من إعداد: عبد العلي حفيظ
قاضي تطبيق العقوبات بالمحكمة الابتدائية بإمنتانوت
باحث بكلية الحقوق أكدال- الرباط
من المستجدات البارزة التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية الجديد، إحداث مؤسسة قاضي تطبيق العقوبات في توجه واضح نحو إقرار "مبدأ الرقابة القضائية على التنفيذ الجنائي"، وذلك بإعطاء القضاء صلاحيات مهمة حتى بعد صدور الحكم ، ذلك أن مرحلة التنفيذ تعتبر من أخطر مراحل الدعوى الجنائية وأهمها، فعلى مستواها تتجسد فعالية الضمانات القانونية المخولة للمحكوم عليه ، وتبرز عناصر تحقق الهدف الإصلاحي والاجتماعي للعقوبة من عدمه، كما أن الحاجة إلى هذه المؤسسة تنبع من واقع الروابط الإجرائية التي تنشأ في محيط التنفيذ العقابي (1)، لذلك كان من اللازم أن لا يبقى أمر التنفيذ منوطا بجهاز إداري قد يكون هو نفسه مصدر القلق ، وأن يشرك القضاء في تتبع تفاصيل تنفيذ العقوبة ليس فقط في مظهرها القانوني المحض من خلال مراقبة سند الاعتقال أو السجن، ومدة العقوبة ومسك السجلات ، ... وإنما من خلال الحرص على ضمان أداء العقوبة لأغراضها المرجوة في إصلاح وتقويم وإعادة تأهيل الجناة، فهو دور مستمد من (مبدأ تفريد الجزاء الجنائي) المخول للقاضي الجنائي أثناء النضر في الدعوى العمومية في أفق السعي نحو تكريس (مبدأ تفريد التنفيذ الجنائي) من خلال تتبع وضعية المعتقلين ، وهو شأن قضائي محض .
ولقد ارتبط ظهور مبدأ الإشراف القضائي على التنفيذ الجنائي، بالأفكار التي جاء بها أنصار مدرسة الدفاع الاجتماعي، وخاصة الفقيه الفرنسي مارك أنسل والفقيه الإيطالي فيليبوكر اماتيكا، والتي كانت تدعو إلى توجيه العناية أكثر نحو شخصية المذنب ودراسة الوسائل الكفيلة بتأهيله وإعادة إدماجه الاجتماعي، وزيادة الاهتمام بالأحكام الإجرائية وليس فقط القواعد الموضوعية الجزائية (2)، الأمر الذي ساهم في تطوير مبادئ العدالة الجنائية من خلال تحسين الضمانات والحقوق المخولة للمعتقلين والسجناء أثناء تواجدهم بالمؤسسات العقابية ، والتي سعت العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والجهوية نحو حصرها وتوضيحها ، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المواد 5، 9، 11، 12) والاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية المؤرخة في 4 نونبر 1950 ومجموعة القواعد الدنيا لمعاملة السجناء والتي كرست العديد من الحقوق كالحق في التشكي وفي الإطلاع على النظام الداخلي للسجن ، وحق الزيارة وحق العناية الطبية وأداء الشعائر الدينية، والحق في التعليم والحق في العمل...، فهذه الضمانات والحقوق هي التي يجب أن تكون وعاء للإشراف القضائي، إذ هي الأدوات اللازمة للتأهيل وإعادة ا لإدماج الاجتماعي.
وقد استشعرت العديد من الدول منذ وقت مبكر، أهمية دور القضاء في مرحلة التنفيذ الجنائي، فاعتمدت أنظمة مختلفة لتأمين التدخل القضائي في ميدان تنفيذ العقوبة، سواء فيما يخص تحديد هذه الجهة (هل قاض منفرد أم لجنة مشتركة ) أو تعيين حجم الصلاحيات المخولة لها (وهل بدور إيجابي تدخلي، أم فقط بدور رقابي تفتيشي.
إلا أن الملاحظ هو أن غالبية الدول أناطت مهمة الإشراف على التنفيذ بقاض منفرد، لما يوفره ذلك من استقلالية في اتخاذ القرار، وتصور موحد في تحديد العناصر الأساسية في التعامل مع المحكوم عليهم ، لكن دون إغفال دور المختصين في العديد من المجالات المهمة كهيئة الدفاع وهيئة الأطباء وجمعيات المجتمع المدني وغيرهم من المهتمين في مجال العقوبة، وهذا هو التوجه الذي أخذ به المشرع الفرنسي الذي أحدث منذ سنة 1958 قاضي تطبيق العقوبات ، وذلك بمقتضى المادة 722 من قانون المسطرة الجنائية والتي عرفت عدة تعديلات وصلت إلى حدود عشر تعديلات ، وكذا القانون الإيطالي والذي أطلق عليه اسم "قاضي الإشراف أو قاضي الرقابة (
Juge de Surveillance)، والقانون التونسي بمقتضى تعديل سنة 2002، بالإضافة إلى أنظمة أخرى تنطبع بخصوصيات النظام القانوني السائد كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الاتحاد السوفيتي سابقا ... والتي يضيق المجال عن استعراضها (3).
أما بخصوص الاختصاصات المخولة لهذا الجهاز فهي تنحصر إجمالا في ثلاث اختصاصات :
أ/ اختصاصات إدارية ولائية : كالسماح للسجين بالعمل خارج السجن ، أو بنقله من مؤسسة سجنية إلى أخرى، وعموما الإشراف على المؤسسات السجنية ومراقبة مدى احترام حقوق السجناء، ...
ب / اختصاصات قضائية : وهي التي تمنح لقاضي تطبيق العقوبات سلطات واسعة، تصل إلى حد التدخل بتعديل المقرر القضائي الصادر بالإدانة أو بالتدابير الوقائية غير محكوم بها أو تغيير التدبير المحكوم به بتدبير آخر أشد أو أقسى بحسب وضعية المحكوم عليه واستعداده الصحي والعقلي ...
ج / اختصاصات استشارية أو اقتراحية: تعتبر استكمالا أو تتويجا للاختصاصات القضائية في حدها الأقصى، كاقتراح الإفراج المقيد بشروط أو العفو، ويجد هذا الاختصاص أساسه في الإطلاع المباشر لقاضي تطبيق العقوبات على وضعية المحكوم عليه ، ولتقديره الموضوعي لأثر الإفراج المقيد أو العفو على إعادة إدماج المحكوم عليه في المحيط الاجتماعي.
ويبدو جليا من خلال هذه الاختصاصات أنها تتخذ طابعا تدريجيا أو تصاعديا، يرتبط إعمالها باستعدادات المحكوم عليه للإصلاح ، بحيث تضع بيد قاضي تطبيق العقوبات كل الوسائل القانونية الضرورية لتحقيق الهدف الإصلاحي للعقوبة ، ولإعادة إدماج المحكوم عليه في الحياة الاجتماعية .
وقاضي تطبيق العقوبات في إطار القانون المغربي يعين من بين قضاة المحكمة الابتدائية بقرار لوزير العدل لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وإذا حدث له مانع حال دون قيامه بمهامه يعين رئيس المحكمة قاضيا للنيابة عنه مؤقتا، ويمكن أن يعين أكثر من قاض لتطبيق العقوبة بنفس المحكمة (المادة 596 من ق .م .ق .)
(4).
غير أن المقتضيات القانونية المحددة لصلاحيات هذه المؤسسة في إطار قانون المسطرة الجنائية المغربي، يبعث على القول بأن اختصاصات قاضي تطبيق العقوبات تنحصر في حدود مهام إدارية واقترا حية فقط دون أية اختصاصات قضائية، ويمكن تبرير هذا التوجه بمنهج ( التشريع التدريجي) لضمان فعالية هذه المؤسسة وعدم الوقوع في سلبيات التضخم الإجرائي، وكذلك مراعاة لكون الاختصاصات القضائية المنوطة بهذه المؤسسة إنما تستند إلى أحكام موضوعية تجد مجالها في مقتضيات القانون الجنائي، وهكذا فسوف تتعزز هذه الاختصاصات مع صدور مجموعة القانون الجنائي الجديد، ولعل هذا ما يفهم من خلال نص المشرع في الفقرة الأخيرة من المادة 596 من قانون المسطرة الجنائية على أن قاضي تطبيق العقوبات (يمارس مهامه حسب هذا القانون وكذا بموجب أي نصوص أخرى).
وهو ما يستفاد كذلك من خلال تنصيص المشرع في ديباجة قانون المسطرة الجنائية، على أنه قد عهد قاضي تطبيق العقوبة باختصاصات لتتبع تنفيذ العقوبة بكيفية تسمح بإعادة إدماج المحكوم عليه في المجتمع، وهو ما يكشف عن غاية المشرع من إحداث هذه المؤسسة ، وهي تحقيق الهدف الإصلاحي للعقوبة ، وهي غاية لن تسعف الصلاحيات المسندة لها حاليا في الوصول إليها، إلا بتعزيزها باختصاصات تسهل إعادة إدماج المحكوم عليهم في المجتمع .
وهكذا يمكن تحديد أهم اختصاصات المنوطة بقاضي تطبيق العقوبات في قانون المسطرة الجنائية المغربي في المسائل التالية :
1/- تتبع مدى سلامة تطبيق القانون المتعلق بتنظيم وتسيير المؤسسات االسجنية الصادر بتاريخ 25 غشت 1999 والمرسوم التطبيقي له الصادر في 03 نونبر2000
(5)وذلك من خلال .
مراقبة قانونية وصحة الاعتقال وهو ما يأتي من خلال الإطلاع على سجلات الاعتقال والتأكيد من حسن مسكها وإعداد محضر بكل تفتيش يضمنه ملاحظاته ويوجه فورا إلى وزير العدل ويحيل نسخة منه إلى النيابة العامة (المادة 596- 616 من قانون المسطرة الجنائية )
(6).
مراقبة مدى مراعاة حقوق السجناء وذلك بمسك بطاقات خاصة بالسجناء الذين يتتبع وضعيتهم تتضمن بيانات حول هويتهم ورقم اعتقالهم والمقررات القضائية والتأديبية الصادرة في شأنهم وملاحظات القاضي (المادة 596 من ق.م.ج).
2. تقديم مقترحات بشأن الإفراج المقيد بشروط والعفو(الفصول 596-625-628
)(7):
والملاحظ أنه لم يتم تحديد الكيفية التي يقدم وفقها مقترح العفو، على خلاف الإفراج المقيد بشروط ، ولعل الأمر ترك في انتظار تعديل مرتقب للظهير المنظم للعفو.
التثبت من سلامة الإجراءات المتعلقة بالإكراه البدني (المادتين 640 و 644 من ق م .ج)
(8):
وهكذا تنص المادة 640 من قانون المسطرة الجنائية على أنه " لا يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في جميع الأحوال ولو نص ولو نص عليه مقرو قضائي إلى بعد موافقة قاضي تطبيق العقوبات الذي يتحقق من توفر الشروط الآتية بعد توصله بالملف من وكيل الملك :
1. توجيه إنذار من طرف طالب الإكراه إلى الشخص المطلوب تطبيق الإكراه البدني في حقه يبقى دون نتيجة بعد توصله بالملف اكثر من شهر واحل من تاريخ التوصل به .
2. تقديم ملف كتابي من المطالب بالإكراه البدني يرمي إلى الإيداع في السجن .
3. الإدلاء بما يثبت عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين.
لا يأمر وكيل الملك أعوان القوة العمومية بإلقاء القبض على الشخص المطلوب تطبيق الإكراه البدني في حقه، إلا بعد صدور قرار بالموافقة على ذلك عن قاضي تطبيق العقوبات ... كما نص في المادة 644 من ق م .ج . على أنه "يحدد قاضي تطبيق العقوبات مدة الإكراه البدني المتعلقة بالمدين" المطلوب تطبيق الإكراه في حقه في حالة الحكم بتضامن المدينين وتراعي في ذلك حصة المدين المعني بالأمر من الدين".
فبهذين المقتضيين حدد المشرع الصلاحيات المخولة لقاضي تطبيق العقوبات في مراقبة سلامة الإجراءات المرتبطة بتطبيق مسطرة الإكراه البدني، بالرغم من الغرابة التي قد يثيرها إسناد هذه المهمة لقاضي تطبيق العقوبات ، بالنظر لكون الإكراه البدني لا يعتبر عقوبة ، لكنه اختصاص قد يجد تبريره في كون الإكراه كوسيلة لإجبار المدين على أداء الدين المتخلد بذمته يتم بإيداع المدين بالسجن، من هنا فهو يقترب من العقوبة السالبة للحرية، لما فيه من حرمان الشخص المكره من حريته ، ولكونه ينفذ في نفس الإطار الذي تنفذ فيه العقوبات السالبة للحرية، وهو المؤسسة السجنية التي تخضع لرقابة قاضي تطبيق العقوبات ، ومن تم فإن اختصاصه هذا يندرج ضمن عموم اختصاصه في شأن مراقبة حسن تطبيق المقتضيات المنظمة للمؤسسة السجنية بحيث يبرز كشكل من أشكال الرقابة القبلية .
ونظرا لكون هذا الاختصاص ، يبقى الاختصاص الأكثر أهمية في عمل قاضي تطبيق العقوبات في الوضع الحالي للتشريع ، بسبب كثرة اللجوء إلى إعمال مسطرة الإكراه البدني سواء فيما يتعلق باستيفاء الديون العمومية أو الخصوصية، وبالنظر لما ينجم عن هذه المسطرة من مساس بحريات الأفراد في وقت تنامى فيه الحرص على حماية الحريات، فإننا سنحاول في هذا السياق مناقشة بعض المسائل العملية والإجرائية والتشريعية التي يثيرها هذا الاختصاص في ارتباط مع التعديل التشريعي لبعض الأحكام الموضوعية والمسطرية في نظام الإكراه البدني سواء في قانون المسطرة الجنائية أو مدونة تحصيل الديون العمومية ، وذلك إزاء الفصول التالية :
الفصل الأول : نطاق اختصاص قاضي تطبيق العقوبات في مراقبة سلامة إجراءات الإكراه البدني
الفصل الثاني : الوثائق التي يتحقق منها قاضي تطبيق العقوبات .
الفصل الثالث : الطبيعة القانونية للقرار الصادر عن قاضي تطبيق العقوبات .
الفصل الأول :
نطاق اختصاص قاضي تطبيق العقوبات في مراقبة سلامة إجراءات الإكراه البدني
إن أول ما يمكن إثارة الانتباه إليه قبل تفصيل الحديث في هذه المسألة هو التكريس التشريعي الواضح للطابع الاحتياطي أو الاستثنائي لمسطرة الإكراه البدني وهذا ما يتجلى من خلال الأحكام التالية :
أ- مسطرة الإكراه البدني بمآل إجراءات التنفيذ على أموال المدين :
وهذا ما يستنتج صراحة من خلال اشتراط المشرع في المادة 640 من ق .م .ج .ضرورة إدلاء طالب الإكراه بما يثبت عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين تحت طائلة عدم الموافقة على طلب تطبيق الإكراه البدني، وهو ما يتحقق عمليا في الغالب من خلال إنجاز محضر بعدم وجود ما يحجز، وهو ما يستخلص ضمنيا كذلك من خلال نص المشرع في المادة 635 من ق .م .ج . على أنه "يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني في حالة عدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالغرامة ورد ما يلزم رده والتعويضات والمصاريف، إذا تبين أن الإجراءات الرامية إلى الحصول على الأموال المنصوص عليها في المادة السابقة بقيت بدون جدوى أو أن نتائجها غير كافية" ما دام أن مصطلح الإجراءات الوارد بهذه المادة يحتمل معنى التحصيل أو التنفيذ الرضائي من قبل المدين كما يحتمل معنى التنفيذ الجبري على أمواله في حالة امتناعه ، وهذا على خلاف الوضع التشريعي السابق الذي كان لا يشترط لإعمال مسطرة الإكراه البدني سوى توجيه إنذار للمدين يبقى بدون جدوى بعد مرور عشرة أيام وطلب اعتقال (فصل 688 من ق .م .ج .) وإن كان السائد عمليا في السابق هو اشتراط إدلاء طالب الإكراه بمحضر بعدم وجود ما يحجز عملا بمناشير صادرة عن وزارة العدل في هذا الشأن .
ب / جعل إثبات العسر مانعا من تطبيق الإكراه البني:
بحيث نص المشرع في المادة 635 (الفقرة الثالثة ) على أنه " لا يمكن تنفيذ الإكراه البدني" على المحكوم عليه الذي يدلي لإثبات عسره بشهادة عوز يسلمها له الوالي أو العامل أو من ينوب عنه وبشهادة عدم الخضوع للضريبة تسلمها مصلحة الضرائب بموطن المحكوم عليه "خلاف ما كان ينص عليه الفصل 679 من قانون المسطرة الجنائية الملغي الذي كان يجعل من إثبات العسر وفق نفس الشروط أعلاه سببا لتخفيض مدة الإكراه البدني إلى النصف فقط.
والملاحظ أن المشرع في إطار مدونة تحصيل الديون العمومية ، قد توسع في تحديد وسائل إثبات العسر بحيث اعتبر بأن تحرير محضر بعدم وجود ما يحجز في حق الملزم دليل على عسره (المادة 57 من مدونة تحصيل الديون العمومية) ، أما بالنسبة لقانون المسطرة الجنائية فإن محضر بعدم وجود ما يحجز لا يدخل ضمن وسائل إثبات العسر، وبالتالي فهو لا يشكل حتى مجرد قرينة على عدم توفر المدين على أموال قابلة للحجز، وهو تباين يمكن تبريره بعدم توفر الدائن العادي على الوسائل القانونية الكافية للتثبت من حقيقة الذمة المالية للمدين الذي يسارع إلى إخفاء أمواله بمجرد علمه بوجود مطالبة قضائية في مواجهته، ولعل هذا ما يفسر توجه المجلس الأعلى الذي اعتبر بأن عسر المدين لا يفترض وإنما عليه إثبات ذلك، فقد جاء في قرار المجلس الأعلى عدد 1971 الصادر بتاريخ 13/12/2000 لكن حيث إنه من جهة فإن المحضور طبقا للفصل 11 من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية المؤرخة في16 دجنبر1996 والمصادق عليها في المغرب بتاريخ 18 نونبر1979 هو سجن شخص على أساس عدم قدرته فقط على الوفاء بالتـزام تقاعدي، أما إذا كان قادرا على الوفاء بالتزامه ومع ذلك امتنع من الوفاء يجوز سجنه لإجباره على الوفاء مادامت عدم قدوته على الوفاء غير مفترضة لوجوبه إثباته لذلك، الشيء الذي لم يقع على النازلة(منشور بمجلة المحامي العدد 43 ص 165)، وذلك على عكس الصلاحيات الواسعة التي يتوفر عليها المحاسبين المكلفين بالتحصيل من أجل استخلاص الديون العمومية، كحق الإطلاع على جميع الوثائق والمعلومات المتعلقة بالمدينين، سواء اتجاه المدينين أو اتجاه أية جهة أخرى ذات علاقة بالمدينين، مع إلزام هذه الأخيرة بالإدلاء بالمعلومات المطلوبة داخل أجل 15 يوما من تاريخ الطلب تحت طائلة غرامة تهديدية قدرها خمسمائة درهم عن كل يوم تأخير وفي حدود خمسين ألف درهم (باستثناء الإدارات العمومية والجماعات المحلية ) (المواد 128 -129- 130 من مدونة تحصيل الديون العمومية) وكمباشرة إجراءات العجز بحضور السلطة الإدارية ، ومن أجل تعزيز هذه الصلاحيات ثم تجريم افتعال العسر وعرقلة تحصيل الديون العمومية (المواد من 84 إلى 89) ....، وهكذا فإن إنجاز محضر بعدم وجود ما يحجز لا يتم إلا بعد تحريات دقيقة تضفي عليه نوعا من المصداقية والمطابقة للوضعية المالية الفعلية للمدينين .
ج / تخويل المدين فرصا أكبر لتفادي الخضوع لمسطرة الإكراه البدني وذلك من خلال :
أ) تقييد مفعول مسطرة الإكراه البدني بالأحكام الباتة غير القابلة لأي طريق من طرق الطعن عاديا كان أو غير عادي، وهكذا فقد نصت المادة 598 (الفقرة الثانية ) من ق .م .ج .على أنه " لا يجوز تطبيق الإكراه البدني إلا إذا اكتسب المقرر المذكور قوة الشيء المقضى به"، وذلك احترازا من المساس بحرية الأفراد في حالة صدور حكم لا حق يلغي الحكم الذي كان أساسا لإعمال مسطرة الإكراه البدني، وما يترتب على ذلك من أوضاع غير قابلة للتصحيح
(9)وهذا ما يوفر للمدين وقتا مهما لتدبير أمر الوفاء بالمبالغ المحكوم بها عليه أو لإثبات عسره .
2) اشتراها مدة أطول في الإنذار الموجه للمدين بالوفاء بحيث أصبحت أكثر من شهر واحد، بعدما كانت في القانون القديم لا تتجاوز عشرة أيام (المادة 640 من ق .م .ج ).
3) تمتيع المدين بإمكانية إيقاف مفعول الإكراه البدني بالأداء الجزئي للدين مع الالتزام بأداء الباقي في تاريخ محدد، (المادة 645 من ق ،م ،ج ).
4) عدم جواز إكراه المدين من أجل نفس الدين (أومن أجل أحكام سابقة تتضمن ديونا لا تستلزم في مجموعها مدة أطول من المدة التي أكره من أجلها) مرتين (المادة 647) . 5) التخفيض من مدة الإكراه بحيث أصبحت لا تتجاوز 5أ شهرا (المادة 638 من ق .م .ج ) في حين كانت في القانون القديم تصل إلى حدود سنتين (المادة 678 من ق .م .ج .الملغى).
وتبقى أكبر ضمانة مخولة للمدين، هي إقرار مسطرة الموافقة المسبقة لقاضي تطبيق العقوبات على طلب تطبيق الإكراه البدني وما يعنيه ذلك من التثبت من تحقق شروط أعمال مسطرة الإكراه البدني، غير أن هذه الضمانة تظل مرتبطة بحجم الصلاحيات المخولة لقاضي تطبيق العقوبات في هذا الصدد، وهل الأمر يتعلق بمجرد رقابة شكلية إجرائية أم هي رقابة موضوعية شاملة تنسحب على الشروط الشكلية والموضوعية لمسطرة الإكراه الباني ؟
في اعتقادنا فإن الإشكالية الجوهرية التي يثيرها اختصاص قاضي تطبيق العقوبات في مجال مراقبة صحة إجراءات الإكراه البدني، هي تحديد نطاق الصلاحيات المخولة له أثناء النظر في طلبات تطبيق مسطرة الإكراه البدني، هل تنحصر فقط في حدود التثبت من توفر الوثائق المنصوص عليها في المادة 640من ق .م .ج . دون غيرها وفق ما قد يفهم من صياغة هذه المادة ، والتي جاء فيها بأنه لا يمكن تطبيق الإكراه البدني في جميع الأحوال ولو نص عليه مقرر قضائي إلا بعد موافقة قاضي تطبيق العقوبات الذي يتحقق من توفر الشروط الآتية بعد توصله بالملف من وكيل الملك ..." وهذه الشروط تتمثل في وجود إنذار موجه للمدين وطلب من الدائن يرمي إلى الإيداع في السجن وما يثبت عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين . وبالتالي الحديث عن رقابة شكلية " وثائقية" من المفروض أن يطلع بها السيد وكيل الملك قبل إحالة الملف على قاضي تطبيق العقوبات ، أم تتصرف حتى إلى الأحكام الموضوعية لمسطرة الإكراه البدني فتنصب رقابته على التحقق من انتفاء موانع الإكراه البدني (المادة 636)، وكون مقرر الإدانة أصبح حائزا لقوة الشيء المقضي به (المادة 598) وتبليغ مقرر الإدانة إلى المدين قبل توجيه الإنذار (المادة 642) .؟
ومن جهة أخرى أليس من شأن توسيع نطاق الرقابة على هذا النحو، أن يقيم تداخلا في الاختصاص مع جهات أخرى أنيط بها أمر البت في النزاعات المثارة بشأن تطبيق مسطرة الإكراه البدني؟ كالسيد رئيس المحكمة الابتدائية إذا كان النزاع يتعلق بصحة إجراءات الإكراه البدني وكان المدين معتقلا (المادة 643) أو المحكمة المصدرة للحكم المراد تنفيذه إذا تعلق الأمر بنزاع عارض يستلزم تفسير المواد 599- 600- 643) (10)، أو حتى إثارة لمسائل يرجع للمطلوب إكراهه وحده أمر إثارتها ؟
أعتقد أن تقصي الغاية من إسناد هذا الاختصاص لقاضي تطبيق العقوبات يسعفنا في ترجيح فكرة الرقابة الشاملة التي تستغرق التثبت من تحقق الشروط الموضوعية والإجرائية في طلبات تطبيق الإكراه البدني، وذلك للاعتبارات الآتية :
أن الجدوى من الرقابة السابقة أو القبلية في أي تدبير تشريعي، هو تفادي إثارة المنازعات اللاحقة أو على الأقل حصرها في أضيق الحدود، حرصا على استقرار المعاملات وعدم المساس بالمراكز القانونية ، وخاصة إذا كان الإجراء المأمور به من شأنه إنشاء أوضاع غير قابلة للتصحيح كما هو الحال في مسطرة الإكراه البدني، ومن تم فلا مجال للقول بوجود أي تداخل للاختصاص في هذا الصدد، نظرا لاختلاف زمن ولاية النظر، فقاضي تطبيق العقوبات يبت في طلبات تطبيق مسطرة الإكراه في إطار غير نزاعي وفي غيبة الأطراف، في حين أن باقي الجهات ( رئيس المحكمة الابتدائية لمكان الاعتقال أو إلقاء القبض، والمحكمة المصدرة للحكم المراد تنفيذه ) فهي تبث في النزاعات الناشئة أثناء تنفيذ مسطرة الإكراه البدني، فتنازع الاختصاص كما هو معلوم بشقيه الإيجابي أو السلبي، يفترض وجود نزاع حال تتقاسم جهتين صلاحية البت فيه على خلاف ما نحن بصدده ، وهكذا فإن تفعيل الرقابة على هذا النحو من شأنه تطهير مسطرة الإكراه البدني من المنازعات المثارة أثناء التنفيذ سواء تعلقت بصحة إجراءات الإكراه البدني (وهو ما تقره الرقابة الشكلية ) أ و بالنزاعات العارضة التي تستلزم تفسيرا (وهو ما تتيحه الرقابة الموضوعية )
(11).
أن القول بغير هذا سيجعلنا نطرح أكثر من تساؤل حول الغاية من إسناد هذا الاختصاص لقاضي تطبيق العقوبات، ما دام أن مجرد الرقابة الشكلية الوثائقية هو دور كان يطلع به السيد وكيل الملك حيث يتأكد ما أمكن من تحقق شروط إعمال مسطرة الإكراه البدني الشكلية منها والموضوعية قبل إحالة الملف على قاضي تطبيق العقوبات، كما أن القول بمثل هذا الفهم سيجعل عمل قاضي تطبيق العقوبات مجرد مراجعة شكلية، وهو فهم لا يحلو من حبت، ويضع عمل المشرع وبالتالي الإدارة العامة موضع تساؤل، حبت تصبح عملية التشريع غير مرتبطة بغايات وأهداف محددة ، ونسقط مرة أخرى في متاهات التضخم الإجرائي وتعقيد المساطر وهو خلل يجب ألا يكون في تشريعات الألفية الثالثة .
- كيف يمكن عمليا لقاضي تطبيق العقوبات ، أن يتغاضى عن إثارة بعض العوارض الظاهرة لمسطرة الإكراه البدني في إطار الملف المعروض عليه "كوفاة المطلوب إكراهه أو عدم توفر السن القانوني، أو عدم الإدلاء بما يفيد تبليغ الحكم الصادر بالإدانة (المادة 640 من ق .م .ج )....."، أو حتى كون الدين موضوع طلب الإكراه لا يخضع في استخلاصه لقانون المسطرة الجنائية ، كتعلق الأمر بدين عمومي (غير الغرامات والإدانات النقدية
(12) يرجع في إجراءات استيفائه لمدونة تحصيل الديون العمومية التي لا تستلزم موافقة قاضي تطبيق العقوبات في سلوك مسطرة الإكراه البدني، حيث تنص الفقرة الأخيرة من المادة 80 من مدونة تحصيل الديون العمومية على أنه "....يتم تطبيق الإكراه الباني فورا، ويعمل على تنفيذه بمجرد توصل وكيل الملك لدى المحكمة المختصة بالقرار المحدد لمدة الحبس(13).
- أنه ليس في توسيع صلاحيات قاضي تطبيق العقوبات في هذا الصدد،أي حلول محل المدين في إثارة المنان عات الخاصة به ، وإنما هو حلول محل القانون ممثلا في الإدارة العامة التي تسعى لعدم المساس بحرية أفرادها إلا في نطاق القانون ، وإلا لكان في إثارة المحكمة تلقائيا للمسائل المتعلقة بالنظام العام ، والتي تلتقي مع مصلحة أحد الخصوم في الدعوى حلولا محله .
انطلاقا من هذه الأسانيد وغيرها نصل إلى قناعة أن نطاق اختصاص قاضي تطبيق العقوبات لا ينحصر فقط في حدود التثبت من وجود الوثائق المحددة في المادة 990 من ق .م .ج . وإنما ينصرف إلى التحقق من توفر الشروط الموضوعية لأعمال مسطرة الإكراه البدني، وذلك في حدود ما تتيحه الوثائق المرفقة بالملف المحال عليه ويترتب على القبول بهذه النتيجة الآثار العملية التالية:
أن يحال الملف على قاضى تطبيق العقوبات من طرف السند وكيل الملك مشتملا على الحكم المراد تنفيذه، أو مستخرج للحكم كما هو الحال في استخلاص بعض الديون العمومية وخاصة المصاريف القضائية والإذانات النقدية كما تجيز ذلك المادة 633 من ق .م .ج ، وكذا ما يفيد صيرورته باتا وتبليغه للمدين المطلوب إكراهه ، بالإضافة إلى الوثائق المبينة في المادة 640من ق .م .ج .
امتداد الرقابة إلى تصفح مضمون الوثائق المدلى بها، وليس الاكتفاء بشكلها الظاهري فقط ، فغالبا ما يعنون المحضر بكونه محضر بعدم وجود ما يحجز وهو في الحقيقة محضر امتناع ....، وهكذا يجب مراجعة الحكم المراد تنفيذه من حبت تعلقه بالأطراف (الصفة في طلب تطبيق الإكراه البدني)، ومن حيث المبلغ المحكوم به في حالة الحكم بتضامن المدينين ، والوقوف من خلاله على سن المحكوم عليه، بالإضافة إلى مطابقة البيانات الواردة به مع تلك المبينة في الشهادة بعدم النقض .....
جواز تعليل القرار بعدم تطبيق الإكراه البدني بتخلف شرط موضوعي كعدم توفرالمحكوم عليه على السن القانوني، أو غيره من موانع الإكراه البدني وليس بعدم وجود أحد الوثائق المحددة في المادة 640 من ق .م .
غير أن تفعيل الرقابة على النحو الذي أشرنا إليه يبقى رهينا بنوعية الوثائق التي يتكون منها ملف الإكراه المحال على قاضي تطبيق العقوبات، وهل تسعفه في تدقيق النظر حول تحقق شروط إعمال مسطرة الإكراه البدني أم لا، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول الوثائق التي يتشكل منها ملف الإكراه البدني وهل يقتصر الأمر على الوثائق المنصوص عليها في المادة 640 من ق . م .ج . أم يشمل غيرها ؟
الفصل الثاني
الوثائق آلتي يتحقق منها قاضى تطبيق العقوبات
الملاحظ أن المشرع لم يتعرض لتحديد الوثائق التي يتكون منها الإكراه البدني، إلا أن النص في المادة 640 من ق .م .ج . على كون موافقة قاضي تطبيق العقوبات على طلب تطبيق الإكراه البدني مرتبطة بالتحقق من توفر شروط ثلاثة وهي: 1- توجيه إنذار، 2- تقديم طلب كتابي يرمي إلى إيداع المدين في السجن ، 3- والإدلاء بما يثبت عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين ، قد توحي للبعض على أن هذه الشروط - والتي هي في حد ذاتها - هي المكون الأصلي لملف الإكراه البدني، مادام أن رقابة قاضي تطبيق العقوبات تنحصر في حدودها، ومادامت هي المدخل للحصول على قرار الموافقة ، وهذا فهم لا يقوم على أساس اعتبار لما أسلفناه سابقا بخصوص نطاق الرقابة المخول لقاضي تطبيق العقوبات ، وكذلك لكون أن تلك الوثائق ما هي إلا خطوات إجرائية لتحقيق القوة التنفيذية (لوثيقة أساسية )، وهي المقرر القضائي المراد تنفيذه والذي يتعين الإدلاء به والإدلاء بما يفيد صيرورته باتا، وكذا بما يفيد تبليغه للمدين ....، بهذا يتضح بأن الوثائق المحددة في المادة 640 من ق .م .ج ليست هي الكل الذي يتكون منه ملف الإكراه البدني وإنما هناك وثائق أخرى جوهرية يتعين الإدلاء بها والتي تخضع بدورها لرقابة قاضي تطبيق العقوبات ، وأن تخلفها يترتب عليه عدم الاستجابة لطلب تطبيق الإكراه البدني.
وهكذا يمكن القول بأن الوثائق الأساسية التي يتكون منها ملف الإكراه البدني تتمثل فيما يلي:
وجود مقرر قضائي (14) يلزم المدين بأداء مبلغ مالي :
في مواجهة طالب الإكراه سواء كانت في شكل تعويضات مدنية أو غرامات أو مصاريف قضائية (15)، وسواء كان المقرر صادرا عن محكمة زجرية أو مدنية ، وهذا ما تنص عليه المادة 635 من ق .م .ج . التي جاء فيها على أنه يمكن تطبيق الإكراه البدني في حالة عدم تنفيذ الأحكام الصادرة بالغرامة ورد ما يلزم وده والتعويضات والمصاريف...:
فهذه المادة حاولت استقصاء كل صور الجزاء المالي في الدعوى المدنية التابعة ، والتي يجوز تطبيق الإكراه البدني بشأنها ، غير أن عبارة - رد ما يلزم رده - الواردة ضمنها تثير بعض الاضطراب ، لكون الرد كما تعرفه المادة 106 من القانون الجنائي، إنما ينصب على الأشياء أو المبالغ أو الأمتعة المنقولة الموضوعة تحت يد العدالة ، فكيف إذن يمكن أن يكره شخص من أجل مبالغ مالية لا توجد في حوزته؟ كما أن الرد كما يجوز لفائدة الضحية يجوز كذلك لفائدة الغير بل وحتى لفائدة المتهم نفسه ، كما إذا حجزت لديه نقود أو أشياء تبين فيما بعد أنها لا علاقة لها بالفعل الجرمي أو صدر حكم ببراءته ... حيث تقرر المحكمة رد الأموال والأشياء المحجوزة تلقائيا، فالرد إذن هو إجراء يستهدف تصحيح الأوضاع الظاهرة غير المنازع فيها الناتجة عن الجريمة ، لذلك فإن المشرع أسند صلاحية الرد لعدة جهات، ابتداء من النيابة العامة (المادتين 40 و49 من ق .م .ج .) وقاضي التحقيق (المادتين 106 و107 من ق . م .ج .) وانتهاء بهيئة الحكم (المادة 366 من ق .م .ج .) حيث يبقى باب الرد مفتوحا في سائر مراحل الدعوى العمومية (البحث التمهيدي، التحقيق الإعدادي والمحاكمة )، لهذا فإن الرد لا يتضمن أي إلزام مالي ضد شخص معين يوجب سلوك مسطرة الإكراه البدني لإجباره على الأداء، وهذا ما دفع البعض إلى التأكيد على أن الرد لا يعتبر موضوعا للدعوى المدنية التابعة ، ولا علاقة له بالتعويض وخاصة إذا كان الرد تلقائيا أو لفائدة المتهم نفسه أو الغير، حيث لا يترتب عنه اكتساب صفة المطالب بالحق المدني وما تخوله من آثار.
فهذه العبارة يبقى مضمونها مثار غموض ، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن مفهوم الوضع تحت يد العدالة يستغرق الوضع الفعلي والوضع الحكمي (أي في حكم الموضوع تحت يد العدالة ) وبشرط أن يتعلق الأمر بمبالغ مالية توجد بحوزة المحكوم عليه ، انسجاما مع مبدأ أن الإكراه لا يجوز إلا في إلزام مالي، وذلك مسايرة لما ورد بالمادة 326 من مدونة التجارة من أنه "....يجوز للقضاء الزجري في حالة عد م انتصاب الطرف المدني، وعد م استخلاص ما يثبت وفاء الشيك إضافة إلى مصاريف تنفيذ الحكم ، مبلغا يعادل قيمة الشيك ، وتضاف له عند الاقتضاء الفوائد ابتداء من يوم التقديم وفقا للمادة 288 وكذا المصاريف الناتجة عن عدم الوفاء إذا لم يتم تظهير الشيك ، إن لم يكن ذلك لتحصيل قيمته وكان أصله بالملف . في حالة تطبيق مقتضيات الفقرة السابقة ، يجوز للمستفيد من الشيك الحصول على نسخة تنفيذية من الحكم ضمن الشروط المتطلبة في حالة تنصبه طرفا مدنيا بصورة صحيحة" .
فالمشرع في هذه المادة اعتبر مبلغ الشيك غير المؤدى وكذا المصاريف المترتبة عن عدم الوفاء والفوائد بمثابة مبالغ موضوعة تحت يد العدالة ، يخول للمحكمة صلاحية ردها إلى أصحاب الحق فيها تلقائيا
(16) ويمكن أن نلحق بهذه الحالة طلبات الإرجاع التي ترد في مطالب إدارة المياه والغابات أو المتعلقة بالمبالغ المسروقة أو المتحصلة من عملية نصب ، وان كانت هذه الحالات تقترب من التعويض أكثر من الرد، وهكذا فإنه يجب على قاضي تطبيق العقوبات مراقبة منطوق الحكم المطلوب إجبار المدين على تنفيذه ، وهل من النوع الذي يجوز فيه الإكراه البدني أم لا، كأن يكون صادرا في دين نفقة بين الأزواج ..(17)وكذا التثبت من صفة طالب الإكراه البدني وهل هو طرف في الحكم أم لا ؟.
وجود ما يثبت صيرورة المقرر القضائي حائزا لقوة الشيء المقضى به ، وذلك عن طريق الإدلاء بشهادة بعدم النقض ، أو قرار المجلس الأعلى بعدم قبول أو برفض طلب النقض ..، والعمل على مطابقة البيانات الواردة في هذه الوثائق مع المقرر القضائي.
وجود ما يثبت تبليغ المقرر القضائي للمدين، وذلك تحت طائلة عدم الاعتداد بالإنذار اللاحق ، وفي هذا تنص المادة 642 من ق .م .ج . على أنه "إذا لم يتم تبليغ مقرر الإدانة مسبقا للمدين، فإنه يتعين تبليغه قبل توجيه الإنذار، غير المسبوق بتبليغ مقرر الإدانة"، لهذا فإنه يجب الحرص على مراقبة استيفاء هذا الإجراء من قبل طالب الإكراه .
فهذه الشروط كما يتضح ، ولو لم يسند المشرع صراحة في المادة 640 من ق .م .ج. لقاضي تطبيق العقوبات أمر التحقق من توفرها فهذا لا يعني أنها غير مشمولة بالرقابة، أو أنه لا ضرورة لوجودها ضمن ملف الإكراه المحال من طرف وكيل الملك، خاصة وأنها مقررة بنصوص صريحة وتحت طائلة جزاءات ، كما باقي الوثائق المنصوص عليها في المادة 640 ترتبط صحتها بوجود هذه الوثائق .
ومادام أن الوثائق المنصوص عليها في المادة 640 من ق .م .ج . تعتبر بمثابة المقدمة المباشرة لسلوك مسطرة الإكراه البدني، ومادام أن التعديل التشريعي الأخير قد أضاف بعض الوثائق مقارنة مع قانون المسطرة الجنائية الملغى، فإننا سنحاول تفصيل الحديث حولها وذلك ببيان الأحكام القانونية المتعلقة بهذه الوثائق ونقصد بالذكر:
1) توجيه إنذار
2) طلب كتابي يرمي إلى الإيداع في السجن
3) ما يثبت عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين .
والملاحظ أن الترتيب الذي وردت به هذه الوثائق ضمن المادة 640 من ق .م .ج لا يقابل الترتيب الإجرائي الواقع عمليا بحيث يتم المبادرة أولا إلى التنفيذ على أموال المدين ، فإذا لم تفض إلى نتيجة أو أن نتائجها ضلت غير كافية ، يتم توجيه إنذار للمدين ، فإذا لم يستجب يتم التقدم بطلب كتابي يرمي إلى إيداع المدين في السجن ، لذلك فإننا سنحاول معالجتها وفقا لهذا الترتيب :
أ/ الإدلاء بما يثبت عد م إمكانية التنفيذ أموال المد ين :
لقد قصد المشرع من إيراد هذا الشرط ضمن التعديلات الجديدة التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية، تكريس الوضع الذي كان سائدا عمليا بخصوص اشتراط النيابات العامة على طالب الإكراه ضرورة الإدلاء بما يفيد إجراء مسطرة الحجز على أموال المدين وخاصة (محضر بعدم وجود ما يحجز)، وهو ما يعكس الطابع الاستثنائي لمسطرة الإكراه البدني ويخول المدين وقتا مهما للوفاء بالديون المترتبة بذمته ، إلا أن التساؤل قل يثار بخصوص المقصود من هذا الشرط، إذ كيف تتحقق عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين؟ وماهي وسائل إثبات ذلك ؟
إن تصفح المقتضيات القانونية المنظمة لأحكام التنفيذ الجبري في إطار قانون المسطرة المدنية ، باعتبارها الشريعة العامة لقواعد التنفيذ يفضي بنا إلى التأكيد على أن عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين إما أن ترجع لمانع قانوني أو تتأسس على مانع مادي.
1) المانع القانوني من التنفيذ على أموال المد ين .
قد يستثني القانون لاعتبارات مختلفة بعض الأموال من التنفيذ الجبري، ويخرجها بالتالي من نطاق الضمان العام المخول للدائن على كل أموال المدين (الفصل 1248 من ق .ل .ع .) سواء كانت أموالا منقولة أو عقارية ومن ذلك مثلا:
ـ المنقولات المنصوص عليها في الفصل 458 من ق .م .م (فراش النوم ، الملابس، أواني الطبخ ، الخيمة ، الكتب والأدوات اللازمة لمهنة المحجوز عليه ...)
ـ الأموال المحددة في الفصل 488 من ق .م .م (النفقات ، التعويضات العائلية ، رأسمال الوفاة ، المعاشات المدنية والعسكرية ...)
ـ الأملاك المحبسة أو الأعيان الموقوفة (الفصل 75 من ظهير 02 يونيو 1915 المحدد للتشريع المطبق على العقارات المحفظة ...)
ـ أراضي الجموع ( الفصل من ظهير 1919 المنظم لأراضي الجموع ...)
ـ الأجور والمرتبات في حدود معينة (ظهير 7 يونيو 1941 (وظهير 14 يونيو 1941
..(18)
ففي هذه الحالة إذا ثبت أن الأموال المملوكة للمدين تدخل ضمن هذه الطائفة ، فإن عون التنفيذ يحرر محضرا بعدم وجود ما يحجز، فيصار بعد ذلك إلى استيفاء باقي إجراءات إعمال مسطرة الإكراه البدني.
2) المانع المادي من التنفيذ على أموال المدين .
يشمل هذا المانع كل الأسباب التي تحول دون وضع اليد على أموال المدين ، أو حتى استخلاص حصيلة تنفيذ كافية لتغطية مصاريف التنفيذ ومبلغ الدين ، ومن ذلك الأسباب التالية :
ـ عدم توفر المدين أصلا على أية أموال يمكن حجزها .
ـ إذا لم تسفر إجراءات الحجز على أموال المدين إلى أية حصيلة إيجابية ، أو أن نتائجها غير كافية ( المادة 635 من ق .م .ج .) وذلك نظرا لوجود ديون ممتازة أو رهن رسمي لفائدة الدائنين وغيره من أسباب الأولوية عند التوزيع بالمحاصة . ..، وبإزاء هذه الحالة فإن التساؤل يثار حول وقت تقدير القيمة الإئتمانية للأموال المملوكة للمدين وهل تفي بمبلغ الدين أم لا، هل بمجرد معرفة وضع الممدين المالي ومكونات ذمته المالية الإيجابية ، أم لابد أن ننتظر مآل إجراءات التنفيذ، حتى ولو كان مثلا العقار الوحيد المملوك للمد ين موضوع حجز من قبل دائنين مرتهنين من أجل ديون تفوق بكثير جدا قيمة العقار المحجوز، فهل يعتبر ذلك مانعا ماديا من التنفيذ يخول للدائن سلوك مسطرة الإكراه البدني دون انتظار نتيجة التنفيذ؟
أعتقد أن وجود عقار مملوك للمدين ومهما كانت التكاليف الواردة عليه ، يحول دون مباشرة إجراءات الإكراه البدني، وإنما يلزم التدخل في إجراءات الحجز وانتظار حصيلة التنفيذ، وذلك للعلل التالية :
أن ما يستخلصه المدين من عملية التنفيذ - ما لم تكن سلبية- ومهما قلت قيمتها سيكون لها تأثير على تحديد مدة الإكراه البدني بعد خصمها من المبلغ الإجمالي للدين .
مراعاة لما قد تعرفه مرحلة التنفيذ على أموال المدين من تنازل بعض الدائنين أو وقوع صلح أو غيره من الأسباب التي قد تحسن المركز المالي للمدين وبالتالي حظوظ الدائنين في استخلاص كل مبلغ الدين .
تأسيسا على ما ورد في المادة 635 من ق .م .ج . من أنه "يمكن تطبيق مسطرة الإكراه البدني ...، إذا تبين أن الإجراءات الرامية إلى الحصول على الأموال المنصوص عليها في المادة السابقة بقيت بد ون جدوى أو أن نتائجها غير كافية"، ولفظ الإجراءات المنصوص عليه في هذه المادة كما ينصرف كذلك إلى إجراءات الاستخلاص الحبية ينصرف كذلك إلى إجراءات التنفيذ الجبري.
استئناسا كذلك بتوجه المشرع في إطار مدونة تحصيل الديون العمومية حيث نص صراحة في المادة 76 من المدونة على أنه " إذا لم تؤد طرق التنفيذ على أموال المدين إلى نتيجة، يمكن أن يتابع التحصيل الجبري للضرائب والرسوم والديون العمومية الأخرى بواسطة الإكراه البدني" .
وهكذا فمهما قلت قيمة المال المملوك للمدين والقابل للحجز وجب انتظار مآل الحجز عليه، وذلك ما لم تكن الأشياء المحجوزة غير كافية حتى لتسديد مصاريف التنفيذ الجبري كما جاء في الفصل 459 من ق م .م .
وجدير بالذكر أن نسبة كبيرة من الأحكام ، وخاصة المتعلقة بالغرامات والمصاريف القضائية تتعثر مسطرة تنفيذها نظرا لتواجد محل سكنى المحكوم عليهم بأماكن نائية جذا يستلزم الوصول إليها مصاريف باهضة قد تتجاوز بكثير المبالغ المحكوم بها، إلا أن بعد محل إقامة المدين لا يعتبر بحال سببا مثبتا لعدم إمكانية التنفيذ على أمواله .
ولتجاوز هذا العارض والتثبت من إمكانية أو عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين، لا مانع من الاستعانة بعناصر الدرك الملكي الذين يتوفرون على الوسائل المادية وكذا الصلاحية القانونية للقيام بأعمال التنفيذ، وهو ما ينص عليه صراحة الفصل 36 من ظهير 4 1 يناير 1958 بشأن مصلحة الدرك الملكي والذي جاء فيه للدرك الأهلية في أن يقوم مباشرة بأعمال التبليغ والتنفيذ المنصوص عليها في المقتضيات المعمول بها في المرافعة المد نية، غير أنه لا تسند هذه المهمة للدرك إلا إذا لم يتأت للمصالح المكلفة عادة بالإعلانات والتنفيذات القضائية القيام بها نظرا لحالة الاستعجال أو بعد المسافات "(19)، وهو ما قد يساهم في تسريع عملية التنفيذ أو حتى إثبات عدم إمكانية التنفيذ على أموال المدين إذا كانت نتيجة التنفيذ سلبية قبل سلوك مسطرة الإكراه البدني، تبتدئ بتوجيه إنذار للمدين بالوفاء .
ب / توجيه إنذار بالوفاء للمد ين المطلوب إكراهه :
لقد استلزم المشرع لمباشرة إجراءات الإكراه البدني، ضرورة توجيه إنذار للمدين المطلوب إكراهه يبقى بدون نتيجة بعد مرور أكثر من شهر على تاريخ التوصل به (المادة 640 من ق .م .ج )، ويخضع توجيه الإنذار المذكور لمجموعة من الأحكام (19) كما تنبني عليه مجموعة من الآثار (20) .
1)
الأحكام القانونية للإنذار بالوفاء في إطار مسطرة الإكراه البد ني.
الملاحظ أن المشرع لم يفرد لهذا الموضوع إلا مادتين هما المادة 641 والمادة 642 والفقرة الأولى من المادة 640 من ق .م .ج ، والتي يمكن من خلالها استخلاص الأحكام التالية :
ـ تبليغ الحكم الصادر بالإدانة لا يغني عن توجيه إنذار للمدين ، وفي هذا الصدد فقد جاء في قرار صادر عن محكمة الاستئناف بني ملال بتاريخ 20/06/1990 في الملف عدد 115/90 بأنه " لا يمكن تطبيق الإكراه البدني إلا بعد توجيه إنذار بالأداء، ويبقى دون جارى، لمدة 10 أيام طبقا للفصل 680 من قانون المسطرة الجنائية، وأن هذا الإنذار ليس هو الإنذار الموجه في إطار مسطرة التبليغ " (20) وهكذا فلا يعتد بالإعذار المضمن عادة في محضر الإمتتاع أو محضر بعدم وجود ما يحجز والذي يتم تطبيقا للمادة 440 من ق .م .م التي تنص على أنه " يبلغ عون التنفيذ إلى الطرف المحكوم عليه الحكم المكلف بتنفيذه ويعذره بأن يفي بما قضى به الحكم حالا أو بتعريفه بنواياه" ومن تم فلا علاقة له بالإنذار الموجه في إطار مسطرة الإكراه البدني .
ـ لا يعتد بالإنذار إذا لم يكن مسبوقا بتبليغ مقرر الإدانة ، وهذا ما نصت عليه المادة 642 من ق م .ج ، والتي جاء فيها بأنه " إذا لم يتم تبليغ مقرر الإدانة مسبقا للمدين، فإنه يتعين تبليغه قبل توجيه الإنذار، ولا يعتد بالإنذار غير المسبوق بتبليغ مقرر الإدانة".
ـ العبرة في توجيه الإنذار بإشعار المدين بمضمون الإجراء وليس بالكيفية المسطرية التي يتم بها ، لهذا فإن المشرع لم يحدد كيفية توجيه الإنذار وكذا شكلياته وخاصة إذا كان المدين المطلوب إكراهه في حالة سراح ، أما إذا كان معتقلا فإن المادة 641 من ق .م .ج نصت على أن " رئيس المؤسسة السجنية المقام إليه الطلب من طالب الإكراه يوجه إلى المحكوم عليه إنذارا كتابيا لأداء دينه، ويجب أن يشمل هذا لإنذار إضافة إلى التذكير بموجز مقرر الإدانة مبلغ العقوبة المالية ومبلغ المصاريف وكذا مدة الإكراه المأمور به
"(21).
وفي هذا الصدد يستوي أن يوجه الإنذار بالوفاء في إطار الفصل 148 من ق .م .ج ، أو عن طريق البريد المضمون مع الإشعار بالتوصل أو بناء على استجواب يقوم به أحد ضباط الشرطة القضائية بناء على طلب من النيابة العامة ، أو بأية وسيلة مكتوبة أخرى، وأنه في حالة وجود منازعة في صحة الإنذار فإن الأمر يرجع لتقدير رئيس المحكمة الذي يتحقق من مدى تحقق الغاية من الإنذار عن طريق الوسيلة المنازع فيها أم لا، غير أنه يجب التأكيد على أن الوسيلة التي يقع بها تبليغ الإنذار يجب أن تكون مكتوبة ، ولا يغني في هذا الشأن الإنذار الشفوي، وذلك حتى يتأتى لقاضي تطبيق العقوبات مراقبة تحقق هذا الشرط وفق ما تستلزمه المادة 640 من ق .م .ج وخاصة مرور الأجل المخول للمدين ، بل وحتى التأكد من كون تاريخ توجيه الإنذار لاحق لتاريخ تبليغ المقرر الصادر بالإدانة ، وهي أمور لا تتحقق إلا إذا كان الإنذار كتابيا .
ـ العبرة في أجل الإنذار بمرور أكثر من شهر، ولو بيوم واحد، وهكذا فإن كان الأجل لا يتجاوز الشهر فإن هذا الإجراء يبقى غير متحقق قانونيا
(22)،وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن أجل الإنذار هو أجل كامل ، بحيث لا يشمل اليوم الأول ولا اليوم الأخير، وفي هذا تنص المادة 750 من ق .م .ج على أن "جميع الآجال المنصوص عليها في هذا القانون آجال كاملة لا تشمل اليوم الأول ولا اليوم الأخير وتستثنى من ذلك الآجال التي تكون محددة بالساعة . إذا كان اليوم الأخير للأجل يوم عطلة امتد الأجل إلى أول يوم عمل بعده" .
ـ العبرة بمرور الأجل القانوني للإنذار (أي أكثر من شهر واحد) ما بين تاريخ توصل المدين بالإنذار وتاريخ المطالبة بتطبيق الإكراه البدني، وليس بالأجل الذي يضمنه طالب الإكراه في الإنذار الموجه للمدين ، ولو كان يقل عن المدة المحددة قانونا، ولا يترتب على ذلك القول ببطلان أو عدم قانونية الإنذار، مادام أن المشرع لم يشترط في المادة 640 من ق .م .ج ضرورة تضمين الأجل بالإنذار، وإنما فقط مرور أكثر من شهر واحد على تاريخ التوصل بالإنذار.
العبرة بالأجل المضمن بالإنذار إذا كان يفوق المدة المحددة قانونا ، مادام أن هذا التحديد القانوني يمثل الحد الأدنى الذي لا يجوز النزول عنه ، فالدائن مادام يملك حق التنازل عن مسطرة الإكراه البدني بل وحتى عن الحق الذي يجري الإكراه البدني اقتضاء له ، فإنه بالضرورة يملك حق تمديد الأجل ومنح المهلة للمدين للوفاء اختيارا ، وكذلك تأجيل سلوك مسطرة الإكراه البدني رغم مرور الأجل المحدد في الإنذار، كما أن توجه المشرع يسير نحو تشجيع مساطر الصلح والتسوية الحبية والوفاء الاختياري، وحصر اللجوء إلى الإكراه البدني في نطاق ضيق ، وهذا ما يستفاد بوضوح من خلال تحديد المشرع لأجل الإنذار في ( اكثر من شهر)، بمعنى أنه أجاز الدائن إمكانية تخويل المدين أجلا أطول وذلك بتقدير المدى الزمني الذي يتجاوز الحد القانوني، وبعبارة أخرى تقدير حدود هذه الأكثرية بحسب قيمة الدين وعلاقته بالمدين وغيرها من الاعتبارات الشخصية والإنسانية . غير أنه في المقابل يمتنع على الدائن المطالبة بإيداع المدين في السجن قبل مرور الأجل المحدد في الإنذار تفاديا لأية مباغتة محتملة للمدين .
ـ العبرة في ترتيب الإنذار لآثاره بالتوصل القانوني للمدين وليس بالتوصل الشخصي، وهكذا فإن التوصل بالإنذار يعتبر توصلا قانونيا إذا تم بواسطة أقارب المدين أو خدمه أو أي شخص آخر يسكن معه حسب التفصيل الوارد في الفصول 37 ، 38، و 39 من ق .م .م .
وهكذا فإذا وود الإنذار مستوفيا للأحكام المبنية أعلاه ، ترتبت عنه مجموعة من الآثار القانونية .
2) الآثار القانونية المترتبة عن الإنذار.
تختلف الآثار القانونية المترتبة عن الإنذار بالوفاء بحسب موقف المدين استجابة أو تعنتا، أداء أو امتناعا .
ـ حالة مبادرة المدين للأداء : في هذه الحالة فإن الأمر لا يخلو من فرضيتين فإما أن يتم الأداء بمجرد التوصل بالإنذار وقبل صدور الأمر بالاعتقال ، وفي هذه الصورة يكون الإنذار قد أنتج مفعوله عن طريق الوفاء اختيارا ، فتقف الإجراءات عن هذا الحد، وإما أن لا يقع الأداء إلا بعد صدور قرار الموافقة عن قاضي تطبيق العقوبات واعتقال المدين وقبل قضاء مدة الإكراه المحكوم بها، فيترتب عن ذلك وقف سيران مفعول الإكراه البدني والإفراج عن المدين المعتقل، ما لم يكن الأداء جزئيا وفي هذه الحالة يمكن إكراه المدين من جديد فيما يخص المبالغ الباقية بذمته، والى هذا تشير المادة 645 من ق .م .ج التي تنص على أنه "يمكن للمحكوم عليهم بالإكراه البدني أن يتجنبوا مفعوله أو أن يوقفوا سريانه إما بأداء مبلغ من المال كاف لانقضاء الدين من أصل وفوائد وصوائر برضا الدائن الذي سعى في اعتقالهم أو بأداء قسط من الدين مع الالتزام بأداء الباقي في تاريخ محدد. يفرج وكيل الملك عن المدين المعتقل بناء على ثبوت انقضاء الدين أو بطلب من الدائن" كما تنص المادة 646 من ق .م .ج على أنه "إذا لم ينفا المدين الالتزامات التي أدت إلى إيقاف الإكراه البدني أمكن إكراهه من جديد فيما يخص المبالغ الباقية بذمته" .
ويتضح من هاتين المادتين أن تعطيل أو إيقاف مفعول الإكراه البدني يتم بأحد الأمور التالية :
الأداء الكلي الناجز : وذلك بإيداع مبلغ كاف لتسديد مبلغ الدين والفوائد والمصاريف ، ولا يغني عن ذلك تقديم كفالة شخصية لعدم جواز الحلول في الإكراه البدني، أو حتى كفالة عينية لكون المشرع تحدث في المادة 645 من ق .م .ج عن مبلغ من المال وليس عن ضمانة .
ـ الأداء الجزئي مع الالتزام بأداء باقي مبلغ الدين في تاريخ محدد:
والملاحظ في هذا الصدد أن المشرع في ق .م .ج لم يحدد بالنسبة من مبلغ الدين التي يحصل بها الأداء الجزئي، غير أنه يجب ألا تكون زهيدة ، وذلك حرصا على توفر الجدية لدى المدين ، وضمانا للوفاء بباقي مبلغ الدين ، وحتى نتفادى تكرار الاعتقال من أجل نفس الدين ، كما أن المشرع لم يبين كذلك شكل التزام المدين بأداء باقي الدين ، وهل يكون شفويا أو كتابيا، وهو عكس التوجه الذي سلكه المشرع في إطار مدونة تحصيل الديون العمومية ، حيث ورد في الفقرة الثانية من المادة 81 على أنه "يفرج عن المدين المعتقل بأمر من وكيل الملك بعد إثبات انقضاء الديون أو بطلب من المحاسب المكلف بالتحصيل بعل أداء قسط يعادل على الأقل نصف المبالغ الواجبة وتعهد المدين كتابة بد فع المبلغ الباقي داخل أجل لا يتعدى ثلاثة أشهر مع تقديم الضمانات المنصوص عليها في المادة 118 أدناه"، إلا أن التساؤل الذي يثيره موضوع الأداء الجزئي في مسطرة الإكراه البدني هو أن تخلف المدين عن أداء باقي مبلغ الدين في التاريخ المحدد يفتح المجال أمام إكراهه من جديد كما جاء في المادة 646 من ق .م .ج ، فهل يخضع الإكراه الجد يد لنفس مسطرة الإكراه الأول أم يكتفي فيه فقط بصدور أمر بإلقاء القبض من طرف وكيل الملك وإيداع المدين بالسجن لقضاء ما تبقى من مدة الإكراه؟ نعتقد أن الحل الثاني هو الأولى بالترجيح لأن الأداء الجزئي لا يترتب عليه سوى وقف سريان الإكراه البدني كما جاء في المادة645 من ق م .ج المشار إليها أعلاه ولا أثر له على صحة إجراءات الإكراه البدني التي تظل صحيحة (23)، وكان جديرا بالمشرع أن يستعمل عبارة (أمكن اعتقاله من جديد) بدل عبارة (أمكن إكراهه من جديد)، رفعا لأي غموض في هذا الصدد(24).
وهناك حالة أخرى لوقف سريان الإكراه البدني لم ينص عليها المشرع لكن المنطق الإجرائي يقتضيها، وهي حالة نشوء حمل بالمرأة المطلوب إكراهها بعد صدور أمر باعتقالها أو إيداعها بالسجن ، بحيث يفرج عن المرأة المعتقلة ، فيتوقف الإكراه البدني ولا يستأنف بخصوص المدة المتبقية إلا بعد مرور سنتين من تاريخ الولادة . .. وفي هذا تنص المادة 637 من ق .م .ج على أنه "لا ينفذ الإكراه البدني امرأة حامل ولا على امرأة مرضعة في حدود سنتين من تاريخ الولادة" بمعنى أنه إذا بدء في التنفيذ توجب إيقاف مفعوله ، وإلا تم تعطيل هذا المقتضى القانوني، وهو نفس الأمر الذي أكدته المادة 77 من مدونة تحصيل الديون العمومية (25).
وتجدر الإشارة كذلك إلى حدوث أي مانع من موانع الإكراه أثناء المدة التي التزم المدين خلالها بالأداء يضع حدا لتطبيق مسطرة الإكراه البدني كبلوغ سن 60 عاما أو تحقق مصاهرة بين الدائن وأحد أقرباء المدين في حدود الدرجة التي تجعله صهرا للدائن أو حتى إثبات العسر أو غيرها من الموانع .
والملاحظ أيضا أن المشرع لم يبين الجهة التي تحدد مدة الإكراه البدني فيما يخص المبالغ الباقية بذمة المدين في حالة عدم الأداء داخل الأجل المحدد، لكن الواضح من خلال الإجراءات المسطرية وللصلاحيات المخولة لوكيل الملك في قبول الأداء الجزئي بخصوص مبلغ الأداء ولتحديد المدة المخولة للمدين لأداء باقي الأقساط ، أن هذا الأخير هو الذي ترجع له الصلاحية في تحديد مدة الإكراه عن المبالغ الباقية بذمة المدين (26).
ـ برضى الدائن طالب الإكراه : سواء تعلق الأمر بدين عمومي(27) أو خصوصي، وهكذا فإنه يجوز للدائن وخاصة في الديون الخصوصية أن يتنازل سواء عن إجراءات الإكراه البدني أو عن الحق الذي يجري الإكراه البدني اقتضاء له ، إلا أن التساؤل يشار بخصوص إمكانية إعادة طلب الإكراه البدني من جديد في حالة التنازل عن الإكراه البدني؟
في نظرنا فإنه يجب التمييز في هذا الصدد بين حالتين :
*
حالة التنازل عن الإكراه البدني قبل اعتقال المدين : وفي هذه الحالة فليس هناك ما يمنع الدائن من إعادة طلب الإكراه البدني مرة ثانية لكن شريطة استيفاء إجراءات الإكراه البدني من جديد، فالتنازل في هذه الحالة يؤدي حسب المادة 645 من ق .م .ج إلى تجنيب المدين مفعول الإكراه البدني فقط، ولا يمكن في هذا الصدد الاحتجاج بما ورد في المادة 647 من ق .م .ج التي تنص على أنه "إذا انتهى الإكراه البدني لسبب ما، باستثناء الحالة المنصوص عليها في المادة السابقة، لايمكن بعدئذ تنفيذه نفس الدين ولا من أجل أحكام أخرى صدرت قبل تنفيذه ، ما لم تكن هذه الأحكام تستلزم بسبب مجموعها مدة إكراه أطول من المدة التي تم تنفيذها على المحكوم عليه، وفي هذه الحالة يتعين دائما إسقاط مدة الاعتقال الأول الحل" (28) فهذه المادة صريحة في منع إكراه المدين من أجل دين سبق إكراهه من أجله وقضى مدة الإكراه ، بدليل تكرار كلمة تنفيذ في متن المادة نفسها، كما أن التنازل في هذه الحالة لا ينهى الإكراه البدني وإنما يضع حدا للسير في إجراءاته ، لكون الإكراه البدني وبالتالي الإجبار على التنفيذ - لا يبتدئ إلا من يوم الإيداع في السجن ، وبالتالي لا يمكن القول بأن تنازل الدائن يحمل على كونه تنازلا عن الحق ، لأن التنازل يجب تفسيره تفسيرا ضيقا .
*
حالة التنازل عن الإكراه البدني بعد اعتقال المدين : ولو بيوم واحد، هذه هي الحالة المقصودة في المادة 645 بصريح هذه المادة نفسها والتي أكدت على أنه يمكن للمحكوم عليهم بالإكراه البدني أن يتجنبوا مفعوله أو أن يوقفوا سريانه إما بأداء مبلغ من المال ... " وإما برضا الدائن الذي سعى في اعتقالهم ..." وعلى أن وكيل الملك يفرج عن المدين المعتقل "بناء على ثبوت انقضاء الدين أو بطلب من الدائن" مما يستفاد منه أن المدين المطلوب إكراهه في وضعية اعتقال ، وأن هذه الحالة هي المشمولة بحكم المادة 647، وهكذا فإنه لا يمكن إكراه المدين من أجل هذا الدين بعد تنازل الدائن، كما أن التنازل في هذه الحالة لا يحمل بالضرورة على كونه تنازلا عن الحق ، بدليل أن المشرع نص على التنازل بعد النص على الإفراج عن المعتقل بناء على ثبوت انقضاء الدين ، بمعنى أن التنازل لا يثبت به الوفاء ولا مانع من التنفيذ على أموال المدين في حالة ظهورها، ما لم يكن تنازلا صريحا عن الحق فتنتهي خصومة التنفيذ كليا سواء عن طريق الإكراه البدني أو غيرها من وسائل التنفيذ .
*
حالة نكول المدين عن الأداء بعد توصله القانوني بالإنذار: في هذه الحالة يتم إيداع المدين بالسجن بعد صدور قرار الموافقة عن قاضي تطبيق العقوبات ، وصدور أمر بإلقاء القبض عن وكيل الملك ، وكل ذلك على إثر تقديم طلب كتابي من المطالب بالإكراه البدني إلى وكيل الملك يرمي إلى إيداع المدين في السجن .
ج / تقديم طلب كتابي من ا لدائن يرمي إيداع المدين في السجن :
يعتبر هذا الإجراء آخر إجراء يقوم به الدائن في إطار مسطرة الإكراه البدني، وعلى إثره يشكل ملف الإكراه البدني الذي يتأكد وكيل الملك من احترامه للمقتضيات القانونية المنظمة للإكراه البدني قبل إحالته على قاضي تطبيق العقوبات لطلب الموافقة ، بحيث لا يشرع في تنفيذ الإكراه البدني إلى بعد صدور القرار المذكور.
لكن هل صدور قرار بالموافقة على تطبيق الإكراه البدني من طرف قاضي تطبيق العقوبات بالضرورة اعتقال المدين وإيداعه بالسجن، وتجريد وكيل الملك من أية سلطة في هذا الصدد أنه مجرد شكلية أو إجراء قانوني من إجراءات مسطرة الإكراه البدني وأن أمر اعتقال المدين يرجع لسلطة وكيل الملك الذي له صلاحية عدم إيداع المدين بالسجن رغم صدور قرار قاضي تطبيق العقوبات؟، وهذا ما يجرنا إلى التساؤل عن الطبيعة القانونية للقرارات الصادرة عن قاضي تطبيق العقوبات ؟ وعن حدود الإلزام فيها ؟.
المصدر مجلة المرافعة
0 التعليقات:
Post a Comment