ذ. الناوي مصطفى
سوف ننطلق في هذا التعليق الموجز، المرسوم هدفه مسبقا، من فرضية في صيغة تساؤل: ماذا ينتظر المجتمع من القضاء ومن العمل القضائي؟ وهو تساؤل تبدو الإجابة عنه لأول وهلة بسيطة وممكنة بل جاهزة، لكنها سرعان ما تصبح معقدة وبعيدة المنال بل وفي حكم المستحيلة اذا نحن تأنينا وطرحنا سؤالا استفهاميا اخر غايته التدقيق هو: أي مجتمع؟ وفي أي زمان؟ فلئن كان العمل القضائي محايثا للبنية القانونية في كل مجتمع من المجتمعات فان مفهومه ودوره غير ثابتين بل يتطوران و يتبدلان بتطور كل من المجتمع وبنيته القانونية وتبدلهما، فلكل مجتمع نظرته الخاصة وتصوره العيني للقضاء ولما ينتظره من القضاء ولما يصدع به قضاؤه من قرارات واحكام (1). وهي نظرية محكومة، على كل حال، بالسياق التاريخي، بالمستوى الحضاري . بنوعية التنظيم الاجتماعي بطبيعة النظام السياسي وبتراكم المعارف ودرجة الوعي… .
اي أنها مشروطة بكلية مركبة متعددة المستويات والجوانب صعب تجزيئها، واصعب منه تجاهلها.
ان هذه الملاحظات تقودنا حتما، من بين ما تقودنا اليه، الى التفكير، بحس تاريخي عياني وبعين صاحية في الدور المنتظر من القضاء ومن العمل القضائي في مجتمعنا الذي اصبح يتوفر الان على منظومة قانونية مركبة تكاد تغطي شتى مجالات الحياة، مشوبة في جوانب منها ببعض الثغرات والنواقص بل وببعض التناقضات أحيانا، حيث تحتاج الثغرات الى من يسدها والنواقص الى من يكملها والتناقضات، ان وجدت، الى من يحلها او يوفق فيما بينها.
-----------------------
(1) لقد عرفت كلمة اجتهاد قضائي او عمل قضائي تطورا مثيرا للغاية، فمفهومها لم يعرف الاستقرار والثبات، انه في روما يختلف عنه في أثينا، وهو في العصور القديمة يختلف عنه كل الاختلاف في القارة الأوروبية اليوم، كما انه عند الانكلوساكسونيين هو غيره عند سواهم. للمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة التي تخرج حقا عن نطاق موضوعنا تنظر بخاصة موسوعة UNIVERSAL ، المجلد التاسع الباب المتعلق بالاجتهاد القضائي JURISPRUDENCE، الصفحة580 وما يليها.
----------------------
ومن البديهي ان المشرع الذي يراد له ان يكون، بشكل او باخر والى هذه الدرجة او تلك، معبرا عن إرادة المجتمع او الأمة حسب درجة تطورهما، عند ما يسطر جملة المبادئ المشكلة للقانون، وهو يعلم مسبقا ان تلك المبادئ لا يمكن ان تطبق نفسها بنفسها، وقد لا تكون موضوع مراعاة تلقائية من لدن الجميع، بقدر ما يعلم علم اليقين ان المجتمع قد يفرز حالات وقد تستجد فيه وقائع وقد يعرف تطورات لم تتنبأ بها ولم تغطها تلك المبادئ - لان القانون يسطر اساسا على ضوء التراكمات الحاصلة جزئيا مع تقدير التراكمات الممكنة التي لا تحسب بداهة الا على اساس الاولى -، يعهد الى القضاء ليس فقط بتطبيق هذه المبادئ ولكن ايضا بتحريكها وتفريعها وتوسيعها وتكييفها مع تطور الواقع الاجتماعي وتفاعلاته، وتفسيرها اما توسيعا او تضييقا وتطبيقها تطبيقا استدلاليا على الفرضيات المتوقعة وغير الواقعة.
وعلى وجه العموم فان القضاء والعمل القضائي تكون لهما وظيفة ثلاثية.
أ- تطبيق القواعد القانونية وتحديد مداها من خلال ربطها بالوقائع المعروضة او النوازل عبر عملية إخضاع متبادلة: اخضاع القاعدة للواقعة وإخضاع الواقعة للقاعدة، مما يؤول الى نقل القاعدة القانونية من مستوى التعميم والتجريد - الذي وضعها فيه المشرع - الى مستوى التخصيص والعينية الذي يجسد دور القاضي، حتى ان القاضي يكون في هذه الحالة، اذا اجاز القول، بمثابة مشرع للحالات الخاصة.
ب- سد الثغرات والجوانب الغامضة التي تتضمنها بالضرورة نصوص القانون.
ت- تكييف القانون مع تطور المجتمع ومستجداته وسد الثغرات التي تنشأ عن ممارسات جديدة لا عهد للمشرع بها(2).
-----------------
(2) يتحقق ذلك عبر أوالية استقراء واستنباط متواليين، مما يسمح للقاضي باستخراج قواعد اعم حتى من تكل التي يتضمنها النص، فيكون في هذه الحالة قد استنبط حل المشكل المطروح عليه من خلال استقراء تلك القواعد، وفي عدد من الحالات فان المشرع يسمح بذلك وينص عليه صراحة جهارا في نصوصه كما هو الشان بالنسبة للمشرع البرازيلي الذي نص في الفصل 7 من المدونة المدنية البرازيلية لسنة 1916 على انه: " في الحالات غير المنصوص عليها في المدونة، تطبق المقتضيات المتعلقة بالحالات المماثلة والا فتطبق، في حالة عدم وجودها، المبادئ العامة للقانون والمشرع الايطالي الذي نص في الفصل 12 من المدونة المدنية الإيطالية لسنة1942 على انه< ((،…. اذا تعذر حل نازلة بواسطة مقتضى قانوني محدد، وجب الرجوع الى المقتضيات التي تنظم الحالات المشابهة او المواد المماثلة، واذا بقي في الأمر شكل، فان على القرار ان يستلهم المبادئ العامة للنظام القانوني المعمول به في الدولة)).
-----------------------------
وغني عن البيان ان اضطلاع القضاء بهذه الأدوار وتجسيدها لهذه الوظائف كلها أمر على جانب من الصعوبة ان لم تقل هو، الصعوبة عينها، لان الأمر رهين في البداية والنهاية بما يوضع رهن اشارة القضاء من وسائل وإمكانيات مادية ومعنوية وقانونية وبما يخص به من استقلال وحصانة وباعتبارات أخرى كثيرة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية…. لا يسمح حيز التعليق ولا طبيعة الموضوع بتناولها. فالامر لا يتعلق بعمل استدلالي صرف - قد يبدو، في ظاهره، في منتهى البساطة وربما الأغراء - ولكن بعمل معقد ولو من حيث ما يتداخل في صنعه من عوامل ذاتية وموضوعية.
لكن اذا كان قيام القضاء بهذه الأدوار جميعا امرا مستحبا عزيزا، سهلا ممتنعا، مغريا متمنعا، واذا كان مجرد التفكير في ذلك عن نزوع مثالي من العسير ان يجد ترجمته العملية في ارض الواقع، فان اضطلاعه بالدور الاول المتمثل في تطبيق القواعد القانونية كما هي في حرفيتها، أي دون زيادة او نقصان، على الوقائع المعروضة عليه هو اقل ما ينتظر منه، انه بمثابة اضعف الايمان، ومن حق المجتمع الحابل بإمكانيات التطور والتقدم وبالتطلعات المشروعة الى المستقبل ان يعتبره بمثابة الخطوة الاولى في رحلة الألف ميل نحو سيادة العدل والعقل.
فلا قيمة للقانون اذا هو لم يطبق، ولا قيمة لتطبيقه اذا لم يكن هذا التطبيق سليما، ولن نأتي بجديد اذا قلنا بان التطبيق السليم للقانون هو تطبيقه في حرفيته - بما يقتضيه ذلك من التزام بصيغة النص ومن ابتعاد عن كل نزعة ذاتية وحمولة نفسية وعن كل حكم مسبق او فكرة قبلية apriori ومراعاة نية المشرع وروح التشريع.
ولعل القرارين الصادرين عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء والمنشورين ضمن العدد 66 يجسدان الى حد كبير بالرغم من تباين موضوعهما هذا الهدف ويؤيدان حقا وصدقا وظيفة التطبيق السليم للقانون، ويتعلق الامر بكل من القرار الصادر بتاريخ 20/9/90 في الملف عدد 8403/9207/90 والقرار الجنحي عدد 690 الصادر بتاريخ 24 يناير1991 في الملف عدد 1944/834/89.
فأين يتجلى يا ترى التطبيق السليم للقانون في كل قرار من القرارين؟
1- القرار الصادر بتاريخ 20/9/90 : السكر العلني وبيع الخمر للمغاربة المسلمين بدون رخصة صدر هذا القرار في الملف عدد 8403/90 الذي توبعت فيه الظنينة بتهمتي السكر العلني والاتجار في الخمر وبيعها للمغاربة المسلمين بدون رخصة طبقا للفصلين الاول من المرسوم الملكي المؤرخ بتاريخ 14/11/67 والسادس والعشرين من قرار 17/11/67. وذلك بناء على ما اجري من بحث وما أنجز من محاضر تضمنت جملة من الوقائع مؤداها ان الظنينة كانت في حالة سكر طافح وأنها تبيع الخمر للمغاربة المسلمين بدون رخصة باعتبار ان الرخصة التي كانت تستفيد منها الظنينة بوصفها صاحبة فندق قد سحبت منها بواسطة تلكس موجه الى الى الشرطة.
وان محكمة الاستئناف اصدرت، بعد مناقشة القضية، قرارها القاضي بإلغاء الحكم الابتدائي فيما قضى به من ادانة وعقوبة، وبراءة الظنينة من التهمتين المنسوبتين اليها معللة قرارها : أ- فيما يتعلق بتهمة بيع الخمر بدون رخصة، بأنه ما دام لا يوجد في الملف ما يفيد ان الرخصة قد سحبت من الظنينة بكيفية قانونية ووفقا للإجراءات المنصوص عليها في القانون فان الظنينة تبقى في وضعية قانونية سليمة بالنسبة لبيع المشروبات الكحولية في المؤسسة التي تديرها، وبان التلكس المشار الى مراجعة في الملف لا يدل
، بأي حال من الاحوال، على سحب الرخصة الممنوحة للظنينة ولا على وضعه موضع التنفيذ بالنسبة لها خصوصا وان محضر الضابطة القضائية يشير الى انه قد تعذر تبليغ فحوى التلكس للمعنية، وبانه لا يوجد علاوة على ذلك ما يؤكد ان الظنية تبيع الخمر للمغاربة المسلمين، اذ انه لا ذكر لواقعة او حالة بعينها، كما انه لم يضبط شخص مسلم ابتاع من الظنينة خمرا، وبان ضبط كمية من الخمر والقنينات الفارغة لا ينهض بحال دليلا، في حد ذاته على بيع الخمر للمغاربة المسلمين. ب - وفيما يتعلق بتهمة السكر العلني : بان المحضر يكتفي بالإشارة الى ان الظنينة كانت في حالة سكر علني دون ان يبين المكان الذي ضبطت فيه الظنينة حتى يتأتى للمحكمة ان تتأكد من توفر شرط العلنية، وبان المحضر لا يتضمن الإشارة الى اية علامة من العلامات التي تفيد ان السكر يكتسي بالفعل صبغة سكر طافح او بين، مثل التمايل او الترنح او البذاءة في الكلام او التلعثم فيه الى الخ … وبان شرب الخمر في حد ذاته غير مجرم قانونا ما لم يصل الى حد الثمالة او الطفح .
فالواقع ان تسبيب القرار ناطق بما فيه وغني عن كل تعليق، لكن لا باس من التأكيد، من باب إبراز وجه التطبيق السليم للقانون فيه، على النقاط التالية:
أ- من الناحية المبدئية فانه لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، والنص يحدد الجريمة انطلاقا من عناصرها التكوينية، فمتى اختل عنصر من العناصر أنعدمت الجريمة من الوجهة القانونية من ثم فان اثبات جريمة من الجرائم رهين بإثباتها كواقعة من جهة وبإثبات توافر جميع عناصرها المنصوص عليها في القانون من جهة ثانية.
ب- تبعا لذلك، فان جنحة بيع الخمر للمسلمين بدون رخصة لا تقوم الا إذا ثبت: 1- بيع الخمر، 2- للمغاربة المسلمين، 3- بدون رخصة، فاذا إنعدم عنصر من هذه العناصر انعدمت الجريمة، من ثمة اهمية القرار موضوع التعليق الذي اجاب على كل نقطة على حدة كما سبق بيانه.
ج- ان السكر الذي يعاقب عليه القانون ( مرسوم 14 نوفمبر 1967) هو السكر البين IVERSSE MANIFESTE EVERSSE PUBLIQUE الذي يوجد صاحبه في الأزقة او الطرق او المقاهي او الكباريهات او في اماكن اخرى عمومية او يغشاها العموم ( الفصل الاول)، ويستخلص من ذلك ما يلي
ان السكر في حد ذاته غير مجرم قانونا وغير معاقب عليه.
ان السكر الذي يجرمه القانون ويعاقب عليه هو السكر البين او الطافح والعلني. وعليه فان ثبوت هذه الجريمة يقتضي :
إثبات ان الشخص المعني كان في حالة سكر وان هذا السكر يكتسي صبغة سكر طافح او بين وذلك من خلال تسجيل حالته وذكر العلامات التي تفيد ان السكر طافح وهي علامات ومقاييس معروفة على كل حال وان كانت غير علمية في الواقع، ولكنها قد تثبت الحالة نسبيا وجزئيا في غياب الاختبار او التحليل العلمي لدرجة تكحلل الدم Test d'alcoolémie او Test d'éthylisme. فالسكر الطافح معناه شرب الخمر الى درجة الثمالة أي الى درجة تاتي بعد ما كان يسميه العرب القدماء بـ : ليلى هي المتعة او الإحساس اللذان يعقبان النشوة مباشرة. والسر في تحريم وتجريم هذه الدرجة بالذات هو ان الشخص عند بلوغها قد يفقد التحكم في تصرفاته لأنها تذهب عقله وتحرره من كل القيود والضوابط، فتتحول من ثمة الى مضرة او مصدر للمضرة للنفس وللغير سواء بسواء(4).
- اثبات ان الشخص السكران سكرا طافحا قد ضبط في أماكن عمومية او يغشاها العموم محددة على سبيل الحصر في الفصل الاول المذكور، انفا، مما يؤول الى إثبات توفر شرط العلنية وان القرار موضوع التعليق بقوله ان شرب الخمر غير مجرم قانونا ما لم يصل الى حد الثمالة لا يفعل في الواقع سوى تأكيد مبدأ قانوني بديهي بصريح النص، ولكن هذا القول مهم جدا سواء في منطوقه او في مفهومه، فإذا كانت المبادئ العامة للقانون قد أباحت للقاضي ان يراعي ظروف التخفيف وان يتسلح بالرحمة وان يعفي من العقوبة عند الاقتضاء حتى ولو كان مخطئا في ذلك، فانها لا تجيز له بتاتا ان يجرم ما لم يجرمه المشرع او ان يعاقب على فعل غير مجرم قانونا إرضاء لنزعة ذاتية او وازع شخصي او ثقافة موروثة او افكار مسبقة…
-------------------------------
(3) أطلقت العرب هذا الاسم على هذه المرحلة من السكر قبل ان يطلقوه على بناتهم.
(4) ينظر في هذا الباب بخاصة: 1- رسالة مدح 2- النبيذ وصفة اصحابه - ضمن رسائل الجاحظ صورية- دار ومكتبة الهلال- ط. 2- 1991 ص. 237-249، ب- من قاموس التراث لمؤلفه هادي العلوي - منشورات الاهالي 1988- ص. -114 105، ج- المختار من قطب السرور في أوصاف الاندذة والخمور- ابراهيم بن القاسم الرقيق القيرواني ( القرن الخامس الهجري، نشر مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله - تونس 1976).
------------------------------
2- القرار عدد 610 الصادر بتاريخ 24 يناير1991: المشاركة في الخيانة الزوجية.
صدر هذا القرار في الملف عدد 1944/834/89 الذي توبعت في إطاره الظنينة من اجل المشاركة في الخيانة الزوجية طبقا للفصلين 129 و491 من القانون الجنائي وذلك بناء على وقائع مدونة في محضر الضابطة القضائية مفادها ان الظنينة كانت قد تعرفت الى شخص فتقدم لخطبتها واقاما حفل زفاف الا انهما لم يتمكنا من إبرام عقد زواج لان خطيبها كان ينتظر صدور إذن من الادارة التي يعمل بها يسمح له بإبرام العقد، وان الخطيب اصبح ينفق على خطيبته، ويعيش وإياها حياة زوجية شبه عادية وأخذها معه ليسكنها مع زوجته الاولى التي لم تتقبل الامر، فتقدمت ضدهما بشكاية في شان الخيانة الزوجية والمشاركة فيها فتوبعت الظنينة وأدينت ابتدائيا من اجل المشاركة في الخيانة الزوجية، الا ان محكمة الاستئناف اصدرت بتاريخ 24 يناير1991 قرارها القاضي بإلغاء الحكم الابتدائي والحكم تصديا ببراءة الظنينة من التهمة المنسوبة اليها معللة قرارها بان الظنينة قد عاشرت خطيبها لمدة تزيد عن سنة معاشرة الأزواج خصوصا وانه تقدم لخطبتها وأقام حفل زفاف حضرته العائلة وبان الظنينة كانت تعتبر نفسها زوجة شرعية لشريكها لا سيما وانه كان يعولها بعد ان اكترى لها بيت الزوجية وبان نية الظنينة لم تكن هي معاشرة شريكها معاشرة جنسية غي شرعية مما يكون معه الركن المعنوي للجريمة منعدما.
ان صياغة القرار بحيثياته الثلاثة الصائبة هذه المنسجمة، في نظرنا، مع روح القانون تسمح لنا بتسجيل الملاحظات التالية:
أ- ان جريمة الخيانة الزوجية او المشاركة فيها شانها شان جريمة الفساد(5) - فالفعل الذي يشكلهما واحد لا تكون قائمة الا اذا توفر ركناها المادي والمعنوي معا. ويبدو هذا القول بمثابة تحصيل حاصل او مصادرة على المطلوب. لكن الحقيقية هي انه اذا كان الركن المادي قلما يعطاه معناه وبعده الحقيقيان فان الركن المعنوي غالبا ما يحظى بالتجاهل، من ثمة أهمية القرار موضوع التعليق.
-----------------
(5) ان التنظيم القانوني لجريمة الفساد والخيانة الزوجية في المغرب يطرح في الواقع إشكاليات قانونية وواقعية معقدة، ابسطها ان العقاب على جريمة الفساد قد لا يشمل الفاعلين معا بشكل يوحي بان هنالك في نفس الوقت نوعا من التساهل والتشديد غير المتوازنين وغير المبررين، ولنتأمل هذا القرار <" الفساد علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربطهما علاقة زواج، وان عدم متابعة الشريك لا يجعل جريمة الفساد غير قائمة(…) يكفي لقيام جريمة الفساد وجود الشخص الآخر الذي مورس معه العمل الجنسي ولو لم تقع متابعته، فتكون المحكمة على صواب حينما قضت بمعاقبة الطاعن وحده من اجل جريمة الفساد نظرا لعدم متابعة شريكه في الجرمية" ( القرار عدد 418 الصادر بتاريخ ! مارس 1979، مجلة المحاماة العدد 20 - الصفحة 140).
لأخذ رؤية نقدية واضحة عن هذا الموضوع تنظر المقالة التي نشرها الأستاذ عبد الرحيم برادة بمجلة كلمة KALIMA ، عدد شتنبر1986 تحت عنوان sexe hors mariage, sexe hors la loi والتي صدرت ترجمتها العربية بمجلة نجمة، العدد 1 ماي1987، الصفحة 18-21 تحت عنوان : الجنس خارج الزواج جنس خارج عن القانون.
--------------------
ب- يتحقق الركن المادي لجريمة الفساد - او الخيانة الزوجية- بمواقعة رجل لامرأة دون ان يكونا مرتبطين بعلاقة زوجية. المسالة واضحة. لكن العبرة في قيام الركن المادي هي بانتفاء علاقة الزوجية بين الطرفين وليس باستيفاء الشكليات التي تتطلبها مدونة الأحوال الشخصية. لانعقاد الزواج ولإثباته، والمتمثلة في حضور شاهدين عدلين سامعين في مجلس العقد لإيجاب الزوج وقبول الزوجة او من ينوب عنهما والإشهاد على ذلك وإثباته حسبما هو منصوص عليه في الفقرة الاولى من الفصل الخامس من مدونة الاحوال الشخصية، ثم افراغ عقد الزواج في صك مكتوب طبقا للفصل 42 من المدونة.
وعليه فانه يمكن للمتابعين بجريمة الفساد - او الخيانة الزوجية - من الناحية القانونية إثبات قيام علاقة الزوجية بكافة وسائل الاثبات التي ليست بالضرورة متطابقة والشكليات المنصوص عليها في مدونة الاحوال الشخصية.
لذلك فان القرار المعلق عليه عندما اعتبر علاقة الزوجية قائمة استنادا على مدة المعاشرة واقامة حفل الزفاف والخطوبة والإعالة يكون قد اعطى للركن المادي للجريمة مفهومه الحقيقي، ويكون فضلا عن ذلك قد حسم التعارض بين شكلية عقد الزواج ورضائيته لصالح الرضائية، مع كل ما ينطوي عليه ذلك - فضلا عن الجانب القانوني- من مراعاة لتطور المجتمع وللتغييرات التي طرأت على العلاقات بين الجنسين داخله.
ت- يعتبر الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي او النية، ركنا اساسيا في جريمة الفساد - او الخيانة الزوجية باعتبارهما من الجرائم العمدية، ويتوافر هذا الركن متى كان كل من الفاعلين يعلمان بانتقاء الرابطة الزوجية بينهما، ومتى كانا يتعمدان ارتكاب الفعل في حد ذاته في اطار لا شرعي.
ومن المعلوم ان القصد الجنائي يجب ان يتوفر بعنصرية: العلم والإرادة والعلم حالة ساكنة تفترض سبق تمثل الجاني للواقعة المكونة للجريمة، اما الإرادة فحالة متحركة نشطة تصنع الفعل وهي جوهر القصد الجنائي لانها عبارة عن نشاط نفسي واع يبتغي تحقيق هدف معين، لذلك فان القصد الجنائي - او النية الإجرامية - في هذا النوع من الجرائم يكتسي أهمية خاصة ويتم بنوع من الدقة بحيث يكون من الضروري التأكد من توافره بكافة عناصره. لكن الواقع خلاف ذلك تماما، اذ نادرا ما تقع الإشارة الى هذا العنصرـ بله التأكد من توافره.
وعليه، فان تحييث القرار القاضي بالبراءة بان نية الظنينة لم تنصرف الى المعاشرة الجنسية غير الشرعية يكون بمثابة إرجاع الاعتبار المفقود للركن المعنوي للجريمة، ويكون بالتالي مظهرا من مظاهر التطبيق السليم للقانون.
عود على بدء لئن كان التطبيق السليم والدقيق للقانون يبدو في ظاهره أمرا بسيطا وممكنا، فانه في حقيقته غير ذلك تماما، اذ انه كثيرا ما يتطلب جرأة وجسارة نادرتين، لكنه يبقى مع ذلك، وبصرف النظر عن القوانين المقصودة، من الأهمية بمكان. واهم ما فيه انه يضفي من المصداقية على الجهاز المطبق قدر ما يضفيه على القانون المطبق.
*مجلة المحاكم المغربية، عدد 67، ص103.
سوف ننطلق في هذا التعليق الموجز، المرسوم هدفه مسبقا، من فرضية في صيغة تساؤل: ماذا ينتظر المجتمع من القضاء ومن العمل القضائي؟ وهو تساؤل تبدو الإجابة عنه لأول وهلة بسيطة وممكنة بل جاهزة، لكنها سرعان ما تصبح معقدة وبعيدة المنال بل وفي حكم المستحيلة اذا نحن تأنينا وطرحنا سؤالا استفهاميا اخر غايته التدقيق هو: أي مجتمع؟ وفي أي زمان؟ فلئن كان العمل القضائي محايثا للبنية القانونية في كل مجتمع من المجتمعات فان مفهومه ودوره غير ثابتين بل يتطوران و يتبدلان بتطور كل من المجتمع وبنيته القانونية وتبدلهما، فلكل مجتمع نظرته الخاصة وتصوره العيني للقضاء ولما ينتظره من القضاء ولما يصدع به قضاؤه من قرارات واحكام (1). وهي نظرية محكومة، على كل حال، بالسياق التاريخي، بالمستوى الحضاري . بنوعية التنظيم الاجتماعي بطبيعة النظام السياسي وبتراكم المعارف ودرجة الوعي… .
اي أنها مشروطة بكلية مركبة متعددة المستويات والجوانب صعب تجزيئها، واصعب منه تجاهلها.
ان هذه الملاحظات تقودنا حتما، من بين ما تقودنا اليه، الى التفكير، بحس تاريخي عياني وبعين صاحية في الدور المنتظر من القضاء ومن العمل القضائي في مجتمعنا الذي اصبح يتوفر الان على منظومة قانونية مركبة تكاد تغطي شتى مجالات الحياة، مشوبة في جوانب منها ببعض الثغرات والنواقص بل وببعض التناقضات أحيانا، حيث تحتاج الثغرات الى من يسدها والنواقص الى من يكملها والتناقضات، ان وجدت، الى من يحلها او يوفق فيما بينها.
-----------------------
(1) لقد عرفت كلمة اجتهاد قضائي او عمل قضائي تطورا مثيرا للغاية، فمفهومها لم يعرف الاستقرار والثبات، انه في روما يختلف عنه في أثينا، وهو في العصور القديمة يختلف عنه كل الاختلاف في القارة الأوروبية اليوم، كما انه عند الانكلوساكسونيين هو غيره عند سواهم. للمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة التي تخرج حقا عن نطاق موضوعنا تنظر بخاصة موسوعة UNIVERSAL ، المجلد التاسع الباب المتعلق بالاجتهاد القضائي JURISPRUDENCE، الصفحة580 وما يليها.
----------------------
ومن البديهي ان المشرع الذي يراد له ان يكون، بشكل او باخر والى هذه الدرجة او تلك، معبرا عن إرادة المجتمع او الأمة حسب درجة تطورهما، عند ما يسطر جملة المبادئ المشكلة للقانون، وهو يعلم مسبقا ان تلك المبادئ لا يمكن ان تطبق نفسها بنفسها، وقد لا تكون موضوع مراعاة تلقائية من لدن الجميع، بقدر ما يعلم علم اليقين ان المجتمع قد يفرز حالات وقد تستجد فيه وقائع وقد يعرف تطورات لم تتنبأ بها ولم تغطها تلك المبادئ - لان القانون يسطر اساسا على ضوء التراكمات الحاصلة جزئيا مع تقدير التراكمات الممكنة التي لا تحسب بداهة الا على اساس الاولى -، يعهد الى القضاء ليس فقط بتطبيق هذه المبادئ ولكن ايضا بتحريكها وتفريعها وتوسيعها وتكييفها مع تطور الواقع الاجتماعي وتفاعلاته، وتفسيرها اما توسيعا او تضييقا وتطبيقها تطبيقا استدلاليا على الفرضيات المتوقعة وغير الواقعة.
وعلى وجه العموم فان القضاء والعمل القضائي تكون لهما وظيفة ثلاثية.
أ- تطبيق القواعد القانونية وتحديد مداها من خلال ربطها بالوقائع المعروضة او النوازل عبر عملية إخضاع متبادلة: اخضاع القاعدة للواقعة وإخضاع الواقعة للقاعدة، مما يؤول الى نقل القاعدة القانونية من مستوى التعميم والتجريد - الذي وضعها فيه المشرع - الى مستوى التخصيص والعينية الذي يجسد دور القاضي، حتى ان القاضي يكون في هذه الحالة، اذا اجاز القول، بمثابة مشرع للحالات الخاصة.
ب- سد الثغرات والجوانب الغامضة التي تتضمنها بالضرورة نصوص القانون.
ت- تكييف القانون مع تطور المجتمع ومستجداته وسد الثغرات التي تنشأ عن ممارسات جديدة لا عهد للمشرع بها(2).
-----------------
(2) يتحقق ذلك عبر أوالية استقراء واستنباط متواليين، مما يسمح للقاضي باستخراج قواعد اعم حتى من تكل التي يتضمنها النص، فيكون في هذه الحالة قد استنبط حل المشكل المطروح عليه من خلال استقراء تلك القواعد، وفي عدد من الحالات فان المشرع يسمح بذلك وينص عليه صراحة جهارا في نصوصه كما هو الشان بالنسبة للمشرع البرازيلي الذي نص في الفصل 7 من المدونة المدنية البرازيلية لسنة 1916 على انه: " في الحالات غير المنصوص عليها في المدونة، تطبق المقتضيات المتعلقة بالحالات المماثلة والا فتطبق، في حالة عدم وجودها، المبادئ العامة للقانون والمشرع الايطالي الذي نص في الفصل 12 من المدونة المدنية الإيطالية لسنة1942 على انه< ((،…. اذا تعذر حل نازلة بواسطة مقتضى قانوني محدد، وجب الرجوع الى المقتضيات التي تنظم الحالات المشابهة او المواد المماثلة، واذا بقي في الأمر شكل، فان على القرار ان يستلهم المبادئ العامة للنظام القانوني المعمول به في الدولة)).
-----------------------------
وغني عن البيان ان اضطلاع القضاء بهذه الأدوار وتجسيدها لهذه الوظائف كلها أمر على جانب من الصعوبة ان لم تقل هو، الصعوبة عينها، لان الأمر رهين في البداية والنهاية بما يوضع رهن اشارة القضاء من وسائل وإمكانيات مادية ومعنوية وقانونية وبما يخص به من استقلال وحصانة وباعتبارات أخرى كثيرة ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وتاريخية…. لا يسمح حيز التعليق ولا طبيعة الموضوع بتناولها. فالامر لا يتعلق بعمل استدلالي صرف - قد يبدو، في ظاهره، في منتهى البساطة وربما الأغراء - ولكن بعمل معقد ولو من حيث ما يتداخل في صنعه من عوامل ذاتية وموضوعية.
لكن اذا كان قيام القضاء بهذه الأدوار جميعا امرا مستحبا عزيزا، سهلا ممتنعا، مغريا متمنعا، واذا كان مجرد التفكير في ذلك عن نزوع مثالي من العسير ان يجد ترجمته العملية في ارض الواقع، فان اضطلاعه بالدور الاول المتمثل في تطبيق القواعد القانونية كما هي في حرفيتها، أي دون زيادة او نقصان، على الوقائع المعروضة عليه هو اقل ما ينتظر منه، انه بمثابة اضعف الايمان، ومن حق المجتمع الحابل بإمكانيات التطور والتقدم وبالتطلعات المشروعة الى المستقبل ان يعتبره بمثابة الخطوة الاولى في رحلة الألف ميل نحو سيادة العدل والعقل.
فلا قيمة للقانون اذا هو لم يطبق، ولا قيمة لتطبيقه اذا لم يكن هذا التطبيق سليما، ولن نأتي بجديد اذا قلنا بان التطبيق السليم للقانون هو تطبيقه في حرفيته - بما يقتضيه ذلك من التزام بصيغة النص ومن ابتعاد عن كل نزعة ذاتية وحمولة نفسية وعن كل حكم مسبق او فكرة قبلية apriori ومراعاة نية المشرع وروح التشريع.
ولعل القرارين الصادرين عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء والمنشورين ضمن العدد 66 يجسدان الى حد كبير بالرغم من تباين موضوعهما هذا الهدف ويؤيدان حقا وصدقا وظيفة التطبيق السليم للقانون، ويتعلق الامر بكل من القرار الصادر بتاريخ 20/9/90 في الملف عدد 8403/9207/90 والقرار الجنحي عدد 690 الصادر بتاريخ 24 يناير1991 في الملف عدد 1944/834/89.
فأين يتجلى يا ترى التطبيق السليم للقانون في كل قرار من القرارين؟
1- القرار الصادر بتاريخ 20/9/90 : السكر العلني وبيع الخمر للمغاربة المسلمين بدون رخصة صدر هذا القرار في الملف عدد 8403/90 الذي توبعت فيه الظنينة بتهمتي السكر العلني والاتجار في الخمر وبيعها للمغاربة المسلمين بدون رخصة طبقا للفصلين الاول من المرسوم الملكي المؤرخ بتاريخ 14/11/67 والسادس والعشرين من قرار 17/11/67. وذلك بناء على ما اجري من بحث وما أنجز من محاضر تضمنت جملة من الوقائع مؤداها ان الظنينة كانت في حالة سكر طافح وأنها تبيع الخمر للمغاربة المسلمين بدون رخصة باعتبار ان الرخصة التي كانت تستفيد منها الظنينة بوصفها صاحبة فندق قد سحبت منها بواسطة تلكس موجه الى الى الشرطة.
وان محكمة الاستئناف اصدرت، بعد مناقشة القضية، قرارها القاضي بإلغاء الحكم الابتدائي فيما قضى به من ادانة وعقوبة، وبراءة الظنينة من التهمتين المنسوبتين اليها معللة قرارها : أ- فيما يتعلق بتهمة بيع الخمر بدون رخصة، بأنه ما دام لا يوجد في الملف ما يفيد ان الرخصة قد سحبت من الظنينة بكيفية قانونية ووفقا للإجراءات المنصوص عليها في القانون فان الظنينة تبقى في وضعية قانونية سليمة بالنسبة لبيع المشروبات الكحولية في المؤسسة التي تديرها، وبان التلكس المشار الى مراجعة في الملف لا يدل
، بأي حال من الاحوال، على سحب الرخصة الممنوحة للظنينة ولا على وضعه موضع التنفيذ بالنسبة لها خصوصا وان محضر الضابطة القضائية يشير الى انه قد تعذر تبليغ فحوى التلكس للمعنية، وبانه لا يوجد علاوة على ذلك ما يؤكد ان الظنية تبيع الخمر للمغاربة المسلمين، اذ انه لا ذكر لواقعة او حالة بعينها، كما انه لم يضبط شخص مسلم ابتاع من الظنينة خمرا، وبان ضبط كمية من الخمر والقنينات الفارغة لا ينهض بحال دليلا، في حد ذاته على بيع الخمر للمغاربة المسلمين. ب - وفيما يتعلق بتهمة السكر العلني : بان المحضر يكتفي بالإشارة الى ان الظنينة كانت في حالة سكر علني دون ان يبين المكان الذي ضبطت فيه الظنينة حتى يتأتى للمحكمة ان تتأكد من توفر شرط العلنية، وبان المحضر لا يتضمن الإشارة الى اية علامة من العلامات التي تفيد ان السكر يكتسي بالفعل صبغة سكر طافح او بين، مثل التمايل او الترنح او البذاءة في الكلام او التلعثم فيه الى الخ … وبان شرب الخمر في حد ذاته غير مجرم قانونا ما لم يصل الى حد الثمالة او الطفح .
فالواقع ان تسبيب القرار ناطق بما فيه وغني عن كل تعليق، لكن لا باس من التأكيد، من باب إبراز وجه التطبيق السليم للقانون فيه، على النقاط التالية:
أ- من الناحية المبدئية فانه لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، والنص يحدد الجريمة انطلاقا من عناصرها التكوينية، فمتى اختل عنصر من العناصر أنعدمت الجريمة من الوجهة القانونية من ثم فان اثبات جريمة من الجرائم رهين بإثباتها كواقعة من جهة وبإثبات توافر جميع عناصرها المنصوص عليها في القانون من جهة ثانية.
ب- تبعا لذلك، فان جنحة بيع الخمر للمسلمين بدون رخصة لا تقوم الا إذا ثبت: 1- بيع الخمر، 2- للمغاربة المسلمين، 3- بدون رخصة، فاذا إنعدم عنصر من هذه العناصر انعدمت الجريمة، من ثمة اهمية القرار موضوع التعليق الذي اجاب على كل نقطة على حدة كما سبق بيانه.
ج- ان السكر الذي يعاقب عليه القانون ( مرسوم 14 نوفمبر 1967) هو السكر البين IVERSSE MANIFESTE EVERSSE PUBLIQUE الذي يوجد صاحبه في الأزقة او الطرق او المقاهي او الكباريهات او في اماكن اخرى عمومية او يغشاها العموم ( الفصل الاول)، ويستخلص من ذلك ما يلي
ان السكر في حد ذاته غير مجرم قانونا وغير معاقب عليه.
ان السكر الذي يجرمه القانون ويعاقب عليه هو السكر البين او الطافح والعلني. وعليه فان ثبوت هذه الجريمة يقتضي :
إثبات ان الشخص المعني كان في حالة سكر وان هذا السكر يكتسي صبغة سكر طافح او بين وذلك من خلال تسجيل حالته وذكر العلامات التي تفيد ان السكر طافح وهي علامات ومقاييس معروفة على كل حال وان كانت غير علمية في الواقع، ولكنها قد تثبت الحالة نسبيا وجزئيا في غياب الاختبار او التحليل العلمي لدرجة تكحلل الدم Test d'alcoolémie او Test d'éthylisme. فالسكر الطافح معناه شرب الخمر الى درجة الثمالة أي الى درجة تاتي بعد ما كان يسميه العرب القدماء بـ : ليلى هي المتعة او الإحساس اللذان يعقبان النشوة مباشرة. والسر في تحريم وتجريم هذه الدرجة بالذات هو ان الشخص عند بلوغها قد يفقد التحكم في تصرفاته لأنها تذهب عقله وتحرره من كل القيود والضوابط، فتتحول من ثمة الى مضرة او مصدر للمضرة للنفس وللغير سواء بسواء(4).
- اثبات ان الشخص السكران سكرا طافحا قد ضبط في أماكن عمومية او يغشاها العموم محددة على سبيل الحصر في الفصل الاول المذكور، انفا، مما يؤول الى إثبات توفر شرط العلنية وان القرار موضوع التعليق بقوله ان شرب الخمر غير مجرم قانونا ما لم يصل الى حد الثمالة لا يفعل في الواقع سوى تأكيد مبدأ قانوني بديهي بصريح النص، ولكن هذا القول مهم جدا سواء في منطوقه او في مفهومه، فإذا كانت المبادئ العامة للقانون قد أباحت للقاضي ان يراعي ظروف التخفيف وان يتسلح بالرحمة وان يعفي من العقوبة عند الاقتضاء حتى ولو كان مخطئا في ذلك، فانها لا تجيز له بتاتا ان يجرم ما لم يجرمه المشرع او ان يعاقب على فعل غير مجرم قانونا إرضاء لنزعة ذاتية او وازع شخصي او ثقافة موروثة او افكار مسبقة…
-------------------------------
(3) أطلقت العرب هذا الاسم على هذه المرحلة من السكر قبل ان يطلقوه على بناتهم.
(4) ينظر في هذا الباب بخاصة: 1- رسالة مدح 2- النبيذ وصفة اصحابه - ضمن رسائل الجاحظ صورية- دار ومكتبة الهلال- ط. 2- 1991 ص. 237-249، ب- من قاموس التراث لمؤلفه هادي العلوي - منشورات الاهالي 1988- ص. -114 105، ج- المختار من قطب السرور في أوصاف الاندذة والخمور- ابراهيم بن القاسم الرقيق القيرواني ( القرن الخامس الهجري، نشر مؤسسة عبد الكريم بن عبد الله - تونس 1976).
------------------------------
2- القرار عدد 610 الصادر بتاريخ 24 يناير1991: المشاركة في الخيانة الزوجية.
صدر هذا القرار في الملف عدد 1944/834/89 الذي توبعت في إطاره الظنينة من اجل المشاركة في الخيانة الزوجية طبقا للفصلين 129 و491 من القانون الجنائي وذلك بناء على وقائع مدونة في محضر الضابطة القضائية مفادها ان الظنينة كانت قد تعرفت الى شخص فتقدم لخطبتها واقاما حفل زفاف الا انهما لم يتمكنا من إبرام عقد زواج لان خطيبها كان ينتظر صدور إذن من الادارة التي يعمل بها يسمح له بإبرام العقد، وان الخطيب اصبح ينفق على خطيبته، ويعيش وإياها حياة زوجية شبه عادية وأخذها معه ليسكنها مع زوجته الاولى التي لم تتقبل الامر، فتقدمت ضدهما بشكاية في شان الخيانة الزوجية والمشاركة فيها فتوبعت الظنينة وأدينت ابتدائيا من اجل المشاركة في الخيانة الزوجية، الا ان محكمة الاستئناف اصدرت بتاريخ 24 يناير1991 قرارها القاضي بإلغاء الحكم الابتدائي والحكم تصديا ببراءة الظنينة من التهمة المنسوبة اليها معللة قرارها بان الظنينة قد عاشرت خطيبها لمدة تزيد عن سنة معاشرة الأزواج خصوصا وانه تقدم لخطبتها وأقام حفل زفاف حضرته العائلة وبان الظنينة كانت تعتبر نفسها زوجة شرعية لشريكها لا سيما وانه كان يعولها بعد ان اكترى لها بيت الزوجية وبان نية الظنينة لم تكن هي معاشرة شريكها معاشرة جنسية غي شرعية مما يكون معه الركن المعنوي للجريمة منعدما.
ان صياغة القرار بحيثياته الثلاثة الصائبة هذه المنسجمة، في نظرنا، مع روح القانون تسمح لنا بتسجيل الملاحظات التالية:
أ- ان جريمة الخيانة الزوجية او المشاركة فيها شانها شان جريمة الفساد(5) - فالفعل الذي يشكلهما واحد لا تكون قائمة الا اذا توفر ركناها المادي والمعنوي معا. ويبدو هذا القول بمثابة تحصيل حاصل او مصادرة على المطلوب. لكن الحقيقية هي انه اذا كان الركن المادي قلما يعطاه معناه وبعده الحقيقيان فان الركن المعنوي غالبا ما يحظى بالتجاهل، من ثمة أهمية القرار موضوع التعليق.
-----------------
(5) ان التنظيم القانوني لجريمة الفساد والخيانة الزوجية في المغرب يطرح في الواقع إشكاليات قانونية وواقعية معقدة، ابسطها ان العقاب على جريمة الفساد قد لا يشمل الفاعلين معا بشكل يوحي بان هنالك في نفس الوقت نوعا من التساهل والتشديد غير المتوازنين وغير المبررين، ولنتأمل هذا القرار <" الفساد علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربطهما علاقة زواج، وان عدم متابعة الشريك لا يجعل جريمة الفساد غير قائمة(…) يكفي لقيام جريمة الفساد وجود الشخص الآخر الذي مورس معه العمل الجنسي ولو لم تقع متابعته، فتكون المحكمة على صواب حينما قضت بمعاقبة الطاعن وحده من اجل جريمة الفساد نظرا لعدم متابعة شريكه في الجرمية" ( القرار عدد 418 الصادر بتاريخ ! مارس 1979، مجلة المحاماة العدد 20 - الصفحة 140).
لأخذ رؤية نقدية واضحة عن هذا الموضوع تنظر المقالة التي نشرها الأستاذ عبد الرحيم برادة بمجلة كلمة KALIMA ، عدد شتنبر1986 تحت عنوان sexe hors mariage, sexe hors la loi والتي صدرت ترجمتها العربية بمجلة نجمة، العدد 1 ماي1987، الصفحة 18-21 تحت عنوان : الجنس خارج الزواج جنس خارج عن القانون.
--------------------
ب- يتحقق الركن المادي لجريمة الفساد - او الخيانة الزوجية- بمواقعة رجل لامرأة دون ان يكونا مرتبطين بعلاقة زوجية. المسالة واضحة. لكن العبرة في قيام الركن المادي هي بانتفاء علاقة الزوجية بين الطرفين وليس باستيفاء الشكليات التي تتطلبها مدونة الأحوال الشخصية. لانعقاد الزواج ولإثباته، والمتمثلة في حضور شاهدين عدلين سامعين في مجلس العقد لإيجاب الزوج وقبول الزوجة او من ينوب عنهما والإشهاد على ذلك وإثباته حسبما هو منصوص عليه في الفقرة الاولى من الفصل الخامس من مدونة الاحوال الشخصية، ثم افراغ عقد الزواج في صك مكتوب طبقا للفصل 42 من المدونة.
وعليه فانه يمكن للمتابعين بجريمة الفساد - او الخيانة الزوجية - من الناحية القانونية إثبات قيام علاقة الزوجية بكافة وسائل الاثبات التي ليست بالضرورة متطابقة والشكليات المنصوص عليها في مدونة الاحوال الشخصية.
لذلك فان القرار المعلق عليه عندما اعتبر علاقة الزوجية قائمة استنادا على مدة المعاشرة واقامة حفل الزفاف والخطوبة والإعالة يكون قد اعطى للركن المادي للجريمة مفهومه الحقيقي، ويكون فضلا عن ذلك قد حسم التعارض بين شكلية عقد الزواج ورضائيته لصالح الرضائية، مع كل ما ينطوي عليه ذلك - فضلا عن الجانب القانوني- من مراعاة لتطور المجتمع وللتغييرات التي طرأت على العلاقات بين الجنسين داخله.
ت- يعتبر الركن المعنوي المتمثل في القصد الجنائي او النية، ركنا اساسيا في جريمة الفساد - او الخيانة الزوجية باعتبارهما من الجرائم العمدية، ويتوافر هذا الركن متى كان كل من الفاعلين يعلمان بانتقاء الرابطة الزوجية بينهما، ومتى كانا يتعمدان ارتكاب الفعل في حد ذاته في اطار لا شرعي.
ومن المعلوم ان القصد الجنائي يجب ان يتوفر بعنصرية: العلم والإرادة والعلم حالة ساكنة تفترض سبق تمثل الجاني للواقعة المكونة للجريمة، اما الإرادة فحالة متحركة نشطة تصنع الفعل وهي جوهر القصد الجنائي لانها عبارة عن نشاط نفسي واع يبتغي تحقيق هدف معين، لذلك فان القصد الجنائي - او النية الإجرامية - في هذا النوع من الجرائم يكتسي أهمية خاصة ويتم بنوع من الدقة بحيث يكون من الضروري التأكد من توافره بكافة عناصره. لكن الواقع خلاف ذلك تماما، اذ نادرا ما تقع الإشارة الى هذا العنصرـ بله التأكد من توافره.
وعليه، فان تحييث القرار القاضي بالبراءة بان نية الظنينة لم تنصرف الى المعاشرة الجنسية غير الشرعية يكون بمثابة إرجاع الاعتبار المفقود للركن المعنوي للجريمة، ويكون بالتالي مظهرا من مظاهر التطبيق السليم للقانون.
عود على بدء لئن كان التطبيق السليم والدقيق للقانون يبدو في ظاهره أمرا بسيطا وممكنا، فانه في حقيقته غير ذلك تماما، اذ انه كثيرا ما يتطلب جرأة وجسارة نادرتين، لكنه يبقى مع ذلك، وبصرف النظر عن القوانين المقصودة، من الأهمية بمكان. واهم ما فيه انه يضفي من المصداقية على الجهاز المطبق قدر ما يضفيه على القانون المطبق.
*مجلة المحاكم المغربية، عدد 67، ص103.
0 التعليقات:
Post a Comment