - انه لا معنى لتقييد البيع بما ذكره في الجواز ولا في المنع، بل متى كان بيعه احظ له جاز والا فلا (25)

هذا واذا تولى المصفي تسوية ديون التركة التي لها او عليها طبق ما ذكرته آنفا فانه يتولى بعد ذلك تنفيذ الوصايا لتسلم اموال التركة المتبقاة الى الورثة حسب نصيب كل واحد شرعا وذلك مصداقا لقوله تعالى :
{ من بعد وصية يوصى بها او دين غير مضار}
وتنفيذ الوصايا يقوم به من اسند اليه الموصي ذلك اعني الوصي المختار فان لم يوجد فالمصفى المعين من طرف القاضي، واجراءات التنفيذ منصوص عليها في الفصول 195 الى 211 من مدونة الاحوال الشخصية، ويتم التنفيذ المذكور في ثلث الباقي من التركة بعد اخراج الحقوق المتعلقة بالعين وبعد التجهيز وقضاء الديون المطلقة لقول خليل في المختصر " يخرج من تركة الميت حق تعلق بعين كالمرهون وعبد جنى ثم مؤن تجهيزه ثم تقضى ديونه، ثم وصاياه من ثلث الباقي" اهـــ. وهكذا على الترتيب المذكور .
----------------------------
(21) البرزلي اهو ابو القاسم بن احمد القيرواني المتوفى سنة 844 هــ احد ائمة المالكية في المغرب سكن تونس وانتهت اليه الفتوى فيها وكان ينعت بشيخ الاسلام. انظر الاعلام.
(22) ص 250/1 مواهب الخلاف.
(23) الغبطة هي ان يدفع فيه زيادة كثيرة على ثمن المثل قال ابو الخطاب : كالثلث ونحوه.
(24) انظر ص 266/4 المغني لابن قدامة، وص 261/1 التاودي على اللامية بحاشية ابي الشتاء لدى قول الناظم سوى لحاجة او لما يخشى من الهدم او جلا، ولا مال للاصلاح او كان راجحا كدين …
(25) ص 267/4 المغني .
---------------------------
هذا عن نظام التصفية الذي احدثه ظهير مدونة الاحوال الشخصية وظهير المسطرة المدنية المغربي شانه غيره من التشريعات العربية، وهو مع ما فيه من اوجه الشبه باحكام الايصاء بالنظر في الفقه الاسلامي، فان فيه بعض الاحكام التي انتقدت لمن لدن الفقهاء المعاصرين. فقد قال ابو زهرة :
" ولا شك ان تعيين مصف للتركة اذا كانت معسرة او مستغرقة بالدين امر لابد منه ولا ظلم فيه لاحد، بل هو تمكين صاحب الحق من حقه وقد اتفقت الشريعة مع القانون في ذلك، اما اذا كانت التركة موسرة او غير مدينة اصلا فاننا لا نجد مبررا لتعيين مصف الا اذا كانت ثمة ضرورة ملجئة لذلك" (26).

وعلل رايه هذا بان " القانون اعطى للمصفي سلطة مطلقة … في التركة ولم يجعلها مقصورة على العمل على تسديد الديون وتنفيذ الوصايا كما كان صنيع الشريعة الاسلامية بالنسبة للوصي، وبمقدار هذه السلطة الواسعة قطع الوارث عن املاكه قطعا تاما حتى انه ليعد مبددا ويعاقب ان استولى على شيء من اعيان التركة غشا ….. (27).
وما انتقده ابو زهرة على القانون المصري يتوجه على القانون المغربي الذي هو الاخر لم يجز في الفصل 272 من المدونة والفصل 252 من المسطرة المدنية لاي وارث قبل تصفية التركة ان يتصرف في ما لها الا بما تدعو اليه الضرورة المستعجلة ولا ان يستوفي ما لها من ديون او يؤدي ما عليها بدون اذن المصفي، والذي نص ايضا في الفصل 276 من المدونة والفصل 248 من قانون المسطرة المدنية على نفقات التصفية تتحملها التركة. كما نص في الفصل 523 من مجموعة القانون الجنائي على معاقبة الوارث الذي تصرف في التركة او في جزء منها بسوء نية قبل قسمتها ….
---------------------
(26) ص 65، احكام التركات والمواريث.
(27) ص 67-66، نفس المرجع السابق .
---------------------
ومنع التصرف على الوارث بهذا الاطلاق من طرف القانون لا يستقيم مع ما سار عليه الفقه الاسلامي بمذاهبه الاربعة ففي المسالة تفصيل اوجزه السنهوري بقوله :
" ويخلص مما قدمناه عن اختلاف المذاهب في هذه المسالة ان الاساس الذي يقوم عليه تقييد حق الوارث في التصرف قبل سداد الدين هو حماية الدائن، وليس هو انعدام الملكية او وجودها عند الوارث. واختلاف الاقوال يرجع الى اختلاف الطريقة التي يحمى بها حق الدائن، فمن الاقوال ما يمعن في حماية الدائن الى حد ان يبطل تصرف الوارث قبل سداد الدين، وهذا قول في كل من مذاهب الاربعة، ومنها ما يجعل تصرف الوارث صحيحا بشرط الا يمس حق الدائن فينفذ التصرف باجازة الدائن او بنزوله عن دينه او ببقاء مال في التركة يكفي سداد الدين، وهذا قول اخر في كل من المذاهب الاربعة كذلك" (28).

المبحث الثاني
قسمة التركة
1) تسليم ما بقي من اموال التركة بعد تصفيتها للورثة :
بعد تنفيذ التزامات التركة يتسلم الورثة كل بحسب نصيبه الشرعي ما نابه مما بقي منها، ولكل من استحق هذا النصيب بطريق الفرض او التعصيب او الوصية الحق في ان يطلب تمييزه بطريقة شرعية ( ف 291 م ح ش) اذ لا يجبر احد على البقاء على الشياع.
ويقرر الفصل 294 من المدونة انه تسري على قسمة التركة القواعد المقررة في القسمة.
والحكمة في مشروعية القسمة ازالة ضرر الشركة من اصله او التقليل منه فقط.
والاموال التي يتسلمها الورثة بعد تنفيذ التزامات التركة تعتبر مملوكة لهم من وقت موت موروثهم لا من وقت التسليم فسحب، ولكنهم لا يستطيعون التصرف فيها الا من وقت التسلم (29).
ولكل وارث - للوصول الى تسلم ما ذكر اعلاه - الحق في ان يتسلم من العدلين نسخة من اراثته ونسخة من زمام التركة (30) ( ف 290/ المدونة).
----------------------------
(28) ص 344- 345/4 الوسيط - وانظر ايضا قول الشيخ محمد عبد الرحيم الكشكي : " قد قال بصحة التصرف في التركة المدينة كثير من المالكية وكثير من الحنابلة، وبعض الحنفية سواء أكان الدين محيطا او غير محيط، بشرط ان لا يمس حقوق الدائنين ولم يتضرروا به كان ياذنوا فيه قبل ان يباشره الوارث او ان ينزلوا عن ديونهم او يبقى من التركة بعد التصرف ما يكفي لسدادها" ص 199/ التركة.
وفي المذهب المالكي اذ باع الورثة بعض الاملاك قبل اداء الديون هل يصح البيع اذا بقي من الاملاك ما يفي بالدين ؟ قال ابن القاسم لا يبطل البيع ولا تضرهم الجهالة، واستظهر ابن رشد قول ابن القاسم وأفتى به وقال اشهب يبطل البيع وقال سحنون انه جائز - ص 191/2/ المنهل العذب .
(29) ص 177/9 الوسيط
(30) كيفية تحرير زمام التركة بطالعة تتضمنها وفاة رب التركة وورثته ووصيته او تنزيله وتوكيل احد الورثة ان كان شيء من ذلك وتؤرخ الطالعة ثم تسطر الاصول التي خلفها الهالك كل واحد بقيمته التي قومه بها السمسار ثم يقيد الاثاث ويشمل اللباس والفراش وتذكر قيمة واحد او ثمنه معه، ثم تبين الصوائر التي خرجت من المتخلف وتبين مقدار ما بقي للقسم بين الورثة وواجب كل وارث منه.
ص 630/2 التدريب على تحرير الوثائق العدلية
---------------------------
وهذه النسخة من الشهادة تعتبر ورقة رسمية تقرر حقه في الارث وتبين مقدار نصيبه في التركة وتعين اموال التركة التي آلت اليه بعد التصفية .
ورغم ما ذكر فانه يجوز للورثة قبل نهاية التصفية وبمجرد تمام احصاء التركة المطالبة بان يتسلموا على الحساب الاشياء او النقود التي لا يتوقف عليها في تصفية التركة بان كانت في حالة يسار مثلا، وان يتسلموا بعضا منها بشرط الا تتجاوز حظهم في الارث الا اذا رضي الورثة جميعا ذلك ( ف289/ المدونة).

2) قسمة التركة :
سبق او اوضحت انه لا يجبر احد على البقاء على الشياع فلكل من استحق نصيبا من التركة بطريق الفرض او التعصيب او الوصية الحق في ان يطلب تمييزه بطريقة شرعية ( ف 291 من المدونة).
لكن قد يتفق الورثة فيما بينهم على اجراء عقد مخارجة بينهم (31) وفي الاغلب الاعم لا يتفقون وهنا يرفع الراغب منهم في القسمة الامر الى القاضي الذي يجريها طبقا للموجبات الشرعية ( ف 292/ المدونة).

والاجراءات المستعملة في ذلك تكون كالتالي :
يرفع الراغب في القسمة طلبه الى المحكمة الابتدائية لمحل افتتاح التركة ( ف 258 من ق م م).
ويشترط في سماع دعوى من يقوم بطلب قسمة مال الموروث ممن هو بيده من بعض ورثته او يوجه الدعوى على جميع الشركاء مع اعمال الموجب فيها، وينظر هل هم كلهم رشداء او معهم محاجير حسب الاراثة اذ لو سمعت دعوى المدعي ووقع القسم بمقتضاها على البعض دون الجميع للزم بمقتضاها التصرف في ملك شخص من غير سماع ما عنده وهو ممنوع ولكان القسم فاسدا شرعا،
-----------------------------
(31) افاد الفشتالي وغيره من المخارجة هي القسمة لا فرق بين العبارتين ص 163/ شرح الهواري على الوثائق الفرعونية، وانظر كذلك ص 310/2 التدريب على الوثائق العدلية لابي الشتاء بن الحسن الغازي.
وفي المدخل الفقهي العام ص 555/1 ما يفيد ان بين النوعين فرقا اذ اوضح ان المخارجة نوع من الصلح وفيه تبحث اذ هي قد تجري بين الوارث والوارث وبينه وبين الاجنبي يبيع منها حصته من تركة موروثه فيخرج منها ويحل محله مشتريها، بينما القسمة افراز الحصص الشائعة في الملك المشترك وتخصيص كل منها بجزء معين منه، وهي اما رضائية او قضائية. اهــ.
قلت ويظهر مما تقدم ان بين العبارتين فرقا، ولعل ذلك ما دفع مقنن مدونة الاحوال الشخصية المغربية الى ذكرهما معا في الفصل 158 حينما ذكر التصرفات التي لا يجوز للوصي او المقدم ان يباشرها الا باذن القاضي وهي التصرف في عقار القاصر او المهم من امواله والشراء او الشركة او الاقراض او الرهن او القسمة او المخارجة ….
------------------------------
ولان القسمة الشرعية لا تجوز الا مع حضور جميعهم بعد ثبوت موجباتها نقله الرهوني في حاشيته لدى قول خليل في باب الرهن : وصح مشاع وحيز بجميعه ان بقي فيه الراهن (32).
واذا رفع الوصي او الورثة الامر الى القاضي ليقسم بينهم فانه لا يقسم حتى يقوموا باعمال الموجب وهو اثبات اصل الملك للموروث واستمراره وحيازته والموت والاراثة كما لابن فرحون وغيره وذكر في المعيار عن الامام السنوسي او العمل عليه ….. (33).
وتبقى بعد ذلك الامكانية للمحكمة في ان تامر بالقسمة البتية اذا كان المطلوب قسمه قابلا لها وينتفع كل بحصته بمدرك عليه او بدونه (*) واما اذا كان غير قابل لها ولا لانتفاع كل بحصته فتأمر المحكمة ببيعه جملة او تفصيلا بالمزاد العلني مع تحديد الثمن الاساسي للبيع (34) ( ف 259 من ق م م).

وتجدر الملاحظة الى ان هذه القسمة البتية بجميع انواعها تمنع :
1- في الاصول التي بها غلة غير مؤبرة سواء كانت تقسم مع غلتها او بدونها .
2- وفي الاصول بغلتها اذا اتفق الشركاء على تاخير جنيها الى طيبها او سكتوا عن تعيين وقت جنيها (35).
ولا تجوز قسمة شيء من الثمار في رؤوس الشجر غير النخيل والعنب وعلة الجوار في هذين الاخيرين انه يجوز الخرص فيهما (36) كما لا تجوز قسمة الزرع اخضر ولا يابسا حزما و مدروسا حتى يصفى ويقسم حبا بالكيل ولا يقسم جزافا ولا بظرف يتسع احيانا كالقفة وانما يقسم بمثل القصعة والجفنة والقلة أي بشيء ثابت تكون به الاقسام متساوية (37).
----------------------------
(32) انظر ص 267/5 حاشية الرهوني وص 223/3 المنهل.
(33) انظر باب القسمة 2 البهجة ص 134
(*) أي بمدرك له.
(34) ويسمى هذا النوع من القسمة قسمة التصفية.
(35) ص 318/2 التدريب لابي الشتاء والإيار في التمر هو التذكير وكذلك في كل ما يذكر والإيار فيما لا يذكر هو انعقاد الثمرة وإبار الزرع خروجه من الارض. ص 288/ القوانين الفقهية .
(36) ص 875/2 الكافي لابن عبد البر …. والخرص هو حرز ما على النخل من الرطب تمرا أي تقديره بطن انظر ص 128 المعجم الاقتصادي.
(37) ص 876/2 الكافي لابن عبد البر.
----------------------------
واذا وجد القاضي بعد رفع الطلب طلب القسمة اليه انه لا يملك وسائل التقدير الكافية لاعداد الحصص ندب خبيرا للقيام بذلك، وحين صيرورة الحكم حائزا لقوة الشيء المقضي به أجريت القرعة بواسطة كاتب الضبط الذي يسلم الأنصبة حالا لاصحابها ( ف 261 من ق م م) وقد لاحظ الاستاذ مامون الكزبري على انه لا موجب للاقتراع عندما تكون الحصص على اساس التجنيب لان الحصص عند اتباع هذه الطريقة انما يعين اصحابها منذ البدء (38).

وما دمنا بصدد بحث قسمة التركة فلابد من الاشارة الى ما نص عليه الفقهاء في الطرق التي استعملوها في قسم المتروك على أنصباء الورثة المقدرة شرعا بعد تصحيح المسالة وإزالة الانكسار والتوصل الى الجامعة في حال المناسخات، فقد ذكروا في ذلك ثلاثة طرق :
وبيان هذه الطرق بسهولة ووضوح .
1- ان تصحح الفريضة حتى تبلغ منتهاها عالت ام لا وتعرف سهام كل وارث منها فاذا أردت نصيب كل وارث فاضرب سهام كل وارث في التركة ثم اقسم على المسالة فما خرج فهو حصته مثاله زوج واخت للاب وام، والتركة عشرون الف درهما والمسالة من ثمانية بالعول، فاذا اردت نصيب الزوج والعشرين الف درهم ضربت سهامه وهي ثلاثة في قيمة التركة تخرج ستين الف درهم فاقسمها على ثمانية يخرج سبعة الاف خمسمائة درهم وهكذا في سائر الورثة.
2- ان توافق بين التركة والمسالة وتضرب سهام كل وارث في وفق التركة وتقسم الخارج على وفق سهام المسالة فما خرج فهو نصيبه من التركة، فالثمانية فيما تقدم توافق عدد التركة عشرين الف درهم في الربع فخذ وفقيهما اثنين وخمسة الاف، وحصة الزوج من الثمانية ثلاثة تضرب له في خمسة الاف وفق العشرين يكون خمسة عشر الف درهم تقسم على وفق الثمانية وهو اثنان يخرج له سبعة الاف وخمسمائة درهم ومثله للاخت والام.
3- ان تقسم التركة على سهام المسالة فما خرج فاضربه فيما بيد كل وارث والناتج هو نصيب الوارث ولا يتغير في مثالنا السابق (39). وهذه الطرق تستعمل سواء كان المال مما يعد او يكال او يوزن فيقسم عدده على العدد الذي صحت منه الفريضة، او كان المال عبارة عن عروض او عقار وانه يقوم حسبما ذكر أعلاه او يباع ويقسم ثمنه على نحو ما ذكر.
----------------------------
(38) ص 369 التحفيظ العقاري والحقوق العينية.
(39) انظر ص 148/1 فتح القريب المجيب. وص 303/3 المنهل العذب.
---------------------------

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 60، ص 9.