بقلم القاضي الأستاذ شهير ارسلان
الرئيس الاول لمحكمة الاستئناف في حلب
منذ ان خلق الله البشر على هذه الارض، وجدت الخلافات والمنازعات. لان الإنسان مركب على مجموعة من الغرائز، كغريزة حب السيطرة وغريزة حب التسلط وغريزة حب المال وغريزة حب الجنس وغريزة حب الذات وغيرها.
فلا بد ان تتعارض الرغبات والغرائز والشهوات لدى الأفراد في المجتمعات البشرية المختلفة، فتنشأ بذلك الخلافات والمنازعات.
وعلى هذا كان من الضروري وجود سلطة عليا ، تفصل في هذه المنازعات، وتحد من طغيان هذه المنازعات وتقف في وجه القوي وتعيد للمظلوم حقه المغتصب.
فالقضاء هو السلطة التي تقيم العدل وتنصف المظلوم وتعاقب الظالم، وتفصل في حقوق الناس وأموالهم وحرياتهم العائلية أي أحوالهم الشخصية.
ويقول ابن خلدون : الإنسان مدني بالطبع، أي ان الإنسان لا يمكن ان يعيش منفرادا، كما تعيش بعض الحيوانات، وانما يعيش مع الجماعة.
وعلى هذه فان لا يمكن لمجتمع إنساني، مهما بلغ من التطور والحضارة، ان يستغني عن وجود سلطة قضائية، تفصل في منازعته، وتعاقب كل من يعتدي على حق الفرد او المجتمع.
والأديان السماوية أعطت القضاء صفة مقدسة.
قال الأستاذ شكري قرداحي وزير العدل اللبناني سابقا في محاضرة ألقاها باللغة الفرنسية عام 1946 امام رئيس الجمهورية اللبنانية.
ان الكتاب المقدس في سفر الخروج رقم 22 أعطى صفة الألوهية من نصبوا قضاة للشعوب.
وقال أيضا:
- انه يشق علينا ان تقر لبشر مثلنا بميزة تجعله فوق البشر، حيث يصير مطلعا على خفايا القلوب، مقررا لمصير حياتنا وشرفنا وحريتنا وأموالنا، وهذه السلطة التي توليها الضرورة الاجتماعية لفرد بشري، اذا لم يكن مردها الى الله، فمن العسير ان نذعن لها عن رضى وارتياح.
أما في الاسلام، فقد جعل الله الحكم من صفاته فهو احكم الحاكمين.
ويقول الله في قرانه الكريم: { ان الحكم الا لله يقص الحق، وهو خير الفاصلين} ومعنى ان يقص الحق أي يتتبعه ومنها قصاص الاثر.
ويقول الله أيضا : { والله يحكم ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب} أي لا يتعقب احد حكمه والتجريح والخطأ.
وقد شرف الله نبيه محمدا بصفة الحكم فقال الله مخاطبا اياه بقوله : { انا انزلنا إليك الكتاب بالحق، لتحكم بين الناس بما أراك ولا تكن للخائنين خصيما} أي لا تخاصم عن الخائنين. وفي هذه الآية دليل على مرونة التشريع الإسلامي، فقوله لتحكم بين الناس بما أراك الله، أي برأيك وبما ترى فيه وجه العدالة غير مقيد.
وفي اية أخرى : { يا داوود ان جعلناك خليفة في الارض، فاحكم بين الناس بالحق}
فمن هذه النصوص نجد ان الحكم من صفات الله فمن اختاره الله للحكم فإنها ولاية كبرى، ومسؤولية ضخمة.
وأوجب الله على الناس ان يحترموا الأحكام القضائية، فقال الله في كتابه العزيز : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا ما قضيت ويسلموا تسليما}.
وفي الحديث الشريف : " عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة"
وقال بعض الحكماء : " امام عادل خير من مطر وابل "
وقال فولتير فيلسوف الثورة الفرنسية الكبرى : " ان اعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها".
فالقضاء مهمة خطيرة ومقدسة عند جميع الأمم، لان الخصومة من لوازم الطبيعة البشرية.
وكان "مونتسيكو" رئيسا لمحكمة استئناف بوردو في فرنسا في القرن الثامن عشر، وهو صاحب نظرية تقسيم السلطات، التي تعتبر حتى اليوم، اساسا للديمقراطية وحافزا للثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، مات منتسيكو عام 1755 أي قبل قيام الثورة، وتتلخص نظرية مونتسيكو بانه لا يمكن ان تكون هناك ديمقراطية الا بتقسيم السلطات الى ثلاث :
سلطة تشريعية : تضع القوانين.
وسلطة تنفيذية: تنفذ القوانين وترعاها.
وسلطة قضائية: تفصل في النزاعات على ضوء القوانين.
يرى منتسيكو: ان أي تسلط على أخرى يشكل ديكتاتورية مبطنة وخللا في الديمقراطية وتعديا على حق الفرد والمجتمع.
السلطة القضائية اكثر السلطات ثباتا والتصاقا بحياة الأفراد.
ولا نكون مغالين إذا قلنا، ان السلطة القضائية هي اكثر ما تهم الفرد لالتصاقها المباشر به وبحقوق الاجتماعية وحريته.
وليس غلوا أيضا القول : بان السلطة القضائية هي اكثر السلطات رسوخا وأقواها صمودا امام التيارات الجارفة التي تزعزع أركان الحكم والحكومات او تطيح بهما في بعض الأحيان.
ففي التاريخ القريب والبعيد، لدينا ولدى كثير من الأمم الناشئة، نجد السلطتين التشريعية والتنفيذية كثيرا ما تعصف بهما ريح عاتية، تقلبهما كليا او جزئيا، او تقلبهما الى آلة طيع تسير وفق الرغبات والأهواء.
اما السلطات القضائية، فإننا مع بعض التحفظ، نجدها اكثر ثباتا في وجه العواصف، واكثر تمسكا بأصالة مبررات وجودها فلا تنساق مع أهواء الحكم، ولا يجرفها تيار الراغبين به : وتبقى دائما متمسكة بشعارها، الحق والعدالة وسيادة القانون. الأمر الذي يحدو بالسلطة الحاكمة أحيانا، الى إقامة محاكم استثائية، تحقق من الاهداف ما لا يمكن تحقيقه عن طريق السلطة القضائية، التي تأبى ان تكون اداة طيعة للاتجاهات السياسية المتغيرة.
ولست ادعي، في سبيل تعليل ثبات السلطة القضائية ورسوخها، ما ليس لبشر من القوة. إنما لو أمعنا النظر في طبيعة عملا السلطة القضائية، لوجدنا أنها هي الجهاز الذي يحقق الأمن للمجتمع بإقامة العدل، ولا حياة بدون امن قائم على العدل وهي الجهاز الذي يطمئن إليه الشعب في الحفاظ على حرياته واعراضه وأمواله، ولا حياة بدون اطمئنان وهكذا نرى ان مهمة هذه السلطة أساسية في حياة المجتمع، ووجودها حتمي لا غنى عنه، وهذا هو السبب قوتها ورسوخ قدمها، مع تقديرنا الكبير لدور باقي السلطات في النظام الديمقراطي الصحيح، وقديما قالوا : العدل اساس الملك.
واما السبب الثاني الذاتي : الذي تستمد منه السلطة القضائية قدرتها على المقاومة والصمود فانه ينبع من قوة أفراد هذه السلطة المتأنية، من تمسكهم بكل ما يعتقدون انه والحق، واعتقادهم بان عليهم ان يقولوا كلمة الحق وهم معصبوا العينين، دون النظر الى أي مؤثر مهما كان كبيرا لان كلمة الحق يجب ان تقال، والحق أحق ان يتبع.
ولست ادعي هنا أيضا، ان طينة أفراد هذه السلطة تختلف عن سواهم من البشر، ولكن الأسلوب الدقيق المتبع غالبا في انتقاء افراد هذه السلطة، والشرائط الصعبة التي يجب ان تتوفر، اكثر الأحيان فيمن يودون الانتساب اليها، تجعل من أفراد هذه السلطة القضائية نموذجا خاصا، صلبا في الحق، او على الأقل تتركهم يشعرون ويشعر الكثيرون معهم انهم كذلك.
ومن جهة أخرى، فان ممارسة القاضي لعمله سنين ذوات عدد، في البحث عن الحق والعدل، تجعل روح العدالة وسيادة القانون صفة متأصلة في نفسه مقارنة لحياته، تقلقه في الليل والنهار، وتخالطه فيه اللحم والدم، فيغدو رجلا، يتألم من الظلم، ولا يستطيع امام نفسه وضميره مجانبة العدالة التي سرت في عروقه طيلة سنوات، وفي سبيل العدالة تتضاءل في عينيه الضغوط والمؤثرات المادية والمعنوية مهما كانت قوية، كما سنرى في كثير من الأمثلة، حتى وان وظيفته القضائية، التي تشكل كيانه القضائي، تهون في نظره إذا ما اجبر على ظلم او حيف، او على السكوت امام شكوى مظلم او ضعيف، وكم وجدنا في تاريخنا القومي قضاة اثروا التخلي عن القضاء او أبوا قبوله للحفاظ على نقاوة ضمائرهم وسلامة دينهم.
فمهمة القاضي تضعه في مكان صعب يختلف عن مكان الرجال، لأنه بحكمه ينزع يد الغاصب ويضرب بيد العدالة كل آثم او ظالم، ويحكم في حرية الناس واموالهم الشخصية فيجعل النصوص وقانون خرساء ناطقة بإرادة الامة وباسم الشعب.
فالقاضي الذي منحته الشرائع هذه السلطات الواسعة وحصرت فيه الحكم باسم الأمة، هذا القاضي تهون في نظره الصعاب، ويرى نفسه أسمى واشرف من ان يكون أداة طيعة في يد إنسان أي إنسان وان الله الذي منحه صلاحية الحكم، إنما ميزه ليكون للضعيف سندا وللمظلوم عونا، وليكون كالصخرة الصلدة التي يختبئ وراءها الضعاف،اذا ما هبت ريح العاصفة، او راح تيار الموج يجرف أمامه كل شيء ، إلا صخرة القضاء الراسخة، ومن احتمى بحماها، ولاذ بقوتها.
جاء في القاموس الفرنسي الكبير المسمى " لاروس القرن العشرين" ص 204 ان فريدريك الثاني ملكا بروسيا، أراد توسيع حديقة قصره التي كان يطلق عليها اسم (sans souci )أي مزبلة الهم، فاشترى العقارات المجاورة للحديقة من أصحابها،الا ان فلاحا بسيطا يملك طاحونة على الهواء يشتغل فيها بنفسه، ابى ان يبيع طاحونته، لأنه ورثها عن أبيه وجده.
فامر الملك باستدعائه، قال له : اني آمرك ان تبيعني طاحونتك، وانت ترى مني تسامحا اذ اعرض عليك الشراء، وأنا سيد بروسيا وفي قدرتي ان أتملكها دون ان ادفع لك ثمنها فأجاب الطحان : أنت تأخذ طاحونتي، وذلك لو لم يكن في برلين قضاة.
ان فريدريك الثاني لم يجرؤ على اخذ الطاحونة وبقيت هذه الطاحونة في وسط الحديقة ليعتبرها الشعب الألماني رمزا للعدالة الحق في بلاده.
ان القاضي في حكمه يجعل قوى الدولة وسلطة المحاكم مسخرة في رد الحق لصاحبه ولو كان ضعيفا والقوانين الحديثة تعطي للقاضي صلاحية الحكم على رجال الدولة إذا انحرفوا عن مصلحة الأمة.
ولاشك ان رئيس الدولة، سواء أكان مالكا او رئيسا، سوف يكون مغتبطا مسرورا، عندما يرى العدالة في خلافات الناس ومنازعاتهم، وعندما يرى سيادة القانون، وعندما يرى نفسه على ارس شعب حر أبي وليس على راس شعب ذليل يضيع فيه الحق ويسود فيه التعسف والتسلط والظلم.
فبحكم القاضي تتلمس حقوق الأفراد وعدالة المجتمع، وبحكم القاضي يتحصن الضعيف المظلوم من تعسف القوي الظالم، فالعدالة التي ينشدها الأفراد تأتي عن طريق القاضي. والعدالة التي يريدها حاكم الدولة، تأتي عن طريق القاضي.
حين توفي القاضي ابو الدرداء، قال معاوية : " والله ما حييتك بها، ولكن استترت بك من النار فاستتر منها ما استطعت"
فالقاضي يرد المنحرف الى جادة الصواب، فعندما قيل للزعيم البريطاني تشرشل، بان الفساد طهر في أجهزة الحكومة والإرادة فقال : وكيف القضاء فقالوا : القضاء البريطاني ممتاز جدا فقال: لا خوف على بريطانيا نعم لا خوف على أمة يسود فيها القانون ورجال القانون . لا خوف على امة، يقول القاضي للمخطئ بلا خوف ولا و جل مهما كان المخطئ كبيرا.
والويل للامة،التي لا يرتفع فيها صوت القاضي الا بين الضعفاء والمساكين والويل للامة التي يضعف فيها القاضي في صلاحياته ومعيشته وكيانه واستقلاله.
لقد بلغ من استقلال القاضي الإنكليزي ان ميزانية القضاء، لا يضعها مجلس العموم البريطاني وانما يضعها مجلس القضاء الاعلى وهو الذي يحدد رواتب رجاله، اما قضاة المحكمة العليا فليس لهم رواتب معينة، وانما يأخذون من خزينة الدولة ما يحتاجون اليه بدون تحديد.
قال رئيس جمهورية فرنسا السابق " فانسان اوريول" في تقريره عن حالة فرنسا بعد انتهاء رئاسته عام 1955.
" يوم يفقد المواطنون ثقتهم بالعدالة، تتعرض الدولة، كما يتعرض نظام الحكم، لأشد الأخطار.. "
وليس بخاف على أحد، ان السلطة القضائية احدى الركائز الثلاث، وربما كانت أهم هذه الركائز في النظام الديمقراطي، ولعل منشأ الداء هو في الاعتقاد السائد بان السلطة القضائية بمثابة وظيفة عامة، وهكذا وضع القضاة في صف الموظفين. واني لأعبر عن احترامي ومساندتي لجميع الموظفين، فما أردت ان أحط من قدر الوظائف العامة، وانما أردت التشديد على ان القضاء ليس وظيفة بل سلطة ولعل السلطة القضائية أهم السلطات بالنسبة للشعب،لان من واجبها المحافظة على شرف المواطنين وحريتهم وحياتهم والسهر على قيام النظام.
فقد قال " مونتسيكو" ان لا حرية الا إذا فصلت السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.
ويتابع فانسان اريول تقريره فيقول :
ان القاضي على القوس، يفرض الهيبة، ولكن لننظر اليه في الشارع، فهو يسير من بيته الى المحكمة على قدميه، وكم من مرة تعثر امام السيارات الفخمة التي يستغلها المتقاضون الذين يقفون بين يديه، وهكذا يبدو هذا الرجل الذي اعتبره القانون المسؤول الأخير عن حياة مواطنيه وشرفهم وحرياتهم، موظفا بسيطا لا يمثل السلطة القضائية المتساوية مع السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، المستقلة عنهما، انه والله موظف صغير يلوذ بالسلطة التشريعية لتحدد له معاشه وبالحكومة التي يتوقف عليها ترفيعه، فأين استقلال السلطات عن بعضها وأين الديمقراطية.
وان الواجب ان يكون للقضاء مظهر يوافق رسالته العظيمة، عندئذ يمكن ان يحتوي النخبة من المثقفين الصالحين، هذا ما قاله رئيس جمهورية فرنسا عن القضاء وما يطالب به من تحصين القاضي واستقلاله وتحسين حالته المعيشية، علما ان القاضي الفرنسي يعد في طليعة القضاة في الحصانة والاستقلال والمعاش.
لا يمكن ان تكون هناك ديمقراطية، الا ان كان مبدأ تقسيم السلطات قائما.
فالديمقراطية لا تقف الا على ثلاثة أرجل : هي السلطة التشريعية التي تضع القوانين والسلطة التنفيذية التي تنفذ القوانين والسلطة القضائية التي تفصل في المنازعات على ضوء هذه القوانين.
ان طغيان سلطة على سلطة يؤدي الى زعزعة النظام الديمقراطي وبالتالي الى دكتاتورية مبطنة، فالسلطة التشريعية هي اخطر واهم سلطة في الدولة، لأنها هي التي تضع القوانين الملزمة للجميع، فإرادتها هي إرادة الأمة، وما على السلطتين التنفيذية والقضائية الا تطبيق القوانين الممثلة لهذه الادارة.
ولكن من المعلوم ان القوانين هي نصوص عامة قواعد تنظيمية،لانه ليس وسع السلطة التشريعية ان تطلع على كل منازعة، وتعطي حكمها فيها، لذلك كانت السلطة القضائية، هي التي تنفخ الروح في النصوص الجامدة فتحيلها الى كائن تطبيقي حي حسب كل نزاع.
فالهيئة التشريعية مهما أوتيت من الذكاء، لا تستطيع ان تضع الحكم سلفا لكل حادثة تحدث في المستقبل والقاضي الذي يعيش في جو الحادثة وظروفها وأسبابها، يستطيع ان يضع لها الحكم العادل مراعيا سائر الاسباب والظروف.
لذلك كان سلوك بعض القوانين الجزائية الحديثة الى منع المحكمة من استعمال الاسباب المخففة التقديرية او وقف التنفيذ في بعض الوقائع، هو سلوك خاطئ لان السلطة التشريعية حرمت القاضي سلطة تقدير الظروف والأسباب والدوافع في هذه الوقائع.
وفي هذا تضيع كثير من الحقوق وتمس كثير من الحريات.
والحقيقة ان أهم تسلط من السلطة التشريعية على السلطة القضائية هو سن القوانين التي يمكن من خلالها للسلطة التنفيذية التسرب الى ضمير القاضي ووجدانه بوضعه تحت تأثيرها والخشية منها.
وقد دلت التجارب العملية، في اكثر بلاد العالم، ان السلطة التشريعية ليست ذات خطر على استقلال القضاء، ولكن الخطر الأهم، هو الذي يأتي من السلطة التنفيذية، ذلك ان السلطة التنفيذية، هي التي تمارس الحكم الفعلي في الدولة وتحصر في يدها وتحت سلطاتها كل القوى المادية في الدولة، الأمر الذي يجعل لدى بعض رجالها نزعة وإغراء الى الاستئثار والتسلط حتى في المنازعات التي تكون هي طرفا فيها .
وهذه النزعة، لا تقتصر أحيانا على المس باستقلال القضاء، وانما تتناول السلطة التشريعية أيضا، فتصبح السلطة التنفيذية مطلقة اليد، بقوة الدولة المادية، فلا رقيب عليها، ولا رادع لها إلا ما تراه هي فقط، ويصبح الحكم للقوة المادية، ويتضاءل سلطان القانون او ينعدم، فتقوى هذه النزعة لدى أفراد او هيئات السلطة التنفيذية، فلا تجد امامها من ينازعها سلطاتها الا القضاء، وما يتمتع به من استقلال، فتندفع لاشعوريا نحو الحد من استقلاله والتأثير عليه وتصفه بالأوصاف التي تنال منه كالتخلف وعدم مسايرة التطور، حتى يسير في ركابها أسوة بباقي الفعاليات.
لذلك فان استقلال القضاء، هو الضمان الوحيد لسيادة القانون، وسيادة القانون هي الضمان الوحيد لحقوق المجتمع بأفراده وهيئاته.
وكلما انتقص هذا الاستقلال، فان حقوق الأفراد والهيئات تكون مهددة وكذلك حرياتهم وبالتالي فان الشعب يكون متخلفا عن ركب الحضارة والتقدم.
واستنادا الى ذلك، فقد حرصت الدساتير، على توكيد استقلال القضاء وهيبته وجاء في المادة 134 من الدستور السوري قوله : " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون".
يقول كوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب"
" ان سبب سقوط العرب هو ان نظام الحكم عند العرب يقوم على حصر السلطات بالخليفة، وقد تهيا للعرب في بدء نهضتهم رجال خلفاء كانوا على مستوى رفيع من الضمير الحي المتحسس بالمسؤولية فحققوا حضارة لم يسبق لها مثيل في التاريخ ولكن عندما جاء خلفاء وحكام ليسوا على مستوى المسؤولية، فانهم هدموا كل ما بناه الأوائل وهكذا فان النظام الدكتاتوري الذي يقوم على حصر السلطات، سوف ينتهي الى الفشل لان دكتاتورا واحدا سيئا يهدم كل ما بناه الصالحون".
استقلال دعامة كبرى للديمقراطية .
وفي أمريكا قرر مجلس جامعة التكساس عدم قبول طالب زنجي في الجامعة التي لا تحوي إلا الطلاب البيض.
وقررت المحكمة الاتحادية قبول طالب الزنجي وذلك عام 1962 وتعصب حاكم ولاية التكساس لقرار الجامعة ومنع تنفيذ حكم المحكمين أرسل الرئيس الأمريكي جون كندي جيشا اتحاديا قوامه ثلاثة آلاف جندي وادخل الطالب الجامعة تحت أسنة الحراب، وقال كندي في تبرير فعلته في مؤتمره الصحفي: " ان عدم تنفيذ حكم المحكمة الاتحادية يشكل سابقة خطيرة في التاريخ الأمريكي ".
فالرئيس كندي المتشبع بالروح الديمقراطية رأى وجوب المحافظة على سيادة القانون واستقلال القضاء واحترام الحكم القضائي.
وصلاح الدين الأيوبي الذي وطد لنفسه في الشرق العربي، ووحد سورية ومصر تحت رئاسته وقضى على الدولة الصليبية قضاء تاما، وكسر جيوش انكلترة وفرنسا وألمانيا مجتمعة بقيادة ريشار قلب الأسد في وقعة حطين، ان صلاح الدين الأيوبي قال :" لا تظنوا اني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل"
وكان قاضي صلاح الدين يلقب بالقاضي الفاضل.
فالخليفة او الملك او الرئيس، عندما يحافظ على استقلال القضاء ويحترم أحكامه يكون مسرورا ومغتبطا لأنه على راس شعب تسوده العدالة والحرية، وان ذلك هو اساس الديمقراطية ومنطلق التقدم والحضارة.
ويروي ان أحد ولاة الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب إليه يطلب مالا لتحصين المدينة، فكتب إليه عمر: حصنه بالعدل ونق طريقها من الظلم.
وهل يتم العدل إلا عن طريق القضاء في منازعات الناس.
وخطب سعيد بن سويد في حمص، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
" أيها الناس ان للإسلام حائطا منيعا وبابا وثيقا، فحائط الإسلام الحق، وبابه العدل، ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان وليست شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل".
نعم ليست قوة الدولة بالقدرة على القتل والضرب، وانما قوة الدولة بإقامة العدل والإنصاف والحق والرأفة، ولا يكون هناك عدل، ما لم يكن هناك قضاء مستقل، يلجا إليه كل مظلوم مهما كان ضعيفا ويخضع له كل كبير مهم كان قويا.
قصة سمرقند
وفي التاريخ العربي الإسلامي حادثة تعد مفخرة من مفاخر هذه الأمة.
وردت هذه القصة في كتاب" فتوح البلدان" البلاذري ص 428 كما رواها أستاذنا الكبير مصطفى الزرقا في كتابه " المدخل الفقهي العام" ص 121. وتتلخص بان الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، لما ولي الخليفة جاءه وفد من أهالي سمرقند، وشكا له قائده " قتيبة بن مسلم الباهلي" بأنه دخل بلدهم سمرقند مع جيشه قبل ان يوجه لهم الانذار، حسب قواعد الحرب في الإسلام، فكتب عمر الى عامله في العراق، ان ينصب لهم قاضيا خاصا، فنصب لهم "جميع بن حاضر الباجي" فسمع شكواهم وحاكمهم مع القائد قتيبة، وحكم بخروج المسلمين من سمرقند وان يعدوا أهل سمرقند الى حصورهم وينابذهم قتيبة على سواء ثم يحاربهم ان أبوا.
وخضع القائد العظيم وجيشه الذي فتح القارة الأسيوية واخضع ملوك الصين، خضع القائد لحكم قاضي جميع، وهم المسلمين بالانسحاب.
ولما رأى اهل سمرقند ان الأمر جد، وانهم لم يشهدوا عدلا مثل هذا العدل، قالوا مرحبا بكم سمعنا واطعنا.
ليس في العالم كله قديمه وحديثه عدل مثل هذا العدل، المجرد عن كل هوى وعاطفة ومصلحة.
هذه القصة تدل على مدى اصالة روح العدل والحق لدى أولئك الحكام الصالحين وان الخضوع لأحكام القضاء، لم يقتصر على العلاقات الفردية عندهم وانما وصل الى العلاقات الدولية أيضا.
ولاشك ان العالم الحاضر في عصر لائحة حقوق الإنسان وعصر هيئة الامم المتحدة لم يبلغ هذا المبلغ من العدالة والمساواة واحترام الاحكام القضائية.
فنشوة النصر والظفر لم تحل بين الخليفة وبين استماع شكوى أعدائه، ولم يغيره موقف الغلبة، الذي هو فيه، بالتحيز لجيشه وقائده، ولم يحاول تبرير الأمر الواقع كما فعل " فريدريك الثاني" ملك بروسيا حينما اراد احتلال مقاطعة سيليزيا الكائنة بين ألمانيا وبولونيا عام 1742 حيث قال له أحد قواده : يجب ان نوجد مبررا للاحتلال فقال الملك القوي كلمته الشهيرة، لنحتل سيليزيا بالقوة أولا، ثم لن نعدم متحذلقا يبرهن لنا بان الحق معنا.
كما ان الخليفة عمر لم يتطفل على ما ليس من اختصاصه، فيحكم هو لأهل سمرقند او عليهم بل امر ان ينصب لهم قاض، وكأن عمر بن عبد العزيز فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية قبل مونتسيكو بألف سنة ولم يستنكر رضي الله عنه نتيجة الحكم التي جاءت لغير صالح العرب والمسلمين بل استنكر ان يتصرف قائد من قواده بغير ما رسمه المشرع في أحكامه، أي استنكر ان يحتل قائد جيشه مدينة سمرقند دون إنذار بالإسلام او الجزية او الحرب حسب ما أمر الله في شرعه.
ثم ما اجل هذا القاضي، الذي لم تأخذه في الحق لومة لائم، رغم ان المحكوم عليهم جيش وقائد وخليفة فقال الحق ولو على نفسه وبني قومه، ولم تساوره نفسه إرضاء الخليفة او الأمير او القائد نفسه وانما أرضى الله وحده، وحسبه ذلك.
اما قتيبة بن مسلم الباهلي قائد الجيش المنتصر الذي دك حصون آسيا، وأذل ملوك الصين لم تأخذه العزة بجيشه وأسلحته وعددهم، وانما كانت الفكرة الحق والخضوع له، اكثر اصالة في نفسه فانصاع لحكم القاضي وهم بالانسحاب .
ليست هذه الحادثة، مجرد قصة تحكى او شاهد يروي، وانما هي مثل أعلى لكل حاكم سياسي او قائد عسكري وهي أيضا مبدأ عظيم في الحقوق الدولية، يطرحه العرب المسلمون في وقت لم يتوصل غيرهم من الأمم الى فكرة الحقوق الدولية، والى هذا السمو في العدل والإنصاف والحق.
لقد فتحت هذه الحادثة آفاقا جديدة في العلاقات الدولية، وقررت نظرية خضوع العلاقات الدولية لاحكام القضاء هذه النظرية التي لا يزال المصلحون من رجال السياسة والدين، ينادون بها حتى هذه الساعة، وقد جاء في رسالة " السلام على الارض" دعاء قداسة البابا يوحنا الثالث عشر، بمناسبة ذكرى إعلان حقوق الإنسان من قبل هيئة الأمم عام 1948 جاء فيها قول قداسته.
" ان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واحد من أهم منجزات الأمم المتحدة الا ان هذا الإعلان يظل في رأينا خطوة نحو تأسيس منظمة قضائية سياسية للمجموعة البشرية"
نعم ان إخضاع العلاقات الدولية، لاحكام القضاء لا يزال حلما من الأحلام التي تداعب أفكار رجال السياسية، وينادي بها البابا وغيره من دعاة الخير.
ولكن هذا الحلم، اقره العرب المسلمون فعلا منذ ألف ونيف من السنين، وألزموا أنفسهم بالحكم القضائي الصادر في علاقة دولية رغم ان الحكم كان لمصلحة خصومهم.
ولكن في هذا العصر، عصر هيئة الأمم وحقوق الإنسان، لم تكن مبادئ حقوق الإنسان الا مجرد لوائح مكتوبة موزعة على اعضاء هيئة الأمم المتحدة ضمن أروقتها الجميلة الفخمة، اما خارج هذه الأروقة فان التمييز العنصري في كثير من أنحاء العالم رغم قرارات الأمم المتحدة لا يزال قائما حتى في البلاد التي فيها مقر الأمم المتحدة نفسها، وان ملايين اللاجئين الذين أقرت الأمم المتحدة العودة الى بيوتهم وحقولهم لا يزالون يعيشون تحت الخيام في برد الشتاء وحر الصيف.
فهل الحكم الذي تصدره مجموعة دول العالم في هيئتها المتحدة، اقل قوة من حكم القاضي ( جميع ابن حاضر الباجي)
على جيشه قتيبة فاتح الصين.
نعم ان الحكم ذلك الرجل الواحد الفرد أقوى من حكم هيئة الأمم المتحدة كلها لان اصالة فكرة استقلال القضاء وروح العدالة وحب الحق، صفات متغلغلة في نفوس الحكام ان ذاك، لم يصل إليها حكام الدول العظمى ذات الكراسي الدائمة في مجلس الأمن.
والمناسبة هنا تفرض علينا إجراء مقارنة علمية وموضوعية بحتة بين هذه المحكمة التي شكلها والي العراق منذ ثلاثة عشر قرنا بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز وبين محكمة أخرى مماثلة انعقدت في مدينة نورمبرغ الألمانية في القرن العشرين.
ففي عام 1945 خرج الحلفاء الغربيون المنتصرين في الحرب فشكلوا محكمة لمحاكمة حكام ألمانيا النازيين المغلوبين واختاروا مدينة نورمبرغ المقر الاول لحزب النازي الذي كان يحكم ألمانيا بزعامة رئيسه هتلر وسموها محكمة نورمبرغ وحكمت هذه المحكمة، طبعا بالاعدام، على زعماء ألمانيا وهذه أول محكمة في التاريخ يحاكم فيها الغالب المغلوب في الحرب، اذ ليس في القانون الدولي ولا في الأعراف الدولية ما يقضي بمحاكمة المغلوب حربا، وانما توجد التضمينات والغرامات الحربية والتعويض عن خسائر الحرب.
هاتان المحكمتان، محكمة "جميع ابن حاضر لباجي" لأهل سمرقند المغلوبين ومحكمة نورمبرغ لحكام ألمانيا المغلوبين ايضا، فيها غالب ومغلوب، فيهما جيش ظافر احتل بلد خصمه، وجيش مقهور مقطع الأوصال تنتهي احدى المحكومتين بإعدام الطرف المقهور وتعلقه على أعواد المشانق في بلده، وتنتهي المحكمة الثانية بالحكم على الجيش الظافر بالتخلي عن ظفرها والخروج من بلد خصمه كي يعطيه الفرصة للاستعداد والمقابلة، وعلة الحكم انه لم يوجه الإنذار للمغلوب.
لا شك انه لا مجال للمقارنة، فالفرق شاسع وواضح والحضارة ليست بالقوة المادية وانما هي أخلاق وعدل وحق. ولا عدل ولا حق الا باستقلال القضاء واحترام أحكامه وتحصين رجاله.
يقول " غوستاف لوبون" المؤرخ الفرنسي، في معرض حديثه عن القضاء عند العرب، في كتابه "حضارة العرب" الذي ترجمه الأستاذ عادل زعيتر الى العربية، يقول صفحة 476 : "ان روح العدل والإنصاف نامية كثيرا عند العرب"، ويقول في الصحيفة 478 : " وكان نظام العرب السياسي يقول على العدل وساد مبدأ المساواة التامة في هذا النظام، ومن ذلك حكم عمر بن الخطاب على ملك الغساسنة جبلة بن الابهم الذي لطم رجلا من العامة أثناء الطواف حول الكعبة لانه داس ازاره، وحكم عليه بان يفتدي نفسه او يلطمه الرجل فقال ملك الغساسنة : ان أمير وهو سوقة، فقال عمر كلمته الخالدة: " الإسلام ساوى بينكما" ثم يقول غوستاف لوبون صفحة476 :
" ونختم قولنا في نظم العرب الاجتماعية، بان نذكر ان العرب يتصفون بروح المساواة المطلقة وفقا لنظمه السياسية ومبدأ المساواة الذي أعلن في أوربا قولا لا فعلا، راسخ في طبائع الشرق رسوخا تاما، فلا عهد للمسلمين بتلك الطبقات الاجتماعية، التي أدى وجودها الى اعنف الثورات في الغرب ولا يزال يؤدي حتى الآن.
نعم ان رجال الدولة يجب ان تتشبع نفوسهم بروح العدالة والإيمان باستقلال القضاء لتحقيق هذه العدالة.
يجب ان يؤمن رجال الدولة بمبادئ الديمقراطية التي تقتضي استقلال السلطات كما يقول مونتيسكيو.
ان طغيان سلطة على سلطة أخرى يؤدي الى مرض الديمقراطية، فتصبح الديمقراطية كالشيخ العجوز المتصلب الشرايين الغير القادر على الحركة. كما يؤدي طغيان سلطة على أخرى، عن قريب او عن بعيد، الى ارتكاب الأخطاء وعدم وجود من ينتقدها او يصلحها، وبالتالي الى التخلف والتأخر والانحطاط.
في عام1976 احتفلت أمريكا بمرور مائتي سنة على استقلالها وحضرت ملكة الإنجليز اليزابيث هذه الاحتفالات وألقت خطابا قالت فيه ان شعبنا الإنجليزي والأمريكي وصلا لدرجة عالية في التقدم والحضارة والديمقراطية بحيث يستطيع الفرد ان يغير حكومته عن طريق صندوق الانتخابات العامة.
ونحن ننقل قول العلامة عبد الرزاق احمد السنهوري رئيس مجلس الدولية المصري سابقا وواضع القانون المدني المصري والسوري وواضع دستور الدولة الإمارات والذي قد توفاه الله منذ بضع سنوات يقول:
" والحق ان الديمقراطية التي لم ترسخ لها قدم في الحكم الديمقراطي الصحيح، هي في اشد الحاجة الى رقابة القضاء. وذلك ان كل الديمقراطية ناشئة لم تنضج فيها المبادئ الديمقراطية، ولم تستقر هذه المبادئ عندها في ضمير الأمة، تكون السلطة التنفيذية فيها أقوى سلطات جميعا، تتغول السلطة التشريعية وتسيطر عليها، وتتحيف السلطة القضائية وتنتقص من استقلالها. والدواء الناجع لهذه الحال هو العمل على تقوية السلطة القضائية فهي اقرب السلطات الثلاث الى الإصلاح".
القضاء الاستثنائي
وهناك طريقة نشأت وترعرعت في الدول النامية أي المتخلفة على الغالب، تمس استقلال القضاء. هذه الطريقة هي القضاء الاستثنائي، وتتلخص في إنشاء محاكم خاصة او لجان او هيئات تعطى بعض اختصاصات القضاء العام .
وبهذه الطريقة تستطيع السلطة التشريعية ومن ورائها السلطة التنفيذية، ان تتحرر من سلطة القضاء واستقلاله.
قد أورد زميلانا القانوني الكبير الأستاذ نصرت متلا حيدر عضو المحكمة الدستورية في محاضرته التي ألقاها على هذا المنبر في نادي المحامين ان الدستور السوري يمنع سلخ الاختصاصات القضائية عن القضاء وإعطائها الى الهيئات ولجان ومؤسسات أخرى وقد فسروا الدستور تفسيرا خاطئا.
فالمادة 125 من الدستور تقول:
" ينظم القانون الجهاز القضائي بجميع فئاته وأنواعه ودرجاته ويعين قواعد الاختصاص لدى مختلف المحاكم".
وهذا النص يعطي السلطة التشريعية صلاحية تعين قواعد اختصاص لدى مختلف المحاكم ولكن لا يعطيها صلاحية سلخ بعض الاختصاصات عن المحاكم.
ونحن في هذه المناسبة نرفع نداء ملخصا صادقا ورجاء الى السيد الرئيس حافظ الاسد لإعادة النظر في سائر التشريعات التي سلخت عن القضاء اختصاصاته.
وقد سبق ان رفعنا نداء من هذا المنبر الحر منبر نقابة المحامين الى السيد رئيس الى منع الأوامر العرفية في الجرائم العادية التي خرجت عن قواعد العدالة والحق.
فاستجاب السيد الرئيس، حفظه الله، وأمر بمنع استعمال الأوامر العرفية في الجرائم العادية، فله منا تحية شكر وتقدير.
ونأمل ان يستجيب أيضا هذا النداء بإعادة اختصاصات القضاء المسلوخة عنه.
ولا أريد ان ادخل في تفصيل اختصاصات التي سلخت عن القضاء لان ذلك يشكل موضوعا مستقلا طويلا.
ولكنني اذكر أمثلة فقط:
فهناك لجنان تسريح العمال للبحث في مشروعية التسريح، وهناك لجان تحديث الأجور للعمل الزراعي للبحث في الخلافات الزراعية وهناك اختصاصات للقضاء سلخت منه فأعطيت للقضاء العسكري، رغم ان القضاء العسكري يختص فقط بمحاكمة العسكريين، فما علاقة القضاء العسكري بمخالفة التموين وما علاقة القضاء العسكري بجرم تحقير الموظف. وهناك اللجنة القضائية للإصلاح الزراعي.
وهذه المؤسسات أنشئت بتشريعات صدرت منذ عام1959 وعام1962 وعام1966 وغيرها، وبالنظر لمرور اكثر من عشر سنوات عليها، فقد اثبت الواقع العملي ان الأعمال تتراكب لديها وأنها لم تكن اكثر عدالة ولا اكثر دقة ولا اكثر سرعة من المحاكم العادية. وكثيرا ما نسمع الشكوى والتذمر من الزملاء محامين امام هذه اللجان.
وقد طلب السيد نقيب المحامين السابق بحلب الأستاذ طريف كيالي اكثر من مرة إلغاء القضاء الاستثنائي بجميع اشكاله.
انا لست سياسيا ولا انتمي الى آية فئة سياسية واعتقد ان القاضي يجب ان لا يكون له طابع سياسي معين. لذلك فإني ارفع هذا النداء مخلصا وصادقا، وان الرئيس حافظ الأسد حفظه الله، أعلن اكثر من مرة بانه يرحب بكل نقد بناء، ومنذ يومين أعلن الرئيس حافظ الاسد امام مجلس الوزراء الجديد انه يرحب بكل اقتراح تشريعي فيه مصلحة الشعب والأمة.
ولذلك فاني من هذا المنبر الحر منبر نقابة المحامين ارفع نداء مخلصا الى الرئيس الاسد لإعادة جميع الاختصاصات التي سلخت عن القضاء اليه.
ان الشعب الذي احب الرئيس الأسد وصوت له بالإجماع، يطلب ان يعيد لهذا الشعب حقه بالتقاضي امام المحاكم العادية. وفي هذه المحاكم قضاة يعملون ليلا نهارا بصمت لإحقاق الحق ونشر العدل وإنصاف المظلوم.
وانا لا أقول انهم معصومون عن الخطأ، لان العصمة لله ولكن أقول ان الدولة مقصرة اتجاههم، وهم مع ذلك يبدلون كل جهد ليكونوا مثلا أعلى في خدمة العدالة.
وان الزميل القانوني الكبير الأستاذ نصر منلا حيدر عضو المحكمة الدستورية أعلن في محاضراته القيمة من هذا المنبر بالذات ان القضاء الاستثنائي يخالف الدستور. وأنا انقل لكم الان ما قاله الأستاذ نصرت منلا حيدر في محاضراته المنشورة في مجلة " المحامون" فقال :
" والسلطة القضائية هي المختصة وحدها دون غيرها بممارسة تطبيق القانون على المنازعات التي تقدم إليها، وولايتها في هذا الشان ولاية كاملة تجد سندها في الدستور نفسه. لذلك لا يجوز للسلطة التشريعية او التنفيذية ان تنتقص من هذه الولاية بدون نص في الدستور يسمح بهذا الأمر سواء أكان هذا الانتقاص يهدف الى منع سماع بعض المنازعات ام إعطاء البث فيها الى جهات غير قضائية.
ويقول الأستاذ نصرت منلا حيدر:
" ليس للمشرع، عند يمارس تنظيم الجهات القضائية وتحديد اختصاصاتها، ان يسلب هذه الجهات جزءا من هذه الاختصاصات ويعطيه الى جهات غير قضائية تنظر فيه بصورة مستقلة، كما لا يجوز للمشرع، و هو في سبيل استعمال حقه بترتيب الجهات القضائية وتحديد اختصاصاتها، ان يحجب حق التقاضي عن أحد، وبالتالي يحول دون قضاء والنظر في بعض المنازعات متى ترتب عليها حق الفرد.
ويختم الأستاذ نصرت منلا حيدر محضراته بقوله:
" ان سيادة القانون التي تحقق بمجرد فرض النظام واستتباب الأمن إذا لم تحمل هذه السيادة في جنباتها معنى تقييد الحكام وإلزامهم باحترام القانون، إذ تغدو السيادة في هذه الحالة ذريعة لتبرير الاستبداد، كما ان سيرة القانون لا تحقق بمجرد خضوع الدولة للقانون لان السلطة التشريعية قد تطلق يدها في وضع ما تشاء من التشريعات التي تضحى واجبة الاحترام بغض النظر عن مضمونها، ان سيادة القانون تحقق بإخضاع الدولة للقانون وكفالة الرقابة القضائية لهذا الخضوع بحيث يكون من حق كل شخص ان يلجا الى القضاء متى تأثرت مصالحه بتصرف صادر عن السلطة او الفرد"
استقلال شخصية القاضي
ان مبدأ استقلال القضاء، كما يجب ان يتأصل في نفوس الحكام ورجال الدولة، يجب أيضا ان يتأصل في نفس القاضي نفسه، بحيث يكون القاضي حر الضمير قوي الشخصية ورعا صالحا، لا يخضع للتيارات والأهواء الاجتماعية والسياسية، ولا يتأثر بالرأي العام والصداقات الشخصية وما سوى ذلك.
فالنصوص القانونية، مهما كانت صالحة، فإنها تبقى عديمة الفائدة، اذا كان القاضي الذي سوف يطبقها غير صالح.
ان أفلاطون في كتابه " الجمهورية" جعل الأطباء والقضاء متساوين في العمل. لان الطبيب يعالج علل الناس في أجسامهم والقاضي يعالج الناس في نفوسهم وطباعهم، ويستأصل بمبضعه الطمع والشجع والظلم في مستشفى الأمراض الخلقية. فلكي يكون القاضي قادرا على شفاء هؤلاء المرضى الخلقيين، يجب ان يكون هو صحيحا من هذه العلل. فالقاضي الذي أنيط به تقويم النفوس المنحرفة وتعديل المعوج منها هو في الحقيقة طبيب نفساني او اجتماعي، يبحث عن الداء، ثمن يضع له الدواء المناسب.
وعلى هذا كان على القاضي ان يكون مطلعا اطلاعا واسعا على قواعد النفس البشرية وما يخالطها من ميول ونزاعات وغرائز وأحاسيس وعواطف، كما يجب ان يكون مطلعا على عادات المجتمع وتقاليده وأعرافه وان يكون عالما بمشاكل الناس وقصصهم وحكاياتهم وحافظا للقواعد الكلية التي يسير عليها المجتمع في علاقات أفراده بعضهم بعض.
فمن الناحية الجزائية، نعلم ان الجرم هو حجيرة في جسم المجتمع ومن مصلحة المجتمع إصلاح هذه الحجيرة، ولا يكمن للقاضي إصلاحها، الا اذا علم تكوين هذه الحجيرة النفسي والاجتماعي، ثم يلجا الى تشخيص المرض ووصف الدواء.
ومن المعلوم ان القاضي إنما يحاكم المجرم، لا الجريمة، بحيث لو ارتكب شخصان، كل منهما جريمة مشابهة بجريمة الآخر، فان عقوبة أحدهما قد تختلف اختلافا بينا عن عقوبة الآخر، ويتوقف ذلك عن نفسية وظروف وواقع كل منهما نحو الجريمة ولو كان القاضي يحاكم الجريمة لكان العقاب واحد مهما اختلفت الظروف.
وعلى هذا، وعلى سبيل الاستطراد نقول:
ان الاتجاه الحديث في القوانين الجزائية التي تصدر في سوريا والتي تحرم على المحكمة استعمال الاسباب المخففة التقديرية وتحرم عليها استعمال وقف التنفيذ ودمج العقوبات، هو اتجاه خاطئ وربما ان الذي وضع هذه النصوص لم يعمل في القضاء، لم يستطيع ان يتصور ما يواجه هذه النصوص من مشاكل تطبيقية.
ان وضع عقوبة ثابتة محددة لكل جريمة، كالطبيب الذي يحفظ اسم دواء لكل داء، دون النظر الى تحمل المريض وطبيعته وحساسياته نحو الداء وسائر ظروف المريض.
فصفات القاضي الشخصية السامية، هي التي تحقق استقلال القضاء قبل النصوص الدستورية القانونية.
قال عمر ابن عبد العزيز: " لا يصلح للقضاء الا القوي على أمر الناس المستخف بسخطهم وملامتهم في حق الله".
وقال علي ابن ابي طالب: في كتابه الذي أرسله الى واليه في مصر الاشتر النخعي:
" ثم اختر للحكم بين الناس، افضل رعيتك في نفسك، مما لا تضيق به الامور ولا تمحكه الخصوم ولا يتمادى في الذلة، ولا يحصر من الغي الى الحق اذا عرفه ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشباهات واخذهم بالحجج، واقلهم تبرما بمراجعة الخصم. واصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه اطرا، ولا يستحييه إغراء وأولئك قليل ثم اكثر تعهد قضائه وافسخ له في البذل ما يزيد علته، وتقل حاجاته الى الناس. واعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمل بذلك اغتيال الرجال له عند، فانظر الى ذلك نظرا بليغا"
ولست بحاجة لشرح هذه النص وتفسيره ولكن لا بد من الاستنتاج بعض القواعد منه.
فقوله " افضل رعيتك في نفسك" معناه يجب تعيين واختيار افضل الناس للقضاء وأحصنهم علما وخلقا. لان الذي يحكم في أموال الناس واحوالهم العائلية، يجب ان يكون من أفضلهم. وقوله " اكثر تعهد قضائه" أي احترام أحكام قضائية والزم الناس باحترامها، وان القول الأخير في كل نزاع يجب ان يكون للمحكمة والا اختلت الأمور وطغت القوة والاستبداد.
وقوله " افسخ له في البدل" أي أعطه الراتب الضخم الذي لا يحتاج معه لاحد. وقوله " أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك" أي ارفع مكانة القاضي فوق منزلة جميع المقربين إليك حتى لا يتجرا احد على النيل منه.
وهذه القواعد هي اسس استقلال القضاء الذي نحن بصدده.
وما دام القاضي يحكم باسم الأمة، وما دام القانون هو إرادة الامة: والقاضي هو الذي يحول هذه الإرادة من السطور الجامدة الى واقع ملموس وهو الذي يجعل لروح القانون جسدا ماديا هو الحكم.
لذلك كان اهتمام الدولة الإنجليزية بشخص القاضي اكثر من اهتمام الانجليز بالنصوص القانونية. لان القاضي الصالح، ولو لم يكن لديه قانون، فبمنطقه السليم وضميره الحي، ما يصدر عنه الا الخير والعدل والحق والصواب والقاضي الغير الصالح سواء أكان جاهلا او سيئ الخلق فان صلاح القوانين بين يديه، لا يجدي في الوصول الى الحق والعدل والصواب فالعدالة بين الناس والفصل في خصوماتهم وحرياتهم وأموالهم، تعتمد على ضمير القاضي وحده وعلى علمه وحده وعلى خلقه وحده قبل ان تعتمد على النصوص واللوائح.
محمد جرير أرسلان.
*مجلة المحاكم المغربية، عدد 58، ص11.
0 التعليقات:
Post a Comment