الدفع بعدم الاختصاص وفكرة النظام العام

ذ.جلال محمد امهمول

محامي متمرن بهيئة اكادير

يعتبر الاختصاص من أهم مؤسسات قانون المسطرة، إذ إلى جانب ارتباطه الوثيق بتعدد الأجهزة القضائية داخل الدولة الواحدة، ارتباط النتيجة بالسبب، فإنه يمثل ضابطا يحدد نصيب كل محكمة من القضايا التي يعرفها المجتمع... هذا واعتبارا لاتساع الرقعة الجغرافية للدول، وكذا لتعقد هياكلها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... بشكل بات معه، من الضروري إيجاد أنظمة قضائية تأخذ بعين الاعتبار، الضرورات الجغرافية، والاقتصادية والإدارية... ولعل ذلكلبن يتسنى من الناحية المسطرية إلا بجعل كل هذه الضرورات، أساسا ومناطا لضابط الاختصاص.

هكذا إذن ومن هذا المنظور، نجد الأنظمة القضائية المقارنة تعرف الاختصاص المحلي أو الترابي Compétence territoriale والاختصاص النوعي Compétence d'attribution والاختصاص الوظيفي، باعتبار الأول يوزع القضايا على المحاكم على أساس محل إقامة أطرافها أو موقع موضوعها... في حين نجد الثاني يوزع القضايا على أساس نوعها وقيمتها كما يوزع الثالث القضايا على المحاكم باعتبار طبيعتها ووظيفتها.

ولعل الباحث في فقه المسطرة المدنية، عموما، وفي نظرية الاختصاصThéorie de la compétence على وجه الخصوص، سيلاحظ لا محالة اهتمام جل الباحثين والمؤلفين بمسألة دراسة موقع كل نوع من أنواع الاختصاص من فكرة النظام، ليخلصوا إلى تقرير اعتبار هذا النوع من الاختصاص من صميم النظام العام وذلك ليس من النظام العام ولا يمت إليه بصلة، مع ما يترتب عن ذلك من نتائج وآثار.

إننا بالرجوع إلى القانون المغربي، نجد أن سنة 1974 قد شكلت نقطة تحول في موقف القانون المغربي وأساسا في ربطه ـ الدفع بعدم الاختصاص بفكرة النظام العام، إذ بعد أن ظل يعتبره وطيلة ستة عقود من صميم النظام العام تشريعا وقضاءا، وذلك في ظهير 12 غشت 1913 ـ المعتبر بمثابة قانون المسطرة المدنية القديم، فإن فقرات الفصل ـ 16 ـ من ظهير شتنبر 1974 المعتبر بمثابة قانون المسطرة المدنية الجديد، جاءت لتطرح أكثر من علامة استفهام حول مصير الدفع بعدم الاختصاص النوعي في علاقته بفكرة النظام العام في ظل القانون الجديد.

وتجدر الإشارة إلى أن الفصل 16 من ق.م.م الجديد هذا قد أثار قريحة العديد من الباحثين من قبلي، وأخص بالذكر، الأستاذ عبد الرفيع الجواهري المحامي بهيئة المحامين بمراكش من خلال مقالته المنشورة بمجلة المحامي العدد1، تحت عنوان "إشكالية الفقرتين الثانية والخامسة من الفصل 16 ق.م.م الجديد"... والتي عقب عليها الأستاذ الشهيدي أحمد بلحاج المستشار بمحكمة الاستئناف بمراكش من خلال مقالته المنشورة بمجلة المحامي العدد 2 تحت عنوان، الاختصاص النوعي بين الفقرتين الخامسة والثانية من الفصل 16"... وقد عقب على الأستاذين المذكورين، الدكتور الطيب الفصايلي الأستاذ المحاضر بكلية الحقوق بمراكش من خلال مقالته المنشورة المجلة المغربية للقانون المقارن العدد 1 تحت عنوان "حقيقة الدفع بعدم الاختصاص في ظل ق.م.م الجديد".

هذا وبعد قراءتي لكل ما كتب، مع غزارته، أراني غير متحمس لأي موضوع برمته... ومن تم فلا يسعني إلا أن أستسمح زملائي في هيئة الدفاع كما في الهيئة القضائية، وكذا الدكتور الفصايلي... على اقتحام موضوعهم، والإدلاء بدولي المتواضع في البحث والتنقيب مع احترامي لآرائهم ومواقفهم واجتهاداتهم.

واعتبارا لطبيعة الموضوع ونوعيته، سأعمل على تقسيمه إلى ثلاثة محاور، أعرض في محول أول للدفع بعدم الاختصاص وفكرة النظام العام في إطار النظرية العامة، لأنتقل بعد ذلك في محور ثان إلى عرض مختلف الآراء الواردة في مجال ربط الدفع بعدم الاختصاص بفكرة النظام العام في ظل ق.م.م الجديد، لأختم هذا البحث بمحور ثالث أعرض فيه لموقفي الخاص عن الموضوع والله الموفق.

محور أول

الاختصاص وفكرة النظام العام في إطار النظرية العامة

إن الهدف من وراء هذا المحور، يتمثل في وضع الموضوع الذي نحن بصدد بحثه في إطار النظرية العامة للقانون، ولعل المقصود بالنظرية العامة، مجموع الأفكار والآراء، والمواقف التي استقرت عليها أو على الأقل مالت إليها القوانين المقارنة بمستوياتها الثلاثة، التشريع، والفقه والقضاء... بشكل أصبحت مع هذه الأفكار المستقر عليها تشكل بحق نظرية عامة لموضوع الاختصاص وفكرة النظام العام، وفي بحثي لهذا المحور، سأنطلق من أفكار مستقر عليها، وليس من تشريع معياري معين.

هكذا إذن، سأعرض في هذا المحور إلى المقصود بربط الاختصاص بفكرة النظام أولا، فنتائج ذلك ثانيا، لنختم هذا المحور بالوقوف على علاقة الاختصاص النوعي والمحلي (1)، بفكرة النظام العام ثالث ورابعا.

أولا: المقصود بتعلق الاختصاص بالنظام العام.

يرجع الفقه وهو بصدد بحث مدى تعلق قواعد الاختصاص بالنظام العام، إلى الفكرة العامة والأساسية المتمثلة في تعلق قاعدة قانونية ما بالنظام العام، باعتبار قواعد الاختصاص ضربا من ضروب القاعدة القانونية (2).

هكذا إذن تعتبر القاعدة القانونية من النظام العام إذا كانت أساسية في تنظيم المجتمع بحيث يؤدي الإخلال بها إلى الفوضى والاضطراب الاجتماعي...

في حين، إذا كان المقصود بالقاعدة التي يضعها المشرع رعاية مصلحة خاصة وفردية، فلاشك أنه يكون من حق من تقررت الرعاية لمصلحته أن يتنازل عنها لأنه أدرى بمصلحته... ومثل هذه القواعد تسمى في القانون بالقواعد المكملة أو المتممة لإرادة المتعاقدين (3) ولا تتعلق بالنظام العام.

أما إذا قصد المشرع بالقواعد التي يضعها عندما يتصدى لتنظيم مسألة من المسائل إلى تحقيق مصلحة عامة لا تهم الأفراد بقدر ما تهم المشرع نفسه، فإنه لا يكون من حق الإفراد أن يتنازلوا عنها، لأنها تتعلق بفكرة التنظيم العام... لا برعاية مصالح خاصة لأطراف العلاقة القانونية، ففي مثل هذه الحالة يأبى المشرع على الأفراد أن يتوافقوا على ما يخالف هذه القاعدة لأنها ليست ملكا لهم (4). وهذا النوع من القواعد يتعلق بالنظام العام.

انطلاقا من هذا المنظور الشمولي عالج الفقه علاقة قواعد الاختصاص بفكرة النظام العام، وقد ظهر رأي فقهي منذ البداية يعتبر قواعد الاختصاص بطبيعتها، وباعتبارها وسيلة لتوزيع العمل بين المحاكم... إنما وضعت لتحقيق مصلحة عامة، ومن تم فكل قواعد الاختصاص تتعلق بالنظام العام (5).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)يعرف القانون المغربي ما يسمى بوحدة القضاء وازدواجية القانون... ففي المغرب جهة قضائية واحدة، ومن تم فلا مجال للحديث في المغرب عن اختصاص وظيفي، على عكس مصر، وفرنسا...

(2)الأستاذ عبد الباسط جميعي نظرية الاختصاص في قانون المرافعات الجديد، ص: 90.

(3)المرجع السابق، ص: 91.

(4)المرجع السابق، ص: 91-92.

(5)المرجع السابق، ص: 92-93.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

غير أن التمحيص والتدقيق، جعلا الفقه يقتنع بوجود قواعد للاختصاص لا تتعلق بالنظام وضعت أساس لحماية مصالح الأفراد... (6).

نخلص من كل هذا إلى أنه كلما كان الهدف من تقرير قاعدة الاختصاص تحقيق مصلحة عامة كنا أمام قاعدة من النظام العام، وكلما ظهر أن الهدف من قاعدة الاختصاص، إنما هو تحقيق مصلحة الإفراد ليس إلا، كنا أمام قاعدة لا تتعلق بالنظام العام.

ثانيا: النتائج المترتبة عن تعلق الاختصاص بالنظام العام

يرتب الفقه آثارا كلاسيكية عن تعلق قواعد الاختصاص بالنظام العام من عدمه، عملا بالمعيار السابق الذكر، هكذا إذن نجده يقرر أن اعتبار قاعدة من قواعد الاختصاص تتعلق النظام العام النتائج التالية:

1- يجوز للمحكمة أن تثيره من تلقاء نفسها.

2- يجب على المحكمة أن تتأكد من كونها مختصة أولا تحت طائلة إلغاء الحكم.

3- يجب على النيابة العامة أن تثيره كلما كانت طرفا في الدعوى المدنية.

4- يجوز للأطراف التمسك بالدفع بعدم الاختصاص في أية مرحلة من مراحل التقاضي ولو لأول مرة أمام المجلس الأعلى.

5- لا يجوز للأطراف الإنفاق على مخالفته، وكل اتفاق على ذلك يقع باطلا، عديم الأثر.

أما إذا كنا أمام قاعدة من قواعد الاختصاص الغير المتعلقة بالنظام العام... فإن النتائج والآثار تختلف، ونجد أنفسنا أما عكس الآثار المترتبة في الحالة السابقة، وتتمثل فيما يلي:

1- لا يجوز للمحكمة أن تثيره تلقائيا، تحت طائلة إلغاء حكمها لقضائها بما لم يطلب منها.

2- يجب على المحكمة أن لا تتعرض لمسألة الاختصاص طالما لم يثره الخصوم، ويبقى حكمها صحيحا رغم مخالفته لقاعدة الاختصاص.

3- لا يجوز للنيابة العامة أن تثيره تلقائيا، ما لم يثره الخصوم.

4- يجب إثارة الدفع بعدم الاختصاص قبل كل دفع أو دفاع وأمام محكمة أول درجة فقط.

5- يجوز للأطراف الاتفاق على مخالفة قواعد الاختصاص.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(6)أنظر المزيد من الإيضاح حول هذه النقطة، م.س، ص: 93-94.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه بكل عجالة الآثار والنتائج المترتبة عن علاقة الاختصاص بالنظام العام في إطار النظرية العامة، والتي تشكل ـ أي الآثار والنتائج ـ في حد ذاتها مواصفات وخصوصيات كل نوع من أنواع الاختصاص باعتبار علاقته بالنظام العام.

ثالثا: الاختصاص النوعي وفكرة النظام العام.

إن قواعد الاختصاص النوعي في علاقتها بالنظام العام يتجاذبها في هذا الشأن اتجاهان في التشريع المقارن.

اتجاه أول يعتبرها من النظام العام لأن المشرع إذ وزع العمل بين المحاكم المختلفة، لابد أن يكون قد قرر أن الإخلال بهذا التنظيم يؤدي إلى الاضطراب والاختلال على نحو يضر بالمصلحة العامة التي من أجلها تقرر توزيع العمل بين المحاكم بهذا النظام (7).

أما الاتجاه الثاني فمؤداه أن قواعد الاختصاص النوعي لا ينبغي أن تعتبر من النظام العام، ويبرر رواد هذا الاتجاه أطروحتهم فكرة الرجوع إلى الأصل، على اعتبار أن الاختصاص النوعي يرتب المحاكم ترتيبا عموديا... فاللجوء مباشرة إلى محكمة أعلى درجة من تلك التي يجب قانونا الرجوع إليها، هو من باب الرجوع إلى الأصل، هذا بالإضافة إلى مؤسسة التحكيم التي تعرفها التشريعات المقارنة والتي يبرر بواسطتها رواد هذا الاتجاه موقفهم، إذ يعتبرون رفع الدعوى أمام قضاء غير مختص نوعيا، في الحقيقة اتفاقا بين الأطراف على جعله حكما بينهما... (8).

غير أن التشريعات المقارنة تميل إلى اعتبار الاختصاص النوعي من النظام العام، ولعل ذلك ما يتضح من موقف التشريع المصري الذي وبعدما كان يعتبر الاختصاص النوعي لا علاقة له بالنظام العام، فانتقل إلى التمييز بين الاختصاص القيمي والاختصاص النوعي، واعتبر الأول لا علاقة له بالنظام، والثاني من صميم النظام العام...ليصل بعد ذلك التشريع المصري إلى آخر مرحلة من مراحله، والمتمثلة في اعتبار الاختصاص النوعي من النظام العام (9).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(7) المرجع السابق، ص: 99.

(8) المرجع السابق، ص: 100.

(9) أنظر بتفصيل المرجع السابق، ص: 101-102.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

رابعا: الاختصاص المحلي وفكرة النظام.

من القواعد التقليدية المعروفة في إطار النظرية العامة قاعدة عدم تعلق الاختصاص المحلي بالنظام العام، إذ لم توضع قواعده إلا لتحقيق مصالح الأفراد... هذا وقد ووجهت هذه القاعدة ببعض الاعتراضات خاصة من لدن بعض الفقه الفرنسي كالأستاذين جارسونية وسيزار برو ونورد نموذجا منها:

ماذا سيكون الحل لو اتفق جميع المتقاضين على التقاضي أمام محكمة السين في فرنسا؟ وقد أجب الفقه عن تساؤل الأستاذين الفرنسيين، بأنه احتمال مبني على مجرد افتراض خيالي مستحيل الحدوث ...(10).

نستنتج في الأخير، بأن الاختصاص المحلي، وفي إطار التشريع المقارن لا علاقة له بالنظام العام، مع ما يترتب عن ذلك من نتائج.

محور ثاني

في مختلف المواقف الفقهية حول الدفع بعدم الاختصاص

وفكرة النظام العام في قانون المسطرة المدنية الجديد

كما أوردنا في مدخل البحث، لقد عرف المغرب سنة 1974 تنظيما قضائيا جديدا، ومسطرة مدنية جديدة، هذه الأخيرة التي جاءت لتطرح أكثر من علامة استفهام حول تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام.

هكذا إذن، وإذا كان من المتفق عليه أن المشرع المغربي (ومن خلال ق.م.م الجديد) ولاعتبارات ترجع للقواعد العامة للمسطرة، قد ظل يعتبر الدفع بعدم الاختصاص المحلي لا علاقة له بالنظام العام، مع كل ما يترتب عن ذلك من نتائج وآثار... فإن الوضع يختلف بالنسبة للدفع بعدم الاختصاص النوعي، إذ جاء الفصل 16 من ظهير المسطرة المدنية الجديد ليطرح ما يمكن أن نصطلح على تسميته بإشكالية استمرارية الدفع بعدم الاختصاص النوعي من النظام العام...

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(10) أنظر المزيد من الإيضاح، المرجع السابق، ص: 103-104-105.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

إن هذه الإشكالية كانت مثار جدل فقهي قوي، بين العديد من الفعاليات القانونية في المغرب، وقد تدرجت الآراء الفقهية المذكورة، بين مجرد الإشارة إلى الأحكام الجديدة للدفع بعدم الاختصاص النوعي، والواردة في الفصل 16 من ق.م.م الجديد ( أنظر أستاذنا مولاي إدريس العلوي العبدلاوي ـ القانون القضائي الخاص ص: 321/322) وقد سار في نفس النهج مع الإشارة إلى وقوع تجديد هام تضمنه الفصل 16... ( الأستاذ أدولف ريولط في مؤلفه المسطرة المدنية في شروح ـ ترجمة إدريس ملين ص: 20)، وبمرور زهاء خمس سنوات على وضع ق.م.م الجديد تصدى بعض الأساتذة المحترمين إلى بحث مدى علاقة الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام، وباستعمال منطق التصنيف يمكننا أن نصنف الكتابات الفقهية إلى ثلاثة اتجاهات، اتجاه ركز على طرح إشكالية الفصل 16، واتجاه اعتبر الدفع بعدم الاختصاص النوعي من النظام العام، وهو ما سنصطلح على تسميته بنظرية النظام العام، وأخيرا اتجاه اعتبر الدفع بعدم الاختصاص النوعي لا علاقة له بالنظام العام وهو ما سنصطلح عليه بنظرية اللانظام عام.

هذا، وسنعتمد منهج الجدلية في عرضنا لكل نظرية على حدة، إذ واعتبارا للضابط الكرونولوجي، فكل نظرية جاءت لتنتقد النظرية السابقة لها في الزمان، ولتقوم على أنقاضها...

أولا اتجاه طرح إشكالية الفصل 16 من ق.م.م الجديد

أ)الأطروحة:

بعد استعراض أحكام الفصل 16 ق.م.م الجديد، وبالضبط في فقرتيه الثانية، والخامسة، وربطها بالقواعد العامة للدفع بعدم الاختصاص النوعي، وكذا بالفصل3 من ق.م.م الجديد... يخلص رواد هذه الأطروحة أساسا إلى وجود إشكالية خلقتها البنية الراهنة لمقتضيات الفقرتين 2 و5 من الفصل 16. هذا فضلا عن وجود تناقض بين مقتضيات الفقرة 5 من الفصل 16 المذكور، والتي يفهم منها عن طريق مفهوم المخالفة، منع محاكم الاستئناف من إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي من جهة والفصل 3 من ق.م.م الجديد، الذي يلزم المحكمة بتطبيق القانون، ولو لم يطلب ذلك الأطراف...

أما على مستوى النظام العام، فيستنتج رواد هذا الاتجاه أن ق.م.م الجديد، قد جرد الدفع بعدم الاختصاص النوعي من طابع النظام العام ... غير أنهم لا يجدون لهذا الاختيار الجديد مبررا معقولا، كما أن تأثرهم بطابع تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي المتعلق بالنظام العام يظهر جليا من خلال مناداتهم بضرورة تعديل الفصل 16 من ق.م.م الجديد بشكل يعيد للدفع بعدم الاختصاص النوعي طابع النظام العام.

ب) رواد النظرية:

يتزعم هذا الاتجاه الأستاذ عبد الرفيع الجواهري من خلال مقالته المنشورة بمجلة المحامي والمشار إليها سابقا (11).

ج) أسا النظرية:

لقد أسس الأستاذ الجواهري أطروحته على الأفكار التالية:

استعراض وضعية الدفع بعدم الاختصاص النوعي في ظل ق.م.م القديمة.

رصد الاختيار الجديد للمشرع المغربي خاصة من خلال الفقرتين 2و5 من الفصل 16.

استنتاج ـ وإن كان بشكل غير حاسم ـ تجريد التشريع المغربي للدفع بعدم الاختصاص النوعي من فكرة النظام العام.

تفنيد كل التبريرات التي يتحمل أن يكون المشرع المغربي قد استند عليها في اختياره الجديد.

انتقاد تجريد الدفع بعدم الاختصاص النوعي من طابع النظام العام بالنظر إلى النتائج الخطيرة المترتبة عنه، والمطالبة بالتالي بإعادة النظر في الفصل 16 المذكور.

د)تقييم النظرية:

يعتبر الأستاذ الجواهري حسب معلوماتنا المتواضعة، أول من بحث إشكالية الدفع بعدم الاختصاص النوعي وفكرة النظام العام ـ وذلك بعد حوالي أربع سنوات من صدور ق.م.م الجديد ـ فيكون بذلك ـ وفي جميع الحالات ـ قد وضع يده على مجال خصب للبحث ففتح بالتالي الباب على مصراعيه للمهتمين بالبحث العلمي من أجل صقل الموضوع والاجتهاد فيه...

ثانيا: نظرية النظام العام.

أ)الأطروحة:

إن المشرع المغربي لم يغير نظرته لطبيعة الدفع بعدم الاختصاص النوعي، بل يجزم رواد هذه النظرية أن ظهير المسطرة المدنية الجديد، قد استمر في اعتبار هذا الدفع من النظام العام بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وبكل ما تنتج من آثار ... كما يخلص رواد هذا الاتجاه ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(11)إشكالية الفقرتين الثانية والخامسة من الفصل 16 من ق.م.م الجديد ذ. عبد الرفيع الجواهري ـ مجلة المحامي ـ العدد 1، ص: 13 وما بعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

بعد مناقشات سنعرض لها في حينها ـ إلى عدم وجود أية إشكالية بين الفقرتين ـ 2 و5 من الفصل 16 ق.م.م الجديد، ومن تم فلا ضرورة لإجراء أي تعديل فيهما...

ب)رواد النظرية:

يتزعم هذا الاتجاه، الأستاذ أحمد بلحاج الشهيدي ـ المستشار بمحكمة الاستئناف بمراكش حاليا... من خلال مقالته المنشورة بمجلة المحامي، العدد 2 (12) والتي عقب فيها على مقالة الأستاذ الجواهري الآنفة الذكر.

ج)أساس النظرية:

لقد حاول رواد هذا الاتجاه تأصيل نظريتهم على أنقاض النظرية الأولى، إذ حاولوا تفنيد الاستنتاجات التي توصل إليها رواد النظرية السابقة، من خلال وقوفهم على منطوق الفقرتين الثانية والخامسة من الفصل 16 من ق.م.م.

هكذا إذن تجاوز رواد هذه النظرية أسلوب المنطوق ليستعملوا أسلوب المفهوم، كوسيلة لاستنباط عكس ما توصلت إليه النظرية السابقة، ومن تم لتأسيس أطروحتهم، ويمكن إجمال أفكارهم فيما يلي:

ورد في الفصل 16 ما يلي:" يجب إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي أو المكاني قبل كل دفع أو دفاع.

لا يمكن إثارة هذا الدفع في طور الاستئناف إلا بالنسبة للأحكام الغيابية...".

يرى رواد هذا الاتجاه أن لفظ "هذا" وهو اسم إشارة يعود في علم اللغة إلى أقرب اسم مذكور، وأقرب اسم بالرجوع إلى ما سبق هو لفظ "المكاني" فالمقصود إذن بالفقرة الثانية ـ وفي منظور رواد هذه النظرية ـ عدم إمكانية إثارة الدفع بعدم الاختصاص المكاني في طور الاستئناف إلا بالنسبة للأحكام الغيابية... وبإعمال مفهوم المخالفة فيمكن إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي أمام محكمة الاستئناف في جميع الحالات...

وقد ذهب رواد هذه النظرية لتدعيم استنتاجهم إلى مقتضيات الفقرة 3 من الفصل 16، والتي تلزم من يثير الدفع بعدم الاختصاص أن يبين المحكمة المختصة، تحت طائلة رفض الطلب... إذ لا يعقل ـ على حد تعبير رواد هذه النظرية ـ أن يرفض دفع بعدم الاختصاص النوعي بدعوى عدم بيان المحكمة المختصة، لاعتبارات تتعلق بالنظام العام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(12)مقالة تحت عنوان: الاختصاص النوعي بين الفقرتين 2 و5 من الفصل 16 من: ق.م.م وعلاقتهما بالنظام العم، هل تطرح هاتان الفقرتان بعض الإشكاليات... ص: 10 وما بعدها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

*أما الفقرة الخامسة من الفصل 16 والتي تنص على "يمكن الحكم بعدم الاختصاص النوعي تلقائيا من لدن قاضي الدرجة الأولى"، فيرى رواد هذه النظرية أن المشرع أراد بلفظ يمكن الوجوب لا الجواز، وقد برزوا ما ذهبوا إليه بكون المشرع: وفي حالات كثيرة ـ لم يوردوا ولو حالة واحدة واضحة ـ يستعمل لفظ يمكن وهو يقصد به الوجوب والعكس صحيح.

كما ينطلقون من الفصل3 ق.م.م ليخلصوا أن من حق بل من واجب محاكم الاستئناف، وكذا المجلس الأعلى الحكم تلقائيا بعدم الاختصاص، مستبعدين تماما إمكانية استعمال مفهوم المخالفة على مستوى الفقرة الخامسة من الفصل 16.

*ولتأكيد ما ذهبوا إليه، يشير رواد هذه النظرية إلى مقتضيات الفصل 9 ق.م.م والتي توج تبليغ النيابة العامة بكل القضايا المتعلقة بعدم الاختصاص النوعي... وأن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على طابع النظام العام الذي يعتبر الدفع بعدم الاختصاص النوعي من صميمه.

تقييم النظرية:

سنترك تقييم النظرية إلى غاية عرض أساس النظرية المقبلة.

ثالثا: نظرية عدم تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بالنظام العام في ظل ق.م.م الجديد.

الأطروحة:

إن المشرع المغربي، ومن خلال ق.م.م الجديد، قد غير نظرته إلى الدفع بعدم الاختصاص، إذ جرده من صبغة النظام العام، بكل ما يحمله لفظ التجريد من معنى... فقرات الفصل 16 من قانون المسطرة المدنية الجديد لا تطرح أية إشكالية فيما بينها، وتصب كلها في اتجاه فصل الدفع بعدم الاختصاص النوعي عن فكرة النظام العام، مع كل ما يترتب عن ذلك من نتائج.

رواد النظرية:

يتزعم هذا الاتجاه الدكتور الطيب الفصايلي من خلال مقالته المنشورة بالمجلة المغربية للقانون المقارن (13).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(13)مقالة بعنوان حقيقة الدفع بعدم الاختصاص في ظل ق.م.م الجديد، منشور بالمجلة المغربية للقانون المقارن، عدد 10، ص: 7 وما بعدها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

أساس النظرية:

يستند رواد هذه النظرية فيما ذهبوا إليه، إلى نقد نظرية النظام العام أولا، محاولين تأسيس نظريتهم على أنقاضها كما يدعمون مذهبهم بأفكار أخرى كما سنرى فيما يلي:

فيما يتعلق بنقد النظرية الأولى:

-إن ما ذهب إليه الأستاذ الشهيدي في كون "هذه" اسم إشارة يعود إلى أقرب اسم طبقا لقواعد اللغة، ليعتبر بحق قاعدة صحيحة، ... إلا أن تطبيقها كان سيكون صحيحا لو تعلق الأمر بجملة، مسترسلة، أما وأن المشرع المغربي ومن خلال الفصل 16 المذكور قد وضع نقطة توقف، وانتقل من فقرة إلى أخرى، فإن قواعد اللغة تقضي في هذه الحالة أن يعود لفظ "هذا" اسم إشارة المستدل به على الفقرة الأول كلها، ومن تم سريان حكم الفقرة 2 من الفصل 16 على الدفع بعدم الاختصاص النوعي... (14).

-يرى رواد هذه النظرية أن ما ذهب إليه أصحاب نظرية النظام العام من اعتبار لفظ "يمكن" أريد به الوجوب لا الجواز مدعمين موقفهم بكون المشرع المغربي يستعمل تارة لفظ يمكن وهو يريد به الوجوب في حين يستعمل لفظ يجب وهو يريد به الإمكان تارة أخرى... إن رأيا كهذا وتبريرا كهذا لا يمكن أن يشفع ـ في أي حال من الأحوال ـ في اعتبار يمكن أريد بها الوجوب.

*فيما يتعلق بالأفكار المدعمة الأخرى:

-ذهب الأستاذ الفصايلي إلى أن تفسير القانون المغربي يقتضي منا الرجوع إلى مصدره المادي: أي إلى التشريع الفرنسي.

وبالرجوع إلى التشريع الفرنسي نجد الفصل 92 من ق.م.م الفرنسي ينص بالحرف على ما يلي:

« L'incompétence peut être prononcé d'office ; en cas de violation d'une règle d'attribution, lorsque cette règle est d'ordre public ou lorsque le demandeur ne comparait pas.

Elle peut être q u'en ces cas.

Devant la cour d'appel et devant la cour de cassation, cette incompétence ; ne peut être relevé d'office que si l'affaire relève de la compétence d'une juridiction répressive ou administrative ; ou échappe à la connaissance de la juridiction française ».

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(14)أنظر مقالة، حقيقة الدفع بعدم الاختصاص في ظل ق.م.م الجديد ذ.الفصايلي الطيب، المجلة المغربية للقانون المقارن، ص: 6.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

بمعنى أن الدفع بعدم الاختصاص يمكن إثارته تلقائيا ـ ويفهم من طرف قاضي الدرجة الأولى ـ في حالة خرق قاعدة تتعلق بالاختصاص النوعي إذا كانت هذه القاعدة من النظام العام أو عند غياب المدعي عليه، ولا يمكن إثارته إلا في هذه الحالة... ولا يمكن إثارته تلقائيا أمام محكمة الاستئناف أو محكمة النقض، إلا إذا كانت القضية من اختصاص محكمة جنائية أو إدارية أو لا تخضع لولاية المحاكم الفرنسية (15).

يستنتج رواد هذا الاتجاه أن التشريع الفرنسي باعتباره المصدر المادي للتشريع المغربي قد ضيق من نطاق فكرة النظام العام بالنسبة للدفع بعدم الاختصاص النوعي... ولعل هذا من شأنه أن يساهم في تبرير عدم تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بالنظام العام في ظل ق.م.م المغربي الجديد.

-كما يذهب الفصايلي إلى تبرير ما ذهب إليه بالرجوع، إلى التنظيم القضائي الجديد. فهو يرى أن ما تبناه المشرع المغربي المسطري الجديد ـ ويعني هنا الفصل 16 بنتائجه وآثاره ـ جاء متناسقا مع التنظيم القضائي الجديد، الذي جعل جميع القضايا من اختصاص المحاكم الابتدائية باعتبارها ذات الولاية العامة للاختصاص، وأنها تختص بجميع المنازعات، إلا ما خرج عن اختصاصها بنص خاص، كما فعل المشرع بالنسبة لمحاكم الجماعات والمقاطعات ومن تم فإن قاضي الدرجة الأولى، لا يكون غير مختص إلا في حالتين:

كون الطلب يتعلق باختصاص محاكم الجماعات والمقاطعات.

كونه يتعلق بالموضوع، وقد قدم إلى السيد رئيس المحكمة الابتدائية باعتباره قاضي المستعجلات (16).

إن وضعا كهذا يبرر إلى حد بعيد، أطروحة عدم تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام في ظل ق.م.م الجديد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(15)انظر المرجع السابق، ص: 11.

(16)المرجع السابق، ص: 1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

محور ثالث

نظراتي حول الدفع بعدم الاختصاص وفكرة النظام العام

لعل المقصود هنا، الدفع بعدم الاختصاص في شقه النوعي، إذ كما سبق ذكرنا، فالمشرع المغربي، كان ولازال يعتبر الدفع بعدم الاختصاص المحلي، نسبيا لا علاقة له بالنظام.

ولا عطاء رأينا المتواضع في الموضوع، نرى من المنطقي والمنهجي، تقييم الآراء السابقة أولا، فالوقوف عل مفهوم النظام العام ثانيا، باعتباره يشكل أحد دعائم الموضوع فالإدلاء بموقفنا الخاص ثالثا والله الموفق.

أولا: تقييم النظريات السابقة.

أ)أطروحة الأستاذ عبد الرفيع الجواهري:

إيجابياتها:

يعتبر الأستاذ الجواهري، أول من آثار إشكالية علاقة الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام، وذلك بعد زهاء أربع سنوات من تطبيق ق.م.م الجديد.

قبل مناقشة الموضوع، رأى الأستاذ أنه من المفيد استقراء نصوص المسطرة المدنية القديمة، فيما يتعلق بالدفع بعدم الاختصاص النوعي حتى يتضح مسار التطور في الاتجاه الذي تبناه المشرع في الفصل من ق.م.م الجديد (17).

إن رجوع الأستاذ الجواهري في معرض بحثه إلى الأصل التاريخي لنظام الدفع بعدم الاختصاص النوعي في ظل ق.م.م المغربي، ليعتبر بحق أمرا محمودا وإيجابيا، سيساعد لا محالة في توضيح الرؤية والوقوف على حقيقة الإشكال.

ذ.الجواهري، باعتباره أول من بحث الموضوع بذل جهودا يشكر عليها من أجل استنتاج مختلف أحكام الدفع بعدم الاختصاص النوعي الواردة في الفصل 16 من ق.م.م الجديد، مستعملا في ذلك مجموعة من الأساليب العلمية...(18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(17)مقالة ذ.الجواهري المذكورة آنفا، ص: 14.

(18)وإن كان تعقيب ذ. الشهيدي قد حاول تفنيد معظم استنتاجات ذ. الجواهري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

لم يقف الأستاذ عند استنتاج علاقة الدفع بعدم الاختصاص بفكرة النظام العام... بل حاول البحث عن التبريرات المتحملة لما ذهب إليه التشريع المغربي... فتحدث عن اختصار إجراءات التقاضي كهدف حاول المشع تحقيقه من خلال الفصل 16 ق.م.م الجديد (19) وقام الأستاذ كذلك بدراسة نقدية لمقتضيات الفصل 16 على مستوى آثاره ونتائجه، والتي أورد منها تضييق ممارسة حق الدفاع وتضييق نطاق الأثر الناشر للاستئناف...

نادى الأستاذ بضرورة تدخل المشرع لوضع حد للبس الذي خلقه الفصل 16 من ق.م.م الجديد.

انتقادات:

لقد آثرت استعمال لفظ انتقادات عوض لفظ السلبيات إجلالا منا للبحث العلمي واحتراما له...

ويمكن توجيه الانتقادات التالية إلى أطروحة ذ. الجواهري:

لقد ورد في الفقرة 2 من الفصل 16 من ق.م.م الجديد ما يلي:" لا يمكن إثارة هذا الدفع في طور الاستئناف إلا بالنسبة للأحكام الغيابية".

برجوعنا إلى نظرية الدفوع نجد أن الدفع المقدم في وقته أمام محكمة الدرجة الأولى، يمكن التمسك به أمام الدرجة الثانية بل وحتى أمام المجلس الأعلى... فمن دفع بعدم الاختصاص النوعي أمام المحكمة الابتدائية وقبل كل دفع أو دفاع، يمكنه لا محالة إثارته أمام محكمة الاستئناف أو حتى أمام المجلس الأعلى، ولا تمنعه من ذلك مقتضيات الفقرة الثانية من الفصل 16 والتي قصد بها المشرع عدم إمكانية إثارة الدفع لأول مرة في طور الاستئناف.

غير أن الأستاذ الجواهري، أورد مثالين في مقالته (20) استعمل فيهما مقتضيات الفقرة 2 لمنع المستأنف الذي سبق له أن أثار عدم الاختصاص النوعي أمام محكمة الدرجة الأولى، من التشبث به أمام محكمة الدرجة الثانية، وهذا حسب رأيي، ووفق ما بيناه آنفا مجانب للصواب ومخالف لمبادئ المسطرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(19)المرجع السابق، ص: 19.

(20)أنظر المرجع السابق، ص: 16-17.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

-خلص الأستاذ الجواهري في بحثه إلى أن هناك تناقضا بين مقتضيات الفصل 16 في فقرته الخامسة، والفصل 3 من ق.م.م الجديد ... (21) على اعتبار أن محكمة الاستئناف يجب عليها تطبيق القانون على النازلة، والحكم بالتالي بعدم الاختصاص النوعي ولو لم يثره الأطراف طبقا للفصل 3 في حين نجد الفصل 16 يمنعها من ذلك.

إلا أني لا أرى أي تناقض بين الفصلين، إذ في معرض الحديث عن الفصل 3 ق.م.م يتعين التمييز بين القوانين الموضوعية والقوانين الشكلية المسطرية، وبصدد هذه الأخيرة يجب إدخال فكرة النظام العام، فما كان من النظام العام وجب على المحكمة إثارته تلقائيا، وما لم يكن من النظام العام، تعذر عليها ذلك... ولعل في تقرير وجود تناقض بين الفصلين 16 و3 حكما مسبقا في الموضوع، واعتبارا للدفع بعدم الاختصاص النوعي من النظام العام.

وما يدعم ما ذهبنا إليه أن المحاكم لا يمكنها أن تثير تلقائيا عدم الاختصاص المحلي، ومع ذلك، لا نقول إن هناك تناقضا بين هذا الحكم ومقتضيات الفصل3 من ق.م.م.

-يبدو من خلال خلاصة الأستاذ الجواهري، أنه متأثر بفكرة كون الدفع بعدم الاختصاص النوعي من النظام العام على غرار ما كانت تعرفه المسطرة المدنية القديمة، وقد جسد تأثره بالنداء الموجه لتعديل الفصل 16 من ق.م.م الجديد بشكل يعيد للدفع بعدم الاختصاص النوعي طابع النظام العام.

ولعل قناعة واعتقادا كهذا، كان له الأثر الكبير في توجيه بحث الأستاذ الجواهري.

ب)أطروحة الأستاذ الشهيدي أحمد بلحاج:

الإيجابيات:

-إن القارئ لمقالة الأستاذ الشهيدي سيستنتج لا محالة تشبثه وإيمانه الراسخ بأن الدفع بعدم الاختصاص النوعي لا يمكنه إلا أن يكتسب صبغة النظام العام

-نقدر في الأستاذ الشهيدي دفاعه عن أطروحته بكل حماس وإيمان وثقة في النفس… ولعل رجوعه إلى أدوات اللغة العربية ومبادئ المسطرة المدنية، لخير دليل عن جده واجتهاده في سبيل تبرير أطروحته.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(21)المرجع السابق، ص: 19.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

-نقدر في الأستاذ الشهيدي وهو أحد رجال القضاء فكره المتفتح وأفقه القانوني الواسع… لقد حاول من خلال بحثه القيم، تأصيل نظرية قانونية ـ مخالفة للنصوص القانونية أو على الأقل تبدو مخالفة لها ـ عن طريق الاجتهاد، بعيدا عن الالتزام المطلق بالنصوص… فكان بذلك الأستاذ الشهيدي نموذجا حيا ـ على مستوى طريقة تفكيره ـ للقاضي المجتهد، المتحرر من بوتقة النصوص، الواسع الأفق.

الانتقادات:

على مستوى الأفكار التي جاءت بها النظرية:

-لقد استند الأستاذ الشهيدي إلى اسم الإشارة "هذا" باعتباره يعود إلى أقرب اسم، ليصل إلى أن المقصود بالفقرة 2 من الفصل 16 هو الدفع بعدم الاختصاص المكاني، في حين تبقى إمكانية إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي متاحة دائما… لتعلقه بالنظام العام.

وأنا إذا أؤكد ما ذهب إليه الدكتور الطيب الفصايلي في رده على الأستاذ الشهيدي في هذه النقطة بالذات باعتبار أن استنتاجه كان سيكون صحيحا لو تعلق الأمر بجملة مسترسلة، أما عندما تكون جملة منفصلة عن الأخرى بنقطة توقف، فإن اسم الإشارة يرجع على الجملة ككل وهذا هو ما فعله المشرع المغربي (22).

بالإضافة إلى رد الأستاذ الفصايلي، أضيق في الرد على الأستاذ الشهيدي ما يلي:

لنفترض جدلا أن استنتاج الأستاذ الشهيدي صحيح. بمعنى أن الفقرة 2 من الفصل 16 ق.م.م الجديد لا تطال ولا تسري على الدفع بعدم الاختصاص النوعي، وذلك ما يعني بصورة أكثر وضوحا إمكانية الدفع بعدم الاختصاص النوعي لأول مرة في طور الاستئناف بالنسبة للأحكام الحضورية والحكم الحضوري، يكون الطرف فيها قد أبدي أوجه دفوعه ودفاعه في المرحلة الابتدائية… لنخلص في النهاية وباستعمال منطق الاستنتاج وبناءا على افتراض صحة أطروحة الأستاذ الشهيدي إلى إمكانية إثارة الدفع بعدم الاختصاص النوعي بعد إثارة الدفوع والدفاعات

إن هاته الخلاصة، والتي تعتبر نتيجة منطقية على افتراض صحة أطروحة الأستاذ، لتشكل تناقضا واضحا مع مقتضيات الفقرة 1 من الفصل 16 من ق.م.م، والتي تنص على ما يلي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(22) مقالة الأستاذ الفصايلي، المرجع السابق، ص: 9.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

"يجب على الأطراف الدفع بعدم الاختصاص النوعي أو المكاني قبل كل دفع أو دفاع…" إن تناقضا كهذا يسمى في لغة علم المنطق بالعبث Absurde.

وحيث أن المشرع منزه على التناقض والعبث (23) ونحن بافتراضنا صحة ما ذهب إليه الأستاذ الشهيدي سنسقط المشرع جبرا واضطرارا ـ في العبث والتناقض لا محالة، مما يتعين معه، وعملا بقواعد المنطقLa logique وأساسا قواعد الاستدلال عن طريق العبثRaisonnement par Absurde اعتبار الافتراض الذي بني عليه الاستدلال خاطئا وعكسه صحيح عملا بقاعدة معروفة في علم المنطق تسمى قاعدة الثالث المستبعدLa logique du tiers excluلنصل في النهاية إلى أن الفقرة الثانية من الفصل 16 تسري على الدفع بعدم الاختصاص المكاني والنوعي على حد سواء.

-نكتفي هنا بتأكيد ما ذهب إليه الدكتور الطيب الفصايلي من أن لفظ "يمكن" يراد به الجواز لا الوجوب... وأن تبريرات الأستاذ الشهيدي المبهمة مهما كانت قيمتها لا تشفع في قلب معنى "يمكن" من الجواز إلى الوجوب، وإلا عمت هذه الفكرة كل قواعد القانون، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى فوضى عارمة في فهم وتطبيق النصوص القانونية.

على مستوى طريقة تناول الموضوع:

إن الباحث في مقالة الأستاذ الشهيدي سيلاحظ لا محالة اقتناعه الصميم واعتقاده الراسخ بتعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام... اقتناعا واعتقادا جعلاه ينطلق من الغاية ليبحث عن الوسيلة إذ يبدو واضحا أن الأستاذ الشهيدي لم ينطلق من مقتضيات الفصل 16 من ق.م.م الجديد ليقف على حقيقة الدفع بعدم الاختصاص النوعي، بل بالعكس انطلق من كون المشرع المغربي لازال يعتبر الدفع بعدم الاختصاص النوعي متعلقا بالنظام العام، ليبحث عن أسس ومرتكزات قانونية تبرر قناعاته ومنطلقاته.

ويبدو ذلك واضحا عندما خلص الباحث إلى أن المشرع أراد بلفظ "يمكن" الوجوب.

كما يؤخذ على الأستاذ الشهيدي على مستوى طريقة تناوله للموضوع، أنه كان يتوارى وراء المبادئ العامة والواسعة والمبهمة أحيانا، لتبرير أحكام جزئية دقيقة (24).

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(23)إن فكرة تنزيه المشرع عن العبث فكرة سائدة في الفقه... إذ رغم سقوط المشرع فعلا في التناقض، فإن الفقه والقضاء يعملون جاهدين من أجل تنزيهه بإيجاد الحلول المناسبة للمشكل، ونذكر هنا المثال المعروف في المغرب بالفصل 41 ق.ل.ع.

(24)أنظر على سبل المثال مقالة الأستاذ الشهيدي، المرجع السابق، ص: 14.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

ج)أطروحة د.الطيب الفصايلي:

الإيجابيات:

-رجوع د.الفصايلي إلى التشريع الفرنسي باعتباره يشكل مصدرا تاريخيا وماديا للتشريع المغربي يعتبر أمرا محمودا على مستوى تحليل وتفسير القاعدة القانونية.

-ردود د.الفصايلي على ما ذهب إليه ذ.الشهيدي اللغوية والمنطقية، كانت ـ في اعتقادي المتواضع ـ صائبة وموفقة.

-الرجوع إلى التنظيم القضائي الجديد يعتبر ربطا بين المواضيع، وإثراء وإغناء وتدعيما لأساس الأطروحة.

الانتقادات:

إن ما سألاحظه على أطروحة د.الفصايلي سينصرف على منطوقها فقط، فالباحث خلص إلى أن المشرع المغربي غير نظرته للدفع بعدم الاختصاص النوعي، وأصبح يعتبره نسبيا لا علاقة له بالنظام العام.

إن النظرية العامة للقانون (25) تقرر نتائج معروفة لاعتبار الدفع بعدم الاختصاص مطلقا متعلقا بالنظام العام أو نسبيا لا علاقة له بالنظام العام ... إذ على سبيل المثال، إذا كان الدفع بعدم الاختصاص نسبيا لا علاقة له بالنظام العام، كان من نتائج ذلك أنه لا يمكن للقاضي على مستوى أية درجة من درجات التقاضي إثارته تلقائيا... إن الفقرة 5 واضحة في منح قاضي الدرجة الأولى إمكانية الحكم تلقائيا بعدم الاختصاص النوعي ... إن وضعا كهذا يتطلب منا التريث قبل الحسم في إلحاق أو عدم إلحاق هذا النوع أو ذلك من الدفع بعدم الاختصاص بفكرة النظام العام.

ثانيا: مفهوم فكرة النظام العام.

لما كان موضوع بحثنا ينصب على بحث العلاقة الموجودة بين مؤسسة قانونية قائمة بذاتها وفكرة النظام العام، كان من اللازم علينا أن نقف ولو في عجالة على مفهوم فكرة النظام العام.

إن فكرة النظام العام قد ظهرت ولازمت وجود القاعدة القانونية، إلا أنها لم تظهر بمفهومها الحديث إلا مع الثورة الفرنسية التي تطور وترعرع بين أحضانها مبدأ تقديس الإرادة وسلطانها كمظهر من مظاهر تقديس الفردانية والحرية الفردية...

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(25) أنظر الصفحات الأولى البحث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

هكذا إذن ظهرت الحاجة ملحة لوضع مؤسسة قانونية تحد وتقيد من إطلاق الحرية للأشخاص ليتفقوا على ما يتفق ومصالحهم أو ما يعبر عليه في لغة القانون، بالعقد شريعة المتعاقدين Pacta sun Servanda فجاءت فكرة النظام العام لتشكل متنفسا Soupape ـ كما يعبر عن ذلك في الفقه الفرنسي ـ لمبدأ العقد شريعة المتعاقدين.

إن تصورا كهذا لفكرة النظام العام، جعل الفقه يجمع عل أن فكرة النظام العام واسعة صعبة التحديد، فهنري دوباج Henry Depage يرى أن هذه الصعوبات، هي التي جعلت التشريعات تحجم عن تعريف فكرة النظام العام، فمن المستحيل تحديد النظام العام عن طريق عبارات عامة ومجردة، ومن المستحيل كذلك حصر جميع حالاته... (26).

ورغم كل هذه الصعوبات، فقد حاول بعض الفقه إعطاء بعض التعاريف التقريبية لفكرة النظام العام كتعريف الأستاذ الصنهوري له باعتبار القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها إلى تحقيق مصلحة عامة، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى، وتعلو على مصلحة الأفراد، فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم" (27).

إذا كان من استنتاج يمكن استخلاصه من كل ما ذكر، فهو أن فكرة النظام العام فكرة واسعة، فضفاضة مرنة ونسبية... ومن تم يصعب بحث علاقتها بالمؤسسات القانونية، وبالأحرى الحسم في اعتبار مؤسسة من مؤسسات القانون تتعلق أو لا تتعلق بالنظام العام.

ثالثا: خلاصاتي المتواضعة حول علاقة الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام.

إن الحسم في مسألة تعلق أو عدم تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام، يؤدي بنا لزوما إلى الرجوع لمختلف النتائج المترتبة عن ذلك في إطار النظرية العامة والتي أوردناها في مقدمة هذا البحث.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(26)أورده ذ.شكري أحمد السباعي: نظرية بطلان العقود وإبطالها في التشريع المدني المغربي، ص: 178.

(27)أورده ذ.شكري أحمد السباعي: نظرية بطلان العقود وإبطالها في التشريع المدني المغربي، ص: 179.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

فإذا كان من الواضح أن المشرع المغربي قد غير نظرته للدفع بعدم الاختصاص النوعي في ظل ق.م.م الجديد بشكل أصبح معه ابتعاد الدفع بعدم الاختصاص النوعي عن فكرة النظام العام أمرا واردا ومعقولا... فإن تقرير عدم تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي مطلقا بالنظام العام أمر لا يخلو كذلك من قصور إذ بالرجوع إلى النظرية العامة، إذا كان الدفع بعدم الاختصاص النوعي نسبيا لا علاقة له بالنظام العام لما أمكن لقاضي الدرجة الأولى أن يثيره تلقائيا كما هو ثابت بنص الفقرة 5 من الفصل 16 ق.م.م الجديد، ناهيك عن قواعد نظام التقاضي المعتبرة بإجماع، الفقه من صميم النظام العام، والتي تشكل مخالفتها خرقا لقواعد الاختصاص النوعي...

وحيث أن فكرة النظام العام، تتميز بالمرونة والإبهام كما أوضحنا آنفا.

اعتبارا لكل هذه المعطيات والقيم الثابتة، لا يسعني إلا أن أقرر عدم إمكانية الحسم في تعلق أو عدم تعلق الدفع بعدم الاختصاص النوعي بفكرة النظام العام، وأن الدفع بعدم الاختصاص النوعي في ظل قانون المسطرة المدنية الجديد لم يعد من صميم النظام العام، ولكنه لم يفقد كل علاقاته به... إن ما يمكنني أن أؤكده في الختام هو أن الدفع بعدم الاختصاص النوعي أضحى في ظل ق.م.م الجديد أبعد من النظام العام من كونه أقرب منه، إنه دفع بعدم الاختصاص من نوع خاص.

وفي الأخير، أكرر احترامي لزملائي في البحث العلمي السابقين، وأتمنى أن أكون قد وفقت في التزام حدود العقلانية في محاورتهم، وتقييم آرائهم، والله يشهد أنني حاولت قدر الإمكان أن يكون المنطق والمعقول ضابطنا ومعيارنا وحكمنا، فإن وفقت وأصبت فمن الله، وإن أخطأت وجانبت الصواب فمني، ولعل خير الختم قول خير الأنام عليه الصلاة والسلام:" من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد". وأنا يكفيني الأجر الواحد.

والسلام

المصدر مجلة المرافعة

0 التعليقات:

Post a Comment