وصية العهد الجديد القانون والكنيسة العصرية


مقدمة :
في ادب المسيحية الاصلية، اخذت سبعة وعشرون كتابا مكانة محظوظة .
انها فرضت وجودها للاجيال المسيحية الاولى ودونت شيئا فشيئا ورتبت في مجموعة سميت بالكتب المقدسة - كان انذاك للمسيحين كتاب مقدس = التوراة الموروث من ديانة اليهود - سمي فيما بعد، بـ " العهد العتيق" وبعد ان اضيفت له السبعة والعشرون كتاب المذكور اعلاه سمي بـ " العهد الجديد" .

ان " العهد الجديد" ينقسم الى اربعة انواع من النصوص :

I- المكتوبات الحكائية، التي تتضمن الانجيلات الاربعة
كان المسيحيون الاولون يعتبرون بان " الايناكليون" هي قبل كل شيء الخبر السار، خبر السلام الذي سياتي به المسيح كما نقل ذلك شفويا عن صحابته .

فيما بعد، طبق هذا اللفظ عن كتابة هذه الاخبار الرسولية - واخيرا حوالي سنة 150 سميت بهذا اللفظ كل المكتوبات " العهد الجديد" الذي يحكي الحياة الارضية للمسيح .

ولذلك نتكلم بهذا المفهوم عن " الانجيلات" الاربعة ويسمى " بالانجيلي" المؤلفون الذين روي عنهم بانهم حرروها - توصلت الكنيسة المسيحية بالانجيلات الاربعة جنبا لجنب لكنها اعطتهم عناوين تفيد بان الامر يتعلق باربع روايات عن حدث واحد وشخص واحد ونبا سار فهم بكيفية مختلفة ومتكاملة، اي انجيل واحد ذا اربعة اشكال : الانجيل " حسب" ماتيو، الانجيل " حسب" مارك، الانجيل " حسب" لوك، الانجيل "حسب" جان .

تشكل " الانجيلات" نوعا ادبيا فريدا من نوعه انها تشبه النوع التاريخي، في كونها تجمع بين سنن مختلفة تداونت في الكنيسة طيلة ثلاثين او اربعين عاما قبل ان تدون في كتاب - لكنه لا يمكن مقارنتها الى عرض احداث مضت : ان طابعها السيري يجب ان لا يغطي على مفهومها الاساسي، شهادات المجتمع ابن الله ومنقد البشرية .
النبا السار الذي اتى به كان هو الاهداء الرائع لشخصه والاهداءات الربانية التي اتى بها .

1) افعال المبشرين :
هذا الكتاب لا يختلف عن الانجيلات لا في نيته ولا في شكله الادبي يحكي كاتبه، لوك تاريخ نشر الانجيل من القدس الى روما بواسطة مفعول الروح المقدسة - انه عمل لاهوتي وتبرير ومدح للمسيحية، حرر حوالي سنة 80 وكان على الارجح مهيأ الى قراءة كفرة .

2) كوربوس بولينيان :
يتعلق الامر بعدة رسائل اهدائية كتبت بعد اهتدائه من طرف " بول" يهودي من " طارس" من قبلية "باذجامان" " فاريزي" ولد مواطنا رومانيا واصبح مبشرا للكفرة الذين زارهم عند قيامه بثلاث رحلات كبرى غايتها التبشير .
يستحيل اعطاء نظرة موجزة على الكفرة اللاهوتية " لبول" ولو للقول بانها التبرير بالايمان او بالحياة في المسيح - وكان اثره الفقهي عظيم .

3) رسائل الاهداء الكاثوليكية :
تجمع تحت هذا العنوان : رسالة " جاك" الرسالة الاولى والثانية " لبيير"، الرسالة الاولى والثانية والثالـثـة " لجان" ورسالة "جود" .
ان المفهوم الاصيل لهذه التعرفة لا احد يتذكره : يفهمها الجميع عامة وكانها تعبر عن الغاية " الكونية" لتلك الحروف ( لفظ كاثوليكي هو نقل اللفظ اليوناني " كاثوليكوس" الذي يعني " كوني") .

4) نهاية الدنيا :
انه الكتاب الذي يختم التوراة، الكتاب المقدس - اسند هذا الكتاب الى الاوساط " الجوهنية" ويكون قد كتب في اواخر عهد " ضوميسيان" في سنة 96 اثناء القمع العام والرامي الذي تسلط على النصارى الذين رفضوا عبادة الامبراطور وكانه إله .

يكشف الكتاب لا على وجود عهود جديدة ستاتي فسحب، بل وكذلك على ابعاد وازمنة محجوبة وعلى ان التاريخ له عمق دائم تتحقق فيه السعادة الابدية من خلال الافعال المتقاضية لمختلف الممثلين .

ان العلاقة اللاهوتية الداخلية التي تجمع بين هذه الكتب السبعة والعشرون التي تشكل محور وصية العهد الجديد، هي التصريح بالايمان بالمسيح، وعبودية اللـه ليست الا عضوا من هذا الايمان : المسيح ابن الله .

ان الصيغ والجمل القصيرة التي تحتوي عليها وصية العهد الجديد تلح على بعث المسيح وعلى العهد الحالي والكوني للذي يجلس " على يمين الله" - ان الوحي باكمله ينظر اليه بفكرة ان المسيح موجود، مسيح مبعوث ليس مجرد مبتدئ غامض : انه نفس الشخص الذي تحكي لنا الانجيلات عن حياته وعهده الارضي : هذا المسيح الذي كان يخدم الله بقيامه بدور خادم تعذب من اجل الله وابن الرجل الذي سياتي في نهاية الازمان ليعلن مملكة وعهد الله - هذا المسيح الذي تتابع امة المؤمنين عمله - فالتجربة والاعتقاد الصميم بهذا العمل الدائم هما اللذان يشكلان ركيزة وصية العهد الجديد .
***
لكن، ولو ان وصية العهد الجديد كان ولا زال هو قاعدة ايمان النصارى، ولو انه اوصى ولا زال يوصي اشخاصا معروفين او مخبئين، وانه اثر حضارات في اخلاقهم الخاص والاجتماعي في ادابهم كما في فنونهم، هل يمكن القول واعتباره كمنبع للقانون وهل يمكن القول بان الكنيسة منبثقة مباشرة منه ؟

ان دراسة العلاقات الموجودة بين المسيحية والقانون والفحص الدقيق للعلاقات بين اللاهوتية المسيحية والفلسفة القانونية تؤدي حتما الى اتخاذ موقفين ذلك ان اللاهوتية المسيحية لم يكن لها مذهب موحد للفلسفة القانونية ( انظر س. أ. ستامبق : مساهمة اللاهوتية في فلسفة القانون، محفوظات فلسفة القانون - رقم 5 - 1960 ص 1 ) .

ان جزءا من الفقهاء يعاين بان الرسالة الانجيلية ليست بقانونية ولا يمكن القول بان نظام العلاقات الاجتماعية منبثق من التوراة ( انظر ج. فاصو : المسيحية والمجتمع - ميلانو، جيوفر، 1956 ) .

وعكسا لهذا يستنتج بعض المولفين من الانجيل بعض القواعد التي يجب على القانون ان يحترمها، لكن هذا التيار غير موجود : بعض الفقهاء مع " سان طوماس" ( صوم ثيولوجيك 1 الى 11 ص. 90 وما يليها. اس. بلوت ص 974 الى 1292، السيد فيلي : بحث حول طبيعة المذاهب الاجتماعية المسيحية - محفوظات فلسفة القانون المذكورة اعلاه - ص 37 وما يليها ) يعتبرون بان الشريعة الانجيلية يجب ان تنور القانون دون ان تصبح مصدر قانون ( باستثناء القانون الكنسي)، اما الاخرون فانهم يستنبطون من الرسالة الانجيلية قواعد قانونية حقيقية ( ج. ي كالفيزوج بيران : الكنيسة والمجتمع الاقتصادي - اوبريي 1959 - مونسنيور جرى : المذهب الاجتماعي للكنيسة ) تجعل من الانجيل مصدرا للقانون امام هذا الموقف المزدوج ينبغي اتخاذ قرار (وسيكون الجزء الاول من العرض) - اذا اخذنا بعين الاعتبار نظرية السيد الاستاذ فاصو، لا داعي للكلام اكثر - لكن اذا اخذنا بعين الاعتبار موقف التيار المذهبي الثاني فانه ينبغي البحث على الاثار التي خلقتها وصية العهد القديم ووصية العهد الجديد مع اعتبار اضواء السنة والماجيستر على القانون ( وسيكون الجزء الثاني من العرض ) .

وسوف نقول اخيرا لماذا لا يتعلق القانون الكنسي، بالمفهوم الذي تعطيه الكنيسة لهذا اللفظ، بعرضنا هذا (وسيكون الجزء الثالث لعرضنا ) .

I- هل يمكن استنباط استنتاجات قانونية من الكتب المقدسة ( وصية العهد القديم ووصية العهد الجديد ) ؟ هل تفرض المسيحية قبول بعض القواعد دون الاخرى ؟ يجيب الفقهاء على هذه الاسئلة بجوابين متناقضين :
1) يعتبر البعض بان الانجيل غير قانوني، بحيث انه لا يمكن استنباط اي استنتاج قانوني من المسيحية - هذه النظرية اكدها في كتاب بارز من طرف مؤلفه الاستاذ الجامعي فاصو ( كلية الحقوق ببارم) والذي يبين فيه بان اي استنتاج قانوني لا يمكن استنباطه من الانجيل ولو ان الكتاب المقدس يتكلم عن بعض الانظمة القانونية .
أ‌- حقيقة ان الانجيل يتكلم عن بعض الانظمة القانونية : هناك الكلام عن الاجارة في رواية العاملين الخونة وفي رواية عمال الساعة الحادية عشر للعبودية ( الخادم الغير النافع ) وعن عقد الوكالة ( المتصرف الخائن) وعن الزواج ( المراة الخائنة لعقد الزوجية ) وعن قواعد الارث ( رواية الابن المبذر - المسرف) : لكن المسيح لا يتكلم عن هذه الحالات القانونية الا لانها تشكل اطار حياة مستمعيه .

لكنه في اي وقت لا يعطي رايه في هذه الانظمة القانونية. ان موقف المسيح موقف محايد بل اكثر موقف لا مبالاة ( بالمفهوم الذي يعطيه انياص دولوبولا لهذا اللفظ - انياص دولوبولا هو مؤسس مجموعة " اصحاب المسيح" ومؤلف " التمارين الروحانية" التي ارتكز عليها وكبير من الفقهاء) - لا يصادق المسيح عليها ول ايستنكرها ولا يمكننا القول بانه مع الاجير ضد المستاجر ( او العكس)، او ضد الجيش الممثل من طرف قائد المائة او ضد بيت المال الممثل من طرف القابض : زاشي لم يحكم بصفته قابضا بل لقيه المسيح بصفته رجل .

ويمكن فهم هذا الموقف لان عهد ومملكة المسيح ليست في هذه الدنيا ولا ينبغي خلطها بمشاغل ابيه والنظام الاجتماعي والقانوني .
" ارجعوا لقيصر ما هو لقيصر ولله ما هو لله" .

ب‌- يمكننا ان نتساءل عن اسباب هذا الموقف المتعلق بالطابع الغير القانوني للرسالة الانجيلية :
1- ان الاكراه هو طابع القاعدة القانونية التي تظهر كقاعدة سلوك اجبارية :
ينفد الاشخاص في غالب الاحيان الالتزامات الملقاة على عاتقهم قانونا وذلك عن طواعية - لكن اذا لم يمتثلوا، يمكن للسلطة ان تكرههم - تعوض الرسالة الانجيلية الاكراه بالحب والذي يشكل اول وصاية : وهذا فرق جوهري .
2- يظهر القانون كمجموعة قواعد تقنن السلوك الاجتماعي - كما قال الرومان " اين يوجد مجتمع يوجد قانون" وعوضت فكرة المجتمع، وهذه الفكرة التي تشكل العنصر الاولي لظهور القاعدة القانونية التي تقيم العلاقات بين الافراد وبين مجموعات من الافراد، اقول عوضت فكرة المجتمع بمجمع روحاني لا تنقضي فيه الرحمة والاحسان .

ج - ومن ثم لا يكون الحل المسيحي في هذا الباب اصدار قوانين متعلقة بالاثمنة العادلة، عقد الشغل، وضعية العبيد، التزامات المسير او التزامات المراة المتزوجة لا تتعلق مشاغل المسيح بالوقف الذي يجب اتخاذه ازاء المثل الروماني ( المقاومة او المساعدة) او ازاء بيت المال .

بل تكون مشاغله الهدي الفردي الذي وعظ به من قبل رسل وصية العهد القديم والذي اقره المسيح في وصية العهد الجديد .
" كونوا كاملي اوصاف كما هو الشان بابي في السماء" فاذا اردنا استنباط قواعد قانونية من الرسالة الانجيلية فهذا يعني اعطاء مفهوم معاكس لهذه الرسالة وتحريفها - كما ان قبول فكرة قانون نابع من الكتب المقدسة يعني، اذا صح التعبير، تدنيس رسالة المسيح .

2) وهذه النظرية التي تميز بوضوح بين المسيحية والقانون يعاكسها مذهب، اكثر انتشارا، حسبه تكون للمسيحية اثار على القانون .
أ‌- الاسباب التي جعلت الكنيسة الكاثوليكية تقترح مجموعة من القواعد او المبادئ هدفها خلق مصدر للقانون مختلفة :
1) ان الكنيسة الارضية، مجاهدة ومكونة من رجال ليسوا ملائكة - لانها مغمرة ومستغرفة في الدنيا تابعة في هذا دعاء المسيح الى ابيه :
" لا ادعوك لتخلعهم من الارض بل لتحفظهم من السوء" وراى هؤلاء الاشخاص انفسهم مضطرين الى اتخاذ قانون مستعار حتى من الحضارة الوثنية المحيطة بهم وحتى من نظرية القانون الطبيعي الذي ظهر في "انتيكون" " لصفوكل" والتي ذكرها "ارسطو" و"سيسرون" .

2) ان الانسان ليس مجردا من الماديات - انه جسم وروح - الانشغال بالانسان فقط يعني النقصان منه والانشغال بروحه فقط يعني بثره وجدمه .
الانسان يعيش في سياق سياسي، قانوني واجتماعي من الصعب والخطير عدم اعتباره او احتقاره ( اي هذا السياق) ذكر " باسكال" عن صواب : " من الذي يخلق الملك ويخلق الوحش" - من ثم، وباعتبار الطبيعة المعقدة للانسان يجب على الكنيسة بوصفها " ام ومعلمة" بان تقترح طرقا للسعادة الابدية، وهذه هي الغاية والنهاية الاولى للانسان، وبان يطالب بتتبع قواعد حياة اجتماعية هدفها تسهيل الوصول الى الغاية والنهاية للجميع .

ب- لما تتبنى الكنيسة مذهبا لفلسفة القانون، كما فعلت بالنسبة " لسان طوماس" فانها لا تخون مهمتها، ورسالتها بل تقوم بها تمام واحسن قيام .
لهذا التزام تذكير ضرورة اتخاذ قوانين عادلة دون القيام بمواجهة المبادئ الانجيلية بقواعد القانون .
القانون، والانظمة الساسية والقانونية مشتقة من القانون الابدي وهدفها ارجاع الانسان الى الله، دون ان تكون العقيدة الموحى بها مصدرا للقانون : الانجيل يوحي ولا يكره .
***
II- اذا قبلنا هذا الموقف، الذي هو موقف الكنيسة، ما هو اذن اثر اركان العقيدة على القانون ؟
ان في التوراة مجموعتان من النصوص، وصية العهد القديم ووصية العهد الجديد ويظهر الوحي في كل واحد منهما - ولا يوجد أي تناقض بين هذه النصوص بل هناك استمرارية كما قال المسيح بنفسه : " اتيت لا لالغي الشريعة بل لاتممها واكملها" .

يجب تنوير الوحي بالسنة وهنا يظهر الدور المهم الذي تلعبه الكنيسة - وهذا الدور يترجم حاليا ويتجلى في الرسائل الباباوية والرسائل الدورية بالمفهوم النبيل وهذا يعني ان الرسالة الباباوية تعبر الارض باسرها ولها قيمة كونية في الحيز (انظر : هانري كيطون : مقدمة للرسائل الباباوية والرسائل الاجتماعية - ضالوز ص 2 و3) اي حقيقة مذهبية وقيمتها ليست عقدية بل انها تقترح ارشادات ووعظ .

1) ان وصية العهد القديم تتضمن في المادة القانونية عددا من القواعد المكتوبة، المكرهة رتبها وصنفها "سان طوماس" الى 3 اجزاء :
المبادئ الاخلاقية ( موراليا )
مبادئ الطقوس الدينية ( سيرمونيا )
المبادئ القانونية (جوديساليا) .

صنفان من هذه المبادئ فقدا قيمتهما الاجبارية :
يتعلق الامر اولا بمبادئ الطقوس الدينية (التقاليد والرسميات) لانها تتعلق بعبادة الانسان لله ولا تتعلق بالعلاقات الاجتماعية - لكن الامر يتعلق حتى بالمبادئ القانونية وهذا اغرب المبادئ التي تهم المادة التي نحن بصددها والتي تشكل نموذجا تشريعيا مكيف مع الشعب الذي يعنيه :
لماذا فقدت هذه المبادئ قوتها كشريعة الرجل طلاق الزوجة، وحتى تعدد الزوجات ؟ ان مفعولها اصبح لاغيا بمجيئ المسيح لانها اصبحت غير لائقة لشعوب غيرتها المسيحية والتي يمكن ان يطلب منها اكثر .
تبقى اذن المبادئ الاخلاقية التي تترجم النظرة المسيحية للعالم الدنيوي مع تنكرها لبعض التصرفات .

انها تفيدنا على محتوى القانون الطبيعي ولا تشكل رغم ذلك مصدرا للقانون ولو بسبب عدم دقتها "سوف لن تسرق" : هذه الحكمة تضع مبدءا لكن لا تعطي حل مشكلة تحديد عقار او وضع حدود الاملاك، وكذا مشكلة حق شفعة الدولة او نزع الملكية للمصلحة العامة .
" احترم اباك وامك" : هذه الحكمة لا تفيدنا عن محتوى السلطة الابوية، سن الرشد والتزام الانفاق الخ … لا يوجد اي مذهب قانوني، بالمفهوم التقني لهذا اللفظ، متعلق بالشغل، التبادل الملكية الخ …

في الوصايا العشر - انه صادر ونابع من مصدر غير مقدس ومستقل- لا تفرض المسيحية، باسم الكتب السماوية، اي نظام قانوني وسياسي كيفما كان نوعه - انها لا تتوفر على هذه السلطة لكن لها التزام مراقبة يجعلها تذكر بان كل الاجراءات التقنية، المختلفة، يجب ان تكون مطابقة للمبادئ الخلقية .

2) كونت وصية العهد الجديد ركيزة للانظمة والقانون الكنسي في كل ما يتعلق بالحياة الدينية وتنظيم الكنيسة - لكن هل تضمنت هذه الوصية قواعد القانون المدني ؟ طبعا الجواب سلبي، لكن هناك تداخل مع القانون المدني .

لا نجد في الانجيل ادانة العبودية بل نجد فقط بان كل انسان هو ابن الله، ولهذا السبب يجب ان يحقق هدفه النهائي و"سان بول" ذكر بان العبد اخ لسيده، بل هنا نجد اثارا على القواعد المدنية التي تذكر بكرامة الانسان، وحق العبد في عبادة الله وحقه في الزواج - لكن المسيح لا يتكلم عن النظام القانوني : انه يذكر فقط ضروريات السلامة والسعادة ( الابدية ) .

3) وصية العهد الجديد والكنيسة :
أ‌- " سان بول" ( الرسالة التقوية الى ثيموتي 3 -14 ) يشرح بشكل جيد دور الكتب المقدسة لما يصرح :
ان كل نصوص الكتب ( اي المقدسة ) موحى بها من الله - انها مفيدة للتعليم لدحض الشر والتعديل والتربية في العدل والعدالة" .

وان الباباوات، بوصفهم خلفاء ومتممي الرسل والرؤساء الحاليين لكنيسة قديمة جدا، يتابعون ويجددون العمل والتعليم الذي بدأه المسيح - وانهم يرون انفسهم ملزمين للتطرق باللغة والالفاظ الخاصة بعهودهم الى الحقائق الكبرى التي ترك لهم المسيح وكل هذا باسم هذا الاخير وحده، هذه الحقائق تتكون من بعض السطور فقط : انها بسيطة وثاقبة، لكنها تحتاج دائما الى ترجمة مستمرة ترتبط بالتجديد اللا محدود للتاريخ .

بالنسبة للمسيح، ان الطاعة لله، بواسطة الحب لله، الذي يؤدي الى حب الناس، هذا الحب الجدري الجوهري يلخص في ثلاث شهادات او صيغ :
1) " الحب هو السماع" لا يمكن التوفيق لا بين العبد وربه الى لمن سيتسامح مع اخيه .
وبالتالي يجب الغفران لكل انسان بدون استثناء .
2) " الحب هو الخدمة" التواضع وروح الخدمة هي الطريقة نحو الرفعة الحقيقية .
3) " الحب هو التنازل" هذا تحذير ضد استغلال الضعفاء ونداء للتنازل عفويا على كل ما يعرقل ويعيق المسؤولية ازاء الله وازاء كل انسان ( هانص كونغ : كيف يكون المسيحي - منشورات سوي 1978 ) .

وهكذا كان دائما طريق الباباوات مخطط لاعادة التفكير في المشاكل الانسانية المطروحة على الضمير العالمي بسبب احداث القرن ولوعظ وارشاد المؤمنين ومن وراء العالم الكاثوليكي مخاطبة كل الناس الذين ينتظرون الرسالة الانجيلية .

ب‌- ان مضمن ما جاء في ارشادات الماجيستر ( الكنيسة ) ليس بالسهل تحديده : كل جزء يتضمن حصة سلبية نقدية وفي غالب الاحيان شديدة وحصة ايجابية بناءة وفي غالب الاحيان معلقة بالشخص .

1) ان كرامة الانسان تشكل وسيلة التعليم والارشادات الباباوية لانه اذا كانت الغاية النهائية للانسان هي الله فان كل الانظمة القانونية ليست الا وسائل في خدمة هذا الانسان ولا يمكن ان تشكل غاية بنفسها .

والامثلة كثيرة في الرسائل الباباوية :

بيون الثالث عشر (13) في "ريروم نوفاروم" .
" من الانصاف والعدل ان يحترم المشغل في عامله كرامة الانسان الموحى به وكذا كرامة الانسان المسيحي".

بي الحادي عشر (11) في " ديفيني ريدومبوريس" رقم 27 :
ان الانسان شخصية عظيمة وهبها الخالق لا بجسم وروح - انه انسان بوصفه صورة مصغرة عن العالم تساوي وحدها اكثر من الكون الكبير المتحرك" .

وفي الرقم 29 :
" الانسان، هذا الانعكاس للكمال الرباني" .

بي الثاني عشر (12) " كرامة وحقوق الانسان"
ان علة وجود المجتمع، غايته الاساسية، هو الاحتفاظ وتطوير وتحسين شخصية الانسان" .

يجب اذن ان يدور القانون حول وباعتبار الانسان. كما كتب هـ. كيطون (المقدمة المذكورة ص 19) الانسان "هو حجر الاساس ومفتاح قبة النظام" وبما ان الانسان يتحقق من خلال تعاقداته مع الاغيار فان الارشادات الباباوية تتصرف مع المجموعات البشرية المحيطة بالانسان كالموجات المتحدة المركز .

2) من بين المجموعات المختلفة التي يعيش فيها الانسان : توجد الاسرة .
الاسرة ممثلة " كالخلية الحيوية الاكثر كمالا والاكثر خصبا في المجتمع" ( بي الثاني عشر في خطابه الملقى في 1 يونيو1941) .
انها كانت موجودة قبل الدولة التي عليها ان تحترمها .

من الناحية الاجتماعية ان دور الاسرة مزدوج : لها دور تكوين وتربية افرادها، ولهذا نفهم المواقف الواضحة للكنيسة حول واجب التربية وحرية التربية .
ان الاسرة دائنة للنظام الاجتماعي الذي عليه ان يضمن العناصر الاساسية لوجودها ورفاهيتها (مشكل الملكية، الارث، الاجرة التي تسمح لعيش العائلة …..) .

3) لضمان هذه الخاصية والوظيفة، يرى الانسان حقه في الملكية معترفا به وهنا كذلك، لا يشكل الامر نهاية في حد ذاته بل انه يؤدي مهمة اجتماعية .
4) فالكلام على حق الملكية يؤدي الى التساؤل عن العلاقات بين راس المال والعمل، مع الاجر العادل عن هذا العمل .

ان هذه المشكلة، في الامس كما في الحاضر، تثير توترات كبيرة - ان لم نقل انها قابلة للتفجر - لكن الباباوات لا يتجنبونها ويبينون وينتقدون ظروف العمل المهنية والاجر الضعيفة جدا دون تنكر او تجاهل المبدا الذي يريد بان يرد راس المال ارباحا لذويه .

5) في علاقات عمله يمكن للانسان ان يجتمع ويتحد مع اناس اخرين - وهذا مبدا حرية التجمع والجمعيات وبالتالي مبدا النقابات. ونرى في هذا الشان الحرية التي تتركها الكنيسة للمؤمنين تضع مبدا حرية التجمع والجمعيات لكنها تترك لهم حرية الاختيار بين النقابة او الهيئات الحرفية .
6) حيز الدولة هي اخر طوق حول الانسان : لا تهم الكنيسة اشكال وانواع واصناف الحكومات لكنها تذكر بان السيادة لا تكون مشروعة الا اذا كان هدفها المصلحة والخير العام - " ان ما يعطي للسيادة مفهومها العميق اخلاقيتها الحقيقية ومشروعيتها العليا، هو خدمتها ( للجميع) .

وختاما، ينبغي الاشارة الى ان الكنيسة تقترح ايضاءات وتنويرات اكثر مما تقترح حلولا مادية يمكن ان تختلف لكن تكون دائما لمصلحة الانسان .

جـ- الباباوات الجدد من " جان الثالث والعشرون" الى " يوحنا بولس الثاني"
هذا عنوان كتاب الفه السيد " جان شيلني" نشر في 1979 بعد اعتلاء " كارول فوجتيلا" رئاسة الكنيسة، هذا الكتاب الذي بلور عمل كل بابا بصبغة ذكية :
" جان الثالث والعشرون" ( 1958 - 1963 ) " انفتاح للعالم .
" بولس السادس" ( 1963 - 1978) : لقاء العالم .
" يوحنا بولس الاول" ( بابا لمدة 33 يوما) وخلفه " يوحنا بولس الثاني" بابا منذ 16/10/1978 : الصداقة مع العالم .

ظهرت اساسا مبادرات وتجديدات هؤلاء الباباوات الاربعة في خمس موضوعات .
ادارة الكنيسة
تكييف وتعديل عاداتها، هياكلها ومهامها ورسائلها .
الكنائس المسيحية اي التوحيد بين كل الكنائس المسيحية لتعود، وحدتها التي فقدت عبر مر القرون .
سياسة السلم الديني : " ايرين" لفظ من اصل يوناني يعني السلم - وهو اتجاه نحو تعويض المجادلة الدينية والتعصب بموقف احترام متبادل وتقدير بين مومني الديانات المختلفة .

الخلاصة الانسانية -
بعدولها عن كل هيمنة ضغط او اكراه وكل مجادلة مثيرة وهجومية بدأت الباباوية حوارا مع الكنائس الاخرى والعقائد المسيحية في روح من الانفتاح والاحترام - وفوجئ وتاثر ملاحظون مسيحيون غير كاثوليكيين للاعمال المجمعي التي استقبلوا فيها .

وبحذفه لكل صيغ الاتهام والمهنية المستعملة ضد اليهود في الشعائر الدينية خلال الاسبوع المقدس، هيأ "جان الثالث والعشرون" الجو الضروري للتفاهم والتسامح بين اليهود والنصارى، كما ان "بول السادس" كلف الكاردينال " بينيدولي" بابرام حوار روحي مع المسلمين - وصرحت كتابة الغير المسيحيين بان عدم الايمان لم يصبح حاجزا للحوار بين اناس ذوي نية وارادة حسنة - قد عدل الباباويون الجدد عن الحرب الايديولوجية التي، في غالب الاحيان، تهين كرامة الاشخاص - وفي اطار سلم وبعطف على كل الناس، عوض الباباويون الجدد الحرب بمحاورة او حوار يحترم كرامة كل واحد .

قرر الباباويون، التوجه الى كل الناس في رسائل نبيلة تتطرق الى المشاكل والمصاعب الحالية للبشرية متتبعين في هذا سنة " ريروم نوفاروم" رسالة البابا "ليون الثالث عشر" 1903-1978- المنشور سنة 1891 حول المشاكل الاجتماعية، مع تكييف وتبسيط الالفاظ المستعملة - " جان الثالث والعشرون" فسر رسالته الدورية الى جميع المسيحيين ("باسم ان تيريس"- السلم على الارض) المؤرخة في 11 ابريل1983 اقترح على البشرية نظاما كونيا وكليا جديدا مستند على قانون اخلاقي ومعنوي، يكون هدفه السلم وغايته تفتح البشرية .

اما "بول السادس" في "بوبولاروم بروكريسيو" (تطور الشعوب - رسالة دورية في 26 مارس1967) فانه دعى البشرية الى حل تنظيم الاقتصاد العالمي، بصفة واقعية وعادلة ومحترمة للجميع، لتمنح نموا متوازنا للجنس البشري .

بحرارة مع كل المسيحيين، وقابلين لكل حوار مع كل المؤمنين، اخويين مع البشرية، يحاول الباباويون الجدد، وهم محاطين بالثقة الكونية، انقاذ البشرية من التنافر ومن تهديد الحرب وقيادة هذه البشرية نحو السلم، والاحترام والحب المتبادل، ولقاء الله - هذه هي معجزة الازمنة العصرية : رغم رسل الشؤم والنحس ان الله لا يهمل البشر .

II- القانون الكنسي والعالم العصري :
القانون الكنسي هو شريعة الكنيسة، أي القانون التنظيمي والدستوري للكنيسة، التي اضطرت، على مر العصور والقرون وبقدر ما تتطور، الى تنظيم نفسها واصدار قوانين - لكن هذا القانون، الخاص، لا يتعلق الا بالكنيسة الكاثوليكية وانصارها - لكن هذا لا يعني انه محجر .

طيلة 1900 عام لم يدون ولم يعرف الا من خلال مجموعات او كتب ملفقة، المشهورة منها هي :
فتوى الاسقف " ايف دو شارتر" (1094) .
فتوى الراهب " كراسيان" (1140) .
الفتوى الباباوية " لكريكوار التاسع" (1230) .
الكلماتينيات المنشورة من طرف " جان الثاني والعشرون" (1317) .

كان من الضروري على اي شخص اراد معرفة وتاويل الشريعة والقانون ان يكون متخصصا في القانون الكنسي .

وفي اوائل هذا القرن بدأ الكل يشعر بحدة الى ضرورة التدوين وكان البابا " بونوا الخامس عشر" هو من اصدر اول مدونة للقانون الكنسي في 27 ماي 1917، هذا القانون الذي هيأ مشروعه الكردينال " كاصباري" امام تقلبات العالم، تحولاته والمشاكل المطروحة على الكنيسة العصرية، اصبح هذا القانون، الحديث نسبيا، لا يتطابق مع متطلبات الساعة وخصوصا مع هذا " الاجيوحنامنطو" (حدثنة الدين) المنبثق من " فاتكان" 2 (1962 - 1965) - وهكذا تقرر انجاز مدونة جديدة للقانون الكنسي التي حرص "يوحنا بولس" الثاني على تهييئها لاصدارها في 25 يناير1983، مع دخولها حيز التطبيق في 27 نونبر1983 - هذه المدونة تتكون من سبعة كتب، يتعلق الكتابين الاولين منها " بميثاق كنيسة العهود الجديدة" .

ألح المشرع على طابع " الوحدة المؤسسية" للكنيسة مع ابرازه بكيفية انسجامية ابعادها المؤسسية وهبتها الدينية التي تسمح اعتبارها مساوية للدولة على الصعيد القانوني في حين انها مختلفة تماما على الصعيد اللاهوتي والثيولوجي لانها من فئة وطراز مختلف، باعتبارها تفوق النهاية والغاية الروحية للمجتمع البشري على غايته الارضية والوقتية تطالب الكنيسة لنفسها بسلطة " ماجيستر" على المجتمع البشري، وهذا داخل في الخط نفسه للرسالة التي كلفها بها مؤسسها .

وهكذا فان مخرج القانون القديم : التسلسل او الطبقات - وشعوب الله، ترك المكان الى هذا المخرج : شعوب الله - التسلسل او الطبقات، هنا تظهر الكنيسة كمجتمع انجيلي لا ينظر فيها الى الدرجات التي ارادها المسيح كسلطة ( بوتسطاس) لكن كخدمة ( ديوكانا) وواجب (مونوس) لله .

لهذا تشكل المنظمات الكاثوليكية الدولية حسب متمنيات " يوحنا بولس الثاني" :
عنصر وساطة بين الانجيل والمجتمع العصري الكنيسة الكونية ومجمع الامم .
نقطة اتصال بين الكنيسة الكاثوليكية والمجتمع الدولي .

هكذا هيأ " يوحنا بولس الثاني" المنظمات والمؤسسات التي ستسمح للكنيسة ان تعرف احسن بتعليمها وارشاداتها التي تشتمل اساسا " على الكلام لفائدة الانسان" وهذا يعني :
1) وضع شروط، متطلبات وعواقب تضمن للانسان كرامته كمسؤول. هذا يعني طبعا بانه ينبغي تصريح وتكريم حريته - لكن هذه الحرية ليست حرية جوهر فرد كاملة، بل هي حرية فرد مرتبط بافراد اخرين بواجبات وحقوق - ومن ثم يظهر مثل اعلى وعميق للحصيانية المجمعية المتضامنة - ومن ثم كذلك متطلبات هياكل شرعية تنظم وتضمن العدالة لانه " بين الضعيف والقوي، بين الغني والفقير بين السيد والخادم الحرية هي التي تضطهد والقانون هو الذي يحرر" .
2) لكن في نفس الوقت، لا يكفي القول والتصريح بان نظاما اقتصاديا، اجتماعيا وسياسيا سعيدا لا يمكن ضمانه الا بتنظيم الاشياء وتغيير بسيط للهياكل، ولو ان هذا ضروري، يجب كذلك العمل على صعيد الاسباب المعللات الاخلاقية والسيكولوجية كما ينبغي تغيير الانسان - لا يكفي مراجعة العلاقات الاقتصادية بل حتى العلاقات الانسانية والبشرية. لم ينقطع البابا " بي الثاني عشر"، من تاكيد هذا في مجهوداته في صالح السلم ولهذا السبب ايضا اخذت الكنيسة موقفا لصالح المظلومين والضعاف منذ المجمع الديني : يجب الوقوف جانب " الانسان" وراء " واقعية" الاعمال والمال - تكلم البابا عن عبادة الانسان، لكن ليس كانسان اخذ مكان الله، بل كانسان كما احبه ويحبه الله ويخصصه لمملكته ( بعد الموت) .
***

* مجلة المحاكم المغربية، عدد 29، ص 9 .

0 التعليقات:

Post a Comment