الصلح في إطار قانون المسطرة الجنائية الجديد

من إعداد: ذ. عبد اللطيف إدزي

نائب الوكيل العام للملك

قد يصل صاحب الحق إلى حقه قضاءا أو رضاءا. وخير له أن يصل بالرضى، فالرضى يوفر الجهد والوقت والمال ويزيل الضغائن والمشاحنات ويعيد الحال إلى ما كانت عليه قبل النزاع، فيستتب الأمن، وتهدأ النفوس، خاصة في الميدان الجنائي، وإن كانت المنازعات المدنية كثيرا ما تكون مدخلا لدعاوي جنائية وبالصلح المدني يمكن تلافي قيام الخصومة.

فالصلح كما سبقت الإشارة إلى التعريف المتفق عليه سواء من طرف المشرع أو من طرف الفقه هو عقد يحسم بواسطته الطرفان نزاعا قائما أو يتوقيان قيامه مستقبلا وذلك بأن يتنازل كل منهما على وجه التقابل عن جزء مما يدعيه.

فإذا كان الصلح جائزا في المادة المدنية ونصت عليه تشاريع كل دول المعمور فهل هذه الإمكانية مستباحة أيضا في الدعوى العمومية. فالدعوى المدنية تدخل ضمن حقوق الشخص سواء من حيث ملكيتها أو من حيث مباشرتها في حين أن الدعوى العمومية لا حق للشخص في التصرف فيها كيفما يشاء ويتنازل عنها وقتما شاء إذ هي ملك للمجتمع الذي ينيب عنه في القيام بمباشرتها وتتبعها إلى صيرورتها نهائية جهاز النيابة العامة باعتبار الدعوى العمومية ناشئة عن جريمة مس من خلالها الفاعل أو شركاؤه أو المساهمين معه تلك القدسية التي أضفاها المشرع على حياة المواطن وماله وعرضه وغيرها من الأمور اللصيقة بآدميته وأحدث بها من جهة ثانية خللا بالنظام والأمن العامين اللذين لا قائمة لأي مجتمع بدونهما.

وقد كشفت الممارسة اليومية للعمل داخل المحاكم الزيادة الضخمة لأعداد القضايا الجنحية مما اضطر معها المشرع في غالبية البلدان إلى التدخل بواسطة التغيرات التي أدخلها على قانون الإجراءات الجنائية هدفا منه في التخفيف من هذا العبء الذي أثقل كاهل كل من القضاء والمتقاضين فبسط إجراءات التقاضي حتى أضحت بعض النزاعات التي تمتلئ بنوعها دهاليز المحاكم تجد حلا لها وقبل وصولها أمام الهيئة القضائية المختصة للبث فيها. وهذه البساطة تتمثل في ناظم الصلح في المادة الجنائية(1).

قد اختلفت الآراء حول طبيعة الصلح في المادة الجنائية. فهناك من وصفه بأنه عمل قانوني لأن المشرع رتب عليه أثرا محددا حتى ولو لم تتحه إرادة المتهم أو المجني عليه إلى تحقيق هذا الأثر إذ العبرة بتحقيق ذلك العمل أي الصلح وإن توافرت شروطه أما آثاره فلا شأن للإدارة به.

وأرى بأن الصلح هو تصرف قانوني يسري على نوع معين من الجرائم حددها المشرع على سبيل الحصر وبشروط معينة إن هي توفرت تجعل حدا لإقامة الدعوى العمومية.

ولعل الحكمة في تقريره في التشريعات الجنائية للعديد من الدول ـ مع الإشارة إلى أنه للمرة الأولى ينظمه المشرع المغربي بمقتضى قانون المسطرة الجنائية الجديد ـ هذه الحكمة تتمثل وكما سبق الذكر إلى تيسير إجراءات التقاضي وتخفيف عبء كثرة القضايا المعروضة على المحاكم كما تبدو مزايا الصلح من ناحية أخرى وهي الأهم في جعل المتهم يتفادى آثار الإدانة التي تبقى لصيقة به ومن شأنها نبده من طرف المجتمع والمحيط الذي يعيش داخله فتصبح إمكانية وفرص إعادة إدماجه أكثر نجاحا بحيث لن يبقى هناك أي رد فعل اجتماعي ضده وفي نفس الوقت يتيح للطرف المضرور من الفعل الجرمي موضوع الصلح فرصة لحصوله عل تعويض يوازي درجة الضرر الذي ألم به

دون لجوءه إلى المحاكم مع ما يتولد عن ذلك من تكبيده مصاريف طائلة هو في غنى عنها.

والمشرع المغربي هو الآخر لم تفته فرصة الالتحاق بركب التشريعات التي لها دور السبق في إدخال نظام الصلح ضمن قوانينها الجنائية تحت وطئ ضغط القضايا الهائلة التي تحال يوميا على المحاكم رغم كونها لا تشكل أي خطر على المجتمع وأمنه وإن كان ضررها ينحصر فقط على أطرافها والذين يتوقف إتمام الصلح على موافقتهم ورضاهم.

هذا من جهة ومن جهة ثانية مسايرة من بقية الدول التي تبنت توصية مؤتمر الأمم المتحدة العاشر لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين والذي كان قد تبنى هذا التوجه وأقره في إعلان فيينا خلال شهر أبريل سنة 2000 حيث قرر استحداث خطط عمل وطنية وإقليمية ودولية لدعم ضحايا الجريمة تشمل آليات للوساطة والعدالة التصالحية وقرر أن تكون سنة 2002 هو الموعد المحدد لكي تراجع الدول ممارستها في هذا الشأن.

وهكذا وبمقتضى القانون رقم 22/10 المتعلق بقانون المسطرة الجنائية منح للنيابة العامة إلى جانب دورها التقليدي المتمثل في إقامة وممارسة الدعوى العمومية ومراقبتها وتنفيذ الأحكام الصادرة عن القضاء دورا جديدا يرمي إلى القضاء الفوري على آثار الجريمة والحفاظ على الوضعية التي كانت قارة قبل ارتكابها كما أوجد لها دورا فعالا يرمي إلى رأب صدع النسيج الاجتماعي، وأهم ما في ذلك أعطاها المبادرة إلى التسديد بين الخصوم. وهذا التدبير يهم جنحا حددها القانون على سبيا الحصر أي تلك التي يعاقب عليها بسنتين حبا أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000.00 وفي هذا الصدد يختلف المشرع المغربي عن المشرع المصري في تحديد الجرائم التي يجوز فيها الصلح.

فوفقا للقانون رقم 174 لسنة 1998 المتعلق بتعديل قانون الإجراءات الجنائية المصري نصت المادة 18 مكرر منه على أنه " يجوز التصالح في مواد المخالفات وكذلك في مواد الجنح التي يعاقب عليها القانون بالغرامة فقط وعلى مأمور الضبط القضائي المختص عند تحرير المحضر أن يعرض التصالح على المتهم أو وكيله في المخالفات ويثبت ذلك في محضره ويكون عرض التصالح في الجنح من النيابة العامة وعلى المتهم الذي يقبل التصالح أن يدفع ربع الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو قيمة الحد الأدنى المقرر لها أيهما أكثر ويكون الدفع إلى خزانة المحكمة أو إلى النيابة العامة أو لأي موظف عام يرخص له في ذلك من وزير العدل ولا يسقط حق المتهم في التصالح بفوات ميعاد الدفع ولا بإحالة الدعوى الجنائية إلى المحكمة المختصة إذا دفع مبلغ يعادل نصف الحد الأقصى للغرامة للجريمة أو قيمة الحد الأدنى المقرر لها أيهما أكثر وتنقضي الدعوى الجنائية بدفع مبلغ التصالح ولو كانت مرفوعة بطريق الادعاء المباشر ولا يكون لذلك تأثير على الدعوى المدنية".

فمن خلال مضمون المادة 18 مكرر من قانون الإجراءات الجنائية المصري سوف يتضح بأن هناك تباينا واختلافا بينه وبين قانون المسطرة الجنائية المغربي الجديد عند معالجته للصلح ويتجلى ذلك في النقط التالية:

أولا: الجرائم التي يجوز فيها الصلح

أجاز القانون المصري ودائما في المادة أعلاه التصالح في جميع المخالفات أما بالنسبة للجنح فقد اشترط أن تكون العقوبة هي الغرامة فقط، وهذا يعني أنه إذا كان معاقبا عليها بالحبس والغرامة فلا يجوز فيها التصالح.

أما بالنسبة لقانون المسطرة الجنائية المغربي فقد نص في الفقرة الأولى من المادة 41 أن الصلح لا يجوز إلا إذا تعلق الأمر بجريمة يعاقب عليها بسنتين حبسا أو أقل أو بغرامة لا يتجاوز حدها الأقصى 5000 درهم وقد كان المشرع في مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية قد أشار إلى هذه الجنح بالفصول إذ جاء في المادة 41 من المشروع أن الجرائم التي يجوز التصالح في شأنها هي الواردة في الفصول إذ جاء في الفصول التالية: 263-400-401-404 الفقرة الأولى 425-427-429-441-442-443-447-468-476-477-479-480-482-506-522-526-532-533-540-542-547-551-553-570 من القانون الجنائي وأضاف عليها الجنح المعاقبة بالغرامة فقط المنصوص عليها سواء بالقانون الجنائي أو القوانين الجنائية الخاصة.

ومقارنة ما بين نص المشروع والنص النهائي بعد المصادقة عليه من طرف البرلمان بواسطة مجلسيه يتبين بأن العديد من الجرائم التي جاءت في نص المشروع قد تصل العقوبة الحبسية فيها من ثلاث إلى عشر سنوات كما في الفصول 401-404-425-441-447-524-525-536-542-547-553 وهي تشكل في أفعالها خطورة أكثر من الجرائم المنصوص عليها في بقية الفصول المذكورة كما أنه بالنسبة التي أقر بها الفصل 41 من المشروع لم يحددها لا بالأدنى ولا بالأقصى واكتفى بالقول.............الجنح المعاقبة بالغرامة فقط.

وقد أحسن المشرع صنعا بتحديده الجرائم التي يمكن أن يتم فيها الصلح في جعلها الجنح التي لا تتعدى عقوبتها الحبسية سنتين أو بغرامة لا تتجاوز خمسة آلاف درهم.

ثانيا: الجهة التي تعرض الصلح

جاء في المادة 18 مكرر من قانون الإجراءات الجنائية المصري أعلاه أن هناك جهتان أناط بهما المشرع عرض الصلح على المتهم أو وكيله.

الجهة الأولى وهي التي أطلق عليها اسم مأمور الضبط أي الضابطة القضائية حيث يقوم بعرض التصالح في مواد المخالفات على المتهم أو وكيله وذلك أثناء تحريره للمحضر وإذا وفق في إقناع المعني بالأمر يقوم بإثبات ذلك في المحضر.

أما بالنسبة للجهة الثانية فتتمثل في النيابة العامة التي أوجب عليها كما تعلق الأمر بجنحة معاقب عليها بالغرامة فقط أن تعرض الصلح على المتهم.

ويرى أحد رجالات القانون في تعليقه على الصلح الذي تعرضه النيابة العامة على المتهم أن الأخيرة لا تقوم بعرض الصلح إلا نادرا رغم أن النص القانوني يلزمها بذلك، ويضيف أن البعض من رجال القانون والقضاء يؤكد أن النص سوف يعطل لعدم تطبيقه بالشكل الملائم لعدم عرض التصالح سواء من الشرطة أو النيابة العامة رغم أن النص ألزمها بذلك كذلك يرى بأن النص لم يقرر أي جزاء في حالة عدم عرض التصالح من جانب الجهة التي يجب عرض التصالح منها، وهذا فيه تقصير مما يتعين معه على المشرع أن يتدخل لعلاج ذلك كأن يقرر كجزاء لعدم عرض الصلح بطلان التحقيق أو محضر الضبط(2).

أما بالنسبة للمشرع المغربي فإن الحديث عن الجهة التي يمكنها اقتراح أو عرض الصلح بالنسبة للمادة الجنائية يستدعي التطرق إلى مرحلتين زمنيتين مر بهما الإجراء المذكور قبل أن يستقر على الجهة الموكول لها نهائيا إثارة الصلح.

فهناك المرحلة الأولى وهي التي كان فيها قانون المسطرة الجنائية لا زال في إطار مشروع أي قبل المصادقة عليه من طرف السلطة التشريعية. فهكذا نجد المادة 41 من المشروع جاء فيها بأنه:...... ـ ......يمكن لوكيل الملك أن يسعى إلى السدد بين المشتكى به والمتضرر من الجريمة قبل تحريك المتابعة.......-.

أما عن المرحلة التالية التي أصبحت فيها مقتضيات الفصل 41 قد استقرت على صيغتها النهائية فقد انتزعت من النيابة العامة إمكانية السدد بين الخصوم وتم تخويلها للأخيرين بدلها وهكذا جاء في الفقرة الأولى من الفصل المذكور :( يمكن للمتضرر أو المشتكى به قبل إقامة الدعوى العمومية...أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر).

وتبقى الإمكانية التي يمكن من خلالها للنيابة العامة اقتراح الصلح وهي الحالة المشار إليها في الفقرة السادسة من الفصل 41 أي إذا لم يحضر المتضرر أمام وكيل الملك غير أن وثائق القضية تشير إلى وجود مكتوب صادر عنه يفيد أنه لا يرغب في أية متابعة ضد المشتكى به أو الحالة التي لا يوجد فيها أي طرف مشتك فيبادر عندئذ وكيل الملك ـ مع الإشارة أنه عير ملزم بذلك ـ أن يقترح على المشتكى به أو المشتبه الصلح.

ولا يجب أن يقهم من العبارة في حالة موافقة وكيل الملك الواردة في الفقرة الثانية من الفصل 41 أنها اقتراح أو بمثابة اقتراح الصلح من طرفه على الخصوم بل هذه العبارة أريد بها أن وكيل الملك بعدما يطلب منه الخصمان أي المتضرر أو المشتكى به أو كلاهما معا تضمين الصلح الذي حصل بينهما يتحقق مما إذا كانت الجريمة موضوع الصلح المذكور تدخل ضمن الجرائم التي يجوز فيها ذلك، بعدها يعطي موافقته في الاستمرار في إجراءات الصلح.

وحبذا لو سلك المشرع المغربي مسلك المشرع المصري وجعل عملية السدد بين الخصوم إجراءا ملزما يناط بالنيابة العامة إلى جانب الأطراف حيث أن هذه الإلزامية هي التي تساعد في تفعيله على أرض الواقع كما فعل بالنسبة للصلح في مادة الأحوال الشخصية والمادة الاجتماعية وفي ظهير 24/05/1955.

فمبادرة اقتراح وصول الأطراف إلى حقوقهم عبر التسوية الحبية دون اللجوء إلى استصدار حكم عن القضاء وما يترتب عن ذلك من استتباب الأمن والاستقرار ونسيان الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع قد تأتي بنتائج أفيد وتشجع الأشخاص أكثر على طرب باب الصلح لو بقيت هذه الإمكانية بيد النيابة العامة أو كان حريا بالمشرع أن يتركها والخصوم في اتخاذ مبادرة عرض الصلح فيما نشأ من نزاعات وتكون صياغة الفصل 41 على الشكل التالي : ( يمكن لكل من وكيل الملك أو الخصوم أو أحدهم وقبل إقامة الدعوى العمومية...).

وأعتقد أنه رغم أن الفصل المذكور لم يبين ما إذا كان من حق النيابة العامة في شخص وكيل الملك أو من يمثل عرض الصلح على الخصوم من عدمه فلا يوجد ما يمنعه من القيام بهذه المهمة نظرا للدور الحيوي والهام الذي يمكنه أن يقوم به في إصلاح ذات البين والوصول بالخصوم إلى إبقاء المودة وندب النفرة والشقاق. فقد روي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال :" ردوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بينهم الضغائن...فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب على إبقاء المودة والتحرز عن النفرة بين المسلمين...".

فتدخل النيابة العامة باعتبارها الوجه الثاني لعملة الجهاز القضائي لمباركة أو مساعدة الأطراف في إنهاء النزاع حبيا قد يأتي بنتائج مبهرة وذلك بفعل ما لها من مكانة في نفوس الأطراف والمجتمع معا فبواسطة مكانتها هذه ولما لها من هبة تستطيع استمالة الخصوم إلى قبول الحل الذي تقترحه عليهم. غير أن ذلك لن يتأتى إلا إذا قام ممثل الحق العام بتفعيل تجربته وحنكته وملكيته الثقافية والاجتماعية إضافة على دبلوماسية في التعامل مع المتقاضين، وليس ذلك عليه بعزيز.

أما عن عدم القيام بعرض الصلح والجزاء المترتب عن ذلك كما فعل القانون المصري فلا مجال للحديث عنه بالنسبة للمشرع المغربي ما دامت إمكانية اقتراح التصالح لم تعط للنيابة العامة بصفة أساسية وإنما في حالة خاصة وضئيلة جدا ـ الفقرة 6 من الفصل 41 ـ فعرض الصلح بالنسبة للأول هو أمر واجب وملزم للنيابة العامة.

ثالثا: إجراءات الصلح في المادة الجنائية

إن الإجراءات التي تتم بها عملية الصلح بين طرفي الدعوى العمومية تمر بمرحلتين، مرحلة ما قبل المصادقة على الصلح ومرحلة المصادقة عليه من طرف المحكمة.

فهكذا في المرحلة الأولى وبعد اتفاق الطرفين على الصلح أو قبوله من المشتكى به أو المشتبه فيه بعد اقتراحه عليه من طرف وكيل الملك في الحالة التي يتغيب فيها المضرور لكنه يدلي من ضمن وثائق الملف بتنازل مكتوب وموقع من طرفيه يشير فيه إلى عدم رغبته متابعة الخصم أو في حالة عدم وجود مشتك ـ الفقرة 6 من الفصل 41 ـ ففي هذه الحالة يتولى وكيل الملك بحضور طرفي الخصومة رفقة دفاعهما ما ل يتنازل أحدهما عن حضور إجراءات الصلح بمفرده وبدون مؤازر، في محضر يتضمن ما تم الاتفاق عليه وبعد توقيعه من الجميع أي الطرفان ووكيل الملك يخبرهما الأخير بالتاريخ الذي تقرر أن تدرج فيه القضية أمام غرفة المشورة حيث تتولى الهيئة المتمثلة في رئيس المحكمة أو منة ينوب بحضور ممثل النيابة العامة والطرفين أو دفاعهما المصادقة على الصلح.

أما بالنسبة للمرحلة الثانية أي التي تلي إحالة الملف على غرفة المشورة فإن السيد رئيس المحكمة أو من ينوب عنه يصدر أمرا قضائيا في القضية، وأمره هذا يكون باتا لا يقبل أي الطعن.

ومن بين ما يتضمنه الأمر القضائي المذكور وحسب ما ورد بالمادة 41 من ق.م.ج مصادقته على ما تفق عليه الطرفان وعند الاقتضاء أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة قانوني مع الإشارة إلى أجل لتنفيذ المتهم ما التزم به إثر الصلح الذي تم بينه وبين المشتكي أو بناء عل اقتراح النيابة العامة.

وتشير نفس المادة إلى أن كل من مسطرة الصلح وكذا الأمر القضائي الصادر في غرفة المشورة من طرف رئيس المحكمة أو من ينوب عنه يوقفان إقامة الدعوى العمومية. وطبيعي في هذه الحالة أن تسقط الدعوى العمومية بسبب الصلح الذي تم الاتفاق عليه وصادقت عليه المحكمة وإلا فما الفائدة من إجازته في المادة الجنائية(3).

غير أن سقوط الدعوى العمومية في هذه الحالة ليس مطلقا إذ يبقى من حق النيابة العامة أن تحركها من جديد في ثلاث حالات وهي:

الحالة الأولى: وهي التي لم تتم فيها المصادقة من طرف المحكمة على الصلح لسبب من الأسباب وتجدر الإشارة هنا أن المشرع لم يرتب أي آثار في حالة عدم مصادقة المحكمة على الصلح أي هل من حق صاحب المصلحة الذي هو المشتكى به أو المشتبه فيه أن يطعن في الأمر المذكور، وما هي الجهة التي تتولى البث في طعنه، بخلاف الحالة التي تصادق فيها على الصلح بحيث يصبح حكمها باتا لا يقبل أي طعن.

الحالة الثانية: وهي التي يرفض فيها المحكوم عليه تنفيذ ما التزم به في المادة 18 مكرر من قانون الإجراءات المصري في فقرتها الثالثة: ( ولا يسقط المتهم بفوات ميعاد الدفع).

ورغبة المشرع في ذلك هو حرصه على إعطاء المتهم فرصة ثانية في أن يراجع نفسه ويتدارك ما صدر عنه من تماطل وما فاته من وقت ويتصالح حتى بعد فوات الأجل المحدد لتنفيذ الصلح ـ خمسة عشر يوما ـ غير أن الجزاء الوحيد الذي يترتب عن هذا التأخير هو إلزامه بدفع مبلغ أكثر من المبلغ الذي كان يتعين عليه دفعه لو كان تصالح في الميعاد المقرر ويدفع في هذه الحالة نسف الحد الأدنى المقرر لها أيهما أكثر.

الحالة الثانية: وهي التي تظهر فيها عناصر جديدة تسمى الدعوى العمومية. فقد يصل إلى علم أو يد النيابة العامة ما من شأنه تغيير الصورة التي ظهرت بها في الوهلة الأولى الجريمة أي تجعلها مثلا خارجة عن إطار الجرائم التي يجوز فيها الصلح كما إذا كانت العقوبة الحبسية المقررة لها تفوق الحد الأقصى المقرر قانونا حسب مقتضيات الفقرة الأولى في المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية والكل ما لم تكن الدعوى العمومية قد تقادمت (4).

وباعتبار النيابة العامة الجهاز الذي يسهر على تنفيذ المقررات القضائية فوكيل الملك في إطار الإجراءات التي تتعلق بالصلح وبعد إشعاره من طرف رئيس المحكمة أو من ينوب عنه بصفة فورية بالأمر الصادر عنه حين مصادقته على الصلح يتولى السهر على تنفيذ تلك الالتزامات التي صادقت عليها المحكمة من طرف المتهم.

ويترتب على ما تقدم أن الاتفاق الذي أبرم بين الطرفين يبقى مجرد مشروع صلح ما لم تتم إجازته أو المصادقة عليه من طرف المحكمة ولا يجوز التمسك بما جاء بالمحضر المحرر من طرف وكيل الملك والذي تضمن آراء واقتراحات طرفي النازلة أو ما اقترحته النيابة العامة على المشتكي أو المشتبه به ـ الفقرة 6 من المادة 41 ـ للقول بأن الصلح قد تم فعلا في الدعوى العمومية بحيث لا أثر له ما دامت المحكمة لم تقل كلمتها فيه.

ومن هذه الناحية أيضا يختلف المشرع المغربي عن المشرع المصري في تحديده للجهة التي أنيطت بها مهمة اقتراح الصلح، ذلك أن قانون الإجراءات الجنائية المصري في المادة 18 مكرر، فبعد أن أوضح لكل من الضابطة القضائية والنيابة العامة اختصاصه لاقتراح الصلح على المتهم أو وكيله ـ المخالفات بالنسبة للأولى والجنح التي تكون عقوبتها الغرامة فقط بالنسبة للثانية ـ ألزم المتهم الذي قبل التصالح أن يعرض المبلغ المحدد في المحضر خلال أجل حدد في خمسة عشر يوما ويكون الدفع إلى صندوق المحكمة أو إلى النيابة العامة أو إلى أي موظف عام يرخص له في ذلك من وزير العدل.

ويستفاد مما ذكر أن الصلح في المادة الجنائية بالنسبة للمشرع المصري لا يحتاج إلى مصادقة من المحكمة كما هو عليه الحال بالنسبة لقانون المسطرة الجنائية المغربي ولعل حكمته في ذلك هو التخفيف على المحاكم من عبء إحالة القضايا التي يجوز فيها الصلح وما أكثرها وبالتالي إعفاءها من البت فيها، وتبقى الحالة الوحيدة التي يمكن للمحكمة المصادقة على الصلح هي الحالة التي يقبل فيها المتهم التصالح في شأن الدعوى المعروضة أمامها ما دامت تتعلق بجنحة من الجنح التي يعاقب عليها المشرع بالغرامة فقط.

فبعد التطرق إلى إجراءات الصلح في الدعوى العمومية منذ انطلاقتها الأولى أي ابتداء من تضمين ما اتفق عليه طرفا النازلة وتضمينه بالمحضر من طرف وكيل الملك ثم إحالته على الهيئة المختصة للتصديق عليه ومتابعة تنفيذ ما صدر في شأنه من أوامر قضائية والكل استنادا لمقتضيات المادة 41 من قانون المسطرة الجنائية الجديد أتساءل وربما سوف يكون هناك من يشاطرني في الأسباب الداعية إلى طرح هذا التساؤل، هل المقتضيات السابق ذكرها والتي وضعها المشرع المغربي لأول مرة كوسيلة لإنهاء نزاع ذي طبيعة جنائية هل أوفت فعلا بالغرض الذي صيغت من أجله وبالكيفية التي لن تطرح معها أي إشكال حينما ستعرف طريقها إلى التطبيق على أرض الواقع؟.

إن الجواب على هذا السؤال العريض سوف أحاول أن أستقي الجواب عنه من خلال عدة ملاحظات هي في نفس الوقت مؤاخذات عن الكيفية التي صيغت بها مقتضيات الفصل 41 من ق.م.ج وهي تتمحور حول النقط التالية:

الملاحظة الأولى: فحوى محضر الصلح الذي يتولى وكيل الملك تحريره.

لا خلاف في أن الجهة التي عهد إليها قانون المسطرة الجنائية الجديد تضمين ما اتفق عليه الأطراف من صلح في المحضر هي النيابة العامة باعتبارها الجهاز المكلف بتحريك الدعوى العمومية. وهو ما جاء في العبارات التالية: ـ يطلب المتضرر أو المشتكى به من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر.... في حالة موافقة وكيل الملك وتراضي الطرفين على الصلح يحرر محضرا بحضورهما وحضور دفاعهما … . ويتضمن هذا المحضر ما اتفق عليه الطرفان - .

ومن يتمعن في معنى المقتضيات المذكورة فلن يخرج إلا بفكرة واحدة وهي إضفاء صفة وسيط على ممثل الحق العام مهمته هي تلقي تصريحات واتفاقات الأطراف ثم يقوم بعدها بتضمينها في محضر لا حول له فيه ولا قوة ما عدا الإمكانية الوحيدة المخولة له للتدخل في إعطاء أو عدم إعطاء موافقته كلما تبين له بأن موضوع الصلح يخرج عن دائرة ما أجاز القانون الصلح فيه .

وتبقى الصورة الوحيدة التي تركت له فيها مبادرة اقتراح الصلح هي التي جاءت بها الفقرة 6 من المادة 41 أي - إذا لم يحضر المتضرر أمام وكيل الملك وتبين من وثائق الملف وجود تنازل مكتوب صاد عنه أو في حالة عدم وجود مشتك يمكن لوكيل الملك أن يقترح على المشتكى به أو المشتبه فيه صلحا يتمثل في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة للجريمة أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله، وفي حالة موافقته يحرر وكيل الملك محضرا يتضمن ما اتفق عليه ...

وحبذا لو أبقى المشرع على الدور البارز الذي كان من المقرر أن تلعبه النيابة العامة.

في السير بإجراءات الصلح في الدعوى العمومية إلى النتيجة المرجوة والذي جاءت به المادة 41 من مشروع قانون المسطرة الجنائية ، إضافة إلى كون وكيل الملك هو أول من كان يملك إمكانية السعي إلى السدد بين الطرفين فهو من يقوم باقتراح التدابير التي تشكل إطارا للصلح ومن ضمنها تعويض الضمنية من طرف المشتكى به، أداؤه غرامة في حدود نصف ما هو مقرر قانونا مع إمكانية تقسيط الغرامة لمدة لا تتجاوز ستة أشهر والأمر بإرجاع الحالة إلى ما كانت عليه.

وبعد تضمينه للمحضر التدابير المذكورة أو التي كانت موضوع الصلح يرفقه بملتمس يطلب فيه من رئيس المحكمة أو من ينوب عنه بالتصديق بغرفة المشورة على المقرر بواسطة أمر قضائي .

غير أن الصياغة الجد يدة للفصل المتعلق بالصلح أسقط عن النيابة العامة اتخاذ أي مقرر يتضمن التدابير المتخذة والتي تم الاتفاق عليها وهذا الإسقاط خلق إشكالا قانونيا خاصة ما يتعلق منها بنوعية التدبير أو التدابير المنتظر المصادقة عليها من طرف المحكمة في أمرها القضائي وهو موضوع الملاحظة الثانية .

الملاحظة الثانية : نوع التدبير موضوع الأمر القضائي

جاء في الفقرة الخامسة من المادة 41 من ق م ج:- يتضمن الأمر القضائي ما اتفق عليه الطرفان، وعند الاقتضاء ما يلي :

- أداء غرامة غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقرر قانونا.

- تحديد أجل لتنفيذ الصلح .

فكما سبقت الإشارة فإنه حيثما يتم صلح في نزاع ما إلا ويستتبع ذلك وجود مقابل لهذا الصلح يستفيد منه أطراف العلاقة . فمقابل الطرف المضرور في الدعوى الجنائية هو ما غنمه من تعويض بدون عناء ولا مصاريف جبرا للضرر الذي ألم به بفعل عمل يجرمه القانون ، والطرف المقابل له وهو الشخص مرتكب الفعل - المتهم أو المشتبه فيه- يتفادى الحكم بإدانته مع ما يترتب عن ذلك من آثار على حياته الاجتماعية ونبذه من طرف المجتمع. أما الطرف الثالث والرئيسي في النزاع هو المجتمع الذي تشخصه النيابة العامة والتي أوكل إليها المشرع مهمة ملاحقة كل من زعزع أمنه واستقراره ويكون الجزاء هو معاقبته حتى لا يعيد الكرة مستقبلا .

هذا الجزاء العقابي قد يمس حريته أو يطال ذمته المالية ، الحبس والغرامة، فمن الأمور الأساسية التي توجب أن يتضمنها الأمر القاضي بالمصادقة على الصلح حسب ما جاء في الفقرة الخامسة أعلاه ما اتفق عليه الطرفان علما بأنهما لا يمكن أن يكون موضوع الصلح الذي أبرم بينهما إلا الجانب المادي أي تعويض الطرف المضرور أي المشتكي مقابل تنازله عن مطالبته به مستقبل . فهذا الأخير لا يجوز له بل يمنع عليه التصرف في الدعوى العمومية التي تبقى ملكا للمجتمع وحده (5).

وأضافت نفس المادة وعند الاقتضاء ، وهذا هو بيت القصيد ، وكلمة الاقتضاء هنا تعني التخيير إذ أن القاضي الذي صادق على الصلح غير مجبر لإضافة التدبير ين الباقيين وهما أداء غرامة لا تتجاوز نصف الحد الأقصى للغرامة المقررة قانونا وتحديد أجل لتنفيذ الصلح . ويتساءل سائل هنا عن ما هو الجدوى من الصلح الذي أجازه المشرع في الدعوى العمومية ما دام المقابل الذي جعل المجتمع في شخص النيابة العامة يتنازل عن حقه في متابعة مرتكب الفعل الجرمي والحالة أن هذا المقابل غير ملزم للمحكمة أن تحكم به ويمكنها الاكتفاء بالمصادقة على ما اتفق عليه الطرفان المشتكي والمشتكى به .

وحبذا لو ألغى المشرع عبارة عند الاقتضاء وأبقى على التدابير الثلاثة المذكورة بالفقرة الخامسة أو على الأقل استبدال عبارة ما اتفق عليه الطرفان التي تعين أن يتضمنها الأمر القضائي وأن يحل محلها كتدبير رئيسي وذو الأولوية ذلك الذي يقضي بأداء الغرامة المقررة قانونا . وحتى لو اكتفى الأمر القضائي على أداء الغرامة واغفل التطرق إلى اتفاق الطرفين فإن ذلك لن يضر المشتكي في شيء ما دامت أمامه إمكانية المطالبة بتعويضه لدى المحكمة المدنية المختصة .

ويمكن أن يتولد عن الصياغة المعطاة لهذه الفقرة السؤال التالي: في الحالة التي يكتفي فيها الأمر القضائي بما اتفق عليه الطرفان دون بقية التدابير، ما هو موقف النيابة العامة والحالة أنها الطرف الرئيسي في الدعوى العمومية ؟ هل تقوم باستئنافه وما هي الجهة التي تتولى أمر البث في الطعن المذكور ؟ فهذه إشكالية أخرى انضافت إلى بقية الإشكاليات التي خلفتها صياغة المادة 41 من ق م ج في معالجتها لموضوع الصلح في الدعوى العمومية .

وعدم لزومية أداء الغرامة جاءت أيضا في الفقرة السادسة من المادة 41 وهي الحالة التي لم يحضر فيها المتضرر أمام وكيل الملك ويتبين له من وثائق الملف وجود تنازل مكتوب صادر عنه ، يمكن له أن يقترح على المشتكى به صلحا يتمثل في أداء نصف الحد الأقصى للغرامة المقرر قانونا للجريمة أو إصلاح الضرر الناتج عن أفعاله .

ويفهم من الصياغة المذكورة أنه حتى بالنسبة لممثل النيابة العامة يمكنه أن يكتفي في اقتراحه بإجراء الصلح على الجانب المادي فقد أي تعويض المتضرر ويغض الطرف عن تكليف المشتكى به بأداء الغرامة ، وتبقى الحالة الوحيدة التي يمكن التركيز فيها على الجانب الزجري أي الصلح مقابل أداء الغرامة حالة عدم وجود مشتك في القضية المعروضة على النيابة العامة .

الملاحظة الثالثة : هل هنالك إمكانية طلب الصلح أثناء نظر الدعوى من طرف المحكمة؟

جاء في الفقرة الأولى من المادة 41 من ق م ج أنه يمكن للمتضرر أو المشتكى به قبل إقامة الدعوى العمومية ... أن يطلب من وكيل الملك تضمين الصلح الحاصل بينهما في محضر.

فهل إمكانية إبرام الصلح تبقى جائزة حتى بعد إقامة الدعوى العمومية وعرض القضية للنظر فيها من طرف المحكمة الجنحية؟ هذه الحالة لم يتطرق إليها قانون المسطرة الجنائية وتعتبر من بين أهم الإشكاليات التي أغفل تضمينها خلافا لبعض التشريعات وعلى رأسهم المشرع المصري الذي جاء في قانون الإجراءات الجنائية المادة 18 مكرر أن حق المتهم في التصالح لا يسقط بفوات ميعاد دفع الغرامة موضوع الصلح ولا بإحالة الدعوى الجنائية على المحكمة كما الزم الأخيرة بقبول التصالح في الدعوى المعروضة عليها ما دامت تتعلق بجنحة من الجنح التي يمكن إجراء الصلح في شأنها .

فقد يحصل أن لا يتفق المشتكي والمشتكى به على الصلح بفعل ما حصل للأول من ضرر تسبب له فيه خصمه أو ينجحان في تبديد الخلاف فيما بينهما في شأن بعض الأمور فقط وتبقى الأخرى عالقة لعدم توصلهما إلى اتفاق نهائي حولها، لكن مع مرور الوقت قد يعاود كل منهما الآخر نظرا لما تقتضيه مصلحته في إعادة الأمور إلى سابق عهدها قبل النزاع أو قد يتدخل بعض ذوي النيات الحسنة من العائلة أو الأصدقاء أو الجوار ويتوصلا إلى إبرام صلح لكن بعدما تكون القضية قد خرجت من يد النيابة العامة التي حركت في شأنها الدعوى العمومية وإحالتها على المحكمة للبث فيها .

فأرى أنه ليس هناك أي مانع يحول دون تقديم الطرفين أو أحدهما طلبه إلى المحكمة يلتمس منها قبول الصلح الذي تم بينهما وذلك أسوة بما يجري به العمل في الميدان المدني.

(6) بل لا مانع أيضا من قيام المحكمة بدورها في أن تقترحه على الطرفين كلما كانت الدعوى العمومية منصبة على جنحة من الجنح التي أجاز فيها القانون الصلح .

ويمكن أيضا أن يقاس على الصلح الذي يتم بين أطراف النزاعات المدنية حيث يظل الباب مفتوحا أمام إمكانية إبرامه في أية مرحلة كانت عليها الدعوى ولو بعد صدور الحكم وأثناء عملية تنفيذه أي بعد صيرورة الحكم نهائيا وباتا (7).

الملاحظة الرابعة : ما حكم الصلح في حالة تعاد الجرائم ؟

قد يحدث أن يرتكب شخص عدة جرائم في حق شخص واحد أو في حق عدة أشخاص غير أنه أمام مثول الجميع أمام النيابة العامة يتقدم الطرف المضرور أو الطرف المعتدي - المشتكى به - بطلب إلى وكيل الملك يرمي إلى تضمين المحضر صلحا أبرم بين الطرفين أو يقترح على خصمه إبرام صلح معه وبعد تضمين وكيل الملك محضرا بما ذكر يحال على الهيئة المختصة للمصادقة عليه .

فما هو إذن مضمون الأمر القضائي الذي سوف يصدر في النازلة ؟ هل يجب على الهيئة أن تحكم فقط في الجريمة التي توصف عقوبتها بالأشد أم تبث في كل حالة على حدة ؟ا ويثار نفس السؤال بالنسبة للحالة التي يضمن فيها صلح الطرفين عن كل جريمة وفي محضر مستقل عن الأخر.

أظن أن المقتضيات القانونية صريحة في هذا الصدد ويتعين تفعيلها بالنسبة للجنح التي يجوزفيها الصلح .

فقد جاء في الفصل 118 من القانون الجنائي : على أن الفعل الواحد الذي يقبل أوصافا متعددة يجب أن يوصف بأ شدها .

كما جاء في الفصل 119 من نفس القانون على ما يلي: - تعدد الجرائم هو حالة ارتكاب شخص جرائم متعددة في أن واحد أو في أوقات متوالية دون أن يفصل بينهما حكم غير قابل للطعن- .

فمن خلال هذا التعريف يتبين أن من بين شروط قيام حالة التعدد هو أن تكون الجرائم المتعددة صادرة عن شخص واحد .

ومتى توافرت حالة من حالات تعدد الجرائم فإن الجاني يستفيد من النص الذي وضع لتحديد العقاب اللازم توقيعه عليه .والمشرع في تأسيسه لقاعدة عدم ضم العقوبات في حالة تعدد الجرائم هدفه بالأساس هو عدم المغالاة في توقيع العقاب والإفراط فيه، وهو بذلك يرمي إلى اعتبار قدسية الفرد والتمسك بمبدأ احترام حقوق الإنسان وبالتالي جعل العقوبة تقويما لسلوكه ، لا إفناء لحياته أو ماله (8) .

الملاحظة الخامسة : هل هناك ميعاد محد د لتنفيذ حكم الصلح؟

إذا تم صلح في الدعوى العمومية وصدر عن المحكمة أمر قضائي بالمصادقة عليه فهل هناك ميعاد معين تعين على المحكوم عليه تنفيذ ما التزم به خلاله وإلا سقط حقه في الاستفادة من الصلح؟

إن الحديث عن أجل لتنفيذ الصلح ذكر في مناسبتين اثنتين حسب المادة 41 من ق .م .ج الأولى في معرض الإشارة إلى أحد التدبير ين اللذين يمكن لرئيس المحكمة أو من ينوب عنه أن يضيفهما في أمره القاضي بالمصادقة على ما اتفق عليه الطرفان ومن بينهما تحديد أجل لتنفيذ الصلح - الفقرة الخامسة من المادة 41-، أما المناسبة الثانية وهي التي جاءت عند الحديث عن إمكانية معاودة الإجراءات وإقامة الدعوى العمومية من طرف وكيل الملك في حالة عدم تنفيذ الالتزامات التي صادق عليها رئيس المحكمة أو من ينوب عنه داخل الأجل المحدد (9) .

فمن خلال المقتضيات القانونية التي جاء عليها الذكر نستطيع الجزم بأن الجزاء الذي يترتب عن عدم تنفيذ الصلح داخل الأجل هو سقوط حق المحكوم عليه المشترك به - في الاستفادة من الصلح.

لكن هل لهذا الأجل من أمد أقصى وما هو المعيار المراعى في تحديده من طرف المحكمة، هل ينظر فيه إلى نوع كل جريمة على حدة وما تشكله من خطورة ، أم السند هو مبلغ الغرامة المحكوم بها، أم الظروف الاجتماعية والمادية للمحكوم عليه ؟

وكان حريا بالمشرع في صياغته للمادة 41 من ق م ج أن يبقي على ما جاء به في نفس المادة من المشروع حين خول لوكيل الملك أثناء تحريره لمحضر السدد أن يأمر بتقسيط الغرامة لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، وهي مدة كحد أقصى توجب على المشتكى به أن ينفد الحكم خلالها .

وفي معرض الكلام عن إمكانية إقامة الدعوى العمومية من طرف وكيل الملك في حالة عدم تنفيذ الالتزامات التي صادقت عليها المحكمة ، يثار السؤال التالي :

هل الأمر هنا يتعلق بالجانب الزجري والمدني معا أم فقط ما يتعلق بالغرامة ؟

فالفقرة الخامسة من المادة 41 المتعلقة بالأمر القضائي حصرت من بين الأمور التي لها الأسبقية عند التصديق على الصلح ما اتفق عليه الطرفان- المشتكي والمشتكى به- واتفاقهما هذا لا يمكنه أن يعالج غير الأمور المدنية التعويض-. ثم ما هو الحل في الحالة التي يدعن فيها المشتكى به لما قضى به الأمر القضائي لكن فقط فيما يتعلق بالعقوبة ، مثلا أداءه لنصف الحد الأقصى للغرامة وتقاعس أو رفض عمدا أداءه للتعويض المتفق عليه مع المضرور، فهل يخول للنيابة العامة في هذه الحالة إقامة الدعوى العمومية في مواجهة المشتكى به متدرعة بكونه لم يقم بتنفيذ التـزامه ، وبناء على طلب أية جهة ؟ (10)

فهذه الإشكالات أو الثغرات التي ذكرتها وقد يكتشف غيرها من قبل كل من سبر أغوار المستجدات التي جاء بها قانون المسطرة الجنائية الجديد في شكل ردة فعل الفعاليات القانونية وسوف تتضح أكثر من خلال الممارسة اليومية ، هذه الممارسة التي ستتولد عنها اجتهادات قضائية هي التي وحدها الكفيلة بنسخ غياب ذلك الانسجام الذي كان من المفروض أن يسود بين الفقه والاجتهاد القضائي والتشريع حتى تصبح القاعدة القانونية مسايرة للواقع.

الهوامش

(1)- د/عبد الكريم فودا ، أحكام الصلح في المواد المدنية والجنائية ، دار الفكر الجامعي - الإسكندرية .

(2) المستشار عمرو عيسى الفقي، الوجيز في الصلح والتصالح في المواد الجنائية الطبعة الأولى 2002 ص 24 إلى 26.

(3) جاء في المادة الرابعة من قانون المسطرة الجنائية الجديد في فقرته الثانية : وتسقط الدعوى العمومية بالصلح عندما ينص القانون صراحة على ذلك .

(4) نصت المادة الخامسة من ق م ج ... بمرور خمس سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة .

(5) جاء في الفقرة الأولى من المادة 7 من ق م ج : يرجع الحق في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر الناتج عن جناية أو جنحة أو مخالفة لكل من تعرض شخصيا لضرر جسماني أو مادي أو معنوي تسببت فيه الجريمة مباشرة .

(6) تنص المادة 124من قانون المرافعات المصري "للخصوم أن يطلبوا من المحكمة في أية حالة تكون عليها الدعوى إثبات ما اتفقوا عليه في محاضر الجلسة ويوقع عليه منهم أو من وكلاهم فإذا كانوا قد كتبوا ما اتفقوا عليه الحق المكتوب بمحضر الجلسة وأثبت محتواه فيه ويكون لمحضر الجلسة في الحالتين قوة السند

التنفيذي واعتباره ، وتعطي صورة وفقا للقواعد المقرر لإعطاء صور الأحكام" مع الإشارة إلى أن قانون المسطرة المدنية لا نظير فيه لهذه المادة .

(7) جاء في المادة 534 من قانون التجارة المصري بالنسبة لجرائم الشيك = وتأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبة إذا تم الصلح أثناء تنفيذها ولو بعد صيرورة الحكم باثا - ويفرق المشرع المصري في هذه الحالة بينما ما إذا تم الصلح قبل صدور الحكم النهائي حيث يترتب عليه انقضاء الدعوى العمومية وبين الحالة التي يتم

فيها الصلح بعد الحكم فيترتب عليه أن تأمر النيابة العامة بوقف تنفيذ العقوبة .

(8) ذ/ حسن البكري، تعدد الجرائم وأثرها على العقوبة ، مكتبة الرشاد - سطات ص 11.

(9) عرف ذ/ مامون الكزيري الأجل بأنه أمر مستقبل محقق الوقوع يتوقف على حدوثه نفاذ الالتزام أو انقضاؤه . نظرية الالتزامات في ق ا ع الجزء الثاني ص 65.

(10) حسب قانون المسطرة الجنائية الفرنسي رقم 99- 515 بتاريخ 223/06/1999في الفصل 41- 2 فإن أداء الغرامة يوزع حسب جدول استحقاقات يحدده وكيل الجمهورية وينبغي أن يتم ذلك داخل مدة لا يمكن أن تتعدى سنة واحدة . أما بالنسبة لتعويض الأضرار التي تسببت فيها الجريمة فوكيل الجمهورية يكون ملزما في أن يقترح على مرتكب الأفعال تعويض الأضرار التي تسببت فيها الجريمة داخل أجل لا يمكن أن يتجاوز ستة أشهر ويشعر بذلك الضحية .

المصدر مجلة المرافعة

0 التعليقات:

Post a Comment