عبد الرحيم فتحي
المستشار بمحكمة الاستئناف بأكادير
لقد أسند المشرع مهام تحريك الدعوى العمومية إلى النيابة العامة ما لم يوجد نص خاص يوكل بصفة استثنائية هذا الحق إلى المتضرر أو إلى جهات خاصة في حدود دائرة اختصاصها.
وهكذا يختص الوكلاء العامون للملك في تحريك الدعوى العمومية ويمارسونها في الجنايات عدا إذا كانت هناك مقتضيات قانونية مخالفة، ويمارس وكلاء الملك لدى المحاكم الابتدائية الدعوى العمومية في الجرائم غير التي أشير إليها أعلاه، مع مراعاة اختصاصات محاكم الجماعات والمقاطعات.
ويتسلم وكلاء الملك المحاضر والشكايات والوشايات ويقررون ما يجب أن يتخذ في شأنها أو يأمرون بمباشرة الإجراءات للبحث عن مرتكبي الأفعال المخالفة للقانون الجنائي ومتابعتهم إن اقتضى الأمر ذلك حسب سلطتهم التقديرية.
ويحق لكل متضرر من جناية أو جنحة أن يتقدم بشكاية في الموضوع أمام النيابة العامة، كما يحق له أن يقيمها مباشرة أمام المحكمة طبقا للشروط المبينة في ظهير 18-9-62.
كما يتعين على كل من شاهد اعتداء على الأمن العام أو ضد حياة شخص أو ممتلكاته أن يحيط وكيل الملك علما بذلك.
وتوجب المادة 7 من قانون العقوبات المصري على كل من عاين وقوع جناية تخل بالأمن العام أو يترتب عليها تلف حياة إنسان أو ضرر لملكه أن يخبر النيابة العمومية أو أحد مأموري الضبطية القضائية.
والتبليغ الصادق عن الجرائم حق مقرر لكل إنسان، بل هو واجب عليه إذا كان موظفا وعلم بالجريمة أثناء تأديته لعمله أو بسببه.
والتبليغ لهذا المعنى هو إعلام للسلطات العامة بوقائع تشكل مخالفة لنصوص القانون، وأن التكتم عن هذه المعلومات يعتبر جريمة بالامتناع عن القيام بفعل أمر به القانون.
بل أن التبليغ عن الجرائم جعله المشرع في الكثير من الأحيان عذرا مخففا أو معف من العقاب، كما هو الحال في حالة الإفشاء عن المؤامرة أو الاعتداء على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي. وهكذا فقد خص القانون الفرنسي المواد 103 إلى 108 لمعاقبة كل شخص يمتنع عن إعلام السلطات العسكرية أو الإدارية أو القضائية بوجود أعمال الخيانة أو التجسس وأعفى كل من قام بالإبلاغ دون سواه.
كما عاقب القانون الإيطالي كل من يمتنع عن إخبار السلطة بوقوع جريمة على شخصية الدولة الداخلية أو الخارجية، أو تأخر عن ذلك دون عذر مشروع متى كان العقاب المقرر هو الإعدام أو الأشغال الشاقة المؤبدة.
وتنص المادة 138 من القانون الألماني على عقاب الأشخاص الذين يتقاعسون عن إبلاغ السلطات العامة في الوقت المناسب، وإن ترك الباب مفتوحا حسب الظروف الواقعية لكر جريمة.
إلا أن هذه الوشاية التي خول المشرع للنيابة العامة صلاحية اتخاذ إجراءات بشأنها تبقى رهينة بمدى مصداقية الوقائع التي تتضمنها، فقد يكون الهدف ن تقديم هذه الوشاية مجرد الانتقام أو التنكيل بالشخص المبلغ ضده، وقد تسيء إلى مركزه الاجتماعي وتعرضه لإجراءات جنائية أو تأديبية، وللكثير من الشبهات وانعدام الثقة، وإن ثبتت فيما بعد براءة المبلغ ضده، بل قد يؤدي به الأمر وراء القضبان، لأن من يقدم بلاغا أو وقائع غير صحيحة، يسهل عليه تهيئ الظروف وتقديم الأدلة الزائفة للإيقاع بخصمه، كما قد يكون الغرض من التبليغ هو إشغال اهتمام السلطات العامة والتأثير على السير العادي للمرافق القضائية والإدارية.
وعليه فبقدر ما أوجب المشرع على كل شخص أن يبلغ السلطات العامة بأي فعل من أفعال الاعتداء من شأنه تهديد الأمن العام وحياة الأشخاص أو ممتلكاتهم، بل وأن المشرع عاقب في حالات خاصة كل من علم بوقوع جناية أو الشروع فيها ولم يشعر بها السلطات فورا، بقدر ماي تعرض لعقوبات زجرية كل من سولت له نفسه التنكيل بالأشخاص والاستخفاف بالسلطات العامة والتأثير على السير العادي للمرافق القضائية أو الإدارية.
وهكذا فقد عالج المشرع المغربي هذا الموضوع في فصل فريد وهو الفصل 445 من ق.مج (من أبلغ...) أما المجلة الجنائية التونسية فقد تطرقت إلى موضوع الوشاية الكاذبة في الفصل 248.
والملاحظ أن المشرع التونسي استعمل كلمة وشاية خلافا لقانون العقوبات المصري الذي عبر بكلمة بلاغ، في حين تضمن الفصل 445 من القانون الجنائي المغربي العبارتين معا، حيث جاءت كلمة وشاية في الفقرة الأولى من الفصل المذكور، أما الفقرة الثانية فقد تضمنت عبارة البلاغ الكاذب.
وإذا كان المقصود من العبارتين قانونا هو نقل معلومات ضد شخص أو هيئة معينة إلى الجهات المؤهلة لاتخاذ إجراءات تأديبية أو زجرية ضد المبلغ ضده، فإن الوشاية لغويا تعني النميمة وهي مصدر لفعل "وشى" أي نم، ووشي به بمعنى سعى به، ويقال وشي الثوب بمعنى حسنه بالألوان ونقشه. والوشي في اللون خلط لون بلون، والنمام يشي الكذب بمعنى يؤلفه ويلونه ويزينه.
أما البلاغ فهو من فعل "بلغ" ويعني وصل وانتهى، وقول أبي قيس بن الأسلت السلمي:
قال، ولم تقصد لقيل الخنى = = مهلا، فقد أبلغت أسماعي
ويقال بلغ الغلام إذا احتلم، كأنه بلغ وقت الكتاب عليه والتكليف، قوله تعالى عز وجل (فإذا بلغن أجلهن ...) أي قاربنه.
وهكذا يتضح بأن اصطلاح الوشاية الذي اقتصر عليه التشريع التونسي هو أدق تغبيرا من البلاغ وابلغ معنى، لأن الوشاية بهذا المعنى تحتمل الصدق والكذب معا، في حين يفترض في البلاغ أن يكون صادقا.
أما الفقه والقضاء في كل من لبنان والأردن فقد عبرا عن البلاغ الكاذب بالافتراء، والافتراء لغويا هو الكذب، لقوله تعالى عز وجل:" ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" وقد جاء في أحد قرارات التمييز في الأردن أن الأركان الواجب توافرها في جريمة الافتراء هي: ......... وأن يكون الإخبار كاذبا وقصد سوء النية.
التطور التاريخي لفكرة الوشاية الكاذبة
الوشاية الكاذبة هي من أهم الجرائم دقة وتعقيدا، ليس فقط لأنها تشكل خطرا على أمن وراحة الأفراد وما يحيق بهم من خطر بسبب الادعاءات والافتراء، وما يتبع ذلك من تنكيل وشبهات، وخلق الاضطراب في الحياة العادية للأفراد والجماعات، بل كذلك بسبب ما تشكله من تأثير على سمعة العدالة، والاستخفاف بالسلطات العامة إدارية كانت أم قضائية، والنيل من السير العادي لمرافق الدولة، والمس باستقرار الأوضاع وتثبيت السلم الاجتماعي.
وتجريم الوشاية الكاذبة هو تطور تاريخي لفكرة سيادة الدولة، والتي تنطلق من مبدأ التزام السلطات العامة بحماية حقوق الأفراد وأعراضهم من جهة، وفكرة التضامن الجماعي الذي يفرض على كل واحد أن يبلغ السلطات العامة بكل ما من شأنه الإخلال بالسير العادي للحياة الجماعية للأشخاص والنيل من حريات الأفراد، وحسن سير مؤسسات الدولة ومرافقها.
وقد كان قانون الألواح الإثني عشر
أول من سمح للمتهم بأن يتقدم بدعوى التعويض ضد المشتكي في حالة الحكم بالبراءة.
كما فرضت التشريعات المتلاحقة جزاءات زجرية كما هو الشأن بالنسبة للقوانين الجرمانية وشريعة تاليون، وتوالت التشريعات في عهد الثورة الفرنسية، إلا أن هذه التشريعات في مجملها اعتبرت أن جريمة البلاغ الكاذب تشكل اعتداء على حقوق الفرد، وسمحت للمبلغ ضده بمقاضاة الشاكي في إطار دعوى التعويض أو دعوى رد الاعتبار.
أما التشريعات الحديثة فقد اعتبرت ن البلاغ الكاذب هو اعتداء على السلطة العامة للدولة بقدر ما هو اعتداء على حقوق الأفراد وحرياتهم. وهكذا فقد أورد المشرع اللبناني جريمة الافتراء في الفصل المتعلق بالإخلال بسير العدالة. كما عاقبت المادة 373 من قانون العقوبات الفرنسي كل من قام بأية وسيلة كانت بتقديم شكاية كاذبة في حق أحد أو بعض الأشخاص إلى رجال الضابطة العدلية أو الإدارية.
إلا أن أغلب هذه القوانين لم تفرق بين الوقائع التي تشكل اعتداء على حقوق الأشخاص، وما يشكل مسا بالسلطات العامة، كما هو الشأن بالنسبة للقانون اللبناني الذي أشار في الفصل 403 منه "أن من قدم شكاية أو إخبارا إلى السلطة القضائية أو إلى سلطة يجب عليها إبلاغ السلطة القضائية، فعزا إلى أحد الناس جنحة أو مخالفة يعرف براءته منها، أو اختلق عليه أدلة مادية على وقوع مثل هذا الجرم ...".
أما المشرع المغربي وخلافا لما ذهب إليه بعض الفقهاء (الموسوعة الجزائية المجلد 15 القاضي فريد الزغبي) فقد عالج موضوع صيانة الاعتداء على شرف الأشخاص وأعراضهم في الفصل 445 من ق.ج المتعلق بالوشاية الكاذبة. في حين تضمن الفصل 264 من ق.ج التبليغ عن الجرائم الخيالية الذي يكون الغرض منه هو إهانة السلطات العامة والاستخفاف بمرافق الدولة، وذلك باختلاق جرائم خيالية لإزعاجها أو تقديم أدلة زائفة.
ونظرا لما تطرح جريمة الوشاية الكاذبة من تساؤلات وما تنطوي عليه من غموض، فلابد من إبراز بعض المقاربات بينها وبين الجرائم المماثلة.
1- الوشاية والحق في تقديم الشكوى
الوشاية حسب التعريف الذي أشرنا إليه، هو كل بلاغ قدم لدى الجهات المختصة لاتخاذ إجراءات بشأنه، ضد شخص معين أو عدة أشخاص عن وقائع معينة على ألا يكون طرفا فيها وهي بذلك تدخل في باب الفصول.
في حين أن الشكاية وإن كان ينتج بمقتضاها نقل وقائع أو معلومات إلى الجهات التي تختص باتخاذ إجراءات بشأنها، إلا أن المشتكي يكون طرفا في هذه الوقائع، ويكون هدفه هو التظلم لدى هذه الجهات من أجل الأضرار التي لحقته من هذه الأفعال، باعتبار أن حق التشكي حق مضمون ومشروع أقرته جميع التشريعات، وهو مقصور فقط على من كان ضحية للجريمة التي وقع التبليغ عنها.
وإذا كان حق التشكي مشروعا ومقررا لكل متضرر فإن الامتناع عن تقديم الشكاية غير معاقب عليه بمقتضى القانون، وأن يطالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقته شخصيا مادية كانت أم معنوية والتي تسببت فيها الجريمة مباشرة، بل أن المشرع اشترط في بعض الجرائم وجود شكاية من لمتضرر لكي تصح المتابعة، كما هو الشأن في جريمتي إهمال الأسرة والخيانة الزوجية.
كما يتجلى الفرق في أن الواشي يمكن أن يتقدم بالبلاغ سواء قبل وقوع الجريمة أو بعد وقوعها أما الشكاية فلا يمكن تقديمها إلا بعد تحقق النتيجة الإجرامية، أو أثناء عملية التنفيذ ولا يمكن تصور المشتكي يتظلم من الجريمة قبل وقوعها، لأنه يتظلم من أفعال ألحقت به ضررا شخصيا أو على الأقل كان يعتقد ذلك.
لذلك فإن الفصل 445 من ق.ج لا ينطبق على الشكاية ولو كانت كاذبة، وأن العقاب يقتصر فقط على البلاغ الذي يقدمه شخص عن جريمة يزعم أنها وقعت لغيره، ولا يتناول الشكوى التي يرفعها المجني عليه عن جريمة يدعي أنها وقعت عليه، ولو لم يدعي فيها بأي حق مدني.
والواقع أنه إذا كان يبدو أن القانون الفرنسي هو الذي أوحى للمشرع المغربي بفكرة تجريم الوشاية الكاذبة باعتباره المصدر التاريخي للقانون المغربي، فإن المادة 273 من قانون العقوبات الفرنسي تنص على صراحة على تجريم الشكاية الكاذبة، كما جرمت المادة 403 من قانون العقوبات اللبناني الوشاية والشكاية معا، وتوسع الاجتهاد القضائي في سوريا واعتبر أن أحكام المادتين 27 و59 تسري على الشكوى كذلك.
إلا أن الفصل 445 من القانون الجنائي المغربي تضمن تجريم الوشاية الكاذبة دون الشكاية الكاذبة، والتي تبقى خاضعة لمقتضيات الفصل 264 متى توافرت العناصر الأخرى، كما يمكن أن تعطي لرافعها الحق في التعويض عن الضرر اللاحق به متى ثبت أن الشكاية التي رفعت ضده قد مورست بشكل تعسفي وألحقت به ضررا ماديا أو معنويا.
والقول بأن العقاب يتناول كذلك الشكاية التي يتظلم فيها المجني عليه من فعل الغير، هو اتجاه لا يستقيم مع ما توخاه المشرع المغربي من سن الفصل 445 من ق.ج وذلك لسببين: قانوني وواقعي.
السبب القانوني: أن الفصل 445 من ق.ج استعمل كلمة "وشاية" وهو مصطلح اتفقت عليه جميع التشريعات، وإن استعمل البعض منها كلمة "بلاغ" كالتشريعين المصري واللبناني.
والوشاية لغويا هو تبليغ جهة أو شخص معين بوقائع لا يعتبر المبلغ طرفا فيها، في حين يفترض في الشاكي أن يكون قد تضرر شخصيا من الأفعال التي قام بالتبليغ عنها، أو على الأقل كان يعتقد ذلك، وأن القول بتجريم الشكاية الكاذبة هو توسع في تفسير لا يستند على أي أساس قانوني، مادام أن المشرع لم ينص صراحة تسلم المحاضر والوشايات والشكايات ولم يقتصر الفصل 38 من ق.م الجنائية على الوشاية وحدها أو الشكاية وحدها.
-السبب الواقعي: أن فتح باب المتابعات في شأن الشكاية قد يحرم المتضرر من ممارسة حق مضمون بمقتضى القانون، وأن ذلك سيدفع به إلى تجب رفع الشكاية ضد المعتدي إذا لم تكن له الوسائل الكافية للإثبات
(1).وسنثقل كاهل المتضرر بالبحث عن الدليل تفاديا لأية متابعة لاحقة، وبذلك يسهل على ذوي النيات السيئة التفنن في الإجرام ووسائل التهرب منه.
2- الوشاية والقذف
يقتصر دور الواشي في نقل أخبار أو معلومات إلى جهات معينة حددها القانون وقد تكون الوشاية صادقة أو كاذبة، وفي الحالتين معا فإن الغرض منها هو النيل من شرف واعتبار المعني بالأمر. أما القذف فهو ادعاء واقعة أو نسبتها إلى شخص أو هيئة إذا كانت هذه الواقعة نتمس شرف أو اعتبار الشخص أو الهيئة التي نسبت إليها.
ويتجلى الفرق في أنه وإن كان الهدف من الوشاية الكاذبة والقذف هو ادعاء واقعة تمس شرف واعتبار شخص معين، فإن الوشاية تقتصر على نقل هذه الوقائع إلى جهات مؤهلة لاتخاذ إجراءات بشأنها، في حين أن القذف يجب أن يكون موجها إلى المعني بالأمر. أو أن يصل على الأقل إلى علمه بالطرق التي حددها القانون، ولا يمكن للمجني عليه في هذه الحالة أن يتابع بالوشاية الكاذبة لأن الواقعة التي نسبت إلى الشخص أو الهيئة لم تصل إلى الجهات المعنية وإذا وصلت فإن نقلها لم يكن تلقائيا.
نعم يمكن أن يتخذ القذف صبغة الوشاية الكاذبة، إذا كان الغرض من الوقائع المزعومة بواسطة الخطب مثلا، والتي تمس شرف واعتبار الشخص أو الهيئة، هو تسهيل نقل هذه الوقائع إلى السلطات العامة من أجل اتخاذ إجراءات بشأنها.
3- الوشاية والشهادة
لا يخفى أن الواشي أو الشاهد يقتصر دورهما على نقل معلومات معينة إلى الجهات المختصة، سواء كانت قضائية أو إدارية.
إلا أن الفرق هو أن الواشي يتقدم تلقائيا إلى تلك الجهات المختصة للإدلاء بهذه المعلومات، في حين أن الأخبار التي يتقدم بها الشاهد تكون بأمر من الجهات التي طالبته بأداء الشهادة، سواء كان ذلك أمام الضابطة القضائية أو أمام المحكمة أو قاضي التحقيق، وأن أي تحريف لهذه الوقائع لا يشكل وشاية كاذبة وإن قررت السلطات المعنية اتخاذ إجراءات بشأنها، وتبين بعد ذلك أن هذه المعلومات غير مطابقة للواقع.
4- الوشاية وإفشاء الأسرار
قد يحدث أن يسر شخص لغيره بأخبار تمسه في شرفه أو عرضه، كما إذا صرح لغيره بأن يتاجر في المخدرات، إلا أن هذا الأخير عمد مباشرة إلى إبلاغ السلطات المختصة، أو الجهات المعنية بهذه الوقائع وأفشى السر الذي أؤتمن على كتمانه، وإذا اتخذت إجراءات بشأنها في حق المبلغ ضده، وتبين بأن هذه المعلومات غير مطابقة للواقع أو لم تثبت صحتها، فإن ذلك لا يشكل جريمة الوشاية الكاذبة، ولو كان الغرض من الإفشاء هو التنكيل بالمبلغ ضده أو مجرد الانتقام منه، لأن المبلغ عمد إلى نقل الأخبار كما صدرت عن أصحابها وإن ثبتت عدم صحتها بعد ذلك، لأن صدور هذه المعلومات عن أصحابها تزيل عنها صبغة الوشاية الكاذبة والتي تكون من صنع خيال المبلغ.
كما أنه لا يعتبر وشاية كاذبة إذا كان المبلغ مؤتمنا على الأسرار بحكم وظيفته أو مهنته، كالمدافع عن المتهم حول ما علمه بهذه الصفة، ورجال الدين حول ما أسر لهم به ضمن مهمتهم، وكذلك الأطباء والصيادلة والجراحون حول ما توصلوا إليه بحكم وظائفهم، ولو كان الغرض من هذه المعلومات هو اتخاذ إجراءات بشأنها في حق المبلغ ضده وثبتت عدم صحة هذه المعلومات، لأن دور المبلغ في هذه الحالة اقتصر على نقل وقائع توصل إليها بحكم وظيفته، في حين أن المعلومات التي تتضمنها الوشاية الكاذبة تكون من نسج الخيال.
نعم إذا أوشى المبلغ بوقائع لم تصدر عن أصحابها وثبتت عدم صحتها فإن ذلك يعتبر وشاية كاذبة، ولو تضمنت تلك المعلومات أسرارا صادرة عن المبلغ ضده.
5- الوشاية ومحاضر الضابطة القضائية
إن اختصاصات الشرطة القضائية تتمثل في تحرير محاضر عما أنجزته من عمليات وإعلام وكيل الملك فورا بما يصل إلى علمها من وقائع مخالفة للقانون، وأن توجه مباشرة إلى النيابة العامة أصل المحاضر مصحوبة بنسخ منها مشهود على مطابقتها للأصل، وكذا جميع الوثائق المستندات المتعلقة بها.
وقد أوجبت المادة السادسة من قانون العقوبات المصري على كل من علم أثناء تأدية وظائفه من موظفي الحكومة أو مأموري الضبطية أو مأموري جهات الإدارة، بوقوع جريمة أن يخبر النيابة العمومية بذلك فورا.
ومحاضر الضابطة القضائية بهذا المعنى ما هي إلا وشايات مكتوبة ترفع إلى ممثلي النيابة العامة من أجل اتخاذ إجراءات بشأنها. إلا أن الفرق بينها وبين الوشاية هو أن محاضر الضابطة القضائية ينجزها أشخاص مؤهلون لذلك بمقتضى القانون ومنصبون لهذه الغاية.
وإذا ثبتت عدم صحة الوقائع المضمنة بمحاضر الضابطة القضائية، فلا يمكن متابعة محرري هذه المحاضر من أجل الوشاية الكاذبة، بل من أجل التزوير أو الشطط في استعمال السلطة حسب الأحوال.
إلا أن الضابط إذا نقل أخبارا لا تدخل ضمن اختصاصه وثبتت عدم صحة هذه الوقائع، فإن هذا البلاغ يعتبر وشاية كاذبة متى توافرت العناصر الأخرى.
الوشاية وإهانة السلطات العامة
إذا كان القصد من الوشاية الكاذبة هو تبليغ الجهات المختصة بوقائع معينة لاتخاذ إجراءات بشأنها، فيتعين أن يكون هذا التبليغ ضد شخص أو أشخاص معينين بذواتهم، أو على الأقل يمكن التعرف عليهم بسهولة، وأن الادعاء ضد شخص وهمي لا يشكل جريمة الوشاية الكاذبة.
أما الإهانة فتتحقق بمجرد تبليغ السلطات العامة بجريمة يعلم بعدم صحة وقوعها، أو تقديم أدلة زائفة ولو لم ينسب المبلغ هذه الوقائع إلى شخص بذاته، أو كان المبلغ ضده شخصا وهميا.
كما أنه لا تعتبر جريمة بمقتضى الفصل 264 من ق.ج إلا إذا تم التبليغ إلى سلطة عامة، وكانت الوقائع تشكل جريمة بمقتضى القانون، متى كان الغرض من هذا التبليغ هو ايقاع العدالة في الغلط والتجني على حرمة القضاء واستقلاله، في حين أن الوشاية الكاذبة تتحقق متى تم التبليغ لجهة مختصة لاتخاذ إجراءات بشأنها، ولو لم تكن هذه الجهة تمثل سلطةعامة. كما أنه لا تشترط في الفعال المبلغ بها أن تكون واقعة تحت طائلة العقوبات.
وهكذا يتضح من خلال هذه المقاربات بأن محاضر الضابطة القضائية والشهادات وإفشاء الأسرار وكذلك السب والقذف وإهانة السلطات العامة، ما هي إلا وشايات الا ان صفة المبلغ غيرت الوصف القانوني للوثيقة.
فإذا ضمن الضابط هذه الوشاية من أجل التثبت من وقوع جريمة في وثيقة حدود اختصاصه فإن هذه الوثيقة تعتبر محضرا. وإذا حضر أمام المحكمة أو امام قاضي التحقيق لتوضيح مضمون هذه الوثيقة وأقسم على ذلك، فإن ما سيدلي به من معلومات يعتبر شهادة. أما إذا تظلم لدى وكيل الملك من أجل أفعال معينة تضرر منها شخصيا فان ما جاء في تظلمه يعتبر شكاية، ولو كانت هذه الوثيقة تتخذ شكل محضر رسمي. وإذا افضى للغير بمعلومات مؤمن على كتمانها بحكم وظيفته فإن ذلك يعتبر إفشاء للأسرار.
أما إذا نقل الضباط أخبارا معينة خارجة عن اختصاصه، فإن ما سيدلي به من معلومات يعتبر وشاية، ولو دون ذلك في وثيقة مكتوبة. وإذا تضمنت هذه الوثيقة وقائع تسيء إلى شخص أو هيئة معينة من شأنها المس بشرف أو اعتبار الشخص او الهيئة، او اذا تضمنت تعبيرا شائنا أو تحقيرا أو قدحا فإن ذلك يعتبر قذفا أو سبا حسب الأحوال. اما اذا تم تبليغ السلطات العامة عن وقوع جريمة خيالية، أو قدمت أدلة زائفة فإن ذلك يعتبر اهانة للسلطات العامة.
وهكذا فإن عدم تجريم الشكاية ولو كانت كاذبة لم يأت اعتباطا، أو أن المشرع اغفل تجريمها، بل أن ذلك من شأنه أن يحرم المشتكي من ممارسة حقه في التشكي تظلمه لدى الجهات المختصة حتى لا يفاجأ بمتابعة من أجل الشكاية الكاذبة، وما يتبع ذلك من شبهات ومتاعب التحقيق.
عناصر جريمة الوشاية الكاذبة
ينص الفصل 445 من ق.ج (من أبلغ بأية وسيلة كانت، وشاية كاذبة ضد شخص أو أكثر إلى الضباط القضائيين أو إلى ضباط الشرطة القضائية أو الإدارية أو إلى هيئات مختصة باتخاذ إجراءات بشأنها أو تقديمها إلى السلطة المختصة، وكذلك من أبلغ الوشاية إلى رؤساء المبلغ ضده أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من مائة وعشرين إلى ألف درهم...).
من خلال هذا التعريف نستخلص عناصر الوشاية الكاذبة كالتالي:
أولا: أن يكون هناك بلاغ
ثانيا: أن يكون البلاغ تلقائيا
ثالثا: أن يكون البلاغ كاذبا
رابعا: أن يكون البلاغ لإحدى الجهات التي حددها القانون
خامسا: أن يكون البلاغ بسوء نية.
أولا: أن يكون هناك بلاغ
البلاغ وهو الإخبار، وهذه العبارة مستقاة من النص الفرنسي، الذي استعمل كلمة
Dénonciation، وهو إعلان قد يكون رسميا أو غير رسمي يوجه عادة إلى من يجب أن يعلموا بوجود واقعة لم تصل إلى علمهم أو من هم ملزمون بإعلام السلطات المختصة بذلك. أما الخبر الذي يتوصل به شخص غير ملزم عادة بأن يعلم به، إما بمقتضى القانون أو بحكم وظيفته، أو كان ذلك تقتضيه طبيعة العرف أو العادة، فإن ذلك لا يعتبر بلاغا.
لكن هل يشترط في الوشاية الكاذبة أن يكون البلاغ خطيا؟
لم يستقر الفقه والقضاء على رأي معين فيما يخص اشتراط الكتابة في البلاغ الكاذب، فمنهم من يرى أن الكتابة شرط ضروري في قيام الجريمة، ومنهم من يرى عكس ذلك، وأن الجريمة تتحقق بأية وسيلة كانت.
وقد ذهب المشرع الفرنسي في المادة 373 من ق.ع على أن كل من أقدم بأية وسيلة كانت على تقديم شكاية كاذبة بحق أحد أو بعض الأشخاص
(2) (لقد كانت المادة 273 من ق.ع الفرنسي تنص صراحة عل أن تكون الشكاية خطية إلا أن المشرع استبدل هذا الشرط بعبارة بأية وسيلة كانت في القانون الصادر بتاريخ 8-10-43) والملاحظ أن المشرع الفرنسي نص صراحة على عدم اشتراط الشكاية الخطية وإن كان الاجتهاد القضائي في فرنسا لم يأخذ حرفيا بهذا النص(3).
والمشرع المغربي بدوره لم يحدد صورة معينة للبلاغ، فقد يكون كتابة كما إذا وجهت رسائل خاصة إلى الجهات المعنية بشأن وقائع معينة، كما يمكن أن يتم ذلك عن طريق الصحف أو على شكل إعلان و صور أو ملصقات.
وقد يكون شفاها، فيما إذا تقدم المبلغ إلى الجهات المعنية للإدلاء بمعلومات معينة، أو بواسطة التجمعات الخطابية أو الإعلانات الصوتية أو بواسطة الهاتف، وهو ما استقر عليه الفقه والقضاء في المغرب تمشيا مع مقتضيات الفصل 445 من ق.ج.
وهو نفس الاتجاه الذي تبناه القانون المصري والذي لم يحدد شكل معينا للبلاغ، وقد قضت محكمة النقض والإبرام المصرية، بأنه يعاقب على البلاغ الكاذب سواء حصل شفاها أو كتابة.
أما الفقه والقضاء في لبنان فقد ذهب إلى عكس ذلك، واعتبر أن المادة 403 من قانون العقوبات تشترط الكتابة، والتي جاء في مستهلها عبارة شكاية أو إخبار، الأمر الذي يعجل من الوسيلة الخطية شرطا أساسيا لتكوين العنصر المادي للجريمة، وإن كانت المادة المذكورة لا تشير صراحة إلى ذلك.
والقضاء في سوريا وإن تبنى في كثير من الأحيان الرأي القائل بوجوب الكتابة في جريمة البلاغ الكاذب، واعتبر أن الإخبار لا ينتج أثره ولا تتوفر فيه الصفة القانونية ما لم يكن خطيا ومكتوبا، ولا قيمة له إذا بقي في حيز الأقوال المجردة، لأن الافتراء لا يتم إلا بوجود الإخبار المنظم وفقا للقانون، فإذا لم يوجد في القضية إخبار رسمي فلا يكون الافتراء قائما
(4). إلا أنه في حالات أخرى لم يجعل الكتابة شرطا لقيام جريمة البلاغ الكاذب، وذهب إلى أن قيام رجال الدرك عن غيرة منهم على المصلحة العامة، وبعد تدوين إفادة المخبر في المحضر، وأخذ التوقيع عليه بقبض المعلومات أو بالتوسع في التحقيق أو بتحرير المحضر النهائي في غياب الشاكي، وذلك بالاستناد إلى ما صدر عن هذا الأخير فقط دون زيادة ولا نقصان(5).
والواضح أن القرار المذكور لم يشترط الرسالة الخطية في البلاغ الكاذب، لأن تدوين الإفادة التي يتقدم بها المبلغ حسب القرار المذكور، لا تتم إلا إذا كان ما أدلى به من معلومات قد تم شفاها، أما القضاء في العراق فيبدو أنه لم يجعل الكتابة شرطا في جريمة البلاغ الكاذب، وقد صدر عن محكمة التمييز أن الإخبار بوقوع الجريمة هو مجرد الإعلان بوقوعها، ولا يتطلب فيه كل ما يتعلق بها من المعلومات
(6).
والبلاغ الكتابي يمكن أن يكون مرفوعا على شكل خطاب أو عريضة، وقد يكون مدونا في مذكرة قدمت إلى القضاء، كما يمكن أن يكون الخط بيد المبلغ أو بيد الغير، أو تم ذلك بواسطة الآلة الكاتبة موقع عليه أو لا يحمل أي توقيع، مادام أن التبليغ قد صدر عن الشخص المبلغ، وأثبتت الظروف أن ذلك كان بناء على مبادرة المبلغ الشخصية وإرادته الظاهرة أو إشرافه الفعلي إلا أن الاجتهاد القضائي في سوريا خالف هذا المبدأ واشترط أن يكون الخط من قبل صاحبه وموقع منه.
وليس بالضرورة أن يتقدم المبلغ شخصيا بالبلاغ، بل يجوز أن يوكل من ينوب عنه في تقديمه ويتحقق التبليغ ولو تم ذلك بصفة غير مباشرة، كما لو استغل المبلغ ظروفا معينة ليلقى خطابا يكون الغرض منه إطلاع الجهات المختصة بخبر معين في حق المبلغ ضده.
وقد يحصل البلاغ ولو من طرف الموظف سواء أثناء قيامه بعمله أو بسببه، لأن صفة المبلغ لا أثر لها على جريمة الوشاية الكاذبة، وقد يكون المبلغ هيئة أو جمعية منظمة ذات شخصية مستقلة، كما يمكن أن يقع الإخبار بين الأقارب.
وإذا كان الفصل 445 من ق.ج يشير إلى أن التبليغ يجب أن يوجه هذا شخص أو عدة أشخاص فإنه ليس ضروريا التعريف بهذا الشخص بل يكفي أن يسهل التعرف عليه، كما إذا اقتصر المبلغ على تحديد صفة المبلغ ضده، أو على تعيين الهيئة التي ينتمي إليها.
وقد ذهب القضاء في فرنسا إلى أنه ليس من الواجب تسمية الشخص المشكو وبيان كامل هويته والمعلومات المتعلقة به، لعدم ورود هذا الشرط في النص صراحة، إذ يكفي الإشارة إليه، وعلى سبيل الغمز والتلميح بما سيتيح معه معرفة المجني عليه عن طريق الاستخلاص أو الاتجاه إلى ذلك
(7).ويعود لقاضي الموضوع وحده صلاحية تقدير المعلومات المعروضة عليه، وكفايتها في التعرف على الشخص المبلغ ضده.
أما إذا اقتصر الواشي على تقديم بلاغ إلى السلطات المختصة، بوقوع سرقة من طرف بعض الأشخاص دون تعيينهم، ودون أن يعطي أوصافا كافية لكي يسهل التعرف عليهم فإن ذلك لا يعتبر بلاغا.
كما أنه لا تتحقق الوشاية الكاذبة إذا قام شخص بتقديم بلاغ يتهم فيه نفسه بارتكاب جريمة معينة ونسب فيها الجريمة إليه، وهو ما يعرف بالاتهام الذاتي
Auto-calomnie، لأن الوشاية الكاذبة تتطلب أن يكون مجنيا عليه وأن المبلغ لا يمكن أنة يكون جانيا ومجنيا عليه في نفس الوقت، وإذا اتخذت إجراءات في حقه بشأن الوقائع التي بلغ بها عن نفسه، وثبتت عدم صحتها فلا يمكن متابعة المبلغ من أجل الوشاية الكاذبة(8).
ثانيا: أن يكون البلاغ تلقائيا
لقد أجمع الفقه والقضاء على أن جريمة البلاغ الكاذب لا تتحقق إلا بعفوية الخبر، دون أن يحمل المبلغ على ذلك تحت أي ظرف من الظروف وبأي شكل من الأشكال، سواء كان ذلك عن طريق الضغط أو الإكراه، أو عن طريق الإيحاء والإغراء.
إلا أن إجبار المبلغ على الحضور أمام الضابطة القضائية لا يمنع من قيام جريمة الوشاية الكاذبة، إذا كان ما أدلى به ذلك من معلومات كان عن طواعية واختيار، ولم تكن له أية علاقة بالموضوع الذي استدعي لأجله.
والوشاية لا يمكن تصورها إلا إذا كان البلاغ تلقائيا، وتتحقق الوشاية الكاذبة متى تقدم الشخص عن طواعية لتقديم معلومات ضد شخص أو أشخاص معينين لدى الجهات المختصة لاتخاذ إجراءات بشأنها. أما إذا تم ذلك بناء على طلب تلك الجهة، فإن التصريح الذي أدلى به المبلغ لا يعتبر وشاية كاذبة وإن تسبب في الإضرار بالغير بهذا البلاغ.
كما أنه لا تعتبر وشاية المعلومات التي يدلي بها الشاهد ضد شخص معين أثناء إجراءات البحث، سواء كان ذلك أمام المحكمة أو قاضي التحقيق أو أمام النيابة العامة، إلا أنه إذا ثبت أن البلاغ لم يقدم إلا بالتواطؤ بين المبلغ والشاهد، جازت معاقبة هذا الأخير على اعتباره شريكا بالاتفاق في جريمة البلاغ الكاذب.
كما أنه لا يعتبر وشاية إذا كان ما أدلى به المبلغ لا يخرج عن نطاق الدفاع عن النفس، ولو كان كاذبا، وترتب عن ذلك اتخاذ إجراءات جنائية أو تأديبية ضد المبلغ ضده.
إلا أنه لا يشترط في المبلغ أن يتقدم شخصيا لدى الجهات المختصة للإدلاء بمعلومات معينة، بل يتحقق البلاغ حتى في حالة ما إذا تم استدعاء المعني بالأمر للبحث معه في شأن وقائع معينة، واستغل المبلغ هذا الظرف ليدلي بمعلومات في حق المبلغ ضده لا علاقة لها بموضوع البحث الذي استدعي من أجله.
إلا أنه من جهة أخرى فإن تلقائية الخبر هو ما أدلى به المبلغ لأول مرة، وأن استدعاءه من جديد لبعض المعلومات التكميلية أو التوضيحية فلا أثر له على تلقائية البلاغ.
وتتحقق الوشاية مهما تعاقب المبلغون للإدلاء بنفس البلاغ، سواء تم ذلك باتفاق بينهم أو كان ذلك على وجه الصدفة.
ثالثا: أن يكون البلاغ كاذبا.
يشترط المشرع المغربي كباقي التشريعات في جريمة الوشاية الكاذبة أن يكون الخبر الذي تم نقله كاذبا. والتبليغ الكاذب هو التبليغ عن أمر ينسب فيه مقدمة وقائع مكذوبة يختلقها ظلما على امرئ يريد الوقيعة به.
أما إذا كان البلاغ صحيحا فإن جريمة الوشاية الكاذبة لا تتحقق، ولو كان الغرض من هذا التبليغ هو التنكيل بالمبلغ ضده.
وقد قضت محكمة النقض التونسية أنه من الأركان الأساسية لقيام جريمة الوشاية الباطلة كذب الوشاية، لكن لا يتوقف تتبع مرتكبها على حكم كان صدر ببطلانها إذ للقاضي المتعهد بالنظر فيها أن يقدر في نطاق اجتهاده المطلق، كذب الواقعة أو كذب بعض الواقعة التي تتضمنها تلك الوشاية
(9).
أما إذا كانت الوقائع المبلغ بها غير مطابقة للواقع، وكان المبلغ يعتقد بصحة ما أدلى به من معلومات فإن ذلك يعتبر كذبا.
ومن جهة أخرى فإنه ليس من الضروري أن تكون الوقائع المبلغ بها لم تقع أصلا بل يكفي أن ينسبها المبلغ باطلا لغيره، أو أن تكون قد أسندت على سبيل التأكيد، بل يكفي أن يكون الخبر أسند إلى المبلغ ضده على سبيل الإشاعة أو على وجه التشكيك أو الظن أو الاحتمال.
رابعا: أن يكون البلاغ قدم إلى الجهات المحددة في الفصل 445 من ق.ج.
لا يعتبر البلاغ وشاية كاذبة إلا إذا قدم أمام الجهات المختصة لاتخاذ إجراءات بشأنها، وقد حدد الفصل 445 من ق.ج هذه الجهات على سبيل الحصر، وهي الضباط القضائيون وضباط الشرطة القضائية وضباط الشرطة الإدارية أو الهيئات المختصة لاتخاذ الإجراءات بشأنها. وكذلك رؤساء المبلغ أو أصحاب العمل الذين يعمل لديهم، وهي نفس الجهات التي أشار إليها الفصل 248 من ق.ج التونسي.
كما يقضي قانون العقوبات في مصر على أنه يشترط في البلاغ الكاذب أن يكون قد رفع إلى الحكام القضائيين أو الإداريين، في حين اقتصرت المادة 367 من قانون العقوبات الإيطالي على أن يكون البلاغ قد قدم إلى السلطات القضائية أو السلطة الملزمة بإبلاغ هذه الأخيرة، وهو نفس الاتجاه الذي تبناه المشرع اللبناني في المادة 403 من قانون العقوبات.
ويتسم بصفة ضابط الشرطة القضائية قضاة التحقيق وقضاة الصلح والمسددون وضباط النيابة العامة، وضباط الدرك وذوو الرتب فيه والدركيون الذين قضوا على الأقل ثلاث سنوات من الخدمة وعينوا إسميا بقرار مشترك لوزير العدل ووزير الدفاع الوطني، والدركيون الذين يتولون قيادة مؤقتة لشرذمة دركية أو مركز دركي.
كما يتسم بصفة ضابط المدير العام للأمن الوطني، والمراقبون العامون للشرطة ومندوبو الشرطة وضباطها والباشوات والقواد، وضباط الشرطة المساعدون ومفتشو شرطة الأمن.
وكان مهندسو ومأمورو المياه والغابات في الجنح والمخالفات المنصوص عليها في قانون الغابات والصيد البري في المياه الإقليمية، وموظفو وأعوان إدارة الجمارك في حدود الاختصاصات المخولة لهم بمقتضى القانون، والأعوان التابعين لإدارة مصلحة قمع الغش فيما يخص إثبات المخالفات المنصوص عليها في ظهير 05-10-84.
ويعتبر كذلك في عداد الضباط موظفو وأعوان الإدارات والمصالح العمومية الذين تسند إليهم بموجب نصوص خصوصية بعض سلطات الشرطة القضائية ضمن الحدود المبينة في هذه النصوص وكذا ولاة وعمال العمالات والأقاليم في حالة اقتراف جريمة ضد سلامة الدولة الداخلية أو الخارجية.
كما يتسم بصفة الضباط الإداريين كافة الرؤساء والموظفين الذين لهم حق الإشراف على مرءوسيهم مع إمكانية اتخاذ جميع العقوبات الإدارية والتأديبية، كالوزراء والعمال ورؤساء المصالح والمديرين ومحافظي الأملاك العقارية.
وتعتبر هيئة مختصة الجمعيات المنظمة والمجالس التنظيمية، سواء كانت منتخبة أو معينة كالمجلس الأعلى للقضاء والنقابات والمجالس الاستشارية والنيابية ومجالس هيئات المحامين .... إلخ.
وتعتبر وشاية حسب الفصل 445 من ق.ج البلاغ الذي يقدم إلى رؤساء المؤسسات سواء كانت صناعية أو فلاحية أو تجارية، وكذا أرباب العمل والمديرين ورؤساء المصالح الذين لهم الصلاحية في اتخاذ القرار ولو بصفة مؤقتة.
أما إذا تم التبليغ إلى جهة غير الجهات التي حددها الفصل 445 من ق.ج، أو قدمت المعلومات إلى جهة غير مختصة فإن ذلك لا يشكل وشاية. إلا أن محكمة النقض والإبرام في مصر ذهبت إلى عكس ذلك واعتبرت أن وجود الجريمة لا يتوقف على كون السلطة المقدم إليها البلاغ مختصة أو غير مختصة
(10)وهو اتجاه لم يأخذ به الفقه في مصر.
وقد قضت محكمة النقض في فرنسا أنه في حال تعيين هذا الشخص الثالث من قبل المفتري ضمن رسالة موجهة إلى أحد المواطنين، لا تعتبر من قبيل الافتراء وإن كانت تعزو إليه اقتراف جريمة لم يرتكبها، لأنها ليست مقدمة للمرجع القضائي الجزائي الصالح وهو نفس الاتجاه الذي تبناه الاجتهاد القضائي في سوريا، بحيث لم يعتبر مجرد الإخبار مكونا لجريمة الافتراء ولو شفاهيا أمام جمع غفير من الناس لا دخل لهم في الموضوع، ولو كان ذلك يشكل إساءة إلى المجني عليه.
وعليه فإنه لا يعتبر وشاية كاذبة إذا تقدم الواشي ببلاغ لدى إدارة الجمارك يفيد أن المبلغ ضده يقوم بقطع أشجار الغابة ولو ثبت عدم صحة هذا البلاغ، لكون مصلحة إدارة الجمارك ليست مؤهلة لاتخاذ أي إجراء في شأن المخالفات الغابوية.
كما أنه لا يعتبر وشاية كاذبة إذا تقدم الواشي ببلاغ لدى رئيس مصلحة لا يعمل المبلغ ضده تحت إمرته، ولو كان مستخدما بنفس المؤسسة لأن هذا الرئيس له أية صلاحية لاتخاذ أي إجراء في حق هذا الأخير، وهو ما ذهب إليه القضاء في تونس عندما اعتبر أن من أركان جريمة الوشاية الباطلة أن تكون السلطة التي قررت حفظ الوشاية مختصة بالنظر فيها إلا أنه ليس ضروريا أني قدم البلاغ إلى الرئيس الذي له الصلاحية في اتخاذ القرار مباشرة إذا كان هذا البلاغ قدم إلى عون تابع إلى نفس المؤسسة، وكان من وظيفته إشعار الرئيس بذلك.
ومن جهة أخرى فإنه لا تعتبر وشاية كاذبة إذا كان البلاغ قدم إلى سلطة أهلية كما لو بلغ الزوج عن جريمة ارتكبتها زوجته أو بلغ والدا عن أفعال ارتكبها ولده.
خامسا: أن يكون البلاغ بسوء نية
مجرد البلاغ الكاذب غير معاقب عليه إلا إذا كان المبلغ يعلم بعدم صحة الوقائع موضوع الوشاية، أما إذا لم يكن على علم بذلك فإن جريمة الوشاية الكاذبة لا تقوم، ولو تسبب في الإضرار بالغير بهذا البلاغ، بل يجب أن تنصرف إرادة الجاني وإصراره على تقديم البلاغ وتوجيه الاتهام عن قصد لشخص يعلم براءته منها. وهذا هو العنصر المعنوي في جريمة الوشاية الكاذبة.
والعلم بعدم صحة البلاغ يجب أن يتوافر قبل تقديم البلاغ، وقد قضى المجلس الأعلى بأن سوء النية الذي يعتبر عنصرا من عناصر تكوين جريمة الوشاية الكاذبة يتجلى في العلم وقت التبليغ إما بكذب الوقائع المبلغ عنها وإما بتحريف وصفها المعاقب قانونا، أما إذا علم المبلغ بذلك بعد تقديم البلاغ الكاذب فإن جريمة الوشاية الكاذبة لا تتحقق.
وقد قضت محكمة التمييز بلبنان أنه لكي يتحقق جرم الافتراء يجب أن يثبت أن الشاكي كان على علم ببراءة المشكو منه عند تقديم شكواه، وأنه قدم هذه الشكوى عن سوء نية.
وقد ذهب بعض الفقهاء ومنهم شوفو وهيلي، إلى أنه يشترط في البلاغ الكاذب أن يكون المبلغ عالما بالوقائع المبلغ بها، وأن يقصد من ذلك الإضرار بمن بلغ به.
والقضاء في مصر صريح في أن العلم غير كاف في هذه الحالة، إذ يشترط لكي تتحقق جريمة البلاغ الكاذب توافر ركنين هما ثبوت كذب الوقائع المبلغ بها وأن يكون الجاني عالما بكذب هذه الوقائع مع نية السوء والإضرار بالمجني عليه.
وهو نفس الاتجاه الذي تبناه الفقه في لبنان، واشترط في جريمة الافتراء زيادة على العنصر المعنوي، والذي يستند على علم الجاني ببراءة من أسندت إليه الواقعة الكاذبة، العنصر المعنوي الخاص والذي ينشأ عن نية الفاعل من ذلك إنزال الأذى وإلحاق الضرر بالمعتدي عليه، ليس فقط الاحتقار به والازدراء بشخصه، وإنما في إمكانية ملاحقته بجريمة معينة.
إلا أننا نرى عكس ذلك، وأن الهدف من تقديم الوشاية الكاذبة ليس ضروريا لأن لمشرع لم يشترط قصدا خاصا لقيام الجريمة، بل يكفي أن تكون الوقائع المعروضة على الجهة المختصة غير مطابقة للواقع، وأن يكون المبلغ على علم بذلك ولو لم يقصد بذلك الإضرار بالغير أو الإساءة إليه.
ويبدو أن القضاء في المغرب ذهب إلى نفس الاتجاه واعتبر أن العنصر الأساسي في جريمة الوشاية الكاذبة هو القصد العام، أي علم المشتكي بعدم صحة الوقائع التي بلغ بها
(11).
وقضى المجلس الأعلى أنه يشترط لقيام جنحة الوشاية الكاذبة، توافر القصد العام وحده، أي العلم بكذب الوقائع المبلغ عنها، إن إضافة قرار محكمة الاستئناف لشرط سوء النية قصد الإضرار بالغير يعتبر خرقا لمقتضيات الفصل 445 من القانون الجنائي، ويعرضه للنقض والإبطال.
كما اعتبر القضاء في تونس أن من الأركان الأساسية لقيام جريمة الوشاية الباطلة كذب الوشاية لكن لا يتوقف تتبع مرتكبها على حكم صدر ببطلانها ... ويقضي الفصل 248 من المجلة التونسية، أن جنحة الادعاء الباطل لا توجد إلا إذا أوشى الفاعل بأمور معروف زورها أي أنه يعرف زورها.
أما الباعث من تقديم الوشاية فلا أثر له على قيام الجريمة متى توافرت العناصر الأخرى، سواء كان الباعث على تقديم الوشاية هو الإساءة إلى المبلغ ضده أو الانتقام منه والوقيعة به، أو كان ذلك بدافع الشفقة أو الحفاظ على كرامة شخص أو جهة معينة، أو أسند البلاغ الكاذب إلى غيره لمجرد التسلية.
بهذا أكون قد أنهيت بحول الله الجزء الأول من موضوع، الوشاية الكاذبة على أن أتطرق لإشكالية رفع الدعوى وكيفية ممارستها وإثباتها في العدد المقبل من هذه المجلة.
الهوامـش
1-لقد أشارت محكمة النقض المصرية إلى أن على عاتق المبلغ وحده يقع عبء إثبات الواقعة التي أبلغ عنها لأن الأصل في الإنسان البراءة حتى يثبت عكسها فإذا عجز المبلغ عن الإثبات حق عليه العقاب متى توافرت للجريمة الأركان الأخرى (المشكلات العميقة الهامة في الإجراءات الجبائية ـ الجزء الأول ص 647 ذ.رؤوف عبيد).
2-الموسوعة الجزائية ـ المجلد 15 ص 155 القاضي فريد الزغبي.
3-الموسوعة الجزائية ـ المجلد 15 ص 155 القاضي فريد الزغبي.
4-قرار محكمة التمييز السورية بتاريخ 22---63 الموسوعة الجزائية المجلد 15 ص 156 القاضي فريد الزغبي.
5-محكمة التمييز السورية ـ الموسوعة الجزائية ـ المجلد 15 ص 157 القاضي فريد الزغبي.
6-قرار عدد 587 بتاريخ 10-10-33 مجلة الفقه الجنائي في قرارات ـ العراق ـ.
7-نقض فرنسي بتاريخ 22-05-59 الموسوعة الجزائية المجلد 15 القاضي فريد الزغبي.
8-إلا أن ذلك لا يمنع من متابعة المبلغ من أجل إهانة السلطات العامة طبقا للفصل 264 من ق.ج متى توافرت عناصر الجريمة ـ حيث يكون الاتهام الذاتي باطلا نتيجة عدة عوامل منها الانتقام من نفس المبلغ، وقد يكون ذلك بدافع التستر عن المجرم الحقيقي أو كما يحدث في بعض البلدان الغربية حيث يفضل بعض الأشخاص الدخول إلى السجن بقصد الاعتناء بصحتهم مجانا، أو الاختفاء في المؤسسة السجنية خوفا من الانتقام.
9-قرار تعقيبي عدد 4311 بتاريخ 23-03-66 المجلة الجنائية التونسية.
10-نقض بتاريخ 05-03-50 الموسوعة الجنائية ص 129 ـ جندي عبد المالك.
11-قرار المجلس الأعلى عدد 8060 بتاريخ 10-12-87 المجلة العربية للفقه والقضاء ج 9 ص 435.
المصدر مجلة الرافعة