ودور المجلس الاعلى في التوفيق بينهما
الاستاذ السيد محمد الاجراوي رئيس الغرفة الشرعية بالمجلس الاعلى
نحتفل في هذه الايام المباركة بمرور اربعين سنة على تاسيس المجلس الاعلى، وهي مناسبة طيبة اغتنمها فرصة للمساهمة في هذه التظاهرة القانونية المتميزة بهذا العرض المتواضع الذي اقدمه في موضوع الحيازة الفعلية في التبرعات وهو موضوع - على اقدميته - احتفظ دائما بطابعه الجديد المنبعث من مختلف التطورات الطارئة على مختلف جوانبه خصوصا منها ما تتعلق بشكلية وطرق تحقيق الحيازة واثباتها .
والمجلس الاعلى بدوره ساير التطورات الفقهية والقانونية الطارئة على موضوع الحيازة في التبرعات واصدر منذ بداية الستينات عدة قرارات تتصل بهذا الموضوع سوف نشير لاهمها في هذا العرض وفي البداية نرى انه لابد لنا ان نعرف بالتبرع ثم بالحيازة الفعلية التي ترتبط به قبل التطرق لاحكام الحيازة المختلفة .
ويمكن تعريف التبرع بوجه عام بانه تمليك مال او منقول بغير عوض، فخاصية انعدام العوض تشمل جميع التبرعات ثم يتميز كل نوع منها بخاصية او اكثر تميزه عن باقي الانواع الاخرى، وهذا الخاصيات المميزة تكون باعتبار المتبرع به ذاتا او منفعة، بحيث تميز العمري والعارية والحبس عن هبة الذات والصدقة بها مثلا، وقد يكون باعتبار القصد والباعث حيث تميز الهبة عن الصدقة بكون الباعث في الاولى صلة ومودة المعطى لها والمتبرع عليه ويكون الباعث في الثانية وجه الله تعالى ورجاء ثوابه وهذا موضوع لسنا بصدد بحثه في هذا العرض .
اما الحيازة او الحوز فلها في اللغة معان مختلفة، الاقرب منها لموضوعنا ما اورده الشيخ محمد الرازي في الصحاح حيث قال : الحوز الجمع والضم وبابه قال وكتب وكل من ضم شيئا في نفسه فقد حازه واحتازه ايضا، والحيز ما يضم الى الدار من مرافقها وبعد ما اورد لسان العرب عدة معان للحوز قال : والحوز من الارض ان يتخذها شخص يبرز حدودها فيستحقها ولا يكون لاحد فيها معه حق في ذلك الحوز وقال : وحاز الشيء يحوزه اذا قبضه وملكه واستبد به وقال : والحوز الملك وقال ايضا والحوز الجمع وكل من ضم شيئا الى نفسه من مال او غيره فقد حازه حوازا وحيازة الخ .
اما عن الفقهاء فالحوز رفع يد المعطي من التصرف في الملك " المعطى" ورد ذلك الى المعطى له او لمن ينوب عنه، وعرف الامام ابن عرفة في كتابه الحدود الحوز الشامل لجميع التبرعات بقوله رفع خاصية تصرف الملك فيه عنه بصرف التمكن منه للمعطى له او نائبه .
اما حكم الحيازة فانها شرط لابد منه باتفاق الائمة الاربعة مالك والشافعي وابي حنيفة وابن حنبل وجمهور فقهاء هاته المذاهب على اشتراطها ومخالفا الظاهرية في اشتراطها واخذوا بظاهر الادلة وقالوا ان الهبة عقد والله عز وجل قال : { يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود }. وقالوا ان الالتزام بها وبغيرها من التصرفات عهد الله تعالى يقول : { واوفوا بعهد الله اذا عاهدتم } وراي الامامية مع راي الائمة الاربعة، والاصل في اشتراط الحيازة في التبرعات ما وردته عائشة الصديقة عن والدها الصديق ابي بكر انه كان نحلها جداد عشرين وسقا من ماله لم تحزه فلما حضرته الوفاة قال لها يا بنية ان احب الناس بعدي لانت وان اعز الناس علي فقرا بعدي لانت واني قد كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي ولو كنت جددتيه واحرزتيه لكان لك وانما هو الان مال الورثة وانما هما اخواك واختاك فاقتسموه على كتاب الله .
واستخلص الامام القرطبي في تفسيره من قول الله تعالى : { فرهان مقبوضة} في المسالة السادسة ان الرهن يصح بقبضه ويبطل اذا استرده الراهن من يد المرتهن، وفقهاؤنا يجمعون على اشتراط الحيازة في سائر التبرعات والنصوص الواردة في هذا الشان كثيرة في المغرب قال سحنون قلت لابن قاسم ارايت لو حبس او تصدق رجل بنخل حائط وبقي في حيازته ولم يقبضه المحبس او المتصدق عليه فقال الحائط ميراثا وقال ميارة: ان الحيازة الفعلية في سائر التبرعات شرط والشروط ما يلزم من عدمه العدم الى ان قال فان لم يجز اصلا ولم يطالب المتبرع عليه بالاجبار على الحيازة او طالب بذلك في مرض الموت بطل التبرع ومثل ذلك لكافة الشراح التاودي والتسولي والعراقي والوزاني في حاشيتهما وقال السجلماسي عند شرح بيت العمل الفاسي ( والحوز قبل الموت شرط نور ( زكاة او صدقة للغير) اي ان الحيازة في جميع التبرعات شرط وهو مبدا لا خلاف فيه) .
وقال الشيخ الحطاب في الالتزامات " اعلم ان الالتزامات اذا لم تكن على وجه المعارضة لا تتم الا بالحيازة وتبطل بالموت والفلس وقبلها كما في سائر التبرعات" .
وهو ما اكده شراح المختصر لدى قوله في الهبة ( وبطلت ان تاخر حوزها لدين محيط) وفي الرسالة لابن ابي زيد القيرواني ( ولا تم هبة ولا صدقة ولا حبس والا بالحيازة فان مات قبل ان تحاز منه فهي الميراث) المراد منه اورد ابن جزي في قوانينه في باب الهبة ان شرط الهبة الذي هو الحوز لا يشترط في هبة الثواب وهو في غيرها شرط تمام وعند مالك والشافعي شرط صحة وعند ابن حنبل ليس شرط تمام وهو خطا بين، يتجلى من الرجوع لمصادر الفقه في هذه المذاهب، وبالرجوع اليها يتاكد ان الحيازة في التبرعات عند المالكية شرط تمام ومن فقهائهم من يقول بانها شرط صحة فقد تبع شراح التحفة ومحشوها الغرفاطي في قوله ( والحوز شرط صحة التحبيس قبل حدود موت او تفليس ) واكد ميارة ان الحيازة والحوز شرط صحة اخذا من البيت واضاف ان الشرط ما يلزم من عدمه العدم وانه لا مفهوم للحبس ….
وانه شرط صحة في سائر التبرعات اما الشافعي وابو حنيفة فجمهور فقهائهما على ان الحوز شرط صحة في التبرعات ويشاطرهم الامامية هذا الراي اما الحنابلة فجمهورهم يؤكد على ان الحيازة شرط في صحة التبرع في المكيل والموزن خاصة. واكد الامام ابن قدامة وهو من اجل فقهائهم في كتابه المغنى في كتاب الهبة والعطية ان سائر التبرعات مدلولها واحد وهو تمليك بغير عوض وان الحيازة شرط في صحتها مستدلا باجماع الصحابة وما ورته عائشة عن والدها رضي الله عنهما من الاثر المشار اليه اعلاه واضاف بعد ذلك ان الواهب قبل القبض ان شاء اقبض الهبة وامضاها وان شاء رجع فيها ومنعها ولا يصح قبضها الا باذنه وقال بعد هذا واذا مات الواهب او الموهوب له قبل القبض بطلب الهبة فتبين ان الحنابلة اكثر تشددا في اشتراط الحيازة في التبرعات مما يتبين منه ان ما لابن جزي مجرد خطا. والحيازة في التبرعات خاصية من الخاصيات التي تميزت بها عقود التبرعات في الفقه الاسلامي والحكمة في اشتراطها ان المشرع لما اعتبر المال من الكليات الخمسة الواجب الاحتفاظ عليها وهي النفس والعقل والدين والمال والنسل وقرن المال بالدين والنفس والعقل وهي اسس يتميز بها الانسان وكان الاصل في الطبيعة البشرية التعلق بالمال والشح به عن انفاقه دون مقابل اضافة الى ركن الصيغة وهي قول يدل على ان التبرع شرطا ماديا يتمثل في اقتران القول بعمل مادي هو صرف المتبرع به وتسليمه للمتبرع عليه ليدل هذا العمل على طيب نفس المتبرع بهذا التصرف وجديته فيه فكان هذا العمل يشكل في الواقع شكلية خاصة امتازت بها عقود التبرعات عن غيرها من العقود العوضية العادية .
وعلى هذا الاساس تشدد الفقهاء في التبرع بدار السكنى فاشترطوا لصحة التبرع بها ثبوت استغناء المتبرع بها عنها بما يدل على الاستغناء وذلك باخلائها من جميع شواغله وتركها فارغة دون عودته اليها خلال سنة كاملة يتم بعدها الحوز والتحويز فان عاد لها خلال السنة ولو بكراء بطل التبرع وهذا ما اشار له صاحب التحفة في قوله :
ومــن يحبس دار سكنــاه فلا ... يصح الا ان يعاين الخـــلا
وفي قوله :
وان يكـــن موضع سكناه يهب ... فان الاخلاء له حكم وجب
وقد اشار الشيخ التسولي هنا الى ان المفترض في التبرع بدار سكناه هو استمراره ساكنا بها حتى يثبت الاخلاء والتخلي عنها وعدم عودته لها خلال السنة .
وتمييز عقد التبرع بخاصية شيء لم ينفرد به التشريع الاسلامي وحده ولكنه يوجد في غير هذا التشريع من القوانين الوضعية العربية وغيرها كما هو الشان في القانون المصري مثلا الذي اشترط في عقد الهبة الذي يشهده الموثق ان يتم بمحضر شاهدين لاتربطهما علاقة عائلية لا بالموثق ولا بطرفي عقد التبرع يشهدان معه على التبرع ويوقعان معه على ويثقته ... وكذلك الشان في القانون المدني الفرنسي فانه هو الاخر ميز عقود التبرع بخاصيات تربتط بالسبب الباعث عليه على خلاف ما يجري عليه الامر بالنسبة لغيرها من عقود المعاوضة فاجازت المادة 955 منه للواهب الرجوع في هبته اذا خاب ظنه في الموهوب له وصدرت منه تصرفات تدل على نكرانه الجميل، كما اجازت له المادة 960 من نفس القانون الرجوع في الهبة التي انجزها في وقت لم يكن له فيه عقب " وازداد له" ولد بعد انجاز الهبة وهي ميزة خاصة بعقود التبرع تشكل استثناء من القاعدة ان العقود اذا تمت اصبحت ملزمة ولم يكن لاي طرف من طرفيها الاستقلال بالرجوع فيها الا برضى وموافقة الطرف الاخر .
وهكذا يظهر ان اشتراط الحيازة في عقود التبرعات في الفقه يعتبر ميزة من الميزات التي تختص بها عقود التبرعات في مختلف التشريعات وانه يعتمد اساسا تشريعيا وحكمه ظاهرة .
واذا تقرر ان الحيازة الفعلية شرط في التبرعات فما هي الوسيلة القانونية التي يمكن بها اثبات توافر هذا الشرط ؟
ان هذا جانب اخر من الجوانب التي تتصل بالموضوع وهو جانب دقيق تشعبت فيه الاراء تبعا لتشعب الحالات التي يثيرها هذا الجانب .
والافضل ان تتم حيازة المتبرع عليه للمتبرع به فور وقوع التبرع وتشهد البينة الشاهدة له بمعاينتها للحيازة الفعلية وتقترن شهادتهم بالتبرع بشهادتهم بمعانية الحيازة في نفس العقد المنشء للتبرع فتسلم الهبة من المطاعن التي قد يثيرها الخصوم .
واثبات الحيازة بمعاينة البينة الشاهدة بالتبرع هو الماثور عن الامام مالك واصحابه ففي المدونة ولا يقضي بالحيازة الا بمعاينة البينة لحوزه في حبس او رهن او هبة او صدقة ولو اقر المعطي في صحته ان المعطى له قد حاز وشهد عليه باقراره بينة ثم مات لم يقض بذلك ان انكر الورثة حتى تعاين البينة الحوز .
وهو الذي اعتمده الموثقون قال ابن سلمون ولا بد من حوزه في حياة المحبس وقبل فلسه ومرض موته والا بطل وذلك اي الحوز بالشهادة على المعاينة ولا يجزىء فيه الاقرار الخ … المراد منه نقله شراح التحفة لدى قولها والحوز بشرط التحبيس وقالوا لا مفهوم للحبس لان مثله جميع التبرعات، وقال التسولي " والحوز رفع يد المعطي من التصرف في الملك ورد ذلك الي يد المعطي له او من يمثله الى ان قال : والمذهب انه لابد فيه من المعانية ولا يكفي فيه الاقرار من المحبس او المحبس عليه فلو جاء في الوثيقة حوازا تاما ولم يقولوا معاينة فذلك غير كاف لاحتماله المعاينة والاعتراف فان كان الشهود احياء استفسروا والا بطل الوقف الا ان يكونوا من اهل العلم فيحمل على المعاينة الخ … قاله العبدوسي، ومرادهم بالمعاينة طواف البينة على الملك المتبرع به من جميع جهاته وشهادتهم بوضع المبترع عليه يديه عليه وان لم يشاهدوا تصرفه فيه كما يتم في الدور ومثلها فيما له ابواب تغلق بتخلي المتبرع عنها وتسليم مفاتيحها المتبرع عليه وجعلها رهن اشارته وان لم يسكن او يعتمرها بالفعل .
واثبات الحيازة بالمعاينة، وهو الذي سار عليه الاجتهاد القضائي في مختلف المحاكم. ففي 22/4/94 اصدرت محكمة الاستئناف بمكناس قرار تحت عدد 21465 بالملف عدد 3753 بطلب بمقتضاه عقد الهبة المؤرخ بفاتح يناير 62 متعلق بالملك موضوع الرسم العقاري 9419 لعلة عدم التنصيص فيه على معاينة البينة لحيازة الملك المتبرع به حيث لاتتصور معاينة البينة للحيازة في هذه الهبة لانعقادها بوثيقة عرفية … وليس بشهادة عدلين.
كما ان المجلس الاعلى، سار في هذا الاتجاه منذ السبعينات في عدة قرارات، منها القرار عدد 264 الصادر بالملف 49148 المنشور بالعدد 126 من مجلة القضاء والقانون الصفحة 139 الذي جاء فيه " يشترط لصحة التبرعات حيازة المتبرع عليه لما وقع به التبرع قبل حصول المانع وجاء في قرار اخر صادر عن القسم الاول من الغرفة الشرعية بتاريخ 28 مارس 1989 تحت عدد 499 بالملف 282/87 نشر في العدد 43-42 من مجلة قضاء المجلس الاعلى ما يلي : حقا ما نعته الوسيلة على القرار المطعون فيه الذي اعتمد رسم الصدقة عدد 265 الذي طعنه فيه بانه مجرد عما يثبت الملكية وخال من معاينة الحيازة ولم يجب القرار من هذا الدفع الذي تمسك به الطاعنان في المرحلتين وله اثره فقها لاشتراط الفقهاء الحيازة بالمعاينة في التبرعات الخ .
كما سبق للقسم الثاني من الغرفة الشرعية ان اصدر قرارات مماثلة منها القرار عدد 359 الصادر في 22 مارس 83 بالملف 94005 الذي جاء " حيث ان القرار المطعون فيه اعتبر تقسيم الاب املاكه بين اولاده في حياته عطية تسري عليها احكام التبرعات"، وهو اعتبار صحيح الا انه اعتبر الاعتراف بحوز الاملاك المعطاة كاف في صحة العطية وراى تبعا لذلك بان رسم الصدقة والابراء كاف في صحة العطية والحال انه لايتوفر على شرط معاينة البينة علاوة على عدم اشتمال الابراء على اشهاد الاب بالعطية مع ان الاعتراف بالحوز لايكفي ولا يغني عن الاشهاد بمعاينة البينة للحيازة في التبرعات الخ … المراد منه وهو منشور بالعدد 32 من مجلة القضاء والقانون ص 63 وفي غيرها على ان المجلس سبق له ان اصدر قرارا يوحي التعليق عليه المنشور في العدد 27 من قضاء المجلس الاعلى بعدم التقيد بمبدا معاينة البينة للحيازة وهو القرار عدد 284 الصادر في 22/4/80 بالملف 83548 وقد جاء فيه : لما اعتمدت المحكمة فيما قضت به من رفض دعوى الصدقة على القول بان رسم الصدقة خال من معاينة حيازة المتصدق عليه قبل حدوث المانع والحال ان الطاعن ادلى برسم يفيد تصرفه في المتصدق به ولم تناقش المحكمة هذه الوسيلة الدفاعية وتستخلص منها ما اذا كانت وثائق الملف تفيد حيازة المتصدق عليه حيازة قانونية قبل حصول المانع او بعده الخ …
والملاحظ ان القرار المنقوض سار في الاتجاه الذي سارت فيه المحاكم والمجلس الاعلى من وجوب ثبوت الحيازة بمعاينة البينة لها .
واذا كان الاجتهاد القضائي سار على هذا النهج فان الفقه المالكي لم يعتبر هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة اللازمة لاثبات الحيازة الفعلية في التبرعات فلم يقصر اثبات الحيازة على معاينة البينة كما هو راي بعض الفقهاء ولكنه توسع في طرق اثباتها اعتبارا للظروف ومختلف الاحوال التي يتم فيها التبرع وتطور الفقه في هذا الجانب اعتبارا للتطورات الفكرية والاجتماعية .
وقد سبق ان اشرنا الى ان طائفة من فقهائنا تعتبر الحيازة في التبرعات شرط تمام فيها وعلى هذا الاساس فقد راوا ان التبرع ينعقد بالاشهاد به ويصبح موجودا غير تام بحيث لايتم ولا يكتمل الا بالحيازة، وهكذا فان حصلت الحيازة وتم الاشهاد بها مع الاشهاد بالتبرع كان منعقدا او تاما وان لم يحصل مع الاشهاد بالتبرع بقي معلقا متوقفا على حصول شرط تمامه وفي هذه الحالة يحق للمتبرع عليه ان يتصدى للملك المتبرع به ولو دون اذن المتبرع تحقيقا لشرط الحيازة كما يحق له اجبار المتبرع على اتمام التبرع بتحقيق الحيازة التي هي شرط فيه والى ذلك يشير الشيخ خليل في باب الهبة وحيز وان بلا اذن واجبر عليه وبطلت ان تاخر لدين محيط الخ … اي يحاز المتبرع به من طرف المتبرع عليه سواء اذن في ذلك المتبرع او لم ياذن اذ لا يشترط التحويز على المذهب وان امتنع المتبرع من الحوز فانه يجبر عليه ولو بواسطة القضاء بمبادرة من المتبرع عليه حيث يلزم القضاء المتبرع بتمكين المتبرع عليه من المتبرع به لان الهبة تملك بمجرد الاشهاد بها فيحق للموهوب له طلبها ولو عند المحاكم ان امتنع الواهب من التسليم، قال ابن عبد السلام : القبول والحيازة معتبران الا ان القبول ركن، والحيازة شرط الخ … وينبغي ان يقيد ما للمختصر هنا من الحوز بلا اذن بما ذكره في باب الشهادات لدى قوله وان قدر على شيئه فله اخذه ان يكون غير عقوبة، وامن فتنة ورديلة الخ والا تعين اللجوء للقضاء الذي يحسم النزاع .
وقد ازداد الفقه توسعا في هذا الجانب، حيث قرر ان الحيازة تثبت وتتحقق بكل تصرف يدل على حصولها كالاكراء والمغارسة والمساقاة وما شاكل ذلك فاذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب بشيء مما ذكر فذلك دليل على حصول الحيازة وكاف في اعتبارها متحققة وذلك ما اشار له سيدي عبد الرحمن بن سيدي عبد القادر الفاسي في عمله وعن معاينة حوز يكفي عقد كراء ونحوه في الوقف الخ …
وفي هذا الاطار اعتبر الفقهاء امعانا في التوسع في هذا الجانب انه اذا تعذر حوز الشيء المتبرع به لسبب يحول دون تحقيق الحيازة الفعلية فان الاشهاد بالتبرع يغني عن الحيازة لتعذر تحقيقها قال ابن سلمون وسئل ابن رشد عمن تصدق على ابن له … باملاك واشهد الاب بتبتيل الصدقة والابن بقوبلها ووقع القبض في بعضها بالمعاينة وبقي سائرها لم يتطوف عليه ولا خرج اليه لكونه في مصر مخوف من العدو ولا يدخله احد الا على غرر ولم يعتمر ذلك احد الى ان مات الاب ؟
فاجاب : اذا حال الخوف دون الوصول الى موضع الاملاك المتصدق بها لاجل حيازتها بالتطوف عليها اكتفى الاشهاد ولا تبطل الصدقة ان مات المتصدق قبل الوصول الى محل الصدقة لحيازتها … الخ .
ويؤخذ من هذا النص ان الاكتفاء بالاشهاد بالتبرع عن الحيازة في حالة تعذر القيام بها لسبب مانع من تحقيقها انما ورد استثناء من وجوب ثبوتها بمعاينة البيئة الشاهدة بالتبرع بتحقيقها واستخلص الغرناطي من هذا النص قاعدة نظمها في قوله : ( ويكتفي بصحة الاشهاد ان اعوز الحوز لعذر باد)، وقريب من هذا اشار له الشيخ خليل في قوله في باب الهبة او استصحب هدية او ارسلها ثم مات او المعينة له ان لم يشهد الخ، قال الشراح هنا هذه المسالة تنطوي على ستة عشر صورة بعضها تصح فيه الهدية والبعض الاخر تبطل فيه ويعني الشيخ رحمة الله ان الشخص الذي يرسل هدية لاخر او يصطحبها معه لتسليمها اليه فيموت المهدي في الطريق او المهدي له قبل تسلم الهدية، فان الهدية تبطل لانعدام شرط الحوز الا ان يشهد بها سلفا فان الاشهاد بها يقوم مقام الحوز …
والملاحظ ان الهدية اذا ارسلت للموهوب له بواسطة رسول فان الرسول يكون نائبا عن الموهوب في الحيازة لان الحيازة التي هي شرطها تحققت اما اذا كان المهدي هو الذي اصطحب الهدية ولم يتمكن من تسليمها للموهوب له لموت احدهما قبل التسليم فانما تظهر صحة الهدية اذا كانت لمن يحوز عنه كابنه الصغير وكل شخص له نيابة قانونية عنه اما اذا كانت لاجنبي او لولده الكبير ممن لا يتاتى له النيابة عنه في الحيازة فقد استشكل ذلك غير واحد من الشراح منهم المحشيان : الرهوني وكنون واستظهروا عدم صحة الهدية في الصورتين لانعدام الحيازة لان النصوص الواردة في الاستغناء بالاشهاد عن الحيازة مقيدة بوجود الغذر المانع من حصول الحيازة كما يتضح ذلك من فتوى ابن رشد المشار لها سلفا، والموت لا يعتبر من الاعذار وانما هو من الموانع التي تبطل الهبة ان لم تحز قبول حصولها .
ومن البديهي ان الاعذار المعتبرة في هذا الباب هي عوارض تحول دون تحقيق الحيازة وللمحكمة سلطة تقديرها واعتبار ما تراه منها معفيا ومن الاعذار التي اعتبرها الفقهاء ان يجد المتبرع عليه في طلب الحيازة ويسعى جادا في تحقيقها فلا يتم له لسبب خارج عن ارادته .
فيخلص مما سبق ان الحيازة في التبرعات شرط تمام فيها عند بعض المالكية وشرط صحة عند بعضهم وعند الشافعية والحنفية والحنابلة والامامية ولم يشد عن هذا الاجماع الا الظاهرية ومن لف لفهم وان المذهب على انها تثبت بمعاينة البينة الشاهدة بالتبرع بحصولها وتحقيقها وان لم يتم ذلك في الاشهاد بالتبرع فيمكن للمتبرع عليه ممارستها وتحقيقها تلقائيا بتصديه للمتبرع به وحيازته ولو بدون اذن المتبرع فان امتنع اجبر على تحقيقها ولو بواسطة القضاء .
وان التصرفات الدالة على التملك ونقل الحيازة كالتفويت والاكراء والمغارسة والمساقات كالحيازة وان الاشهاد في التبرع يغني عنها ان حال دون تحقيقها عذر قاهر لايتاتى معه تحقيقها وان تقدير العذر موكل لسلطة القضاء ويعتبر في الاعذار الجد والحرص على تحصيلها دون التمكن من تحقيقها الى حين حصول المانع .
ونصل بعد هذا الى جانب مهم في الموضوع وهو اثبات الحيازة الفعلية في التبرعات بالاملاك المحفظة وهل يغني عنها تسجيل سند التبرع على الرسم العقاري للملك المتبرع به .
وقد اشرنا سلفا الى جمهور الموثقين - كالفشتالي وابن سلمون وفرعون وشراحهم كالشيخ الهواري وغير هؤلاء وغير هؤلاء من الفقهاء اختاروا في اثبات الحيازة في التبرعات وسيلة المعاينة اي معاينة البينة الشاهدة بالتبرع لحصول واقعة الحيازة واعتبروا هذا الاختيار اكمل واحسن واسسوا وثائقهم على وجوب اقتران الاشهاد بالتبرع بالشهادة بمعاينة البينة الشاهدة به لواقعة الحيازة وكان العدول يسيرون في انشاء وتحرير وثائق التبرع على هذا النهج فلما صدر في 9 رمضان 1331 موافق 12/8/1913 المرسوم الملكي المتعلق بالتحفيظ العقاري كانت وثائق التبرعات تحرر على النهج المذكور واذا تعلق الامر بملك محفظ فانها تسجل على رسمه العقاري مستوفية للشروط الفقهية المطلوبة فيها فلم يكن هناك ما يدعو لاثارة الجدل حول هذا الجانب واستمر الحال على هذا النحو الى نهاية الثمانينات حيث ظهرت اختلافات في وجهات النظر في هذا الجانب لم تكن معروفة فيما قبل حيث كانت المحاكم تعتبر معاينة البينة للحيازة في التبرع شرطا لازما وشكلية ضرورية في عقد الاشهاد بالتبرع وصدرت احكام وقرارات بهذا الشان منها قرار محكمة الاستئناف بمكناس عدد 21465 الصادر في 22 ابريل 1974 بالملف 13753 الذي ابطل عقد الهبة العرفي المحرر في 10 يناير 62 والمعرف بامضائه في 20 يناير 62 الوارد على الملك موضوع الرسم العقاري 9419 لعدم توفر شرط الحيازة بمعاينة البينة لها اضافة الى ما ثبت من كون الملك المتبرع به مرهون وهو في حيازة المرتهن فلا تتاتى مع ذلك حيازة المتبرع عليه له وهذا القرار ان كان يقرر ضرورة ثبوت الحيازة بمعاينة البينة لا فرق في ذلك بين الملك المحفظ وغير المحفظ فانه لاي يتناول الجانب المطروح للنقاش وهو امكانية الاستغناء عنها بالتسجيل على الرسم العقاري باعتبار تسجيل سند التبرع على الرسم العقاري للملك المتبرع به يقوم مقام الحيازة ويغني عنها .
على ان المجلس الاعلى كان اصدر بتاريخ 25/12/91 عدد 3204 بالملف 1902 في نزاع بين جمعية علماء سوس وبين ورثة المرحوم الحاج عبد الله بن محمد بن عبد الله بن احمد السوسي الذي كان وهب للجمعية ملكه " ام الخير" ذا الرسم العقاري عدد 10680 بالرباط ولم تسجل الهبة على الرسم العقاري واكتفى بتقييد احتياطي انتهت مدته فزال ومات الواهب وسجل ورثته على الرسم العقاري فطلبت الجمعية التشطيب على الاراثة من الرسم العقاري وتسجيل الهبة واستجاب المحافظ لهذا الطلب في 19/11/70 ونازع الورثة في ذلك وطلبوا ابطال التسجيل الذي تم في 19/11/70 فتقدمت الجمعية بطلب مضاد يرمي الى اعادة تسجيل الهبة في حالة ابطال تسجيلها الذي تم في 19/11/70 وامرت ابتدائية الرباط بالتشطيب على هذا التسجيل كما امرت باعادة التسجيل استجابة للطلب المضاد وايدت محكمة الاستئناف الحكم فيما قضى به من اعادة التسجيل للهبة بمقتضى قرارها عدد 4295 الصادر في 6/8/81 بالملف 616/79 الذي نقضه الملجس الاعلى بمقتضى قراره السالف الذكر بعلة : ان الفقهاء ان كانوا يعتبرون ان الحيازة شرط في صحة التبرعات قبل حصول المانع فان المعتبر هنا في الاملاك المحفظة هو نقل الملكية وليس مجرد الحوز المادي للعقار واذا كان التحويز ينقل الملكية بالنسبة للعقار غير المحفظ فان هذا الاجراء لايكفي بالنسبة للعقار المحفظ ولا يتم الا بالتسجيل على الرسم العقاري للملك المتبرع به عملا بمقتضيات الفصلين 66 و67 من قانون التحفيظ، واعتبارا لاحكام الفصل 106 من قانون التحفيظ الذي يوجب تطبيق احكامه وحدها في حالة تعارضها مع احكام الفقه وانتهت تعليلات القرار الى ان الهبة تعتبر باطلة لكون سندها لم يسجل على الرسم العقاري للملك الموهوب في حياة الواهب حتى مات فترجع الهبة ملكا لورثته .
واذا كانت النتيجة التي انتهى اليها القرار في منطوقه اعتمدت بالاساس عدم التسجيل فان العلل الاخرى التي بني عليها القرار فيها اكثر من جانب يستدعي المناقشة لانها اعتبرت تسجيل سند التبرع على الرسم العقاري كل شيء بالنسبة للتبرع بالملك المحفظ فهو يحقق الملكية ويبرر وجودها القانوني وفي نفس الوقت يعتبر بمثابة الحيازة القانونية وان لم تتحقق الحيازة المادية والفعلية التي اعتبرها الفقهاء شرطا في اتمامه كما ذهبت الى وجود تعارض بين احكام الفقه والمقتضيات التي سنها قانون التحفيظ يتسوجب تطبيق هذه المقتضيات طبقا لمقتضى الفصل 106 من مرسوم التحفيظ دون المقتضيات الفقهية .
وفي هذا خلط واضح بين نصوص الفقه المتعلقة بالحيازة في التبرعات وبين مقتضيات التحفيظ التي تتلاءم وتنسجم مع مقتضيات الفقه ولا تتعارض معها في اي جانب ويمكن الجمع بينهما بل ويجب هذا الجمع فلا حاجة لتطبيق مقتضيات الفصل 106 من قانون التحفيظ الذي الغي لان التبرع بالملك المحفظ يجب فيه الامران تسجيل سند التبرع على الرسم العقاري للملك المتبرع به لان التسجيل هو الذي يضفي على السند صيغة الوجود القانوني له ويمده بالقوة الثبوتية كما سوف تبين ذلك اما الحيازة المادية فهي شرط تمام في صحة التبرع لايتم الا بوجودها وهي خصوصية امتازت بها عقود التبرعات .
وقد سبق لنا اثناء مناقشتنا للجانب الفقهي للحيازة ان بسطنا وجهات النظر الفقهية المختلفة المربتطة بالموضوع فلا داعي للتكرار .
اما بالنسبة لقانون التحفيظ فانه اوضح في الفصلين 1 والثاني منه ان الغاية منه هي جعل العقار المحفظ خاضعا لنظام خاص لايجوز اخراجه منه ويترتب على ذلك اقامة رسم للملكية يسجل برسم عقاري ويعتبر وقت التسجيل ساعة ميلاد العقار بحيث يبطل ماعداه ويطهر الملك من جميع الشوائب التي تتعلق به قبل التسجيل الا ما يدون منها بالرسم الجديد ومعنى هذا ان الغاية التي يهدف لها التشريع العقاري هي غاية تنظيمية ادارية ترمي الى تطهير العقار وانشاء رسم عقاري له وابطال ما عداه وضبط احواله وابراز هويته وانشاء سجل حالته المدنية الذي يضم جميع العمليات والتغيرات والعوارض التي تطرا على حياته وتتبعها بالضبط والتسجيل بحيث لايعتبر منها الا ما تم تسجيله برسمه المؤسس له دون ما عداه مما لم يثبت تسجيله بسجله الخاص به .
وباستقراء احكام هذا القانون فانه يميز بين حالتين الاولى حالة انشاء الرسم العقاري والثانية حالة التسجيلات اللاحقة لانشائه التي يتابع ورودها على حياته، فالحالة الاولى اعتبرها المشرع حاسمة واحاطها بهالة من التقديس فاعتبر مرحلة انشاء الرسم العقاري قاطعة وفاصلة بين عهد لايعتبر واخر جديد يشكل منطلق حياة العقار القانونية وتظهير الملك من جميع ما كان عالقا به قبلها نظرا لما يسبق تاسيس الرسم العقاري من اجراءات وتحريات واشهارات يسري اثرها على العموم وفتح باب المنازعة على مصراعيه وفق شروط معينة فاذا تمت هذه الاجراءات وحفظ الملك فان المحفظ في اسمه هو المالك الوحيد المعتبر وكان تاسيس الرسم العقاري نقطة تحول حاسمة في حياة الملك المحفظ واصبح خاضعا لاعتبارات وقواعد خاصة ولم يبق هناك اي مجال بعد انشاء الرسم العقاري للبحث في سند انشائه والطعن فيه باية وسيلة من الوسائل ولا الى الوصول الىاي حق عيني تعلق به مهما كانت اسبابه .
اما الحالة الثانية فهي حالة التسجيلات الواردة على الملك المحفظ بعد تاسيس رسمه العقاري وتقوم اغلبيتها على الالتزامات المتعلقة بالعقار والتي ترمي الى نقل حق عيني او تعديله او تقييده وهذه الالتزامات تنتج عن السندات التي تنشئها وهي التي تسجل على الرسم العقاري وبمقتضى الفصل 66 من قانون التحفيظ فان التسجيل وهو اجراء تنظيمي هو الذي يعطي للسند المسجل المنشئ للالتزام القوة الثبوتية المستمدة من القانون وبمعنى اخر فان التسجيل ينفخ الروح في السند الذي يكون قبله بمثابة جثة جامدة لا قيمة لها قبل حصوله وهو بهذا المعنى يضفي على السند وجودا قانونيا على الحالة التي انشئ عليها بحيث لايضيف لمدلوله شيئا زائدا عليه فالتسجيل يساوي السند في مدلوله فيكون صحيحا كما يكون باطلا وناقصا وغير متوفر على القيود الازمة لتمامه او صحته فمن الطبيعي ان لايكون تسجيل السند نهائيا وقطعيا بحيث يحول دون الطعن فيه … او في السند المؤسس عليه والقاعدة في هذا الباب : ان التسجيل لا يساوي بين طرفي العقد الا مقدار ما يساويه نفس العقد اساس التسجيل ويترتب على ذلك انه قد يبقى ويدوم وقد يضمحل ويزول تبعا للسند المسجل وما قد يتعرضه من اقرار … او ابطال حسب الاحوال وهذا ما يجعل المحافظ حريصا عند التسجيل على التنصيص على ان التسجيل تم تبعا للشروط الموجودة بالعقد .
وقد اثار هذا الجانب الهام انتباه المشرع، فبعدما اورد المقتضيات المتعلقة بالتسجيلات في الباب الثاني ضمن الفصول 69 وما بعده الى 90 نص في الفصل 91 على ان كل ما ضمن بالسجل العقاري من تسجيل وتقييد احتياطي يمكن ان يشطب عليه بمقتضى كل عقد او حكم نهائي يثبت انعدام او انقضاء الواقع او الحق الذي يتعلق به ما ذكر من التضمين وذلك بالنسبة لجميع الاشخاص الذين يعنيهم حق وقع اشهاره للعموم بصفة قانونية، وعلى هذا الاساس فان الشخص الذي يوصي لاحد اولاده بملك محفظ ويسجل الوصية على الرسم العقاري فان هذا التسجيل يكون باطلا تبعا لبطلان العقد اساسه لمخالفة هذا التصرف قاعدة لا وصية لوارث وبمقتضى ما ذكره فقهاؤنا من ان عقد التبرع يكون منعقدا ويبقى معلقا حتى يتم بالحيازة فان لم تحصل حتى تعلق بالمتبرع مانع فانه يبطل واذا كان عقد التبرع متعلقا بعقار محفظ فان هذا العقد يكتسب وجوده القانوني بالتسجيل ويبقى معلقا كما هو الشان بالنسبة للعقد المتعلق بملك غير محفظ فاذا حصل المانع للمتبرع بعد التسجيل على الرسم العقاري وقبل حصول الحيازة الفعلية جاز لمن يهمه الامر المطالبة بابطال الهبة والتشطيب عليها من الرسم العقاري لاختلال الشرط الواجب توفره في التبرع … وهي قاعدة فقهية ايضا .
وقد اشار الاستاذ بول دوكرو في مؤلفه القيم : القانون العقاري المغربي بمناسبة تعليقه على الفصل 91 المشار نصه اعلاه في ص 178 وما بعدها الى الصفحة 182 في البند 262 الى : انه اذا كان الرسم اساس التسجيل قد تم الاعلان قضائيا عن بطلانه لاي سبب من الاسباب فان التسجيل يكون تبعا لذلك باطلا ويتم التشطيب عليه من طرف المحافظ اثر تقديم المقرر القضائي الحائز لقوة الشيء المقضى به متسدلا على ذلك بقرار محكمة النقض الصادر في 21/5/46 المنشور بالصفحة 237 من قرارات ما وراء البحار لسنة 1947 .
واجتهادات المجلس الاعلى والمحاكم قارة على وجوب ابطال سندات التسجيل التي يشوبها عيب مبطل لها والتشطيب عليها من الرسوم العقارية .
وذلك ما يؤكد ان التسجيل لا يساوي بين طرفي العقد الا ما يساويه العقد المسجل فاذا كان العقد صحيحا فالتسجيل كذلك واذا كان معرضا للبطلان فالتسجيل مثله، وابطال السند يترتب عليه بطلان تسجيله لان التسجيل كما قدمنا يضفي على السند صيغة الوجود القانوني ويمنحه القوة الثبوتية المستمدة من القانون ولا يضيف لمدلوله شيئا زائدا عليه … فلا يتم النقص الموجود فيه ولايصحح العيب الموجب لبطلانه وهي قاعدة عامة يستثنى منها ما نصت عليه الفقرة بالاخيرة من الفصل 66 من مرسوم 12/8/13 في كون ابطال التسجيل تبعا لابطال السند لايسري ضد الغير حسن النية اذا حصل على حقوق سجلها بناء على سند بني على تسجيل سابق مبني على السند المصرح ببطلانه كما اكد ذلك الاستاذ بول دوكرو في اخر البند 262 السالف الذكر … ويستخلص مما تقدم ان تسجيل سند التبرع بالملك المحفظ على رسمه العقاري لايغني عن الحيازة الفعلية ولايقوم مقامها اذا لم تثبت هذه الحيازة في سند التبرع بالبينة المعاينة لحصولها … او باية وسيلة اخرى من وسائل اثبات الحيازة المشار لها صدر هذا التعليق بما في ذلك حالة الاعفاء منها المترتب عن العذر القاهر الذي يحول دون حصولها المسقط لشرطها متى تبت ذلك العذر حسب الفقه المشار له فيما سبق، فاذا لم تثبت الحيازة كما يجب - فقها - حتى حصل المانع المعتبر شرعا، فان التبرع يكون باطلا حتى ولو سجل سنده على الرسم العقاري للملك المتبرع به ويترتب على ذلك استعاذة المتبرع او ورثته لما وقع التبرع به فاذا انشيء التبرع صحيحا بالتنصيص في عقده على معاينة البينة الشاهدة به للحيازة او ثبتت الحيازة بوسيلة اخرى من الوسائل التي يقرها الفقه قبل حصول المانع ولم يسجل هذا التبرع على الرسم العقاري فان التبرع يكون صحيحا مستوفيا لشرطه ويمكن للطرف المتبرع عليه ان يطلب تسجيله على الرسم العقاري ان كان لايزال في اسم المتبرع كما يمكن له ان يطلب التشطيب على التسجيلات التي انجزت بعد التبرع عن سوء نية لتسجيل سند تبرعه طبقا لما يفهم من الفقرة الاخيرة من الفصل 66 من قانون التحفيظ العقاري .
فالتبرع سواء تعلق بملك محفظ او غير محفظ لابد من الاشهاد به … ولا بد من توفر الحيازة فيه … ولاعطاء القوة الثبوتية القانونية للتبرع بالملك المحفظ لابد من تسجيل سند التبرع على الرسم العقاري للملك المتبرع به ليعتبر موجودا قانونيا ولا مفهوم لسند التبرع بل جميع السندات الاخرى المتضمنة لالتزامات عوضية لايمكن اعتبار وجودها الا بتسجيلها طبقا لمقتضى الفصل 66 من قانون التحفيظ وهذه القاعدة قاعدة تنظيمية ضبطية الغاية منها ضبط واثبات التصرفات الواردة على الاملاك المحفظة لتكون ثابتة في سجلاتها الكاشفة لحالتها المدنية بحيث لايعتبر منها ما لم يدون في تلك السجلات وتسجيل السند يعتبر صورة طبق الاصل من مضمونه ولايمكن باي حال ان يكون تسجيل سند التبرع على الرسم العقاري للملك المتبرع به قائما مقام الحيازة الفعلية التي جعلها الفقه شرط صحة او تمام في التبرعات ولا يمكن لهذا التسجيل ان يغني عنها اذا لم يثبت طبقا لما قرره الفقه في ثبوتها حسب الاصول للاسباب الاتية :
1- الحيازة في التبرع شرط صحة او تمام والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من تحققه وجود ولا عدم لذاته، ومقتضى ذلك فانه يترتب على عدم تحقق الشرط انعدام الماهية واعتبارها غير موجودة .
2- ان التسجيل حسب القواعد المقررة في قانون التحفيظ لايساوي الا قيمة السند المسجل ولا يضيف لمدلوله شيئا زائدا على المعنى الذي يتضمنه السند كما ان التسجيل يوصف بمختلف الاوصاف التي يوصف بها السند فيكون باطلا وصحيحا وسالما ومعيبا حسب الاحوال التي تعرض لكل منهما … والتسجيل تابع في الوصف لاساسه .
3- ان التسجيل انما يضفي على السند صبغة الوجود القانوني ويمده بالقوة الثبوتية المستمدة من القانون فيترتب على ذلك ان السند الغير المسجل يعتبر في حكم المعدوم وان التسجيل هو الذي ينفخ فيه الروح ويحقق وجوده القانوني… وهذه كلها اعتبارات وهمية لايتناولها الحس بخلاف الحيازة الفعلية فانها تصرف مادي محسوس يدرك بمعاينة الحلول والتصرف بوضع اليد وجميع التصرفات الدالة على الاختصاص بالمحوز والتصرف فيه .
فلا يمكن القول بان الاعتبارات الوهمية التي لاتدرك بالحس تعني وتقوم مقام الحيازة الفعلية التي هي تصرف مادي يشاهد ويظهر بالحلول ويدرك بالمعاينة وباسلوب المناطقة فان القول بان تسجيل سند التبرع بالملك المحفظ على رسمه العقاري يغني عن الحيازة الفعلية المشترطة في صحة او تمام تبرعات يؤدي الى القول بان التسجيل المذكور يكمل النقص الحاصل في السند المسجل ولا قائل بذلك على الاطلاق .
واذا سلمنا بهذا فانه لامانع من سريان هذه القاعدة على جميع العقود الاخرى التي تتضمن التزامات متعلقة بحقوق عينية تنشا ناقصة او معيبة لان ما جرى على المثل يجري على المماثل .
لذلك يتعين فهم التسجيل بمفهومه الذي توخاه المشرع في كل من قانون التحفيظ العقاري والقانون المطبق على الاملاك المحفظة. واعتباره فقط مصدرا للقوة الثبوتية القانونية التي يضيفها التسجيل على السند المسجل حيث ينفخ فيه روح الوجود القانوني ويبعث فيه الاعتبار القانوني المستمد من القانون.
اما الحيازة الفعلية وهي تصرف مادي وحلول يدرك بالعيان وهي خاصية مقصورة على عقود التبرع باعتبارها شرط صحة او تمام يفتقد عند وجود التبرع او بعد وجوده فهما مختلفان واجتماعهما ضروري فلا يغني احدهما عن الاخر .
وعلى هذا الاساس درج المجلس الاعلى في كثير من قراراته على اعتبار السندات المعتمدة لنقل الملكية والمشوبة بعيب موجب لبطلانها سندات باطلة على الرغم من تسجيلها على الرسوم العقارية ولم يتردد في التصريح ببطلانها والتشطيب عليها من تلك الرسوم والامثلة على ذلك كثيرة خصوصا في الاراثة ومختلف العقود التي تعتمد كاساس لنقل ملكية العقار المحفظ من الموروث الى الوارث ومن المالك الى غيره نتيجة تصرفات عوضية وغير عوضية طالما كانت السندات المعتمدة مشوبة بعيب ينص الفقه على بطلانها بسببه .
وفي هذا الاطار فقد صدر اخيرا عن غرفة الاحوال الشخصية والميراث قراران احدهما في القضية عدد 559/95 ابرم قرار محكمة الاستئناف بالرباط الذي ابطل الهبة الواقعة على دار سكنى الواهب لزوجته لعدم ثبوت اخلائها من شواغله لمدة سنة كما يوجد ذلك الفقه المقرر في هبة دار السكنى المشار له اعلاه ولثبوت استمرار الواهب في السكنى بها مع زوجته الموهوب لها الى حين وفاته بها .
والثاني صدر في القضية عدد 452/96 نقض قرار محكمة الاستئناف بالرباط الذي صحح الهبة الواقعة من الواهب لزوجته في مرض موته الثابت طبقا للفقه المقرر في بيت التحفة المشهور وهو : صدقة تجوز الا مع مرض - موت وبالدين المحيط تعترض، وعلى ما ثبت من معطيات الملف التي توجب تطبيق الفقه المشار اليه القراران صدرا معا في 9/07/1997 .
والعمل بالمجلس قار على ابطال السندات المعيبة المسجلة على الرسوم العقارية والتصريح بالتشطيب عليها من تلك الرسوم وعدم اعتبارها فكيف يمكن القول بان تسجيل سندات التبرع المعيبة باختلال بعض شروطها يغني عن تلك الشروط ويكمل النقص الموجود بها ؟؟ مع العلم ان التسجيل يعطي فقط القوة الثبوتية للسند ولا يضيف لمضمونه اي شيء زائد على ذلك .
واذا كان من واجبنا ان نساير الركب الحضاري في مجالات التجارة والاقتصاد وفي مجالات الشغل والنقل والسير ومختلف مظاهر الحضارة الانسانية التي تعتبر ثراتا مشتركا بين كافة دول العالم المتحضر فان من واجبنا ايضا الحفاظ على هويتنا كامة اسلامية تعتمد كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والفقه الاسلامي المستمد منهما في كل ما يتعلق باحوالنا الشخصية وموارثنا وما يتعلق بهذه الاحوال من وصايا وصدقات وهبات خصوصا وان احكام الفقه الاسلامي قلما تتعارض مع القوانين الوضعية في مجال التبرعات وان قواعد الفقه سارية المفعول لم تلغ ولم تعدل ومن واجب القضاء ان يطبق القوانين المعمول بها وفي اطار القواعد المعمول بها في هذا الشان .
اعتقد انني بلغت نهاية هذا العرض واملي ان اكون قد وفقت في الالمام باهم جوانب موضوع الحيازة المشترطة في التبرعات وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انبت .
* مجلة المحاكم المغربية، العدد 84، ص 13 .
0 التعليقات:
Post a Comment